الروض المربع - كتاب الصلاة [40]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله: [ثم بعد فراغه من قراءة السورة يركع مكبراً؛ لقول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر إذا قام إلى الصلاة ثم يكبر حين يركع)، متفق عليه، رافعاً يديه مع ابتداء الركوع؛ لقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة رفع يديه حتى يُحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع وبعد ما يرفع رأسه)، متفق عليه، ويضعهما، أي: يديه على ركبتيه مفرجتي الأصابع استحباباً، ويكره التطبيق بأن يجعل إحدى كفيه على الأخرى ثم يحطهما بين ركبتيه إذا ركع، وهذا كان في أول الإسلام ثم نُسخ].

قول المؤلف رحمه الله: (ثم بعد فراغه من قراءة السورة يركع) السنة إذا انتهى الإنسان من قراءة السورة أن يسكت سكتة لطيفة قبل الركوع ثم يركع، وقلنا: إن هذه السكتة ثابتة، وهي قريبة من إجماع أهل العلم حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُحفظ عنه أنه كان إذا انتهى من القراءة يجمع بينها وبين التكبير مثلما يقوله بعض الأئمة في صلاة التراويح كأن يقول: وكان الله عليماً حكيماً، الله أكبر، فلم يُحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك، بل كان يسكت سكتة لطيفة، وهذا هو المحفوظ.

والسكتة الثانية أن تكون بعد التكبير وقبل القراءة لحديث أبي هريرة : ( أرأيت سكوتك ما بين التكبير والقراءة ماذا كنت تقول؟ )، وهذه سكتة لطيفة ليست طويلة.

ركنية الركوع في الصلاة

قال المؤلف رحمه الله: (يركع مكبراً) الركوع من أركان الصلاة، والقاعدة في هذا أن كل عبادة سُميت بأحد أجزائها دل على أن هذا الجزء من أركانها، وأنه لا ينفك عنها، والله سبحانه وتعالى قال: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، فدل ذلك على أن الركوع من أركان الصلاة، ومن المعلوم أن قوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، لم يقصد بها ذات الركوع وإنما قُصد بها الصلاة، وكذلك في السجود كما قال تعالى: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43]، والمقصود من ذلك هو الصلاة.

حكم التكبير للركوع

قال المؤلف رحمه الله: (مكبراً) هذه تسمى تكبيرات الانتقال، ولم يذكر المؤلف حكم تكبيرات الانتقال، والمحفوظ عند أحمد في المذهب أن تكبيرات الانتقال واجبة، وذهب جمهور أهل العلم إلى أنها مستحبة وليست واجبة، واستدلوا بأدلة: الأول: أنه لم يُحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بذلك، وغاية ما فيه أنه قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ومن المعلوم أن هذا إذا لم يكن دليل إلا هو فليس فيه دلالة على الوجوب.

الثاني: أنه ثبت عن بعض الصحابة أنه كان لا يُتم التكبير، فقد روى مسلم في صحيحه من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة : ( أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يُكبر كلما رفع وخفض، قال: فقلنا: يا أبا هريرة ما هذا التكبير؟! فقال: إنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم )، ومثل ذلك ما رواه البخاري عن مطرف بن عبد الله الشخير عن عمران بن حصين : ( أنه صلى مع علي بن أبي طالب بالبصرة فقال عمران : لقد ذكرنا هذا الرجل صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وذلك لأن علياً كان يُتم التكبير.

ووجه الدلالة من هذين الحديثين أن التابعين حينما رأوا أبا هريرة يُتم التكبير أشكل ذلك عليهم، وكان ذلك في عهد الخلفاء الراشدين، وحينما صلى عمران مع علي فأتم قال: ( ذكرنا بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم )، دل ذلك على أنهم كانوا لا يتمون، وكان هذا أمراً مشتهراً، فلما فعلوا السنة، ذُكر ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان واجباً لما اُشتهر تركه، هكذا يقولون.

وأما مذهب الحنابلة القائلين أن تكبيرات الانتقال واجبة، فاستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المأموم أن يُكبر، وعلق تكبيره بتكبير إمامه، فلا يمكن أن يقال بأن تكبير المأموم واجب وتكبير الإمام ليس بواجب، فقال: ( إذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يُكبر )، فإذا أُمر المأموم أن يُكبر، وجُعل هذا التكبير مربوطاً بتكبير إمامه دل على أن إمامه يُكبر وجوباً، وأما ما نُقل عن بعض السلف أنهم كانوا لا يتمون التكبير، كما نُقل عن معاوية فهذا يقول ابن تيمية : إن بني أُمية خالفوا السنة في أمور حتى ظنها الظان أن ذلك هو السنة، فهم الذين أحدثوا تأخير الصلاة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن قوماً سوف يأتون فيؤخرون الصلاة، قال: (كيف بكم بأمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها ويخنقونها إلى شرق الموتى؟ قالوا: كيف تأمرنا يا رسول الله؟! قال: صلوا الصلاة لوقتها فإن أدركتموها معهم فصلوها تكن لكم نافلة)، ومن المعلوم أن تأخير صلاة العصر إلى قريب من الغروب محرم وهي صلاة المنافقين، فهل يقال أن ذلك مخالف لترك سنة فقط؟

كذلك أن بني أُمية مما خالفوا السنة كما ذكر ابن تيمية هو ترك التكبير في الانتقال، فليس اشتهار الترك دليلاً على عدم الوجوب، وذلك أنه ربما يكون الذي اُشتهر ليس هو ترك التكبير ولكنه ترك الجهر، ومن المعلوم أن ترك الجهر شيء وترك التكبير شيء آخر، وهذا هو الذي أشار إليه أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وهذا هو القول الظاهر، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

فيكون ما نُقل عن بعض السلف إنما هو ترك الجهر وليس ترك التكبير.

وأما الرفع مع التكبير فله ثلاث حالات: إما أن يُكبر ويرفع معاً، وإما أن يرفع ثم يُكبر، وهاتان الروايتان محفوظتان، وإما أن يُكبر ثم يرفع، وهذه الحالة الثالثة فقد جاءت في بعض الروايات ولعلها مختصرة، والله تبارك وتعالى أعلم.

وذكر المؤلف حديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُكبر إذا قام إلى الصلاة، ثم يكبر حين يركع )، وهذا الحديث يدل على المقارنة بين التكبير والرفع.

وقت التكبير للركوع

قال المؤلف رحمه الله: (رافعاً يديه مع ابتداء الركوع) لحديث أبي هريرة الذي مر معنا (يُكبر حين يركع )، مما يدل على أن من السنة أن يكون الانحناء مع بداية الركوع، وهذا هو السنة، وأما أن تكون تكبيرات الانتقال قبل الشروع في الركن، فإن بعض الحنابلة ذهب إلى أن ذلك مخالفة للسنة، بل عدوا أن ذلك ذكر في غير موضعه، والسنة أن يكون التكبير مع الانتقال؛ لحديث أبي هريرة : (يُكبر حين يركع، ثم يُكبر حين يقوم)، فما يفعله بعض الأئمة من قول: الله أكبر ثم يركع، أو يقول إذا استتم قائماً: سمع الله لمن حمده، قال بعض الحنابلة: إن هذا ذكر في غير موضعه، والسنة أن يكون التكبير حال الانتقال بحيث ينتهي من التكبير قبل أن يضع جبهته على الأرض، وينتهي من التكبير قبل أن يستتم قائماً، وينتهي من التكبير قبل أن يُتم انحناءه، وعلى هذا فقس.

وأما ذكر بعض الحنابلة أن ذلك واجب فهذا بعيد؛ لأن غايته أن هذا فعل للنبي صلى الله عليه وسلم والأفعال لا يؤخذ منها الوجوب إلا بطرق معينه ذكرناها سابقاً.

رفع اليدين في الركوع

قال المؤلف رحمه الله: (يقول ابن عمر : (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة رفع يديه حتى يُحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعد ما يرفع رأسه) )، هذه ثلاثة مواضع حُفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه، وهذه المحفوظة عن ابن عمر رضي الله عنه، وقد زاد عُبيد الله بن عمر العُمري المصغر عن نافع عن ابن عمر : (وإذا قام من اثنتين من الجلوس)، يعني: بعد التشهد الأول إذا قام، (رفع يديه)، فهذه الزيادة الرابعة اختلف الحفاظ هل ثبتت عن ابن عمر أم لا؟ إذ أن أكثر الرواة عن نافع لم يذكروها، وإنما ذكرها عُبيد الله بن عمر العُمري المصغر ، والذي يظهر والله أعلم أن ذلك ثابت كما رواه مسلم في صحيحه.

فإنه يقول: يرفع يديه في تكبيرة الإحرام ثم لا يعود، واستغرب بعض الناس أن أبا حنيفة يقول بهذا القول مع أنه قد نقل عن ثلاثة من الصحابة، فنُقل عن عمر رضي الله عنه كما رواه الطحاوي عن الأسود قال: رأيت عمر يرفع يديه في تكبيرة الإحرام ثم لا يعود، وهذا الحديث صححه البيهقي ، وكذلك روى ابن أبي شيبة و الطحاوي عن مجاهد قال: صليت خلف ابن عمر فكان يرفع يديه في التكبيرة الأولى ثم لا يعود، وكذلك ما رواه عاصم بن كليب عن أبيه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يرفع يديه في تكبيرة الإحرام من الصلاة ثم لا يعود، وهذا رواه الطحاوي وقال: هذا أثر صحيح، فـأبو حنيفة رضي الله عنه لم يبلغه الشيء المرفوع، وإنما بلغه الشيء الموقوف.

وبالغ بعض أهل الحديث في النكارة على الإمام أبي حنيفة في هذه المسألة كما ذكر ذلك الإمام البخاري في جزء رفع اليدين في الصلاة، وأما حديث ابن مسعود أنه قال: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يرفع يديه في التكبيرة الأولى ثم لا يعود)، فهذه الزيادة ضعيفة؛ وذلك لأن محمد بن جابر يرويه عن حماد بن أبي سليمان عن النخعي عن علقمة عن ابن مسعود ، و محمد بن جابر تفرد بهذه الرواية.

وزيادة (ثم لا يعود) أنكرها أبو حاتم ، والإمام أحمد ، و يحيى بن آدم ، والإمام البخاري ، و الدارقطني ، و أبو داود ، فالرواية منكرة.

كيفية وضع اليدين على الركبتين في الركوع

قال المؤلف رحمه الله: (يضعهما أي: يديه على ركبتيه مفرجتي الأصابع استحباباً)، السنة أن يقبض المصلي بيديه ركبتيه وتكون مفرجة الأصابع هذه هي السنة، وأما ما جاء في التطبيق وهو أن يُطبق كفيه بأن يجعل راحتيه بين فخذيه فيطبق كفيه ويُدخلهما بين فخذيه، فهذا كان في أول الإسلام، وما نُقل عن بعض الصحابة كما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود أنه صلى بـالأسود و علقمة قال: فلما رأيناه ركع طبق بين كفيه، فإن ابن مسعود لم يبلغه النسخ والنسخ ثابت في صحيح البخاري و مسلم من حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: (صليت مع أبي فطبقت بين كفي، قال: فأخذ بيدي فوضعهما على ركبتي، ثم رآني بعد ذلك فقال: أي بُني! إنا نُهينا عن ذلك وأمرنا أن نضع أيدينا على الرُكب)، فهذا يدل على النسخ، والعالم مهما بلغ من العلم فإنه تخفى عليه بعض السنة، ولا يضيره ذلك فـابن مسعود الذي قال عنه عمر : كُنيف ملئ علماً خفيت عليه هذه السنة، مما يدل على أن العالم قد تخفى عليه بعض السنن لكن يبقى خشيته وقربه وذكره لله تعالى هو الأصل، فكلما زاد إيمان العبد وزاد علمه زادت خشيته لله سبحانه وتعالى، وأكثر من الإنابة والخشوع وذكر لله سبحانه وتعالى.

قال المؤلف رحمه الله في صفة التطبيق: (ويكره التطبيق بأن يجعل إحدى كفيه على الأخرى، ثم يحطهما بين ركبتيه إذا ركع، وهذا كان في أول الإسلام ثم نُسخ)، لحديث مصعب بن سعد السابق ذكره.

الدليل على أن الإنسان يقبض ركبتيه في الركوع مفرجي الأصابع حديث أبي مسعود البدري أنه قال: (إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ركع فجافى يديه ووضع يديه على ركبتيه وفرج أصابعه من وراء ركبتيه)، وحديث رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك).

نسأل الله أن يرزقنا التفقه في الدين، وصلى الله على نبينا محمد.