تفسير سورة النور - الآيات [6-10] الثالث


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

يقول سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ [النور:6-10].

تقدم معنا الكلام عن بعض المسائل المتعلقة بهذه الآيات الكريمات، ومن ذلك: أن العذاب في قول الله عز وجل: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ [النور:8]، المقصود به: حد الزنا، وقد دل على ذلك السياق، ودل على ذلك أيضاً: أن الله أطلق العذاب على الحد في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، وفي قوله تعالى: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ[النساء:25].

وأيضاً من المسائل التي ذكرت سابقاً: أن اللعان لا يشترط فيه أن يقترن القذف بذكر الرؤية، فلا يشترط أن يقول الزوج: رأيتها بعيني؛ لأن الله أطلق، فقال: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ[النور:4]، ولم يقيد ذلك برؤية العين، وهذا قول أكثر العلماء.

أما من قال: إنه لا بد أن يقيد ذلك برؤية العين، فقد استدل بأن عويمراً رضي الله عنه قال: رأت عيناي وسمعت أذناي.

وقد أجاب العلماء على ذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب منه ذلك، وإنما قالها من تلقاء نفسه. ثم إن العلماء مجمعون على أن سماع الأذن ليس شرطاً وقد ذكر في هذا الحديث، وما دام أنه ليس بشرط، فكذلك ما ذكر مقروناً به؛ وهو رؤية العين.

ومن المسائل التي ذكرت سابقاً أيضاً: إذا قذف الرجل زوجته ولاعنها، فهل هذه الكلمات التي رددها تعد أيماناً أم تعد شهادات؟

وتقدم معنا الكلام فيها وأن أكثر العلماء على أنها أيمان؛ بدليل ذكر اليمين في قوله: بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ [النور:6]، وهي كذلك تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ [النور:8]؛ وبدليل أن الله عز وجل سمى الأيمان شهادة في قوله سبحانه: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا[المائدة:107]، فالمقصود بذلك الأيمان؛ بدليل قوله بعدها: أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ[المائدة:108]، وكذلك قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً[المجادلة:16]، بعد أن قال: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ[المنافقون:1]، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال في هذه القصة نفسها أي: قصة اللعان: ( لولا الأيمان لكان لي ولها شأن )، يعني: بعدما حلف عويمر وحلفت المرأة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنظروها -أي: أمهلوها- فإن جاءت به أحيفش، أعيمش، دقيق الساقين، فهو لفلان -أي: لزوجها- وإن جاءت به أصيهب، خدلج الساقين، سابغ الإليتين، فهو للذي رماها به، فجاءت به على الصفة الثانية -المكروهة- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لولا الأيمان لكان لي ولها شأن )، فسماها صلى الله عليه وسلم أيماناً.

وأيضاً من المسائل التي ذكرت فيما سبق: أن من قذف امرأته ثم زنت وثبت عليها الزنا قبل لعانه فإنه لا يحتاج إلى اللعان وإنما يقام عليها الحد، وهذا مثل ما قيل في حد القذف: لو أن إنساناً قذف إنساناً ثم زنى المقذوف قبل أن يجلد القاذف فإن الحد يدرأ عنه؛ لأنه ثبت أن هذا الإنسان ليس بمحصن.

ومن المسائل التي ذكرت فيما سبق أيضاً: أن من قذف زوجته الكبيرة التي لا تحمل فإنه يلاعنها، فلو أن امرأة مثلاً في الستين أو في السبعين من عمرها قذفها زوجها ورماها بالفاحشة، فهنا أيضاً لا بد من أن يلاعنها وتلاعنه، أما لعانه فمن أجل أن يدرأ عن نفسه حد القذف، وأما لعانها فمن أجل أن تدرأ عن نفسها حد الزنا، ومعنى ذلك: أنه ليس شرطاً أن تكون المقذوفة ممن يتأتى منها الحمل.

وأما لو قذف زوجته الصغيرة، فهنا يجري الخلاف الذي مضى ذكره في رمي الصغيرة، فبعض أهل العلم قالوا: من قذف صغيراً ذكراً كان أو أنثى فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأن المعرة لا تلحق ذلك الصغير، ولأنه لو ثبت عليه الزنا فإنه قد رفع عنه القلم ولا يقام عليه الحد.

فهذه بعض المسائل التي سبق ذكرها فيما مضى.

نبدأ الآن بذكر ما تبقى من مسائل هذا الدرس إن شاء الله، وأول هذه المسائل هي: ما حكم النكول عن اليمين في اللعان؟

النكول بمعنى الرفض، نكل فلان، أي: رفض وأبى، بمعنى: أن الرجل -أجاركم الله- إذا رمى زوجته بالزنا فالمطلوب منه أن يلاعنها؛ بأن يحلف أربع مرات أن هذه المرأة قد زنت، وأن هذا الحمل الذي في بطنها ليس منه -إن كان ثمة حمل- ومطلوب من المرأة أن تحلف أربع مرات أنه قد كذب عليها، وأنه لم يقع منها فحش، وأن هذا الحمل الذي ببطنها منه.

لكن لو أن الزوج نكل عن اليمين يعني: رمى امرأته بالزنا، فلما قيل له: احلف، قال: لا أحلف، فما الحكم هنا؟

ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك و الشافعي و أحمد إلى أن الزوج إذا نكل عن اليمين فإنه يحد حد القذف، وقال الإمام أبو حنيفة : إنه يحبس حتى يلاعن أو يقر على نفسه بأنه قد كذب عليها فيقام عليه حد القذف.

ومثل ذلك: لو أن المرأة نكلت عن اليمين، يعني: الرجل حلف أربع مرات إنه لمن الصادقين، وفي الخامسة قال: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فقيل للمرأة: احلفي، فأبت، فما الذي يلزمها؟ يلزمها أن يقام عليها حد الزنا وهو الرجم، وهذا قول مالك و الشافعي ؛ قالا: لأن نكولها دليل على زناها. أما الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد فقالا: إنها تحبس حتى تلاعن أو تقر على نفسها بالزنا، ومجرد النكول لا يبيح إقامة الحد هنا؛ قالوا: لأن حد الزنا ليس له إلا طريقان: إما البينة، وإما الإقرار، وهنا ليس ثمة بينة، وكذلك هي لم تقر.

لكن الراجح أن النكول موجب للحد في المسألتين معاً -في الزوج والزوجة- فلو أبى الزوج أن يحلف أقيم عليه الحد، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لـهلال بن أمية : ( عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة )، يعني أنه يقول له: لا تجترئ على الحلف، اتق الله، فخير لك أن تجلد ثمانين من أن تعذب بالنار، فأبى إلا أن يحلف رضي الله عنه، ثم بعد ذلك لما جاءت المرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة )، يعني: لو أنك الآن ترجمين خير لك من أن تعذبي في النار، فالمرأة حلفت أربع مرات، وفي المرة الخامسة وعظها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لها: ( إنها الموجبة )، أي: أن اليمين الخامسة هذه ستوجب عليك غضب الله؛ لأنها ستقول: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فقال لها: ( إنها الموجبة، فتلكأت المرأة -يعني: ترددت- ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم -أي: هذه وراءها فضيحة لقومي- فقامت الخامسة فحلفت ).

فقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: ( عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة )، وقوله للمرأة: ( عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة )، دليل على أن النكول موجب للحد، ولا يشترط في الزوج أن يحبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه، كما قال أبو حنيفة ، ولا يشترط في المرأة أن تحبس حتى تلاعن أو تقر على نفسها بالزنا، كما قال أبو حنيفة و أحمد رحمة الله على الجميع.

المسألة الثانية: من رمى زوجته وأمها، يعني: لو أن رجلاً سفيهاً -والعياذ بالله- لم يكتف بأن يرمي زوجته، بل رمى زوجته وأمها، فما الذي يلزمه؟

يلزمه اللعان لزوجته، ويلزمه البينة لأمها أو الحد -حد القذف- وهذه واضحة؛ لأن الرجل لا يملك إلا أن يلاعن امرأته، أما لو تعدى بلسانه إلى غير الزوجة فالبينة وإلا حد في ظهره.

المسألة الثالثة: قال القرطبي رحمه الله: اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء:

اللفظ، وجمع الناس، والزمان، والمكان. أما اللفظ فلا بد أن يكون كما قال الله؛ وهي الشهادة أربع مرات، ولا يكتفى فيه بالإجمال، بل لا بد من أن يذكر الزنا صراحة، وأن ينفي الحمل صراحة ويشير إليها، وكذلك هي لا بد أن تنفي الزنا صراحة، يعني: لا يكتفى منها أن تقول: والله أنا تقية، أو ملتزمة، أو ما اطلع علي إلا زوجي، هذا كله لا ينفع، بل لا بد أن تحلف بالله أربع مرات أنها ما زنت، وإذا كان الرجل قد نفى الحمل فلا بد أن تذكر أن هذا الحمل الذي في بطنها إنما هو من هذا الرجل وتشير إليه، ولا بد من التقيد باللفظ كذلك؛ بأن يقول الرجل: لعنة الله عليه، وأن تقول المرأة: غضب الله عليها، وتقدم معنا الكلام في أن المغايرة بين اللفظين من أجل الترهيب والتخويف؛ لأن المرأة قد اعتادت اللعن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يكثرن اللعن )، فمن أجل ذلك جرت حكمة الله أن المرأة تقول: غضب الله عليها، والرجل يقول: لعنة الله عليه، فلا بد من التقيد باللفظ.

ثم لا بد من حضور جمع من الناس؛ لأنه اشترط في إقامة الحدود عموماً حضور طائفة؛ كما قال تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، وهل الطائفة أربعة -بعدد الشهود- أو أنهم عشرة أو أنهم من الواحد إلى الألف كما قال بعضهم؟ هذه أقوال، لكن المهم أنه لا بد من حضور جمع من الناس.

وأما المكان فلا بد أن يكون مكاناً معظماً عند الزوجين، فإذا كانا مسلمين فيكون اللعان في المسجد، وإذا كانا في مكة فبين الركن والمقام، وإذا كانا في المدينة فعند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانا الزوجان أحدهما مسلماً والآخر كتابياً -ونعني بالآخر الزوجة- فالزوجة تحلف في المكان الذي تعظمه، إن كانت نصرانية ففي الكنيسة، وإن كانت يهودية ففي البيعة أو في المعبد أو في الكنيس الذي يعظمه يهود.

أما إن كان الزوجان مجوسيين وتحاكما إلى القاضي المسلم فإنهما يحلفان في بيت النار، فإن لم يوجد بيت نار أشعلوا لهم ناراً ودعوهم ليحلفوا، المهم أن يحلفا عند الشيء الذي يعظمانه؛ من أجل أن تقع الرهبة في قلوبهما.

وأما الزمان: فبعد العصر؛ لأن الله عز وجل قال: تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ[المائدة:106]، قال المفسرون: أي: صلاة العصر؛ لأنه وقت معظم عند جميع أهل الديانات، فمثلاً عندنا معشر المسلمين، قال الله عز وجل: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا[طه:130]، فهو وقت ذكر عندنا، وكذلك ساعة الإجابة يوم الجمعة عند جمع من أهل العلم هي آخر ساعة قبل غروب الشمس.

إذاً: هذه الأشياء التي يفتقر إليها اللعان، أما اللفظ وجمع الناس فشرطان، وأما الزمان والمكان فمستحبان، بمعنى: لو أن القاضي قال: أريد أن يكون اللعان في قاعة المحكمة هنا مثلاً، فليس في ذلك حرج، فذكر المسجد وشبهه هذا من باب الاستحباب ليس إلا.

المسألة الرابعة: لا يجوز اللعان بنفي الحمل إلا لموجب يقتضي ذلك؛ كأن يتبين حمل المرأة قبل أن يدخل بها زوجها، أو أن تلد ولداً لأقل من ستة أشهر من بعد وطئه إياها، أو أن يكون غائباً عنها فتحمل ثم تضع، فهذا موجب يقتضي من الزوج أن يلاعن ويقول: هذا الولد ليس مني، ولنضرب لذلك مثلاً: إنسان -أجارني الله وإياكم من كل سوء- تزوج بامرأة ثم بعد ذلك وجدها حاملاً، ففي هذه الحال لا يجوز له أن يسكت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( نهى أن يسقي الرجل بمائه زرع غيره )، ( ونهى صلى الله عليه وسلم أن ينسب الرجل إلى نفسه من ليس منه ). وكذلك لو أنه كان غائباً والمرأة حملت ثم وضعت، أو لو أن الرجل تزوج المرأة ثم بعد أربعة أشهر أو خمسة أشهر وضعت غلاماً تاماً، وقد علمنا أن العلماء مجمعون على أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأن الله عز وجل قال: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ[البقرة:233]، والحولان: أربعة وعشرون شهراً، وفي الآية الأخرى قال: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً[الأحقاف:15]، فعلم أن أقل الحمل ستة أشهر.

ففي هذه الحال يلاعن، لكن لا يجوز له أن يلاعن لمجرد الاحتمال، كأن يكون الرجل أبيض وامرأته بيضاء فتلد غلاماً أسود، أو العكس: أن يكون الرجل أسود وامرأته سوداء فتلد غلاماً أبيض، أو لمجرد أنه لا يشبهه، كأن يقول: والله الولد هذا لا يشبهني، أذهب ألاعن هذه المرأة؛ ولذلك لما جاء الرجل فقال: ( يا رسول الله! إن امرأتي وضعت غلاماً أسود، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال له: ألك إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل ترى فيها من أورق؟ -أي: أسود- قال: نعم، قال: فأنى ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: ولعل ولدك نزعه عرق ).

وقد حكى بعض الإخوة أن رجلاً في بعض بلاد الله كان صاحب دين، وكان من غير أهل البلاد -يعني: جاء طارئاً وسكن بينهم- ثم تزوج امرأة من بنات العائلات -يعني: طيبة- وإخوانها أدخلوه معهم في تجارتهم، فصار تاجراً، ثم بعد ذلك سافر في بعض تجارتهم، فزوجته - زوجة هذا الرجل التي هي أختهم- جاءتها آلام الولادة، فذهبوا بها فاستولدوها، فإذا الغلام أسود، فدخلوا في هم وغم، وأن هذه فضيحة، وسألوا أختهم عن هذا الأمر، فقالت: والله ما مسني غير زوجي، فهم فكروا وقدروا، وأخيراً -عياذاً بالله- قتلوا الولد؛ من أجل إطفاء هذا الأمر، ولئلا يزعجوا أنفسهم، فلما جاء الرجل من السفر وسأل، قالوا له: إن الولد خرج ومرض ومات وصدقهم، ثم بعد ذلك حملت مرة أخرى، فدخلوا في هم عظيم وأرادوا أن يسفروه؛ حذراً من أن يحصل ما حصل في المرة الأولى، فأصر على البقاء إلى وقت ولادتها، فولدت المرأة وجاءت بغلام أسود للمرة الثانية، وبمجرد أن رأى ذلك الغلام بدأ يكبر ويهلل ودخله فرح عظيم، ويقول: الحمد لله الذي برأ أمي، فاستغرب الناس، وقالوا له: ما الخبر؟ فقال لهم: لما كنت في بلاد كذا -بلاده التي جاء منها أصلاً وهو من الشركس- قال: إن أمه وضعت أخاً له أسود، فاتهموها في عرضها وتكلموا فيها حتى ماتت كمداً؛ من كثرت كلام الناس فيها، وبعض العقلاء قالوا لهم: ما تدرون، هذا الغلام أسود لكن لعل بعض أجدادكم الأقدمين كان كذلك، فالآن ثبت أن أمي بريئة، وشابه هذا الولد جده الذي لم يكن معروفاً، والذي ما رأوه.

فالمقصود أن الإنسان عليه أن يتقي الله، ولا يسارع إلى إساءة الظن، ولا يسارع إلى اتهام زوجته إلا لموجب؛ كأن يكون غائباً مثلاً، -مغترباً لسنتين، فحملت ووضعت، فهذه ليس فيها احتمال، وله أن يلاعن في تلك الحال. أو مثلاً: تزوج بامرأة ثم بعد ذلك -وهذا يمكن أن يحصل- يذهب بها إلى الطبيبة فتقول له: هذه حامل والغلام أو الجارية كبيرة، ففي هذه الحال أيضاً ليس هناك احتمال فله أن يلاعن، أما لمجرد أنه ما في شبه أو لمجرد أن اللون مختلف أو لمجرد كذا أو كذا.. فلا يجوز، ونسأل الله أن يتوب علينا أجمعين.

المسألة الخامسة: لو أن الرجل سكت عن نفي الحمل حتى وضعت زوجته، فهل له أن يلاعن بعد الوضع؟

بعض العلماء قالوا: لا؛ لأن السكوت إقرار ورضا، واستدلوا: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البكر: ( وإذنها سكوتها )، بالنسبة للبكر إذا سكتت فسكوتها رضا.

وبعض العلماء قالوا: لا، لا ينسب لساكت قول، وكونها وضعت فله أن يلاعن بعد ذلك، واختلفوا في مدة ذلك على أقوال: فالإمام أبو حنيفة رحمه الله قال: لا أقدر ذلك بمدة، وصاحباه أبو يوسف و محمد قالوا: له أن يلاعن إلى انقضاء النفاس في أربعين يوماً، وبعضهم قال: له أن يلاعن إلى ثلاثة أيام بعد الوضع، وهو ابن القصار من المالكية؛ قال: لأن الثلاثة هي أقل حد الكثرة، واستدل بحديث المصراة. وما معنى المصراة؟

المصراة، يعني: لو أن إنساناً عنده غنمة -أجاركم الله- يريد أن يبيعها بعد غد ولنقل: إنه يوم الجمعة، فهو لا يحلبها اليوم ولا غداً، فإذا ذهب بها يوم الجمعة إلى السوق إذا ضرعها مليء، ومنتفخ، وهي حافلة باللبن، فينخدع بعض الناس فيشتريها؛ ظناً منه أن هذا حالها في كل يوم، ثم يذهب بها إلى البيت فرحاً فإذا حلبها وشرب لبنها يوم الجمعة ينتظر يوم السبت فإذا الضرع ناشف! ثم ينتظر يوم الأحد فلا يجد في ضرعها شيئاً، فهذه هي المصراة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المصراة، وأباح لمن اشتراها - لمن خدع - أن يختبرها فإذا تبين أن الرجل قد صراها، فإنه يردها ومعها صاع من تمر، والصاع من التمر مقابل اللبن الذي حلبه، فــابن القصار يقيس هذه على تلك، يقول: بأن للرجل أن يلاعن زوجته بعد الوضع إلى مدة ثلاثة أيام، فإذا انقضى اليوم الثالث فليس له حق في اللعان، لكن حقيقة القياس هنا ضعيف، فليس هناك جامع بين المصراة وبين الحمل الذي وضع.

نقف عند هذا الحد إن شاء الله ونكمل في الدرس القادم بقضية رجل طلق امرأته ثم قذفها، سواء كان قذفه إياها في العدة أو بعد انقضاء العدة. وعندنا مسألة: هل للزوج أن يلاعن مع وجود شهود، وقضية التوأمان، يعني: لو أن رجلاً لاعن امرأته ونفى حمله منها، ثم هذه المرأة وضعت توأماً -وضعت غلامين أو جاريتين أو غلاماً وجارية- هل يتوارثان توارث الشقيقين أم توارث الإخوة من الأم؟

وإن شاء الله يكون مسك الختام في الكلام عن آيات اللعان، وصل اللهم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

تغليظ القاضي اليمين على المتخاصمين

السؤال: هل للقاضي أن يغلظ اليمين على أحد المتخاصمين؟

الجواب: ذكرنا سابقاً أن الأيمان أحياناً تغلظ، علماً بأن اليمين التي يترتب عليها حكمها هي قولك: والله أو بالله، أو تالله، أو ورب الكعبة، أو والذي نفسي بيده، أو تحلف بصفة من صفات ربنا: أقسم بجلال الله، أقسم بقدرة الله، أقسم بعزة الله، أقسم بكلام الله.. هذه كلها أيمان شرعية معتبرة، لكن قلت لكم: إن القاضي أحياناً قد يلجأ إلى التغليظ من أجل أن يخوف هذا الإنسان ويستخلص ما عنده، فأحياناً يخوفه بأن يضع يده على المصحف -كما جرت العادة الآن في المحاكم- وأحياناً يخوفه بأن يكرر عليه الأيمان، يقول له: قل: والله، ثم والله، ثم والله.. أو أحياناً يقول له: قل: أقسم بالله العظيم وبكتابه الكريم، أقسم بالله القوي القادر على أن يمسخني قرداً أو خنزيراً إن كنت.. ونحو ذلك من الكلام الذي يخوفه.

طلب أحد الخصمين من القاضي تحليف خصمه عند قبر أو الحلف بغير الله

السؤال: لو أن المدعي قال للقاضي: أنا أطلب من خصمي هذا أن يحلف عند قبر فلان، أو أطلب منه أن يحلف بفلان ولا يحلف بالله، فهل يستجيب القاضي له؟

الجواب: لا ينبغي للقاضي أن يستجيب لمثل هذا؛ لأن القضاء وضع من أجل رد الحقوق إلى أهلها بالطرق الشرعية وليس بالطرق الشركية أو البدعية، فلو أن القاضي أجاب المدعي إلى ما يريد، فمعنى ذلك: أنه قرر في نفوس الناس أن هناك معظماً غير الله سبحانه وتعالى، فلا ينبغي للقاضي أن يستجيب لمثل هذا؛ لأنه المدعي والمدعى عليه كلاهما مسلم، وينبغي للقاضي أن يلزمهما حكم الله؛ ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء رجل يدعي على الآخر، قال له: ( البينة )، أي: شهودك أين هم؟ ( قال: ما عندي بينة، قال له: إذاً يحلف )، أي: الرجل هذا يحلف لك، ( فقال: يا رسول الله! إنه فاجر )، أي: رجل ممكن أن يحلف ولا يهمه، ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا ذلك )، سواء كان فاجراً أو لا، وبعد ذلك حسابه على الله سبحانه وتعالى.

فالقاضي في النهاية يحكم بالأمور الظاهرة، أما حقيقة الأمر فلا يعلمها إلا الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فأقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من نار )، وفي الحديث الآخر: ( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ).

التفريق بين الزوجين في الطلاق واللعان والفرق بينهما

السؤال: ما الفرق بين التفريق بين الزوجين في الطلاق واللعان؟

الجواب: في الطلاق يطلقها بإرادته، لكن في اللعان ليس بإرادته، رغم أنفه، وسيترتب في اللعان كما ذكرنا خمسة أحكام:

الحكم الأول: يفرق بينهما فرقة أبدية، فلا يجتمعان أبداً، بينما في الطلاق قد يطلق الرجل ثم يراجع، وحتى لو طلقها ثلاثاً فإنها تحل له من بعد أن تنكح زوجاً غيره، أما في اللعان فلو نكحت خمسة عشر رجلاً فإنهما لا يجتمعان أبداً، فهذا هو الفرق.

الحكم الثاني: أنه يجب لها الصداق كاملاً، مثلاً: هو لما تزوجها اشترط لها عشرة آلاف، دفع خمسة وبقيت خمسة، فلا يأتي ويقول: أنا قد لاعنتها ولن أوفيها صداقها؛ لأنها زنت.. فما بقي من صداقها -وهو الخمسة الآلاف في المثال- فلن أعطيها، فهنا نلزمه بالدفع، وسواء كانت زانية أم لا، فإن كان كاذباً فلا بد أن يدفع، وإن كان صادقاً فبما استحل من فرجها.

الحكم الثالث: أنه يدرأ عنه حد القذف.

الحكم الرابع: أنه يدرأ عنها حد الزنا.

الحكم الخامس: أنه لا ينسب الولد إليه إن كان قد نفى الحمل وإنما ينسب إلى أمه.

قذف الجماعة من الناس بالفاحشة

السؤال: ما حكم من قذف جماعة من الناس بالفاحشة؟

الجواب: من قذف جماعة من الناس فقد اختلف أهل العلم: هل يحد حداً واحداً أم يحد بعدد من قذفهم؟ والراجح بأنه يحد حداً واحداً؛ لأنه بالحد الواحد يثبت كذبه، وبالحد الواحد تزول المعرة عن الجميع. والله أعلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الثالث 2767 استماع
تفسير سورة نوح [3] 2764 استماع
تفسير سورة النور - الآية [31] الرابع 2663 استماع
تفسير سورة النور - الآية [3] الأول 2650 استماع
تفسير سورة النور - قصة الإفك [5] 2532 استماع
تفسير سورة يس [8] 2521 استماع
تفسير سورة يس [4] 2475 استماع
تفسير سورة يس [6] 2466 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [23-26] 2233 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الرابع 2216 استماع