الروض المربع - كتاب الجنائز [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

تبليل حلق وشفتي المحتضر

فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإذا نُزل به أي: نزل به الملك لقبض روحه سن تعاهد أرفق أهله وأتقاهم لربه ببل حلقه بماءٍ أو شراب وتندّى شفتيه بقطنة؛ لأن ذلك يطفئُ ما نزل به من الشدة، ويسهل عليه النطق بالشهادة ].

قول المؤلف رحمه الله: (وإذا نزل به) أي: إذا نزلت الملائكة لنزع روحه.

قال المؤلف رحمه الله: (سن تعاهده) قال: (سن) مع أن أكثر هذه الأشياء لم يثبت فيها بخصوصها دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن القول بأن ذلك سنة محل نظر، ولكن لو قيل: إن ذلك من الأفضل لما في هذه الأشياء من التخفيف على حال الميت أو المحتضر، ومن باب قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربه يوم القيامة )، ولا شك أن المحتضر يعيش في حالة من الكرب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إني لأوعك كما يوعك رجلان )، فهو حسن، ولهذا قال الإمام الشافعي في كتاب الأم عندما ذكر مثل هذا، قال: وكلما رجوا وعرفوا أن ذلك من دفع المكروه رجوت أنه لا بأس به، وكلمة الإمام الشافعي حسنة، أي أنه لا بأس به، أو أنه من الأفضل، أما أن يقال: إنه سنة، فهذا محل نظر.

إذا ثبت هذا فإن المؤلف يقول: (يبل حلقه بماء أو شراب، وتندّى شفتيه)، أي: توضع كرسف أو قطنة في شفتيه بحيث يبللهما؛ لأن حال الاحتضار ييبس اللسان، ولعل مما يستدل لذلك ما جاء في الصحيحين حين (كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزع بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر وهو يستاك، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقالت عائشة : هل تريده؟ قالت: فأشار برأسه أن نعم، قالت عائشة : فأخذته فقضمته، ثم بللته، ثم أعطيته إياه، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسوك يومئذٍ بأحسن مما تسوك)، وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبلل فمه، وهذا أحسن شيء في الباب، والله أعلم، ولهذا قال المؤلف: (لأن ذلك يطفئ ما نزل به من الشدة، ويسهل عليه النطق بالشهادة).

فتبليل الفم وإيجاد الريق فيه يخفف الشدة التي تنزل بالمحتضر، وكذلك يسهل النطق بالشهادتين بدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم تسوك حال احتضاره، ومن المعلوم أن التسوك يزيد تبليل الفم وإيجاد الريق، فالتسوك يزيده، وهذا أصح ما قيل في هذا الباب، والله أعلم.

تلقين المحتضر لا إله إلا الله

قال المؤلف رحمه الله: [ وتلقينه لا إله إلا الله لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) رواه مسلم عن أبي سعيد مرة ولم يزد على ثلاث لئلا يضجره، إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه ليكون آخر كلامه لا إله إلا الله، ويكون برفق أي: بلطف ومداراة؛ لأنه مطلوب في كل موضع فهنا أولى ].

قول المؤلف رحمه الله: (وتلقينه لا إله إلا الله).

يعني: أن يقول له: لا إله إلا الله، أو قل: لا إله إلا الله، ولكن هل يأمره بذلك، أم يذكرها من باب الخبر، فيقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله حتى يتذكرها المحتضر فيقولها، أم يقول له: قل لا إله إلا الله؟

بعض العلماء قال: لا، يقول له على سبيل الأمر لعله أن يتضجر فيقول: لا أقول: لا إله إلا الله، حتى لا يقع في شيء من سوء الخاتمة، وهو لم يقصد هذا على ظاهره؛ لأنه يعيش في حال كرب، فيخشى أن يقول: لا، وقال بعضهم: لا حرج أن يقول: قل: لا إله إلا الله.

والذي يظهر لي -والله أعلم- أن قول الإنسان للمحتضر: قل: لا إله إلا الله لا حرج في ذلك، فقد جاء في الصحيحين من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال: ( لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل و عبد الله بن أبي أمية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله )، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل: لا إله إلا الله، فدل ذلك على أن قول الإنسان: قل: لا إله إلا الله لا حرج فيه، إلا إذا كان ذلك عند بعض المحتضرين أنه يضجره ذلك، أو أن طريقة القائل أحياناً تغضب، فلا بد أن يتلطف بحاله، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم تلطف حتى بقوله: قل؛ لأنه قال: ( يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله )، وفي رواية: ( أشهد لك بها عند الله )، فهذا يدل على أن التلطف هو الذي يقبله المحتضر، ولو كان على سبيل الأمر، والله أعلم.

الاقتصار على كلمة لا إله إلا الله حال التلقين

المسألة الثانية: هل يقتصر على كلمة: لا إله إلا الله فقط على ظاهر الحديث الذي ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله )، أم يلقنه الشهادتين بأن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، أو: وأن محمداً رسول الله؟

قال ابن مفلح في الفروع: يحتمل أن يلقنه الشهادتين، وذكره جماعة من الشافعية والحنفية، وبعضهم قال: يقتصر على لا إله إلا الله، والذي يظهر والله أعلم أن الوارد هو قول: لا إله إلا الله سنة، فإن قال معه: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فهذا نور على نور؛ وذلك لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها بإذن الله تفريج الكربات، كما ثبت ذلك عند أهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي عندما قال: ( يا رسول الله! كم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت، وإن زدت فهو أفضل، قال: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذن يكفى همك، ويغفر ذنبك )، ومن أعظم الهم الذي يعيشه المحتضر هو هم النزع، فيكفاه بإذنه سبحانه، فدل ذلك على أن قول: لا إله إلا الله لمعنى وهو موته على التوحيد، وأن الشهادة أن محمداً رسول الله فيها تفريج لحالة المحتضر بإذن الله سبحانه وتعالى.

قال المؤلف رحمه الله: (فيعيد تلقينه) أي: إلى ثلاث يستدل لهذا بحديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال: ( لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة )، فهذا يدل على التكرار.

وقول المؤلف رحمه الله: (ويعرضها عليه)، يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى بها على سبيل التلطف، ولهذا خشي أبو جهل ، وخشي عبد الله بن أبي أمية أن يسلم العم من حرص وعطف وحنان النبي صلى الله عليه وسلم.

ولهذا نقول: الصواب أن هذا يختلف من شخص لآخر، فإذا عرض القائل هذا الأمر على سبيل اللطف والحنان والرحمة ولو كانت أكثر من ثلاث فلا حرج لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في قصة عمه أبي طالب : ( فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب ).

قال المؤلف رحمه الله: (إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه إلى ثلاث).

يعني، يقول: (ليكون آخر كلامه لا إله إلا الله)، يعني: إذا تكلم فإنه دليل على أنه لم يحتضر بعد، والله أعلم.

الرفق بالمحتضر حال التلقين

قال المؤلف رحمه الله: (ويكون برفق أي: بلطف ومداراة؛ لأنه مطلوب في كل موضع فهنا أولى)، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه )، وقال لـعائشة : ( يا عائشة ! عليك بالرفق، فإن الله يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على ما سواه ).

ومما يستدل به في هذا الباب على سبيل الخصوص هو تلطف النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه حال احتضاره، ولهذا قال له: ( يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله )، وهذا نوع من التلطف بقوله: (يا عم) وجاء عند الإمام أحمد من حديث أنس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار وهو يحتضر، فقال له: يا خال! قل لا إله إلا الله )، وهذا فيه فوائد:

الفائدة الأولى: أنه قال له: (قل: لا إله إلا الله)، ولم يعرضها على سبيل الخبر.

الثاني: أن ما يقوله الناس اليوم: يا خال، يا عم، على سبيل الاحترام لها أصل، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهذا الأنصاري: (يا خال! قل: لا إله إلا الله)، والله أعلم.

قراءة يس عند المحتضر

قال المؤلف رحمه الله: [ ويقرأُ عنده سورة يس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( اقرءوا على موتاكم سورة يس ) رواه أبو داود ، ولأَنه يسهل خروج الروح، ويقرأُ عنده أيضًا الفاتحة، ويوجهه إلى القبلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم عن البيت الحرام: ( قبلتكم أَحياءً وأَمواتًا ) رواه أبو داود ].

قول المؤلف رحمه الله: (ويقرأ عنده سورة يس لقوله صلى الله عليه وسلم: ( اقرءوا على موتاكم سورة يس ) رواه أبو داود ).

أولاً: قراءة السورة إنما ذلك في حال حياته قبل مماته، وهو حال الاحتضار، هذا هو الذي أشار إليه ابن حبان عند روايته لهذا الحديث، وعليه عمل أكثر أهل العلم، وأن قوله في الحديث: ( اقرءوا على موتاكم ) يعني: على من هم قريبي النزع، قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله: وأما القراءة عليه بعد مماته فهذا غير مشروع، بل قال: والقراءة على الميت بعد موته بدعة.

وأما حديث قراءة يس فقد رواه أبو داود و النسائي في عمل اليوم والليلة كلهم من طريق سليمان التيمي هو ابن طرخان التيمي عن أبي عثمان وليس هو النهدي الذي هو عبد الرحمن بن مل الإمام الثقة العابد، بل هو رجل يقال له: أبو عثمان .

إذاً: الحديث هو عن أبي عثمان عن أبيه عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث ذكره ابن حبان في صحيحه لأجل أن أبا عثمان وأباه مجهولان، ولم يعرف عنهما بقدح، فكانت على طريقته بأن الرجل الذي لا يعرف بجرح ولا تعديل فهو من باب الستر والثقة، والراجح -والله أعلم- أن الحديث ضعيف من وجوه:

الوجه الأول: الاضطراب في إسناده، فـسليمان التيمي مرة يروي عن أبي عثمان ، فيقول: عن أبي عثمان عن أبيه عن معقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الطريق الأول، ومرة يقول: عن أبي عثمان عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيسقط الأب، ومرة يقول: عن أبي عثمان عن أبيه عن معقل من قوله، ومرة يرفعه، وهذا بلا شك اضطراب خاصة بأن أبا عثمان مجهول.

الوجه الثاني: هو جهالة أبي عثمان فإنه لم يرو عنه إلا سليمان التيمي ولهذا قال علي بن المديني : مجهول.

الوجه الثالث: أن القاعدة في الجهالة التي تقبل، إذا روى عنه أكثر من واحد وأتى بما لم ينكر، وهذا مما استنكر، يقول الإمام الدارقطني : هذا مجهول المتن، وهذه الكلمة جميلة حقيقة، وهي لا تذكر عند أهل الحديث؛ لأن الجهالة يطلقونها على الإسناد ولا يطلقونها على المتن، وكأنه يريد أن هذا لا يعرف إلا من هذا الطريق، فيكون أتى بما ينكر.

فهذه ثلاث علل: اضطراب في الإسناد، جهالة في أبي عثمان وأبيه، نكارة في المتن.

وعلى هذا فالذي يظهر -والله أعلم- أن قراءة سورة يس على المحتضر ليست بسنة، وقال ابن تيمية: والقول بقراءة سورة يس مبنية على ثبوت الحديث، فإن ثبت ثبتت المشروعية، وإن لم يثبت لم تثبت المشروعية، وأقول: إنه غير مشروع، أي أنه ليس بمستحب، وليس بواجب.

وهل يقال بالجواز؟ الذي يظهر -والله أعلم- أنه لو قيل بالجواز لم يكن ببعيد؛ وذلك لأن قراءة سورة يس كما قال أهل العلم: لأنها تخفف النزع، وهذا يحتاج إلى دليل، وقال بعضهم: لأن فيها من التوحيد والمعاد وما أعد الله لأهل توحيده من الجنة، وهذا هو الذي يظهر، فإذا سمعها المحتضر وتذكر ما هو مقبل عليه أقر بالوحدانية، وابتهجت نفسه رجاءً لما أعد لها الله، فكان في ذلك تخفيف على نفس حال الاحتضار، فظن من ظن أن ذلك يخفف النزع، والذي يظهر والله أعلم أن المحتضر يتأمل هذه المعاني، وما أعد الله لأهل توحيده، فتحدث عنده حالة من الرجاء والانبساط، فيظن أن ذلك يخفف نزع الروح، ولهذا كان الراجح هو المعنى الثاني.

وعلى هذا لو قرئت فلا حرج؛ لأن السلف يصنعونها والله أعلم، ولا يمكن أن تتوارد كلمات الأئمة على معنى بدعي، ولهذا يقول الغزالي في المستصفى: ومما شاع عند أهل العلم، فيجعلون مما يشيع نوعاً من الاستدلال على الجواز، والإمام أحمد رحمه الله في الختمة ختمة القرآن في الصلاة، قال: عن الكافة ثم الكافة من أهل مكة، عندما سأله الفضل بن زياد .

قول المؤلف: قال: (ولأنه يسهل خروج الروح)، هذا معنى، والمعنى الثاني: أن فيه من التوحيد، وما أعد الله لأهل توحيده من الجنة، وفيه من الانبساط وانشراح النفس لما أعده الله، فيظن من يظن أن ذلك سهول لخروج الروح، وهذا المعنى أقرب،

قراءة الفاتحة عند المحتضر

قال المؤلف رحمه الله: (ويقرأ عنده أيضاً الفاتحة).

قراءة الفاتحة إن كانت بقصد الرقية فلا حرج، وهذا يتأتى حينما تقرأ أمامه، وتقرأ بقصد الرقية، فلا حرج لقوله صلى الله عليه وسلم عندما قال: ( والله يا رسول الله! ما زدت على أن قرأت بأم الكتاب؟ قال: وما يدريك أنها رقية )، فهذا يدل على أن سورة الفاتحة من أعظم الرقى، ولهذا جاء عند النسائي أنه قال: ( يا رسول الله! ما زدت على أن قرأت الفاتحة سبع مرات )، وهذا يدل على أن قراءة سبع مرات لها أصل في السنة، وكذلك قول: (حسبي الله لا إله هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات)، وهذا يدل على أن السبع لا بأس بها، والله أعلم.

وأما قراءة الفاتحة بدعوى أن ذلك يسهل على المحتضر نزع روحه، بحيث تقرأ عنده، ومعنى القراءة عنده: أن يجلس هذا في كرسي، والمريض بعيد، ويقرأ الفاتحة، فيكون قرأ عنده، ولم يقرأ عليه، فإن قرأ عنده فهذا لا أصل له، ولا يشرع، ويخشى أن يأتوا بقارئ ويقرأ القرآن عند المحتضر، كما يصنعون بعد وفاته، ولا شك أن هذا الفعل بهذه الطريقة بعد الوفاة من البدع.

توجيه المحتضر إلى جهة القبلة

قال المؤلف رحمه الله: (ويوجهه إلى القبلة).

توجيهه إلى القبلة استدلالاً بما رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هذه قبلتكم أحياءً وأمواتاً ) لكن هذا الحديث لا يصح؛ لأن في سنده رجلاً يقال له عبد الحميد بن سنان قال البخاري رحمه الله: في حديثه نظر، والأصل في هذا فعل السلف، وهو مذهب أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد ، ونقل ابن المنذر أنه قول كثير من السلف.

والذي يظهر لي -والله أعلم- أن ذلك ليس بسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما مات لم يحفظ أنه استقبل القبلة، بل كان على قفاه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، وكان يرفع رأسه إلى أعلى، ويشير ويقول: (إلى الرفيق الأعلى، إلى الرفيق الأعلى، إلى الرفيق الأعلى)، ثم قبض، وكان بين سحر ونحر عائشة رضي الله عنها، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينم على جنبه، ولم يستقبل به القبلة، وهذا بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام دليل على أنه لا يستقبل القبلة، فإن كان ذلك أخف فلا حرج والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (وعلى جنبه الأيمن أفضل).

قالوا: لأنه يشرع للإنسان حال النوم أن ينام على جنبه الأيمن لما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابي: ( إذا أويت إلى فراشك فنم على يدك اليمنى، ثم نم على جنبك الأيمن، ثم قل: اللهم إني ... إلخ ) الحديث، قالوا: فهذه النومة الصغرى، فالنومة الكبرى من باب أولى، والذي يظهر -والله أعلم- أن هذا يحتاج إلى دليل، ولا يقاس الأدنى على الأعلى فإن النوم أدنى من حال الاحتضار، وحال الاحتضار مسألة فيها من مشقة على الميت، والظاهر حال وفاته صلى الله عليه وسلم أنه كان بين سحر ونحر عائشة رضي الله عنها، وهو مستلق، وإن كان رأسه أعلى من رجليه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، ولهذا لا ينبغي أن يشق على المحتضر، خاصة أن بعض الناس أحياناً يقول: اجعلوه على جنبه الأيمن، والثاني يقول: لا تجعلوه، والثاني يقول: اجعلوه، فيشق ذلك على المحتضر، ولهذا قال المؤلف: (وإلا فعلى ظهره مستلقياً ورجلاه إلى القبلة)، وهذا كما قلت: الأصل أن يرفق بحال المحتضر، و عائشة رضي الله عنها حينما علمت محبة النبي صلى الله عليه وسلم بقربها ضمته بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.

قال المؤلف رحمه الله: (ويرفع رأسه قليلاً ليصير وجهه إلى القبلة).

وهذا ليس عليه دليل صحيح.

فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإذا نُزل به أي: نزل به الملك لقبض روحه سن تعاهد أرفق أهله وأتقاهم لربه ببل حلقه بماءٍ أو شراب وتندّى شفتيه بقطنة؛ لأن ذلك يطفئُ ما نزل به من الشدة، ويسهل عليه النطق بالشهادة ].

قول المؤلف رحمه الله: (وإذا نزل به) أي: إذا نزلت الملائكة لنزع روحه.

قال المؤلف رحمه الله: (سن تعاهده) قال: (سن) مع أن أكثر هذه الأشياء لم يثبت فيها بخصوصها دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن القول بأن ذلك سنة محل نظر، ولكن لو قيل: إن ذلك من الأفضل لما في هذه الأشياء من التخفيف على حال الميت أو المحتضر، ومن باب قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )، وقوله عليه الصلاة والسلام: ( من نفس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربه يوم القيامة )، ولا شك أن المحتضر يعيش في حالة من الكرب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إني لأوعك كما يوعك رجلان )، فهو حسن، ولهذا قال الإمام الشافعي في كتاب الأم عندما ذكر مثل هذا، قال: وكلما رجوا وعرفوا أن ذلك من دفع المكروه رجوت أنه لا بأس به، وكلمة الإمام الشافعي حسنة، أي أنه لا بأس به، أو أنه من الأفضل، أما أن يقال: إنه سنة، فهذا محل نظر.

إذا ثبت هذا فإن المؤلف يقول: (يبل حلقه بماء أو شراب، وتندّى شفتيه)، أي: توضع كرسف أو قطنة في شفتيه بحيث يبللهما؛ لأن حال الاحتضار ييبس اللسان، ولعل مما يستدل لذلك ما جاء في الصحيحين حين (كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزع بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر وهو يستاك، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقالت عائشة : هل تريده؟ قالت: فأشار برأسه أن نعم، قالت عائشة : فأخذته فقضمته، ثم بللته، ثم أعطيته إياه، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسوك يومئذٍ بأحسن مما تسوك)، وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبلل فمه، وهذا أحسن شيء في الباب، والله أعلم، ولهذا قال المؤلف: (لأن ذلك يطفئ ما نزل به من الشدة، ويسهل عليه النطق بالشهادة).

فتبليل الفم وإيجاد الريق فيه يخفف الشدة التي تنزل بالمحتضر، وكذلك يسهل النطق بالشهادتين بدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم تسوك حال احتضاره، ومن المعلوم أن التسوك يزيد تبليل الفم وإيجاد الريق، فالتسوك يزيده، وهذا أصح ما قيل في هذا الباب، والله أعلم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الروض المربع - كتاب الجنائز [8] 2626 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [78] 2583 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [42] 2542 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [45] 2541 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [34] 2516 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [22] 2448 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [44] 2382 استماع
الروض المربع - كتاب البيع [20] 2370 استماع
الروض المربع - كتاب الطهارة [8] 2351 استماع
الروض المربع - كتاب الصلاة [98] 2349 استماع