تفسير آية - غافر [36-37]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار. أما بعد:

فيقول الله عز وجل في الآيتين السادسة والسابعة والثلاثين من سورة غافر: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ [غافر:36-37].

أمر فرعون وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته بأن يوقد له على الطين، يعني: يتخذ له آجراً لبناء الصرح، وهو القصر المنيف الرفيع العالي، كما قال الله في الآية.

هذه الكلمة التي أطلقها اللئيم حيرت أولي الألباب؛ حتى طرحوا سؤالاً فحواه، هل قالها وهو جاد أم هازل؟

وهل كان سامعوه الساكتون عليه عقلاء أم في سلك البله والمجانين؟

يقول الزمخشري : ولا ترى بينة أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته، وجهل ملئه وغباوتهم، من أنهم راموا نيل أسباب السموات بصرح يبنونه، وليت شعري! أكان يلبس على أهل بلاده ويضحك من عقولهم؟ حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن وأشبههم بالبهائم بذلك، أم كان في نفسه بتلك الصفة؟ انتهى كلامه.

وإن تعجب فعجب أمر أولئك الملأ الذين تلقوا تلك الكلمة بالإقرار والتسليم، أما كان في القوم رجل رشيد يرد عليه تلك المقالة، وينصحه بأن يدعي شيئاً تسيغه العقول؟

أما كانوا يرون الـفرعون بشراً مثلهم يحيا ويموت ويضحك ويبكي؟ ما بالهم سكتوا فما اعترضوا ولا عقبوا؟

يقول شهاب الألوسي رحمه الله: وأياً ما كان فالقوم كانوا في غاية الغباوة والجهل، وإفراط العماية والبلادة، وإلا لما نفق عليهم مثل هذا الهذيان، ولله تعالى خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ولا يبعد أن يقال: كان فيهم من ذوي العقول من يعلم تمويهه وتلبيسه، ويعتقد هذيانه فيما يقول، إلا أنه نظم نفسه في سلك الجهال، ولم يظهر خلافاً لما عليه اللعين بحال من الأحوال، وذلك إما للرغبة فيما لديه، أو للرهبة من سطوته واعتدائه عليه، وكم رأينا عاقلاً وعالماً فاضلاً يوافق لذلك الظلمة الجبابرة، ويصدقهم فيما يقولون، وإن كان مستحيلاً أو كفراً بالآخرة.

إن هذه الآية المباركة تتحدث عن مستبد هو أشهر المستبدين، لكن بتأمل القرآن الكريم نتبين سمات الاستبداد وأهله:

السمة الأولى: أن المستبد وزبانيته يطلقون الدعاوى الكاذبة التي لا يؤيدها عقل ولا تدل عليها فطرة، وتصدقه في ذلك رعيته، وتشايعه عليها وإن كانت بعيدة عن الحق.

وتأمل رحمك الله قول فرعون : أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقول النمرود لعنه الله أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ[البقرة:258]، وقد علما يقيناً أنهما كاذبان في دعواهما، وأن الفرق بين الدعوى والحقيقة كالفرق بين السماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع.

السمة الثانية: عقول الطواغيت عادة ما تكون ذاهلة ناسية، فيطلقون الكلام على عواهنه، وهم لا يدرون أن العقلاء يدركون كذبهم.

السمة الثالثة: المستبد كليل العقل، عليل الفهم، يحسب أن كل شيء بإمكانه أن يحتال عليه، وأن يصوره بغير حقيقته، ولا يبالي في سبيل ذلك بما صنع من كيد.

السمة الرابعة: المستبدون يحجرون على الفكر، ويقيدون الحريات، على عكس العقلاء، ولما رأى السحرة أن معجزة موسى عليه السلام ليست إلا تأييداً إلهياً، لا يمكن أن يسلك في ضروب السحر والشعوذة؛ أعلنوا إيمانهم بالله فاطر السموات والأرض، رب هارون و موسى ، فلجأ الـفرعون للتهديد والوعيد؛ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى [طه:71].

السمة الخامسة: المستبد يطلق التهم، ويروج الإفك، وهي الحيلة التي يلجأ إليها حين يرى انفضاض الناس من حوله، أو يشعر أن قوة تنازعه في سلطانه؛ ولذا يخبط خبط عشواء، فيقول: إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:27]، وحين يعجز عن كبح جماح الإيمان في نفوس من أراد الله لهم الخير يتهمهم بأنهم متآمرون؛ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:123]، ومقصد فرعون من هذا: إقناع الحاضرين بأن موسى لم يأت بما يعجز السحرة وذلك إدخالاً للشك على نفوس الذين شاهدوا الآيات.

السمة السادسة: لما كان المستبد عديم المبدأ، يدور حول نفسه ويعبد ذاته، فإنه لا يبالي في سبيل توطيد ملكه وتأكيد سلطانه أن يضرب القلوب بعضها ببعض، وأن يثير الفتن في كل حين، فيجعلهم شيعاً يستضعف طائفةً ويميز طائفةً أخرى، فيغدق عليها ويصب عليها الخير صباً، فإذا دعا داع إلى الحق أثار الـفرعون مخاوف الرعية المميزين إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ[الشعراء:34-35].

السمة السابعة: لا يملك المستبد حجة ولا برهاناً، فتتصدع أركانه عند الجدال الأحسن والكلمة القوية التي تستند إلى الحق الأبلج، وما عنده إلا أن يبطش بطشة الجبارين، ويتكلم بمنطق المجرمين، ويستأسد على المستضعفين.

السمة الثامنة: لا يتمكن المستبد إلا من قوم غلب عليهم حب الدنيا وكراهية الموت، ودونك خبر السحرة.

السمة التاسعة: بعد حياة حافلة بالكيد والمكر وعمر ذاهب في الإجرام والبطش، تكون النهاية اللائقة والجزاء الوفاق: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137].

وقد يسأل سائل: ما هي الأسباب الحاملة على الاستبداد؟

فأقول والعلم عند الله تعالى بأنها ثلاثة أسباب:

السبب الأول: ضعف العقيدة وانتشار المعاصي

السبب الأول: ضعف العقيدة وانتشار المعاصي، حين يقرأ المؤمن خبر إبراهيم عليه السلام مع النمرود بن كنعان وخبر فرعون مع موسى بن عمران وخبر صالح مع ثمود الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد يعلم يقيناً أن توحيده لربه وطاعته لمولاه توجب عليه مقارعة الظالمين، وتمنعه من مهادنة المستبدين، وهو في ذلك كله يتزود بسيرة أولئك الغابرين ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه.

والقرآن يحكي لنا قصة أصحاب الأخدود الذين آمنوا بالله الواحد، فواجهوا الظالم الجاحد حتى أحرقوا بالنار، فخلد الله ذكرهم مع الشهداء الأبرار.

ويروي صهيب الرومي رضي الله عنه قصة سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاصتها: أن بعض الجبابرة في زمن من الأزمان استخف بالناس حتى عبدوه من دون الله، وقدر الله لغلام صغير أن يعرف دين الحق عن طريق راهب صالح فآمن بالله رب العالمين.

وليس ذلك المقام قاصراً على الرجال فحسب، بل شاركت فيه النساء المؤمنات كماشطة بنت فرعون وأولادها رضوان عليهم.

السبب الثاني: استحكام الجهل وغلبة الهوى

السبب الثاني: استحكام الجهل وغلبة الهوى: إن الإنسان الجاهل بربه وحق نفسه يسلم قياده لكل مستبد ظلوم؛ لأنه محروم من نعمة العلم التي بها يميز الخبيث من الطيب، إن الإنسان الذي يستعمل نعمة التفكير ويسخر عقله الذي وهبه الله له، ويحاول أن يتعلم حقائق الأشياء ليدرك بداهةً جملةً من الأمور العظيمات، وبإدراكها يكون سداً منيعاً أمام الاستبداد وأهله، حائلاً دون انتشاره وتمدده، ومن بين تلك الأمور:

أولاً: أن البشر جميعاً متساوون في أصل الخلقة وبداية المنشأ، يعرف حقوقه كاملة فيطالب بها، ومن بين تلك الحقوق: أنه إنسان مكرم ميزه الله على سائر المخلوقات، لا ينكر النعمة ولا يكفر بالمنعم.

ثانياً: أن كثيراً من المستبدين وكثيراً ممن في أسر الاستبداد ما أتوا إلا من قبل جهلهم بنعمة الله عليهم وعدم قيامهم بشكرها.

السبب الثالث: تزيين علماء السوء

والسبب الثالث - وللأسف! -: تدليس علماء السوء، الذين قصدوا من العلم التنعم بالدنيا والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها. تلك الطائفة التي ما انفكت تعين على الباطل، وتروج له بالصد عن سبيل الله، وتحريف الكلم عن مواضعه، وقطع الطريق التي تصل العباد بالله والتي جعلها حكام السوء في كل زمان مطيةً لتزيين الشهوات وتبرير المنكرات.

قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة مضلون.

أسأل الله عز وجل أن يجنبنا كل جهل وزلة وخطأ، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير آية - البقرة [282] 2555 استماع
تفسير آية - الأحزاب [56] 2030 استماع
تفسير آية - الإسراء [70] 2015 استماع
تفسير آية - الشورى [38] 1950 استماع
تفسير آية - ص [44] 1918 استماع
تفسير آية - المائدة [90-91] 1814 استماع
تفسير آية - الأنعام [159] 1743 استماع
تفسير آية - الممتحنة [1] 1727 استماع
تفسير آية - التوبة [79-80] 1381 استماع
تفسير آية - البقرة [160-161] 1351 استماع