أحكام الجنائز [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.

أما بعد:

فمن أركان الإيمان أن يصدق المؤمن يقيناً بأن هناك يوماً يجمع الله فيه الأولين والآخرين، ويحاسبهم على ما قدموا من خير أو شر، وهذا المعنى مذكور في قول ربنا جل جلاله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]، وكذلك في قول ربنا جل جلاله: كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285] إلى أن قال: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، فقوله: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )) متضمن الحديث عن اليوم الآخر، وأيضاً عاب ربنا سبحانه وتعالى في القرآن قوماً فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31]، وقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [يونس:45]، وقال: وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الجاثية:32-34]، فالإيمان باليوم الآخر ركن ركين لا يسلم دين المرء إلا إذا صدق به تصديقاً جازماً، ونؤمن باليوم الآخر أيها الإخوان! إجمالاً وتفصيلاً، أما الإجمال فهو ما ذكرت، نؤمن بأن هناك يوماً يجمع الله فيه الناس ويحاسبهم، ونؤمن تفصيلاً باليوم الآخر، ومن ذلك الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، ومن ذلك الإيمان بالنفخ في الصور، والإيمان بالحشر، والإيمان بتطاير الكتب، والإيمان بالميزان، والإيمان بالصراط، والإيمان بالجنة والنار، بالتفاصيل التي ورد ذكرها في كتاب ربنا، وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم.

يا أيها الإخوة الكرام! الموت هو أول مراحل الآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من مات فقد قامت قيامته )، أي: أنه انتقل من دار إلى دار، ومن حال إلى حال، (والقبر أول منازل الآخرة، فإن كان خيراً فما بعده خير منه، وإن كان شراً -عياذاً بالله- فما بعده شر منه).

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يستعيذ بالله من عذاب القبر، وعلمنا صلوات ربي وسلامه عليه إذا فرغ أحدنا من التشهد ألا يسلم حتى يستعيذ بالله من أربع فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال ).

وعلمنا صلى الله عليه وسلم إذا أصبحنا أن يقول أحدنا: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وأعوذ بك من عذاب القبر)، يقولها ثلاثاً إذا أصبح، وثلاثاً إذا أمسى، وكان صلوات ربي وسلامه عليه إذا كان في جنازة يقول لأصحابه: (تعوذوا بالله من عذاب القبر)، ومعلوم بأنه صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ إلا من شيء واقع، ومن شيء حاصل.

ولو سأل سائل وهذا السؤال يطرحه بعض الناس يقولون: إذا كان عذاب القبر حقاً، فلماذا لم يرد ذكره في القرآن؟ فنجيب هؤلاء بجوابين أحدهما مجمل، والآخر مفصل.

أما الجواب المجمل، فنقول لهم: نحن المسلمين لا نأخذ عقائدنا من القرآن وحده، بل من القرآن ومما ثبت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قال: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]، ولأن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: ( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه )؛ ولأن ربنا جل جلاله قال عن نبيه عليه الصلاة والسلام: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، وربنا سبحانه قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44]، فنبينا عليه الصلاة والسلام يفسر القرآن، فيفصل المجمل ويقيد المطلق، ويبين المشكل، وهو ترجمان القرآن عليه الصلاة والسلام في سنته القولية، وسنته العملية، ولذلك قال ربنا: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النور:56]، لكن من الذي علمنا أن صلاة الصبح ركعتان جهريتان، وفي كل ركعة ركوع واحد وسجدتان، ثم في نهاية الأمر لا بد من جلوس وبعده سلام، هذا كله ما عرفناه من القرآن، فمن أين أخذنا صفة صلاتنا؟ من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقل مثل ذلك في الحج، وقل مثل ذلك في تفاصيل الزكاة، فالإنسان الذي يقول: أنا أعمل بالقرآن وحده وليس لي علاقة بشيء سوى ذلك هذا إنسان جاهل، ونقول له: لن تعرف كيف تعبد ربك إلا إذا تعلمت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهناك أشياء من المحرمات نجتنبها وليست في القرآن، فنحن معشر الرجال المسلمين لا نتحلى بالذهب، ولا نلبس من الثياب ما كان حريراً، ولا نأكل لحم الحمر الأهلية، ولا نأكل ذوات الناب من السباع، ولا ذوات المخلب من الطير، فلا أحد منا يأكل لحم الحمار، وليس منا من يذبح له كديسة (القطة)، أو كلباً فيأكله، وهذا كله ليس في القرآن، وإنما عرفنا تحريم هذه الأشياء من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا هو الجواب المجمل.

الأدلة على عذاب القبر من القرآن

وأما الجواب المفصل فنقول: قد ورد ذكر عذاب القبر في القرآن، فإن القرآن الكريم حدثنا عن عذاب القبر في كثير من المواضع، منها ما كان في سورة الأنعام، في قول ربنا جل جلاله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، وهذه الآية واضحة ما تحتاج إلى شرح، يخاطب الله عز وجل الواحد منا فيقول: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ غمرات الموت جمع غمرة، أي: سكراته، وسميت سكرة الموت غمرة؛ لأنها تغمر الإنسان وتستغرقه، ثم قال: وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ ، فالله عز وجل يصور مشهد قبض الروح تصويراً حسياً، أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ملك الموت يقول: (اخرجي أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب)، فملك الموت إذا أراد أن يقبض روح الكافر أو روح المنافق، أو روح الفاجر، يقول هذا الكلام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فتتفرق روحه في جسده، فينتزعها ملك الموت كما ينتزع السفود من الصوف المبلول )، يعني: عصا فيها زيت أو فيها دهن التصقت بصوف، فإنها لا تخرج إلا ومعها بعض هذا الصوف، فالملائكة تقول: أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ، ثم تقول: (اليوم)، أي: يوم الموت، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ، فقولهم: اليوم هو يوم الموت، وليس يوم القيامة، فيوم القيامة ما يقال لهم: أخرجوا أنفسكم، وإنما يكون هذا يوم الموت.

الموضع الثاني في سورة غافر في قول ربنا جل جلاله: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:45-46]، قال الله عز وجل: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا أي: صباحاً ومساءً، ثم قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ، إذاً: النار التي كانوا يعرضون عليها غدواً وعشياً هي غير النار التي تكون يوم القيامة، فهذه نار شديدة، ويوم القيامة أشد العذاب.

وقد روى الإمام ابن أبي الدنيا ( أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان في سفر بين مكة والمدينة، ولما جاء إلى المدينة حكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بينما كان في الطريق انشقت الأرض، وخرج رجل جسده يشتعل عليه ناراً، وكان في يد عبد الله بن عمر إداوة من ماء، فقد كان مسافراً يحمل معه ماءً يقول: فقال لي: انضح يا عبد الله! قال: فما أدري هل عرف اسمي، أم ناداني بما كانت العرب تنادي به غيرها؟ قال: ورجل قائم في القبر يجره بسلسلة يقول: لا تنضح يا عبد الله !) ذاك يقول: انضح، أي: رش، والآخر يقول: لا تنضح، قال: ( ثم جذبه، والتأمت الأرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أو ما عرفته يا عبد الله بن عمر! ذاك عدو الله أبو جهل يفعل به ذلك إلى يوم القيامة )، وقرأ هذه الآية: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ، ومعلوم بأن أبا جهل كان واحداً من الفراعنة، ولذلك لما قتل قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( قتل اليوم فرعون هذه الأمة )، إذاً هذه الآية دليل على عذاب القبر.

ومن الآيات كذلك خواتيم سورة الواقعة، قال الله عز وجل: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:83-85] إلى أن قال سبحانه: وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة:92-95] بمعنى أن الإنسان يبدأ رحلة النعيم، أو رحلة العذاب عياذاً بالله منذ أن تبلغ روحه الحلقوم، مع أنه ما زال بيننا لم يغادر دنيانا والملائكة تعالج روحه، فتبدأ جذبها من قدميه، ولا يزال جسده يبرد حتى إذا بلغت الروح الحلقوم فإنه حين ذلك إن كان مؤمناً بدأت رحلة النعيم تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، الملائكة تبشره عند الموت، ولذلك يحب لقاء الله، ويستعجل خروج هذه الروح، ويفتح له باب إلى الجنة.

ولذلك بعض المحتضرين، وهو في سياق الموت تبسم، وبعضهم قال: ما أجمل الجنة، ما أحلاها، إني أراها، مثلما قال أنس بن النضر رضي الله عنه: واهاً لريح الجنة إني أجدها من دون أحد، وهو رضي الله عنه في السياق، ومثلما قال بلال بن رباح رضي الله عنه، لما قالت زوجه وهو في سياق الموت: وا كرباه! قال: بل وا طرباه! غداً ألقى الأحبة، محمداً وحزبه، ومثلما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: مرحباً بالموت، مرحباً بحبيب جاء على فاقة، يرحب بالموت لأنه رأى ما أعد الله له في الجنة.

وبالمقابل -والعياذ بالله- الكافر والفاجر يفتح له باب إلى النار، فيرى ما أعد الله له من العذاب، (فيكره لقاء الله فيكره الله لقاءه)، ولذلك بعضهم يصرخ، وبعضهم ربما يقول: النار النار، وما إلى ذلك والعياذ بالله.

فرحلة النعيم، أو رحلة العذاب تبدأ منذ أن تبلغ الروح الحلقوم؛ لأن الله قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85].

كذلك من أدلة القرآن قول ربنا جل جلاله: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ [السجدة:21]، فقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما العذاب الأدنى بأنه عذاب القبر.

الأدلة على عذاب القبر من السنة

وأما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تواترت فيها الأحاديث تواتراً معنوياً، فإذا قرأها المسلم فإنه يصل إلى يقين بأن هذه القبور التي نمر بها ليست سواء، لذلك كان علي رضي الله عنه إذا مر بالمقابر قال: ما أسكن ظواهرك وفي دواخلك الدواهي، فالقبور ظاهرها سواء، لكن بعد ذلك الناس فيها بعضهم في روضة من رياض الجنة، وبعضهم -والعياذ بالله- في حفرة من حفر النار.

ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس )، فالرسول عليه الصلاة والسلام يرى ما لا نرى، ويسمع ما لا نسمع، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( لولا ألا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم مما أسمع )، وقال: ( لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون ).

ففي حديث ابن عباس ذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام مر بالمقابر، فلما أتى على قبرين قال: (إنهما ليعذبان) أي: صاحبا القبرين يعذبان، (وما يعذبان في كبير) أي: بزعمهما، كانا يعتبرانه شيئاً تافهاً، ثم قال: (بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله)، عدم الاستتار من البول يحمل على أربعة معانٍ:

المعنى الأول: كشف العورة، فتجد الآن بعض السفهاء إذا أراد أن يبول، فلربما يقف في ميدان من الميادين، ويبول ولا يبالي بمن ينظر إليه، ولا يبالي بمن يراه، فهذا يعذب في قبره؛ لأنه لا يستتر من بوله.

المعنى الثاني: (لا يستتر من بوله) أي: لا يتقي رشاشه، وهذا أيضاً متصور فيمن يبول وهو قائم، فإن النجاسة تأتي على ثيابه، وتأتي على بدنه وهو لا يبالي بذلك.

المعنى الثالث: يحمل على التعجل قبل استفراغ ما في المخرج، فإن بعض الناس مطبوع على العجلة، يستعجل دائماً، فتجده إذا بال لا يصبر إلى أن يستفرغ ما في المخرج، وإنما يقوم بسرعة، ويلبس ثيابه، وبمجرد ما يقوم فإن قطرات من البول تسيل على بدنه وثيابه، وهذا أيضاً لا يستتر من بوله.

المعنى الرابع: أنه لا يعنى بقطع هذا الخارج عينه وأثره، المعنى: أنه ما يعنى بالنظافة بعد ما يقضي حاجته، فلا يستخدم ماءً، ولا يستخدم يابساً منقياً، وإنما يخرج، وهذا أيضاً موجود عند بعض الناس، نسأل الله العافية، فتجده يعيش كالبهائم يبول ويمشي.

إذاً: قوله: (لا يستتر من بوله) معناها: إما كشف العورة، وإما عدم اتقاء الرشاش، وإما التعجل قبل استفراغ ما في المخرج، وإما عدم العناية بالاستبراء من البول، (ثم أخذ صلى الله عليه وسلم جريدة رطبة فشقها نصفين، ووضع على كل قبر نصفاً، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا).

وثبت في الصحيحين أيضاً من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على دابته فمر ببعض المقابر، فنفرت دابته حتى كادت تطرحه، -يعني: هذه الدابة تضايقت وبدأت تتحرك تحركاً شديداً حتى كادت تلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال عليه الصلاة والسلام: قبور من هذه، فذكروا ستة ماتوا على الشرك -والعياذ بالله- فقال: إن هؤلاء يعذبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم )، ولذلك الآن إذا مررت بالمقابر فوجدت بهيمة عند قبر مطمئنة تبحث وتأكل، فتفاءل خيراً بأن صاحب هذا القبر في خير إن شاء الله.

يقول الإمام أبو عبد الله بن القيم رحمه الله: ولذلك كنا في بلاد الشام إذا مغلت الدواب، يعني: أصيبت بالإسهال، استطلق بطنها فمرضت، قال: كانوا يذهبون بها إلى قبور اليهود والمنافقين من النصيرية والإسماعيلية، قال: فلا تمكث هناك إلا يسيراً فتنطلق تعدو، تنسى مرضها، إذ العافية جاءت؛ لأنها وجدت مصيبة أعظم وأكبر، يعني -مثلاً: عافانا الله وإياكم- هناك مريض وراقد فشب حريق في البيت، فهل سيقول: والله أنا تعبان تعالوا خذوني؟ لا، حتى لو كان مشلولاً؛ فإنه سيحاول أن يخرج بأي سبيل من السبل، فعذاب أهل القبور تسمعه البهائم، ولذلك في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فيصيح صيحة يسمعه من في السموات ومن في الأرض، إلا الثقلين )، أي: إلا الجن والإنس؛ لأننا لو سمعناه ما عاد غيباً، وسيصدق الجميع المؤمن والكافر، لكن الله ابتلانا بأن يغيب عنا هذه الأشياء من أجل أن يتبين من المصدق الذي يؤمن بعالم الغيب كإيمانه بعالم الشهادة، ومن المرتاب المتشكك، ومن الضال المكذب، فالله جل جلاله غيب، والملائكة غيب، والجن والشياطين غيب، والجنة والنار غيب، وعذاب القبر ونعيمه أيضاً غيب، فهذه كلها غيوب، ينبغي أن نؤمن بها ونصدق؛ لأن الخبر قد ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب ربنا جل جلاله.

أيضاً من الأدلة الحديث الطويل الذي حكاه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم في بقيع الغرقد: (بأن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا، نزلت عليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ويجلس ملك الموت عند رأسه، ويقول: اخرجي أيتها الروح الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج روحه تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء -يعني: سهلة-، فيجعلونها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ثم يصعدون بها إلى السماء، فتفتح لها أبواب السماء، ويشيعه من كل سماء مقربوها، ويخرج منها كأطيب ريح وجدها إنسان، فيقول أهل السماء: روح من هذه؟ فتقول الملائكة: روح فلان بن فلان بأحب أسمائه في الدنيا.

فإذا وضع في قبره، وتولى عنه مشيعوه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، يأتيه ملكان فيجلسانه ويسألانه وينتهرانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل هو محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيقول له الملكان: كيف عرفت ذلك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وعرفت ما فيه، فينادي منادٍ من السماء: صدق عبدي، فافرشوا له من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها فيقول: رب أقم الساعة، فيقول الملكان: نم نومة العروس، وتمر عليه فترة البرزخ كصلاة ظهر أو صلاة عصر، وأما العبد الفاجر -والعياذ بالله- إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا نزلت عليه ملائكة من السماء، سود الوجوه، معهم كفن من أكفان النار، ويقول ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، فتتفرق روحه في جسده، فينتزعها ملك الموت، كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، ثم يجعلونها في ذلك الكفن، ويصعدون بها إلى السماء، فتغلق دونها أبواب السماء، وتلا: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، فإذا وضع في قبره وتولى عنه مشيعوه، يأتيه ملكان فيسألانه وينتهرانه: من ربك؟ فيقول: ها ها، لا أدري، ما دينك؟ فيقول: ها ها لا أدري، ما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: ها ها لا أدري )، وفي بعض الروايات: (بأنه يسكت، فيقول له الملكان: محمد؟ فيقول: هو رسول الله، يقول له الملكان: كيف عرفت ذلك؟ يقول: سمعت الناس يقولون قولاً فقلته، فيقول له الملكان: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمرزبة من حديد لو ضربت بها جبال الدنيا لصارت تراباً، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، فيقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة).

وأما الجواب المفصل فنقول: قد ورد ذكر عذاب القبر في القرآن، فإن القرآن الكريم حدثنا عن عذاب القبر في كثير من المواضع، منها ما كان في سورة الأنعام، في قول ربنا جل جلاله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، وهذه الآية واضحة ما تحتاج إلى شرح، يخاطب الله عز وجل الواحد منا فيقول: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ غمرات الموت جمع غمرة، أي: سكراته، وسميت سكرة الموت غمرة؛ لأنها تغمر الإنسان وتستغرقه، ثم قال: وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ ، فالله عز وجل يصور مشهد قبض الروح تصويراً حسياً، أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ملك الموت يقول: (اخرجي أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب)، فملك الموت إذا أراد أن يقبض روح الكافر أو روح المنافق، أو روح الفاجر، يقول هذا الكلام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فتتفرق روحه في جسده، فينتزعها ملك الموت كما ينتزع السفود من الصوف المبلول )، يعني: عصا فيها زيت أو فيها دهن التصقت بصوف، فإنها لا تخرج إلا ومعها بعض هذا الصوف، فالملائكة تقول: أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ ، ثم تقول: (اليوم)، أي: يوم الموت، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ، فقولهم: اليوم هو يوم الموت، وليس يوم القيامة، فيوم القيامة ما يقال لهم: أخرجوا أنفسكم، وإنما يكون هذا يوم الموت.

الموضع الثاني في سورة غافر في قول ربنا جل جلاله: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:45-46]، قال الله عز وجل: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا أي: صباحاً ومساءً، ثم قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ، إذاً: النار التي كانوا يعرضون عليها غدواً وعشياً هي غير النار التي تكون يوم القيامة، فهذه نار شديدة، ويوم القيامة أشد العذاب.

وقد روى الإمام ابن أبي الدنيا ( أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان في سفر بين مكة والمدينة، ولما جاء إلى المدينة حكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بينما كان في الطريق انشقت الأرض، وخرج رجل جسده يشتعل عليه ناراً، وكان في يد عبد الله بن عمر إداوة من ماء، فقد كان مسافراً يحمل معه ماءً يقول: فقال لي: انضح يا عبد الله! قال: فما أدري هل عرف اسمي، أم ناداني بما كانت العرب تنادي به غيرها؟ قال: ورجل قائم في القبر يجره بسلسلة يقول: لا تنضح يا عبد الله !) ذاك يقول: انضح، أي: رش، والآخر يقول: لا تنضح، قال: ( ثم جذبه، والتأمت الأرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أو ما عرفته يا عبد الله بن عمر! ذاك عدو الله أبو جهل يفعل به ذلك إلى يوم القيامة )، وقرأ هذه الآية: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ، ومعلوم بأن أبا جهل كان واحداً من الفراعنة، ولذلك لما قتل قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( قتل اليوم فرعون هذه الأمة )، إذاً هذه الآية دليل على عذاب القبر.

ومن الآيات كذلك خواتيم سورة الواقعة، قال الله عز وجل: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:83-85] إلى أن قال سبحانه: وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة:92-95] بمعنى أن الإنسان يبدأ رحلة النعيم، أو رحلة العذاب عياذاً بالله منذ أن تبلغ روحه الحلقوم، مع أنه ما زال بيننا لم يغادر دنيانا والملائكة تعالج روحه، فتبدأ جذبها من قدميه، ولا يزال جسده يبرد حتى إذا بلغت الروح الحلقوم فإنه حين ذلك إن كان مؤمناً بدأت رحلة النعيم تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، الملائكة تبشره عند الموت، ولذلك يحب لقاء الله، ويستعجل خروج هذه الروح، ويفتح له باب إلى الجنة.

ولذلك بعض المحتضرين، وهو في سياق الموت تبسم، وبعضهم قال: ما أجمل الجنة، ما أحلاها، إني أراها، مثلما قال أنس بن النضر رضي الله عنه: واهاً لريح الجنة إني أجدها من دون أحد، وهو رضي الله عنه في السياق، ومثلما قال بلال بن رباح رضي الله عنه، لما قالت زوجه وهو في سياق الموت: وا كرباه! قال: بل وا طرباه! غداً ألقى الأحبة، محمداً وحزبه، ومثلما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: مرحباً بالموت، مرحباً بحبيب جاء على فاقة، يرحب بالموت لأنه رأى ما أعد الله له في الجنة.

وبالمقابل -والعياذ بالله- الكافر والفاجر يفتح له باب إلى النار، فيرى ما أعد الله له من العذاب، (فيكره لقاء الله فيكره الله لقاءه)، ولذلك بعضهم يصرخ، وبعضهم ربما يقول: النار النار، وما إلى ذلك والعياذ بالله.

فرحلة النعيم، أو رحلة العذاب تبدأ منذ أن تبلغ الروح الحلقوم؛ لأن الله قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85].

كذلك من أدلة القرآن قول ربنا جل جلاله: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ [السجدة:21]، فقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما العذاب الأدنى بأنه عذاب القبر.

وأما سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تواترت فيها الأحاديث تواتراً معنوياً، فإذا قرأها المسلم فإنه يصل إلى يقين بأن هذه القبور التي نمر بها ليست سواء، لذلك كان علي رضي الله عنه إذا مر بالمقابر قال: ما أسكن ظواهرك وفي دواخلك الدواهي، فالقبور ظاهرها سواء، لكن بعد ذلك الناس فيها بعضهم في روضة من رياض الجنة، وبعضهم -والعياذ بالله- في حفرة من حفر النار.

ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس )، فالرسول عليه الصلاة والسلام يرى ما لا نرى، ويسمع ما لا نسمع، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( لولا ألا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم مما أسمع )، وقال: ( لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون ).

ففي حديث ابن عباس ذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام مر بالمقابر، فلما أتى على قبرين قال: (إنهما ليعذبان) أي: صاحبا القبرين يعذبان، (وما يعذبان في كبير) أي: بزعمهما، كانا يعتبرانه شيئاً تافهاً، ثم قال: (بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله)، عدم الاستتار من البول يحمل على أربعة معانٍ:

المعنى الأول: كشف العورة، فتجد الآن بعض السفهاء إذا أراد أن يبول، فلربما يقف في ميدان من الميادين، ويبول ولا يبالي بمن ينظر إليه، ولا يبالي بمن يراه، فهذا يعذب في قبره؛ لأنه لا يستتر من بوله.

المعنى الثاني: (لا يستتر من بوله) أي: لا يتقي رشاشه، وهذا أيضاً متصور فيمن يبول وهو قائم، فإن النجاسة تأتي على ثيابه، وتأتي على بدنه وهو لا يبالي بذلك.

المعنى الثالث: يحمل على التعجل قبل استفراغ ما في المخرج، فإن بعض الناس مطبوع على العجلة، يستعجل دائماً، فتجده إذا بال لا يصبر إلى أن يستفرغ ما في المخرج، وإنما يقوم بسرعة، ويلبس ثيابه، وبمجرد ما يقوم فإن قطرات من البول تسيل على بدنه وثيابه، وهذا أيضاً لا يستتر من بوله.

المعنى الرابع: أنه لا يعنى بقطع هذا الخارج عينه وأثره، المعنى: أنه ما يعنى بالنظافة بعد ما يقضي حاجته، فلا يستخدم ماءً، ولا يستخدم يابساً منقياً، وإنما يخرج، وهذا أيضاً موجود عند بعض الناس، نسأل الله العافية، فتجده يعيش كالبهائم يبول ويمشي.

إذاً: قوله: (لا يستتر من بوله) معناها: إما كشف العورة، وإما عدم اتقاء الرشاش، وإما التعجل قبل استفراغ ما في المخرج، وإما عدم العناية بالاستبراء من البول، (ثم أخذ صلى الله عليه وسلم جريدة رطبة فشقها نصفين، ووضع على كل قبر نصفاً، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا).

وثبت في الصحيحين أيضاً من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على دابته فمر ببعض المقابر، فنفرت دابته حتى كادت تطرحه، -يعني: هذه الدابة تضايقت وبدأت تتحرك تحركاً شديداً حتى كادت تلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال عليه الصلاة والسلام: قبور من هذه، فذكروا ستة ماتوا على الشرك -والعياذ بالله- فقال: إن هؤلاء يعذبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم )، ولذلك الآن إذا مررت بالمقابر فوجدت بهيمة عند قبر مطمئنة تبحث وتأكل، فتفاءل خيراً بأن صاحب هذا القبر في خير إن شاء الله.

يقول الإمام أبو عبد الله بن القيم رحمه الله: ولذلك كنا في بلاد الشام إذا مغلت الدواب، يعني: أصيبت بالإسهال، استطلق بطنها فمرضت، قال: كانوا يذهبون بها إلى قبور اليهود والمنافقين من النصيرية والإسماعيلية، قال: فلا تمكث هناك إلا يسيراً فتنطلق تعدو، تنسى مرضها، إذ العافية جاءت؛ لأنها وجدت مصيبة أعظم وأكبر، يعني -مثلاً: عافانا الله وإياكم- هناك مريض وراقد فشب حريق في البيت، فهل سيقول: والله أنا تعبان تعالوا خذوني؟ لا، حتى لو كان مشلولاً؛ فإنه سيحاول أن يخرج بأي سبيل من السبل، فعذاب أهل القبور تسمعه البهائم، ولذلك في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فيصيح صيحة يسمعه من في السموات ومن في الأرض، إلا الثقلين )، أي: إلا الجن والإنس؛ لأننا لو سمعناه ما عاد غيباً، وسيصدق الجميع المؤمن والكافر، لكن الله ابتلانا بأن يغيب عنا هذه الأشياء من أجل أن يتبين من المصدق الذي يؤمن بعالم الغيب كإيمانه بعالم الشهادة، ومن المرتاب المتشكك، ومن الضال المكذب، فالله جل جلاله غيب، والملائكة غيب، والجن والشياطين غيب، والجنة والنار غيب، وعذاب القبر ونعيمه أيضاً غيب، فهذه كلها غيوب، ينبغي أن نؤمن بها ونصدق؛ لأن الخبر قد ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب ربنا جل جلاله.

أيضاً من الأدلة الحديث الطويل الذي حكاه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم في بقيع الغرقد: (بأن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا، نزلت عليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ويجلس ملك الموت عند رأسه، ويقول: اخرجي أيتها الروح الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج روحه تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء -يعني: سهلة-، فيجعلونها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ثم يصعدون بها إلى السماء، فتفتح لها أبواب السماء، ويشيعه من كل سماء مقربوها، ويخرج منها كأطيب ريح وجدها إنسان، فيقول أهل السماء: روح من هذه؟ فتقول الملائكة: روح فلان بن فلان بأحب أسمائه في الدنيا.

فإذا وضع في قبره، وتولى عنه مشيعوه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، يأتيه ملكان فيجلسانه ويسألانه وينتهرانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل هو محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيقول له الملكان: كيف عرفت ذلك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وعرفت ما فيه، فينادي منادٍ من السماء: صدق عبدي، فافرشوا له من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها فيقول: رب أقم الساعة، فيقول الملكان: نم نومة العروس، وتمر عليه فترة البرزخ كصلاة ظهر أو صلاة عصر، وأما العبد الفاجر -والعياذ بالله- إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا نزلت عليه ملائكة من السماء، سود الوجوه، معهم كفن من أكفان النار، ويقول ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، فتتفرق روحه في جسده، فينتزعها ملك الموت، كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، ثم يجعلونها في ذلك الكفن، ويصعدون بها إلى السماء، فتغلق دونها أبواب السماء، وتلا: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، فإذا وضع في قبره وتولى عنه مشيعوه، يأتيه ملكان فيسألانه وينتهرانه: من ربك؟ فيقول: ها ها، لا أدري، ما دينك؟ فيقول: ها ها لا أدري، ما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: ها ها لا أدري )، وفي بعض الروايات: (بأنه يسكت، فيقول له الملكان: محمد؟ فيقول: هو رسول الله، يقول له الملكان: كيف عرفت ذلك؟ يقول: سمعت الناس يقولون قولاً فقلته، فيقول له الملكان: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمرزبة من حديد لو ضربت بها جبال الدنيا لصارت تراباً، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، فيقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة).


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحكام الدفن والتعزية وزيارة المقابر [1] 2847 استماع
الإسراء والمعراج [2] 2429 استماع
الحقوق الزوجية 2238 استماع
عبر من الأحداث 2102 استماع
أحكام الجنائز [1] 1778 استماع
أحكام خاصة بالمولود 1754 استماع
أنواع البيوع 1684 استماع
أحكام الجنائز [3] 1678 استماع
الرقية الشرعية 1641 استماع
التحذير من أعياد الكفار 1641 استماع