الروض المربع - كتاب الجنائز [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولا يصلى عليهم لكونهم أحياء عند ربهم. وإن سقط عن دابته أو شاهق بغير فعل العدو، أو وجد ميتاً ولا أثر به، أو مات حتف أنفه، أو برفسة، أو عاد سهمه عليه، أو حمل فأكل، أو شرب، أو نام، أو بال، أو تكلم أو عطس، أو طال بقاؤه عرفاً غسل وصلي عليه كغيره. ويغسل الباغي، ويصلى عليه. ويقتل قاطع الطريق، ويغسل، ويصلى عليه، ثم يصلب. والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه، وإن لم يستهل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة ) رواه أحمد و أبو داود ].

صلاة الجنازة في حق الشهيد

ذكرنا سابقاً مسألة هل يصلى على الشهيد أم لا؟ وقلنا: إن الراجح -والله أعلم- هو مذهب جماهير أهل العلم خلافاً لـأبي حنيفة أنه لا يصلى عليه، وأن كل الأحاديث الواردة في الصلاة على الشهيد كلها ضعيفة؛ لأن رواية البخاري أصح، فإن الروايات التي تدل على أنه صلى عليهم كانت في أحد، والروايات الثابتة أنه لم يصل عليهم كما ثبت ذلك في صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله ، وأحسن شيء في الباب هو حديث عقبة بن عامر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى البقيع قبل وفاته، فصلى عليهم صلاته على الميت ) ، ففهم بعض أهل العلم أن المقصود بذلك الصلاة على الميت، والصحيح أنه دعا لهم كدعائه على الميت: ( اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم ) الحديث، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك .

العلة في عدم الصلاة على الشهيد

قال المؤلف رحمه الله: (ولا يصلى عليهم لكونهم أحياء عند ربهم).

من المعلوم أن الحياة الدنيا ليست مثل الحياة البرزخية، وليست مثل الحياة الآخرة، والشرع يطلق مسمى الحياة على الحياة الآخرة التي بعد الحياة الدنيا، والراجح أن الحياة أربع:

الأولى: الحياة الدنيا وهي الحياة المعروفة.

والثانية: الحياة قبل الولادة، وهذه تسمى حياة وهي أهليته للوجوب، وليست أهلية أداء، بمعنى أنه يعطى شيئاً من الحقوق، فيستحب أن يخرج عنه كفارة الفطر التي يسمونها صدقة الفطر، ويحبس من مال مورثه حتى يستهل صارخاً، وإذا ضربت بطن أمه فإن على من ضربها غرة عبد أو وليدة، وغير ذلك من أحكام، وهي حياة البطن.

الثالثة: الحياة البرزخية، وهي التي تكون بعد الوفاة وقبل أن يبعث الله الأرض ومن عليها، وإن كانت هذه تسمى أيضاً آخرة، لكن العلماء رحمهم الله يقولون هذا من باب التجوز، وإلا فإن الآخرة تختلف، واستدلوا على الفرق بقوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فدل ذلك على أن ثمة عذابين.

الرابعة: الحياة الآخرة، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]. والحياة البرزخية إنما التنعم فيها يكون للروح، ولها تعلق بالبدن، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود : ( أرواحهم -يعني: الشهداء- في جوف طير خضرٍ معلقة تسرح في الجنة كيف شاءت )، فهذا يدل على أن التنعم للروح؛ لأنه جاء في الحديث: (ما هذه الروح الطيبة التي جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك، وعلى جسد كنت تعمرينه)، كما ثبت ذلك عند أهل السنن بسند جيد من حديث البراء المعروف، فهذا يدل على أن التنعم في الحياة البرزخية على الروح.

وقولنا: ولها تعلق بالبدن؛ لأن البدن أحياناً يعذب في الحياة البرزخية -يعني: في القبر- كما ثبت ذلك في صحيح مسلم : ( وإنها لتختلف عليه أضلاعه )، وهذا يدل على أن الجسد أحياناً يعذب، وأما في الحياة الدنيا فإن العذاب على البدن وله تعلق بالروح، ولهذا إذا أصيب الإنسان بمس فإن الذي يتألم هو البدن، وأما الروح فلها تعلق على حسب وجود الماس وهو الجني من عدمه.

أما الحياة الرابعة: وهي حياة الآخرة، فالتنعم إنما هو للروح والبدن، ولهذا جاء عند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: ( ثم ينزل الله من السماء ماءً كماء الرجال، فينبتون )، وهذا يدل على أنهم سوف يدخلون الجنة بأجسادهم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وهذا هو الذي جعل المؤلف يقول: (لكونهم أحياء عند ربهم)، والحياة المقصودة حياة التنعم، وإلا فإن الحياة ما زالت موجودة في حياة البرزخ؛ لأن الكافر يقول: ( رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة، والمؤمن يقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة )، والعذاب قائم عليهم، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46]، والله تعالى أعلى وأعلم.

حكم إطلاق الشهادة على من سقط من شاهق أو دابه بغير فعل عدو

قال المؤلف رحمه الله: (وإن سقط عن دابته أو شاهق بغير فعل العدو -وهذا وقت الحرب- أو وجد ميتاً ولا أثر به) يعني: وجد في ساحة المعركة ميتاً ولا أثر به، (أو مات حتف أنفه، أو برفسة، أو عاد سهمه عليه) كل ذلك عند الحنابلة يعامل معاملة الشهيد، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، والراجح أن المسألة فيها تفصيل، فإن سقط عن دابته فإنه -والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم- لا يعد شهيداً، وأما إن سقط من شاهق فينظر: فإن كان قد صعد فلما علم به العدو التف وسقط فالراجح -والله أعلم- أنه يعامل معاملة الشهيد، وهذا هو مذهب الشافعي ؛ لأنه ما فر أو كر إلا خوفاً من أن يعلمه العدو، فسقوطه هنا من فعل العدو، فسواء دفعه العدو أو هرب من العدو، فالذي يظهر والله أعلم أن ذلك يعد شهيداً إذا كان يريد أن يقاتل العدو، أما إن سقط من الجبل فإنه لا يعد شهيداً، وهذا هو مذهب الجمهور خلافاً للشافعي .

حكم إطلاق الشهادة على من وجد ميتاً في ساحة المعركة ولا أثر به

قال المؤلف رحمه الله: (أو وجد ميتاً ولا أثر به).

الحنابلة وهو مذهب أبي حنيفة و مالك يرون أن الإنسان إذا وجد في المعركة ميتاً ولا أثر به أنه ليس بشهيد، والذي يظهر -والله أعلم- أنه إن مات في المعركة فهو شهيد؛ لأن الأصل أنه قتل في المعركة؛ لأنه ربما يكون قد وطئه فرس العدو أو سيارة العدو أو غير ذلك، أو اختنق، والآن يوجد الغازات التي تقتل، فهذا يعد شهيداً؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: ( الله أعلم بمن يقتل في سبيله )، كمن قتل بين صفين الله أعلم بنيته، فهذا في النية، أما في العمل فهذا يدل على أنه من الشهداء، هذا الذي يظهر والله أعلم.

حكم إطلاق الشهادة على من مات حتف أنفه أو برفس عند لقاء العدو

أما قول المؤلف رحمه الله: (أو مات حتف أنفه) فالذي يظهر -والله أعلم- أن من مات حتف أنفه لا يعد شهيداً، (أو برفسة) الرفسة هي رفسة الحصان، أو دهس السيارة، فإن كان من فعل العدو فالراجح أن ذلك يعد شهيداً، فيعامل معاملة الشهداء إذا كان ذلك في وقت المعركة، وأما إن كان بسيارته أو سيارة المسلمين فلا يعد شهيداً، وهذا التفصيل أولى؛ لأن الوضع الآن اختلف، الآن يأتون بالدبابات إليهم في صفوفهم ويطئونهم، فعدوا هذا ليس بشهيد كما هو مذهب الحنابلة ولكنه محل نظر.

حكم إطلاق الشهادة على من عاد سهمه عليه

قال المؤلف رحمه الله: (أو عاد سهمه عليه).

جمهور أهل العلم يرون أن من عاد سهمه عليه لا يعد شهيداً، وذهب الشافعي إلى أنه يعد شهيداً، وهو رواية عند الإمام أحمد ، وهذا هو الأظهر، وذلك كما في غزوة ذات قرد التي رواها مسلم في صحيحه من حديث جابر ، وهو من أطول الأحاديث؛ وذلك لأن عامر بن الأكوع حارب وبارز أحد الأعداء فالتف على سيفه حتى ضربه بأكحله فمات، فقال جابر : ( فجعل الناس يتحدثون أن عامراً ليس بشهيد، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: ما شأنك يا جابر؟ فقلت: إن الناس يزعمون أن عمي عامراً ليس بشهيد؛ لأنه هو الذي قتل نفسه، فقال: كذبوا بل هو شهيد، له شهادتان ) الحديث، فعومل عامر بن الأكوع معاملة الشهيد؛ لأنه لم ينقل أنه فرق بينه وبين الشهداء الذين قتلوا في تلك المعركة، وهذا هو الراجح، والله أعلم.

حكم إطلاق الشهادة على جريح المعركة الذي فصل بين موته وجرحه أكل وشرب أو طال بقاؤه

قال المؤلف رحمه الله: (أو حمل فأكل أو شرب، أو نام، أو تكلم، أو بال، أو عطس، أو طال بقاؤه عرفاً غسل وصلي عليه).

يعني: أن جريح المعركة إن حمل من المعركة إلى خارجها فأكل وشرب أو نام أو طال بقاؤه فإنه لا يعدونه شهيداً، وهذا هو مذهب الحنابلة والحنفية.

وفصَّل الإمام مالك رحمه الله فقال: إن كانت الجراحة موحية بوفاته وقد أنفذت مقاتله فإنه يعد شهيداً، وإلا فلا.

و الشافعي رحمه الله يقول: إن وجد به شيء من الجراحات والمعركة ما زالت قائمة فإنه يعد شهيداً ولو أكل أو شرب.

والذي يظهر -والله أعلم- أن أكله وشربه ليس دلالة على عدم الشهادة، واليوم اختلف الوضع، الآن أكله وشربه معه في دبابته، أو في ثغره، وإخوانه يداوونه بسبب طلقة نار، وهو ما زال في الثغور، فالذي يظهر والله أعلم أنه كما قال الإمام مالك : إن كانت الجراحة موحية وقد أثخنت فيه، وأنفذت مقاتله، فإنه يعد شهيداً، أكل أو لم يأكل، هذا الذي يظهر والله أعلم.

وأما الدليل على ذلك أنه إن لم تنفذ مقاتله هو قصة سعد بن معاذ في غزوة الخندق حينما حكم على بني قريظة، وقد أصيب بأكحله، فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم خيمة ليعوده من قريب، وهذه الضربة ليست موحية بالقتل، يعني: ليست قوية، هذا الذي يظهر والله أعلم، ولهذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه وغسله.

وعلى هذا فالذي يظهر أن أظهر الأقوال هو قول مالك ، فلو ضرب من قلبه حتى خرقت جسده، فهذا الغالب أنه لا يحيا، فقد نفذت بموقع لا يحيا بدونه، ولهذا يكون شهيداً بإذن الله سواء أكل أم لم يأكل.

ذكرنا سابقاً مسألة هل يصلى على الشهيد أم لا؟ وقلنا: إن الراجح -والله أعلم- هو مذهب جماهير أهل العلم خلافاً لـأبي حنيفة أنه لا يصلى عليه، وأن كل الأحاديث الواردة في الصلاة على الشهيد كلها ضعيفة؛ لأن رواية البخاري أصح، فإن الروايات التي تدل على أنه صلى عليهم كانت في أحد، والروايات الثابتة أنه لم يصل عليهم كما ثبت ذلك في صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله ، وأحسن شيء في الباب هو حديث عقبة بن عامر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى البقيع قبل وفاته، فصلى عليهم صلاته على الميت ) ، ففهم بعض أهل العلم أن المقصود بذلك الصلاة على الميت، والصحيح أنه دعا لهم كدعائه على الميت: ( اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم ) الحديث، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك .

قال المؤلف رحمه الله: (ولا يصلى عليهم لكونهم أحياء عند ربهم).

من المعلوم أن الحياة الدنيا ليست مثل الحياة البرزخية، وليست مثل الحياة الآخرة، والشرع يطلق مسمى الحياة على الحياة الآخرة التي بعد الحياة الدنيا، والراجح أن الحياة أربع:

الأولى: الحياة الدنيا وهي الحياة المعروفة.

والثانية: الحياة قبل الولادة، وهذه تسمى حياة وهي أهليته للوجوب، وليست أهلية أداء، بمعنى أنه يعطى شيئاً من الحقوق، فيستحب أن يخرج عنه كفارة الفطر التي يسمونها صدقة الفطر، ويحبس من مال مورثه حتى يستهل صارخاً، وإذا ضربت بطن أمه فإن على من ضربها غرة عبد أو وليدة، وغير ذلك من أحكام، وهي حياة البطن.

الثالثة: الحياة البرزخية، وهي التي تكون بعد الوفاة وقبل أن يبعث الله الأرض ومن عليها، وإن كانت هذه تسمى أيضاً آخرة، لكن العلماء رحمهم الله يقولون هذا من باب التجوز، وإلا فإن الآخرة تختلف، واستدلوا على الفرق بقوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فدل ذلك على أن ثمة عذابين.

الرابعة: الحياة الآخرة، تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]. والحياة البرزخية إنما التنعم فيها يكون للروح، ولها تعلق بالبدن، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود : ( أرواحهم -يعني: الشهداء- في جوف طير خضرٍ معلقة تسرح في الجنة كيف شاءت )، فهذا يدل على أن التنعم للروح؛ لأنه جاء في الحديث: (ما هذه الروح الطيبة التي جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك، وعلى جسد كنت تعمرينه)، كما ثبت ذلك عند أهل السنن بسند جيد من حديث البراء المعروف، فهذا يدل على أن التنعم في الحياة البرزخية على الروح.

وقولنا: ولها تعلق بالبدن؛ لأن البدن أحياناً يعذب في الحياة البرزخية -يعني: في القبر- كما ثبت ذلك في صحيح مسلم : ( وإنها لتختلف عليه أضلاعه )، وهذا يدل على أن الجسد أحياناً يعذب، وأما في الحياة الدنيا فإن العذاب على البدن وله تعلق بالروح، ولهذا إذا أصيب الإنسان بمس فإن الذي يتألم هو البدن، وأما الروح فلها تعلق على حسب وجود الماس وهو الجني من عدمه.

أما الحياة الرابعة: وهي حياة الآخرة، فالتنعم إنما هو للروح والبدن، ولهذا جاء عند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: ( ثم ينزل الله من السماء ماءً كماء الرجال، فينبتون )، وهذا يدل على أنهم سوف يدخلون الجنة بأجسادهم، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وهذا هو الذي جعل المؤلف يقول: (لكونهم أحياء عند ربهم)، والحياة المقصودة حياة التنعم، وإلا فإن الحياة ما زالت موجودة في حياة البرزخ؛ لأن الكافر يقول: ( رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة، والمؤمن يقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة )، والعذاب قائم عليهم، النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46]، والله تعالى أعلى وأعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (وإن سقط عن دابته أو شاهق بغير فعل العدو -وهذا وقت الحرب- أو وجد ميتاً ولا أثر به) يعني: وجد في ساحة المعركة ميتاً ولا أثر به، (أو مات حتف أنفه، أو برفسة، أو عاد سهمه عليه) كل ذلك عند الحنابلة يعامل معاملة الشهيد، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، والراجح أن المسألة فيها تفصيل، فإن سقط عن دابته فإنه -والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم- لا يعد شهيداً، وأما إن سقط من شاهق فينظر: فإن كان قد صعد فلما علم به العدو التف وسقط فالراجح -والله أعلم- أنه يعامل معاملة الشهيد، وهذا هو مذهب الشافعي ؛ لأنه ما فر أو كر إلا خوفاً من أن يعلمه العدو، فسقوطه هنا من فعل العدو، فسواء دفعه العدو أو هرب من العدو، فالذي يظهر والله أعلم أن ذلك يعد شهيداً إذا كان يريد أن يقاتل العدو، أما إن سقط من الجبل فإنه لا يعد شهيداً، وهذا هو مذهب الجمهور خلافاً للشافعي .

قال المؤلف رحمه الله: (أو وجد ميتاً ولا أثر به).

الحنابلة وهو مذهب أبي حنيفة و مالك يرون أن الإنسان إذا وجد في المعركة ميتاً ولا أثر به أنه ليس بشهيد، والذي يظهر -والله أعلم- أنه إن مات في المعركة فهو شهيد؛ لأن الأصل أنه قتل في المعركة؛ لأنه ربما يكون قد وطئه فرس العدو أو سيارة العدو أو غير ذلك، أو اختنق، والآن يوجد الغازات التي تقتل، فهذا يعد شهيداً؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: ( الله أعلم بمن يقتل في سبيله )، كمن قتل بين صفين الله أعلم بنيته، فهذا في النية، أما في العمل فهذا يدل على أنه من الشهداء، هذا الذي يظهر والله أعلم.

أما قول المؤلف رحمه الله: (أو مات حتف أنفه) فالذي يظهر -والله أعلم- أن من مات حتف أنفه لا يعد شهيداً، (أو برفسة) الرفسة هي رفسة الحصان، أو دهس السيارة، فإن كان من فعل العدو فالراجح أن ذلك يعد شهيداً، فيعامل معاملة الشهداء إذا كان ذلك في وقت المعركة، وأما إن كان بسيارته أو سيارة المسلمين فلا يعد شهيداً، وهذا التفصيل أولى؛ لأن الوضع الآن اختلف، الآن يأتون بالدبابات إليهم في صفوفهم ويطئونهم، فعدوا هذا ليس بشهيد كما هو مذهب الحنابلة ولكنه محل نظر.

قال المؤلف رحمه الله: (أو عاد سهمه عليه).

جمهور أهل العلم يرون أن من عاد سهمه عليه لا يعد شهيداً، وذهب الشافعي إلى أنه يعد شهيداً، وهو رواية عند الإمام أحمد ، وهذا هو الأظهر، وذلك كما في غزوة ذات قرد التي رواها مسلم في صحيحه من حديث جابر ، وهو من أطول الأحاديث؛ وذلك لأن عامر بن الأكوع حارب وبارز أحد الأعداء فالتف على سيفه حتى ضربه بأكحله فمات، فقال جابر : ( فجعل الناس يتحدثون أن عامراً ليس بشهيد، قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: ما شأنك يا جابر؟ فقلت: إن الناس يزعمون أن عمي عامراً ليس بشهيد؛ لأنه هو الذي قتل نفسه، فقال: كذبوا بل هو شهيد، له شهادتان ) الحديث، فعومل عامر بن الأكوع معاملة الشهيد؛ لأنه لم ينقل أنه فرق بينه وبين الشهداء الذين قتلوا في تلك المعركة، وهذا هو الراجح، والله أعلم.