أبو بكر الصديق 2،1


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي نشر بقدرته البشر، وصرف بحكمته وقدر، وابتعث محمداً إلى كافة أهل البدو والحظر، فأحل وحرم وأباح وحظر، وابتلاه في بداية النبوة بمداراة من كفر، فدخل دار الأرقم فاكتسى واستتر، إلى أن أعز الله الإسلام برجال كـأبي بكر وعمر ، فصلوات الله عليه وعلى جميع أصحابه الميامين الغرر، وعلى تابعيهم بإحسان على السنة والأثر، صلوات الله عليه ما هطلت الغمائم بتثان المطر، وهدلت الحمائم على أفنان الشجر، وسلم تسليماً كثيراً على سيد البشر.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته من جمع التقى حباً في ذكر الله، وحيا الله قلوباً أقبلت تئرز إلى بيوت الله، وعلى حبكم أيها الجمع أشهد الله، وأسأله أن يجمع قلوبنا على تقواه، وأن يظلنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، اللهم اجعل هذا الجمع في صحائف الحسنات، في يوم تعز فيه الحسنات، واغفر اللهم لنا ما يكون من زلات، اللهم بك نعتضد، ومن فيض جودك نستمد، اللهم اجعل هذه الكلمات خالصة لوجهك الكريم، ووصلة للفوز بجنات النعيم، وانفع بها من تلقاها بالقبول، وبلغنا وسامعها من الخير أجل المأمول، أنت أكرم مسئول على الدوام، وأحق من يرتجى منه حسن الختام.

صور وعبر: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى [يوسف:111].

اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر     ضلَّ قوم ليس يدرون الخبر

سائلوا التاريخ عنا كيف كنا     نحن أسسنا بناءً أحمديا

أيها الأحبة في الله! إن أمر آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها، ولا يشك عاقل يؤمن بالله ورسوله أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم خير الخلق بعد رسول الله، وأنه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وصحابته أفضل قرن من أمة وجدت على وجه الأرض، وإن معرفة أحوالهم وأخلاقهم وسيرهم لتضيء الطريق أمام المؤمن الذي يريد أن يعيش أسوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كان لزاماً علينا معرفة أخبارهم وسيرهم، ونشرها بين المسلمين عظة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع، لماذا؟ لأنهم نقلوا الإسلام إلينا نقلاً صحيحاً؛ ولأن المحافظة على الإسلام تستوجب العناية بتاريخهم، لئلا يجد أعداء الإسلام سبيلاً للطعن في الإسلام عن طريق الطعن في نقلته.

ولما كان الأمر كذلك دعت الحاجة إلى تبيين فضائلهم؛ ليكون ذلك ردعاً للموتورين الذين كفروا الصحابة وضللوهم، وأسقطوا عدالتهم كي يهدموا الإسلام من قواعده وأنى لهم ذلك؟ لكنهم قوم لا يفقهون!!

كناطح صخرة يوماً ليوهنها     فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

ولعل ديننا القويم قد تميز عمن سبقه من الأديان بمعجزة تتجدد في كل وقت وآن، ألا وهي معجزة الرجال الذين عاشوا حياتهم للإسلام فلم يعرفوا للراحة طعماً، ولم يعرف الخمول إلى نفوسهم طريقاً، فكانوا حركة مشبوبة لا تهدأ ولا تفتر ولا تكلُّ ولا تملُّ، لا يهمها من الحياة مالٌ أو متاع، ولا تشغلها دون غايتها زخارف الدنيا وبهجتها، وحدوا همتهم في إرضاء الله، محقوا من بواطنهم كل نية تشوبها الشوائب فكانوا خالصين لله، فأكرمهم بأن جعلهم من معجزات نبيه الكريم، ليثبتوا للدنيا كلها أن دين الله تام كامل، وأن شرع الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الله متم نوره ولو كره الكافرون، ولو كره المنافقون والظالمون والفاسقون.

إن أخبار هؤلاء الأخيار دواء للقلوب، وجلاء للألباب من الدنس والعيوب، وقدوة في زمن كادت القدوات أن تغيب، فمنهم مثال يحتذى، ونبراس يقتدى، ليعرف المتأخر للمتقدم فضله، ويسعى على دربه ونهجه.

بالوقوف على أخبار هؤلاء الأخيار تحيا القلوب، وباقتفاء آثارهم تحصل السعادة، وبمعرفة سيرهم ومناقبهم تحيا القلوب، وبمعرفة مناقبهم تحصل السعادة، وبمعرفة مناقبهم تكون القدوة بجميل الخصال ونبيل المآثر والفعال، فهيا أيها الجمع الكريم إلى الصور ذات العبر، ولست مدعياً ولست زاعماً أني سأبين العبرة من كل صورة، بل إن البعض منها سيسرد سرداً تتبين فيه العبرة من خلال الصورة، فاللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.

فإلى صورة رجل من أولئك الأخيار، رجل عظيم القدر رفيع المنزلة، عَبَدَ الله متأسياً برسول الله، وجاهد في الله، وأنفق كل ماله في سبيل الله، نصر الرسول يوم خذله الناس، وآمن به يوم كفر به الناس، وصدقه يوم كذبه الناس، جهل فعله الكثير من أبناء المسلمين، بخسوه حقه، وهضموه منزلته، ولم يقدروه قدره، بعض أجيالنا يعرف عن مغنية أو ممثلة أو تافهٍ رخيص أو ساقط أو ساقطة أكثر مما يعرفون عن هذا العلم، تجاهله لا أقول حتى العامة بل تجاهله الخطباء والوعاظ والكتاب، ربما لأنه عظيم بجوار من هو أعظم، وكريم بجوار من هو أكرم، فطغت عظمة صاحبه وقدره ومنزلته على عظمته وقدره ومنزلته.

إنه أفضل الصحابة، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على خير منه، إنه أول من آمن من الرجال على الصحيح، إنه لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح إيمانه، إنه الورع الحيي، الحازم الرحيم، التاجر الكريم، صاحب الفطرة السليمة من أدران الضلال، لم يؤثر عنه أنه شرب خمراً قط، ولم يؤثر عنه أنه سجد لصنم قط، ولم يتعامل برباً قط، ولم يؤثر عنه كذبٌ قط، كان شبيهاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأنعم به من شبه، رجل لا كالرجال وسيرة لا كالسير، إنه من لا يخفى عليكم، ولا على مثلكم من المؤمنين، إنه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولعن الله من أبغضه وعاداه.

إنه من دعي إلى الإسلام فما كبا ولا نبا ولا تردد، وإنما بادر إلى الإسلام وما تلبث وما تلعثم، وما كان لأصحاب الفطر السليمة أن يتلبثوا عن خير دعوا إليه، وكيف يتلبث وقد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وعلم صدقه وأمانته وحسن سجاياه، وكرم خلقه، علم عدم كذبه على الخلق فكيف يكذب صلى الله عليه وسلم على الخالق، إذ كان لسان حال أبي بكر رضي الله عنه يوم دعي إلى الله من جانب رسول الله: ما جربت عليك كذبا.

أما لسان مقاله: فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فتمتد يده إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم لتبايعه، فتكون أول يد تمتد إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، فحسبي وحسبكم هذه الليلة أن نقف مع بعض صور من حياة هذا العلم، وقفة تذكر وتدبر وعظة وعبرة، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى سير هؤلاء، والحال في الغالب قد تسر العدو وتحزن الصديق، كل هذا ليعلم أن ما نحن فيه بسبب بعدنا عن منهج أبي بكر وغيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير، لنعلم أنه يوم توارى أمثال هذا الرجل ظهر الفساد، وتطاول الأقزام، ونطق الرويبضة.

وجدير إذا الليوث تولت      أن تلي ساحها جموع الثعالب
.

صورة من معاناة الصديق في سبيل الدين

الصورة الأولى: قال الصديق: لا إله إلا الله، وقد أدرك ماذا تعني لا إله إلا الله، علم أنها تعني أن يسلم النفس كاملة لله سبحانه وتعالى، اسمع إلى ابن كثير في سيرته يوم يقول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألح أبو بكر على الرسول صلى الله عليه وسلم في الظهور وعدم الاختفاء، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ! إنا قليل، فلم يزل أبو بكر يلح على إظهار النور حتى وافقه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وظهر رسول الله والمسلمون، وتفرقوا في نواحي المسجد، وقام أبو بكر خطيباً في الناس -فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثار عليه المشركون، وثاروا على المسلمين معه، فضربوا أبا بكر ضرباً شديداً، حتى إن عتبة دنا منه فجعل يضرب وجهه بنعلين مسقوفتين، ثم يجثو على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه رضي الله عنه وأرضاه.

وجاء بنو تيم قوم أبي بكر ، وأجلوا عنه المشركين، وقالوا: لئن مات لنقتلن عتبة ثأراً لـأبي بكر ، أما أبو بكر فمغمى عليه لا يتكلم بكلمة، رجع إليه قومه ليكلموه فما تكلم إلا آخر النهار، ترى بما تكلم! قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! همه الرسول والرسالة، سبه قومه وعذلوه إذ هم مشركون ثم تركوه.

أما أمه فقامت تلح عليه أن يطعم شيئاً وهو يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتقول: والله يا بني ما لي من علم بصحابك، قال: اذهبي إلى أم جميل فاطمة بنت الخطاب فسليها، خرجت إليها، فقالت: إن ابني يسأل عن محمد، قالت أم جميل : أتحبين أن اذهب معك إلى ابنك -تريد سرية الأمر لئلا تفتن هي به كما فتن هو وغيره- قالت: نعم. فمضت إلى أبي بكر فوجدته صريعاً، فقالت: والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.

رحمهم الله ورضي عنهم؛ لقد كانوا يأوون إلى ركن شديد، فيقول أبو بكر : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت أم جميل : هذه أمك تسمع -ولم تكن آمنت بعد، وهذا وعي عظيم من فاطمة رضي الله عنها على سرية الدعوة فلا تتكلم أمام مشركة، حتى ولو كانت أم أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه- قال: لا عليك يا فاطمة ! قالت: إنه سالم صالح بحمد الله، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن أبي الأرقم ، قال: فإن لله علي ألا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أحب رسول الله حباً يفوق حب النفس والمال والأهل والولد، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون، انتظروا حتى هدأت الرجل وسكن الناس، ثم خرجت أمه وأم جميل يتكأ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة لما يرى منه، فقال أبو بكر : بأبي أنت وأمي ليس بي من بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي يا رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! هذه أمي برت بولدها وأنت مبارك، فادع الله لها وادعها إلى الله أن يستنقذها من النار، فدعاها ودعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهدت أن لا إله إلا الله.

همه رضي الله عنه أن يستنقذ الناس من النار، والأقربون أولى بالمعروف، والأم أقرب إنسان إليه، فما كان منه إلا أن دعاها فأسلمت، وكان من أعظم البر بأمه أن يدعوها إلى الله جل وعلا.

أرأيتم لهذا الموقف يا عباد الله! والله لموقف أبي بكر هذا مع رسول الله في سبيل الحق ساعة، أفضل من عبادة أحدنا عمره كله، يقول بكر بن عبد الله المزني بإسناد صحيح: إن أبا بكر لم يفضل الناس بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما فضلهم بشيء وقر في قلبه، إنه الإيمان وكفى به هادياً ودليلاً إلى القلوب، وحادياً إلى جنات النعيم.

بشرها دليلها وقالا     غداً ترين الطلح والجبالا

دور الصديق في الدعوة إلى الإسلام

صورة أخرى: عَلِمَ أبو بكر أن من أول مقتضيات لا إله إلا الله الدعوة إليها، فالدعوة ليست وظيفة محمد صلى الله عليه وسلم فقط، بل هي وظيفة الأمة في مجموعها.

علم ذلك أبو بكر فخرج من عند نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، خرج وهمه نصرة هذا الدين ونشره في العالمين، خرج وعمره في الإسلام لا يتجاوز بضعة أيام، وبعد أيام يعود فبم عاد أبو بكر ؟ عاد وهو يقود الكتيبة الأولى من كتائب هذه الأمة، خرج صادقاً مبلغاً فعاد وقد أدخل في دين الله ستة من العشرة المبشرين بالجنة فيما بعد.

فيا لله! يأتي أبو بكر يوم القيامة وفي صحيفة حسناته ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يعود وقد أسلم على يديه عثمان وطلحة الزبير وسعد وعبد الرحمن وأبو عبيدة رضي الله عنهم أجمعين.

أرأيتم عطاءً للإسلام كهذا العطاء! قد يعيش الإنسان منا ستين عاماً أو سبعين عاماً أو أقل أو أكثر، لكنها والله لا تعدل في ميزان الحق ساعة من ساعات أبي بكر ، قد لا يكون الصديق حفظ بضع سور من القرآن في ذلك الوقت، ولم يكن حفظ بضع آيات، وبعضنا يحفظ القرآن، ويحفظ من السنة الكثير، ويستمع إلى عشرات المحاضرات، ويستمع إلى عديد من الأشرطة، ويقرأ عشرات الكتب، وينقضي عمره وما هدى الله على يديه رجلاً واحداً، ما السبب؟ إنه نقص الإيمان، أو نقص الصدق لضعف الإيمان في القلوب.

حصان إخلاصنا ما زال يُسمعنا      صهيله غير أنا ما امتطيناه

فهلا صدقنا الله، وهلا أخلصنا النوايا لله، لتنقاد القلوب لنا كما انقادت لـأبي بكر وسلفنا، نرجو الله أن يَمنَّ علينا بذلك، فـ{لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.

دور الصديق في نصرة المستضعفين من المسلمين

صور أخرى: تلفت أبو بكر وقد استغرق الإسلام عليه وقته، فوجوده للإسلام، وهويته ورسالته الإسلام، تجرد لله بكل خاطرة في قلبه فلم يستبق في نفسه بقية، استعبدها لله، تلفت فإذا ميدان جديد قد هتك، وإذ بالمستضعفين من المسلمين قد صب عليهم طغاة الكفر وصناديد الشركة وسدنة الوثنية سوء العذاب، حبسوهم، جوعوهم، عطشوهم، عذبوهم وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8].

ويا أيها الأحبة في الله! إن الضلال والجهل والكفر والنفاق بكل زمان لا يمتلك الإقناع والحجة والبرهان، قد يمتلك القوة والبطش لكن أ نَّى لقلوب تسلل إليها النور أن تتدثر بالضلال بعد أن تسلل إليها النور، رأى أبو بكر نفوساً مؤمنة أمضها العذاب، وأعيتها المعاناة، وآلمها التعذيب، جروا في الرمضاء، ضربوا بالسياط، البسوا أدرع الحديد، طفروا في الشمس، كووا بالنار.

في السيرةلـابن كثير يقول ابن عباس : إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ويسحبونه على وجهه في الرمضاء، حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلاهان من دون الله؟ فيقول: نعم. افتداء منهم وقلبه مطمئن بالإيمان، ففي مثل هذا أنزل الله مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [النحل:106].

الابتلاء سنة من سنن الله في هذا الكون لا تتوقف، ليميز الله الخبيث من الطيب، وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يخبر فيقول: {لقد كان في من كان قبلكم يؤتى بالرجل فتحفر له الحفرة فيوضع فيها، ثم يوضع المنشار على مفرق رأسه، ثم يشق شقين فيمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب} فالابتلاء سنة ماضية أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] .

أبو بكر يرى هذه المناظر من الابتلاءات فآلمه ما يرى، جمع أمواله وصفى تجاراته مباشرة، وكان من أكثر قريش تجارة ، ثم انطلق يشتري الأرقاء، ويعتقهم لوجه الله لا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً، كل ذلك حماية لدينهم أن يفتنوا فيه، فينفق من أمواله أربعين ألف دينار في سبيل الله، ليحقق الشعور بالجسد الواحد والبناء الواحد والأمة الواحدة.

يسمع أبو بكر ويرى بلالاً يئن تحت وطأة التعذيب، وهو يقول: أحد أحد قد هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فصاروا يطوفون به شعاب مكة ، وهو يقول: أحد أحد، صخور عظيمة في حماء الظهيرة في رمضاء مكة -وأهل مكة أعرف بـمكة- توضع على صدره ثم يقول له أمية : لا تزال على هذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، ولسان حال بلال وهو الثابت يقول:

أهفو إلى جنة الفردوس محترقاً     بنار شوقي إلى الأفياء والغرف

وقد أمر على الدنيا وسادتها     من الطغاة مروراً ليس بالجيف

أما لسان مقاله: فأحد أحد، لم يظفروا منه بكلمة الكفر رضي الله عنه وأرضاه، يسمعه أبو بكر وهو يقول ذلك، فيقول: لينجينك الواحد الأحد، ويذهب أبو بكر إلى أمية، ويقول: أتبيع بلالاً ؟ قال: أبيعه لا خير فيه، فباعه من أبي بكر بعبد أسود لـأبي بكر ، وقيل: بخمس أواق من ذهب، ليعتقه أبو بكر لوجه الله تعالى، ونعم المال الصالح للعبد الصالح.

يقول أمية : يا أبا بكر ! لو أبيت إلا أوقية واحدة لبعتك بلالاً لا خير فيه، فيقول أبو بكر : [[والله لو أبيت إلا مائة أوقية ذهباً لأعطيتكها]].

إعلاناً من أبي بكر للبشرية كلها، أن له موازين ومعايير ومقاييس غير مقاييس أمية وحزبه من الكفرة، أعتق أبو بكر بلالاً وعامراً وأم عمير وزنيرة وp=1000071>النسية

وابنتها وغيرهم كثير، اعتق الله رقبته من النار وبيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.

ويأتي أبوه وهو شيخ كبير ما زال حينها على دين قومه، فيقول: يا بني! أما وقد أبيت إلا أن تضيع مالك فهلا أنفقته على رجال أشداء جلداء ينفعونك ويمنعونك في وقت الشدائد، فيقول: يا أبتي إنما أريد ما أريد، ماذا يريد أبو بكر ؟ أيريد السمعة؟! أيريد الرياء؟! أيريد الشهرة؟! والله لو يريدها لوضعها في الأشراف والكبار بمقاييسهم، لكنه يريد وجه الله والدار الآخرة، وشتان بين طالب الدنيا وطالب الآخرة.

ويأتي المنافقون: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة:79] فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58] يأتون في كل زمان ليهونوا من شأن أي عمل يقوم به المسلمون الصادقون، فيقولون: إنما أعتق أبو بكر بلالاً ليدٍ كانت لـبلال عنده، أي: لمعروف كان لـبلال عنده.

وأبو بكر ليس في حياته متسع لمجادلة أصحاب مثل هذا الفكر المظلم العفن النتن، وهذه النظرات القاصرة الخاسرة، تركهم ولم يرد عليهم، ولسان حاله يقول: الله يعلم ما في قلبي، هو عالم السر وأخفى، لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

وتتنزل الآيات من فوق سبع سماوات من رب العزة والجلال لترد على هؤلاء، ومن على شاكلتهم إلى قيام الساعة كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين، يقول الله جل وعلا: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:19-21] أي متاع يساوي: وَلَسَوْفَ يَرْضَى ؟!

أي زخرف يساوي: وَلَسَوْفَ يَرْضَى ؟!

أي دنيا تساوي: وَلَسَوْفَ يَرْضَى ؟!

لا الدنيا ولا متاعها ولا زخرفها ولذائذها وزينتها، بل هي بحذافيرها لا تساوي: وَلَسَوْفَ يَرْضَى ؟!

من الذي وعده بالرضى؟

إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وديان يوم الدين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ولسوف يرضى في يوم يقل فيه من يرضى، ولسوف يرضى في يوم يكثر فيه الفزع: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران:30].

أعلى درجات التصديق والثقة

صورة أخرى: ويسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ، ويعرج به إلى السماوات العلى في ليلة، ويعود في الصباح ليخبر الخبر وهو الصادق صلى الله عليه وسلم، ويطير الخبر في مكة ، ويسري سريان النار في الهشيم، ويكذب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويضطرب بعض المسلمين لهذا الخبر، ثم يذهبون لـأبي بكر يريدون أن يزعزعوا عقيدته، يريدون أن يهزوا إيمانه، فيخبرونه الخبر وهم على ثقة أنه لن يصدق رسوله صلى الله عليه وسلم بعدها وسيرتد عن دينه. فما موقف هذا الرجل؟

وقف أمامهم كالطود الشامخ ليقول في كلماته الخالدة التي حددت منهج الإيمان في حياته: [[إن كان قال فقد صدق، والله إنه ليأتي بالخبر من السماء في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، أفلا أصدقه الآن]] أو كما قال، وانظروا إلى الوضوح في الرؤية، وإلى الثبات على المبادئ، عاد هؤلاء خائبين خاسرين، واستحق أبو بكر أن يلقب بـالصديق .

أيها الأحبة في الله! لقد علمنا أبو بكر كيفية التعامل مع ما يأتي عن الله وعن رسوله، فلا مجال للرأي بعد ثبوت النقل ولا جدال، بل آمنا وصدقنا وعملنا، سمعنا وأطعنا فوالله ما خرج من بين شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الحق.

الصورة الأولى: قال الصديق: لا إله إلا الله، وقد أدرك ماذا تعني لا إله إلا الله، علم أنها تعني أن يسلم النفس كاملة لله سبحانه وتعالى، اسمع إلى ابن كثير في سيرته يوم يقول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألح أبو بكر على الرسول صلى الله عليه وسلم في الظهور وعدم الاختفاء، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ! إنا قليل، فلم يزل أبو بكر يلح على إظهار النور حتى وافقه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وظهر رسول الله والمسلمون، وتفرقوا في نواحي المسجد، وقام أبو بكر خطيباً في الناس -فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- ثار عليه المشركون، وثاروا على المسلمين معه، فضربوا أبا بكر ضرباً شديداً، حتى إن عتبة دنا منه فجعل يضرب وجهه بنعلين مسقوفتين، ثم يجثو على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه رضي الله عنه وأرضاه.

وجاء بنو تيم قوم أبي بكر ، وأجلوا عنه المشركين، وقالوا: لئن مات لنقتلن عتبة ثأراً لـأبي بكر ، أما أبو بكر فمغمى عليه لا يتكلم بكلمة، رجع إليه قومه ليكلموه فما تكلم إلا آخر النهار، ترى بما تكلم! قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! همه الرسول والرسالة، سبه قومه وعذلوه إذ هم مشركون ثم تركوه.

أما أمه فقامت تلح عليه أن يطعم شيئاً وهو يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتقول: والله يا بني ما لي من علم بصحابك، قال: اذهبي إلى أم جميل فاطمة بنت الخطاب فسليها، خرجت إليها، فقالت: إن ابني يسأل عن محمد، قالت أم جميل : أتحبين أن اذهب معك إلى ابنك -تريد سرية الأمر لئلا تفتن هي به كما فتن هو وغيره- قالت: نعم. فمضت إلى أبي بكر فوجدته صريعاً، فقالت: والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.

رحمهم الله ورضي عنهم؛ لقد كانوا يأوون إلى ركن شديد، فيقول أبو بكر : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت أم جميل : هذه أمك تسمع -ولم تكن آمنت بعد، وهذا وعي عظيم من فاطمة رضي الله عنها على سرية الدعوة فلا تتكلم أمام مشركة، حتى ولو كانت أم أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه- قال: لا عليك يا فاطمة ! قالت: إنه سالم صالح بحمد الله، قال: أين هو؟ قالت: في دار ابن أبي الأرقم ، قال: فإن لله علي ألا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أحب رسول الله حباً يفوق حب النفس والمال والأهل والولد، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون، انتظروا حتى هدأت الرجل وسكن الناس، ثم خرجت أمه وأم جميل يتكأ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة لما يرى منه، فقال أبو بكر : بأبي أنت وأمي ليس بي من بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي يا رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! هذه أمي برت بولدها وأنت مبارك، فادع الله لها وادعها إلى الله أن يستنقذها من النار، فدعاها ودعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهدت أن لا إله إلا الله.

همه رضي الله عنه أن يستنقذ الناس من النار، والأقربون أولى بالمعروف، والأم أقرب إنسان إليه، فما كان منه إلا أن دعاها فأسلمت، وكان من أعظم البر بأمه أن يدعوها إلى الله جل وعلا.

أرأيتم لهذا الموقف يا عباد الله! والله لموقف أبي بكر هذا مع رسول الله في سبيل الحق ساعة، أفضل من عبادة أحدنا عمره كله، يقول بكر بن عبد الله المزني بإسناد صحيح: إن أبا بكر لم يفضل الناس بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما فضلهم بشيء وقر في قلبه، إنه الإيمان وكفى به هادياً ودليلاً إلى القلوب، وحادياً إلى جنات النعيم.

بشرها دليلها وقالا     غداً ترين الطلح والجبالا

صورة أخرى: عَلِمَ أبو بكر أن من أول مقتضيات لا إله إلا الله الدعوة إليها، فالدعوة ليست وظيفة محمد صلى الله عليه وسلم فقط، بل هي وظيفة الأمة في مجموعها.

علم ذلك أبو بكر فخرج من عند نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، خرج وهمه نصرة هذا الدين ونشره في العالمين، خرج وعمره في الإسلام لا يتجاوز بضعة أيام، وبعد أيام يعود فبم عاد أبو بكر ؟ عاد وهو يقود الكتيبة الأولى من كتائب هذه الأمة، خرج صادقاً مبلغاً فعاد وقد أدخل في دين الله ستة من العشرة المبشرين بالجنة فيما بعد.

فيا لله! يأتي أبو بكر يوم القيامة وفي صحيفة حسناته ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يعود وقد أسلم على يديه عثمان وطلحة الزبير وسعد وعبد الرحمن وأبو عبيدة رضي الله عنهم أجمعين.

أرأيتم عطاءً للإسلام كهذا العطاء! قد يعيش الإنسان منا ستين عاماً أو سبعين عاماً أو أقل أو أكثر، لكنها والله لا تعدل في ميزان الحق ساعة من ساعات أبي بكر ، قد لا يكون الصديق حفظ بضع سور من القرآن في ذلك الوقت، ولم يكن حفظ بضع آيات، وبعضنا يحفظ القرآن، ويحفظ من السنة الكثير، ويستمع إلى عشرات المحاضرات، ويستمع إلى عديد من الأشرطة، ويقرأ عشرات الكتب، وينقضي عمره وما هدى الله على يديه رجلاً واحداً، ما السبب؟ إنه نقص الإيمان، أو نقص الصدق لضعف الإيمان في القلوب.

حصان إخلاصنا ما زال يُسمعنا      صهيله غير أنا ما امتطيناه

فهلا صدقنا الله، وهلا أخلصنا النوايا لله، لتنقاد القلوب لنا كما انقادت لـأبي بكر وسلفنا، نرجو الله أن يَمنَّ علينا بذلك، فـ{لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.

صور أخرى: تلفت أبو بكر وقد استغرق الإسلام عليه وقته، فوجوده للإسلام، وهويته ورسالته الإسلام، تجرد لله بكل خاطرة في قلبه فلم يستبق في نفسه بقية، استعبدها لله، تلفت فإذا ميدان جديد قد هتك، وإذ بالمستضعفين من المسلمين قد صب عليهم طغاة الكفر وصناديد الشركة وسدنة الوثنية سوء العذاب، حبسوهم، جوعوهم، عطشوهم، عذبوهم وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8].

ويا أيها الأحبة في الله! إن الضلال والجهل والكفر والنفاق بكل زمان لا يمتلك الإقناع والحجة والبرهان، قد يمتلك القوة والبطش لكن أ نَّى لقلوب تسلل إليها النور أن تتدثر بالضلال بعد أن تسلل إليها النور، رأى أبو بكر نفوساً مؤمنة أمضها العذاب، وأعيتها المعاناة، وآلمها التعذيب، جروا في الرمضاء، ضربوا بالسياط، البسوا أدرع الحديد، طفروا في الشمس، كووا بالنار.

في السيرةلـابن كثير يقول ابن عباس : إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ويسحبونه على وجهه في الرمضاء، حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلاهان من دون الله؟ فيقول: نعم. افتداء منهم وقلبه مطمئن بالإيمان، ففي مثل هذا أنزل الله مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [النحل:106].

الابتلاء سنة من سنن الله في هذا الكون لا تتوقف، ليميز الله الخبيث من الطيب، وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يخبر فيقول: {لقد كان في من كان قبلكم يؤتى بالرجل فتحفر له الحفرة فيوضع فيها، ثم يوضع المنشار على مفرق رأسه، ثم يشق شقين فيمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب} فالابتلاء سنة ماضية أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] .

أبو بكر يرى هذه المناظر من الابتلاءات فآلمه ما يرى، جمع أمواله وصفى تجاراته مباشرة، وكان من أكثر قريش تجارة ، ثم انطلق يشتري الأرقاء، ويعتقهم لوجه الله لا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً، كل ذلك حماية لدينهم أن يفتنوا فيه، فينفق من أمواله أربعين ألف دينار في سبيل الله، ليحقق الشعور بالجسد الواحد والبناء الواحد والأمة الواحدة.

يسمع أبو بكر ويرى بلالاً يئن تحت وطأة التعذيب، وهو يقول: أحد أحد قد هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فصاروا يطوفون به شعاب مكة ، وهو يقول: أحد أحد، صخور عظيمة في حماء الظهيرة في رمضاء مكة -وأهل مكة أعرف بـمكة- توضع على صدره ثم يقول له أمية : لا تزال على هذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، ولسان حال بلال وهو الثابت يقول:

أهفو إلى جنة الفردوس محترقاً     بنار شوقي إلى الأفياء والغرف

وقد أمر على الدنيا وسادتها     من الطغاة مروراً ليس بالجيف

أما لسان مقاله: فأحد أحد، لم يظفروا منه بكلمة الكفر رضي الله عنه وأرضاه، يسمعه أبو بكر وهو يقول ذلك، فيقول: لينجينك الواحد الأحد، ويذهب أبو بكر إلى أمية، ويقول: أتبيع بلالاً ؟ قال: أبيعه لا خير فيه، فباعه من أبي بكر بعبد أسود لـأبي بكر ، وقيل: بخمس أواق من ذهب، ليعتقه أبو بكر لوجه الله تعالى، ونعم المال الصالح للعبد الصالح.

يقول أمية : يا أبا بكر ! لو أبيت إلا أوقية واحدة لبعتك بلالاً لا خير فيه، فيقول أبو بكر : [[والله لو أبيت إلا مائة أوقية ذهباً لأعطيتكها]].

إعلاناً من أبي بكر للبشرية كلها، أن له موازين ومعايير ومقاييس غير مقاييس أمية وحزبه من الكفرة، أعتق أبو بكر بلالاً وعامراً وأم عمير وزنيرة وp=1000071>النسية

وابنتها وغيرهم كثير، اعتق الله رقبته من النار وبيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.

ويأتي أبوه وهو شيخ كبير ما زال حينها على دين قومه، فيقول: يا بني! أما وقد أبيت إلا أن تضيع مالك فهلا أنفقته على رجال أشداء جلداء ينفعونك ويمنعونك في وقت الشدائد، فيقول: يا أبتي إنما أريد ما أريد، ماذا يريد أبو بكر ؟ أيريد السمعة؟! أيريد الرياء؟! أيريد الشهرة؟! والله لو يريدها لوضعها في الأشراف والكبار بمقاييسهم، لكنه يريد وجه الله والدار الآخرة، وشتان بين طالب الدنيا وطالب الآخرة.

ويأتي المنافقون: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة:79] فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة:58] يأتون في كل زمان ليهونوا من شأن أي عمل يقوم به المسلمون الصادقون، فيقولون: إنما أعتق أبو بكر بلالاً ليدٍ كانت لـبلال عنده، أي: لمعروف كان لـبلال عنده.

وأبو بكر ليس في حياته متسع لمجادلة أصحاب مثل هذا الفكر المظلم العفن النتن، وهذه النظرات القاصرة الخاسرة، تركهم ولم يرد عليهم، ولسان حاله يقول: الله يعلم ما في قلبي، هو عالم السر وأخفى، لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

وتتنزل الآيات من فوق سبع سماوات من رب العزة والجلال لترد على هؤلاء، ومن على شاكلتهم إلى قيام الساعة كما ذكر ذلك غير واحد من المفسرين، يقول الله جل وعلا: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:19-21] أي متاع يساوي: وَلَسَوْفَ يَرْضَى ؟!

أي زخرف يساوي: وَلَسَوْفَ يَرْضَى ؟!

أي دنيا تساوي: وَلَسَوْفَ يَرْضَى ؟!

لا الدنيا ولا متاعها ولا زخرفها ولذائذها وزينتها، بل هي بحذافيرها لا تساوي: وَلَسَوْفَ يَرْضَى ؟!

من الذي وعده بالرضى؟

إنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وديان يوم الدين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ولسوف يرضى في يوم يقل فيه من يرضى، ولسوف يرضى في يوم يكثر فيه الفزع: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران:30].

صورة أخرى: ويسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ، ويعرج به إلى السماوات العلى في ليلة، ويعود في الصباح ليخبر الخبر وهو الصادق صلى الله عليه وسلم، ويطير الخبر في مكة ، ويسري سريان النار في الهشيم، ويكذب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويضطرب بعض المسلمين لهذا الخبر، ثم يذهبون لـأبي بكر يريدون أن يزعزعوا عقيدته، يريدون أن يهزوا إيمانه، فيخبرونه الخبر وهم على ثقة أنه لن يصدق رسوله صلى الله عليه وسلم بعدها وسيرتد عن دينه. فما موقف هذا الرجل؟

وقف أمامهم كالطود الشامخ ليقول في كلماته الخالدة التي حددت منهج الإيمان في حياته: [[إن كان قال فقد صدق، والله إنه ليأتي بالخبر من السماء في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، أفلا أصدقه الآن]] أو كما قال، وانظروا إلى الوضوح في الرؤية، وإلى الثبات على المبادئ، عاد هؤلاء خائبين خاسرين، واستحق أبو بكر أن يلقب بـالصديق .

أيها الأحبة في الله! لقد علمنا أبو بكر كيفية التعامل مع ما يأتي عن الله وعن رسوله، فلا مجال للرأي بعد ثبوت النقل ولا جدال، بل آمنا وصدقنا وعملنا، سمعنا وأطعنا فوالله ما خرج من بين شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الحق.

صورة أخرى: لما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته بالهجرة إلى المدينة ، تجهز أبو بكر يريد أن يكون الأول في كل شيء، يسابق إلى الخيرات، واتجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب الإذن بالهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم له: (لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً) يدخره رسول الله صلى الله عليه وسلم لحدث ومنزلة لا يتكرر عبر تاريخ الحياة كلها، فقام بإعداد الرواحل، وقام يعلفها من ورق التمر استعداداً للهجرة، وكان من عادة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر كل يوم مرتين بكرة وعشياً، قالت عائشة : (وبينما نحن جلوسٌ يوماً في نحر الظهيرة، وإذ برسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها أبداً، فيقول أبو بكر : فداء له أبي وأمي ما جاء إلا لأمر، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس على سرير أبي بكر وقال: اخرج من عندك يا أبا بكر ! قال: إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: فإن الله قد أذن لي بالهجرة، قال أبو بكر وهو يبكي من الفرح: الصحبة يا رسول الله! قال: الصحبة يا أبا بكر ! قالت عائشة : والله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبي يبكي يومئذٍ من الفرح) أخرجه البخاري .

يا لله! هل يبكي فرحاً بمنصب؟! هل يبكي فرحاً بمال؟! بجاه؟! بوظيفة؟!

لا والله الذي لا إله إلا هو إنه ليعلم أن السيوف تنتظره، وأن القلوب الحاقدة تتلهف للقبض عليه، وأن الجوائز العظيمة تعلن للقبض عليه وعلى صاحبه، لكن.

فما لجرح إذا أرضاكم ألم.

أولئك حزب الله آساد دينه     بهم عصب الطاغوت تشقى وتعطب

أولئك أنصار النبي ورهطه     لهم يتناهى كل فخر وينسب

أولئك أقوام إذا ما ذكرتهم     جرت عبرات العين حراً تصبب

جزى الله خيراً شيخ تيم وجنده     فراياته في الخير والبر تضرب

صور وعبر في الطريق إلى الغار

وينطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى غار ثور ، وفي حديث الهجرة صور أي صور، وعبر أي عبر، حقيقة بالتأمل والوقفات عندها، فهذا الشيخ الجليل أبو بكر قد خرج بكل ما يملك بعد أن أعلن حالات الطوارئ في بيته، واستنفر جميع أفراد أسرته لخدمة الرسالة، وجهز جميع إمكاناته لخدمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم يمضي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تاركاً الأهل والعشيرة والأولاد والخلان والأصحاب يريد وجه الله والدار الآخرة.

ويلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر نظرة على البيت الحرام، نظرة حزن قائلاً كما روى الإمام أحمد والترمذي وصححاه: {والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} دموعه صلى الله عليه وسلم تهراق على وجنتيه، لكنه يعلن للدين إلى قيام الساعة، أن وطن الداعية حيث مصلحة دعوته، فلتهجر الأوطان حتى ولو كانت أحب الأوطان إلى الله وإلى رسول الله، ما دامت تتعارض مع مصلحة الدعوة إلى الله.

وفي الطريق إلى الغار -كما في الدلائل للبيهقي-: يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر عجبه، يسير أمامه مرة وخلفه مرة، وعن يمينه مرة وعن شماله مرة، فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم لم هذا الفعل؟ فيقول: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأتذكر الرصد فأمشي أمامك، وعن يمينك وعن شمالك لا آمن عليك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {يا أبا بكر ! لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق، إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة كلها} وضوح في الرؤية وفهم وذكاء وتلك سمات المؤمن.

ويصلان إلى الغار ، وينزل الصديق الغار قبل رسول الله صلى عليه وسلم يستبرئه، إن كان به أذى وقع عليه دون المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوسد وينام قرير العين وهو الطريد الشريد؛ لأنه واثق بنصر الله سبحانه وتعالى، وهنا تبدأ أسرة أبي بكر بأعظم دور تقوم به أسرة في التاريخ، فها هي أسماء وعائشة، شابة وطفلة في بيت أبي بكر تقومان بما يعجز عنه من حملن أعلى الشهادات من نساء المسلمين اليوم، لماذا؟ لأنهما حملتا أعظم شهادة وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فتربين عليها وتربين بها.

صور من تضحيات أبناء أبي بكر

يأتي أبو جهل إلى أسماء فيقول: أين أبوك يا بنت أبي بكر ؟ فتقول: لا أدري بعزة المؤمنة، فيرفع يده فيلطم خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها -لطمه الله بنار تلظى- ولم تخبره رغم ذلك، وتثبت ثبات الرجال الأقوياء، ولم يغنها ذلك عن القيام بدورها مع أختها عائشة تلكم الطفلة التي لم تبلغ الثمان سنوات في تلك اللحظة، قامت أسماء تجهز الطعام وتشق نطاقها لتربط الطعام فتلقب بذات النطاقين، وتربط الطعام وتذهب به إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم لتوصله إليه وإلى أبيها هناك.

فلو كان النساء كمن ذكرنا     لفضلت النساء على الرجال

وما التأنيث لاسم الشمس عيب     وما التذكير فخر للهلال

أما عبد الله بن أبي بكر أخو أسماء ذلكم الشاب، فكان يأخذ أخبار قريش في النهار، وكان فطناً ذكياً لبقاً، وفي الليل يوصلها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلى أبيه، فهو الإعلامي الصادق الأمين الذي تفتقر إليه الأمة في عصرها الحاضر.

أما راعي أبو بكر -حتى راعي أبي بكر كان له دور، وهو عامر رضي الله عنه وأرضاه- فلقد كان يمر بغنمه على المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ليخفي آثار أسماء وعبد الله ، ويسقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر من لبن الغنم كل ليلة يفعل ذلك.

تضحيات ومفاخر خالدات لم تجتمع إلا لآل أبي بكر رضي الله عنهم.

ولذا كان لـأبي بكر ولآل أبي بكر منزلة أنزلهم إياها صدقهم وتقواهم، روى عن أبي الدرداء بإسناد حسن: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه يمشي أمام أبي بكر ، فقال: يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة، ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير من أبي بكر}.

تلك المكارم لا صعبان من لبن     شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

النبي صلى الله عليه وسلم لا زال في الغار ، ووصل المشركون إلى الغار ، وأبو بكر يقول: {لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا، فيقول صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا} لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة من الأمن والطمأنينة لم يصل إليها بشر في الأرض، وهو يرى نفسه بين عدوه لا يحول بينهما إلا التفاتة واحدة، لماذا؟ لأنه واثق بنصر الله، ومن كان الله معه فمن يخاف؟! وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].

يا أيها الأحبة! إن الذي يتملى حديث الهجرة ويتأمله، يعلم أنها لم تكن مجرد نجاة من عدو أو هروب من محنة لا، بل كانت فاتحة تاريخ جديد، وابتداء وجود للمسلمين، وقاعدة عظيمة آمنة للدعوة، وهي المدينة النبوية.

وحين يراجع المرء حدث الهجرة يلاحظ أن الذي اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنفيذ هذا المخطط من الشباب، وليس فيهم إلا كهل واحد هو أبو بكر ، لقد كان صلى الله عليه وسلم بهذا يمثل القائد الفذ، الذي يختار أقدر العناصر على تأدية الدور المطلوب، فيفجر طاقتها، ويعطيها ما يتناسب مع إمكاناتها، سواء أكانت الطاقات أطفالاً كـجابر وعائشة ، أو رجالاً وفتيات كـأسماء وعبد الله ، ليؤدي كل واحد دوره.

ولا يرضى صلى الله عليه وسلم لعملية الصحبة بالهجرة، إلا أصحاب السوابق، بل إلا واحد منهم وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الكهل الذي يتصاغر الشباب والرجال أمام همته العظيمة، فهو حارس الطريق، ومهيأ المقيل، ومعد الزاد، ومظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلفحه الشمس، يقول عمر : [[والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر]] يقصد ليلة الغار، إذ هو: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40] والذي يبكي وقد رأى الطلب وراء النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: [[أما والله ما على نفسي أبكي ولكن أبكي عليك يا رسول الله]].

إن أية دعوة إلى الله عز وجل لا بد أن يكون عمادها عنصر الشباب الحي المضحي الذي لا يعرف الخوف والخور والوهن سبيلاً إليه رجالاً كانوا أو نساء، ولقد رأينا الفتاة المسلمة شريكة في البيعة والهجرة والإعداد والائتمان على السر، إن مسئولية إقامة دين الله في الأرض تحتاج إلى تضافر جهود الشباب مع الكهول مع الرجال والنساء والأطفال، من جابر الذي لا يستطيع أن يرمي بحجر لصغره إلى أبي بكر شاب كهول، من عائشة ذات الثمان سنوات إلى أم عمارة تلكم العجوز الفدائية التي لطالما شاركت وذبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن باكورة تاريخنا تقول: إن الأمة في مجملها بشيبها وشبابها ورجالها ونسائها وأطفالها كلهم أصحاب رسالة، يساهمون في حملها ونشرها والصبر على الأذى في تبليغها.

رسالة هذه الأمة

إننا أمة رسالة ولا شك، وحين نتخلى عنها تتنزل بنا المحن والمصائب والنكبات، ورسالة أمتنا في الحياة هي الدعوة إلى الله عز وجل على المنهج الصحيح الصادق، والله عز وجل قد جعل وظيفة الأنبياء هي الدعوة إلى الله، ونحن أمناء الله على رسالته، ونحن مستخلفون لتبليغ منهج الله، ونحن مكلفون بقيادة البشرية وفي ظل عدالتنا يعبد الله، وفي ظل حضارتنا يكرم الإنسان في أرض الله، وكل وضع يجعل قيادة البشرية لغير الأمة المسلمة فهو وضع نشاز طارئ تضج منه الأرض والسماء، ويأثم المسلمون حتى يعيدوا القيادة لهم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

فأنتم أمة رسالة، بل أنتم شهود الله في أرضه، فأين الشهادة على البشرية؟! أين حملنا لمنهج الدعوة إلى الله؟! أصبحت الدعوة إلى الله وظيفة أفراد قلائل، ليست وظيفة الأمة في مجموعها ومجملها، أصبحت وظيفة عالم أو داعية، أو موظف في الدعوة، فأين نحن من التكليف الرباني: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]؟

ألست من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟!

ألست ترضى بالسير على خطى محمد صلى الله عليه وسلم؟! إن كنت كذلك فلا بد لك أن يكون لك من دعوته نصيب عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].

وينطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر إلى غار ثور ، وفي حديث الهجرة صور أي صور، وعبر أي عبر، حقيقة بالتأمل والوقفات عندها، فهذا الشيخ الجليل أبو بكر قد خرج بكل ما يملك بعد أن أعلن حالات الطوارئ في بيته، واستنفر جميع أفراد أسرته لخدمة الرسالة، وجهز جميع إمكاناته لخدمة المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم يمضي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تاركاً الأهل والعشيرة والأولاد والخلان والأصحاب يريد وجه الله والدار الآخرة.

ويلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر نظرة على البيت الحرام، نظرة حزن قائلاً كما روى الإمام أحمد والترمذي وصححاه: {والله إنك لأحب أرض الله إلي، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} دموعه صلى الله عليه وسلم تهراق على وجنتيه، لكنه يعلن للدين إلى قيام الساعة، أن وطن الداعية حيث مصلحة دعوته، فلتهجر الأوطان حتى ولو كانت أحب الأوطان إلى الله وإلى رسول الله، ما دامت تتعارض مع مصلحة الدعوة إلى الله.

وفي الطريق إلى الغار -كما في الدلائل للبيهقي-: يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر عجبه، يسير أمامه مرة وخلفه مرة، وعن يمينه مرة وعن شماله مرة، فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم لم هذا الفعل؟ فيقول: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، وأتذكر الرصد فأمشي أمامك، وعن يمينك وعن شمالك لا آمن عليك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {يا أبا بكر ! لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق، إن قتلت أنا فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة كلها} وضوح في الرؤية وفهم وذكاء وتلك سمات المؤمن.

ويصلان إلى الغار ، وينزل الصديق الغار قبل رسول الله صلى عليه وسلم يستبرئه، إن كان به أذى وقع عليه دون المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوسد وينام قرير العين وهو الطريد الشريد؛ لأنه واثق بنصر الله سبحانه وتعالى، وهنا تبدأ أسرة أبي بكر بأعظم دور تقوم به أسرة في التاريخ، فها هي أسماء وعائشة، شابة وطفلة في بيت أبي بكر تقومان بما يعجز عنه من حملن أعلى الشهادات من نساء المسلمين اليوم، لماذا؟ لأنهما حملتا أعظم شهادة وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فتربين عليها وتربين بها.

يأتي أبو جهل إلى أسماء فيقول: أين أبوك يا بنت أبي بكر ؟ فتقول: لا أدري بعزة المؤمنة، فيرفع يده فيلطم خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها -لطمه الله بنار تلظى- ولم تخبره رغم ذلك، وتثبت ثبات الرجال الأقوياء، ولم يغنها ذلك عن القيام بدورها مع أختها عائشة تلكم الطفلة التي لم تبلغ الثمان سنوات في تلك اللحظة، قامت أسماء تجهز الطعام وتشق نطاقها لتربط الطعام فتلقب بذات النطاقين، وتربط الطعام وتذهب به إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم لتوصله إليه وإلى أبيها هناك.

فلو كان النساء كمن ذكرنا     لفضلت النساء على الرجال

وما التأنيث لاسم الشمس عيب     وما التذكير فخر للهلال

أما عبد الله بن أبي بكر أخو أسماء ذلكم الشاب، فكان يأخذ أخبار قريش في النهار، وكان فطناً ذكياً لبقاً، وفي الليل يوصلها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلى أبيه، فهو الإعلامي الصادق الأمين الذي تفتقر إليه الأمة في عصرها الحاضر.

أما راعي أبو بكر -حتى راعي أبي بكر كان له دور، وهو عامر رضي الله عنه وأرضاه- فلقد كان يمر بغنمه على المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ليخفي آثار أسماء وعبد الله ، ويسقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر من لبن الغنم كل ليلة يفعل ذلك.

تضحيات ومفاخر خالدات لم تجتمع إلا لآل أبي بكر رضي الله عنهم.

ولذا كان لـأبي بكر ولآل أبي بكر منزلة أنزلهم إياها صدقهم وتقواهم، روى عن أبي الدرداء بإسناد حسن: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه يمشي أمام أبي بكر ، فقال: يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة، ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير من أبي بكر}.

تلك المكارم لا صعبان من لبن     شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

النبي صلى الله عليه وسلم لا زال في الغار ، ووصل المشركون إلى الغار ، وأبو بكر يقول: {لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا، فيقول صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا} لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة من الأمن والطمأنينة لم يصل إليها بشر في الأرض، وهو يرى نفسه بين عدوه لا يحول بينهما إلا التفاتة واحدة، لماذا؟ لأنه واثق بنصر الله، ومن كان الله معه فمن يخاف؟! وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].

يا أيها الأحبة! إن الذي يتملى حديث الهجرة ويتأمله، يعلم أنها لم تكن مجرد نجاة من عدو أو هروب من محنة لا، بل كانت فاتحة تاريخ جديد، وابتداء وجود للمسلمين، وقاعدة عظيمة آمنة للدعوة، وهي المدينة النبوية.

وحين يراجع المرء حدث الهجرة يلاحظ أن الذي اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنفيذ هذا المخطط من الشباب، وليس فيهم إلا كهل واحد هو أبو بكر ، لقد كان صلى الله عليه وسلم بهذا يمثل القائد الفذ، الذي يختار أقدر العناصر على تأدية الدور المطلوب، فيفجر طاقتها، ويعطيها ما يتناسب مع إمكاناتها، سواء أكانت الطاقات أطفالاً كـجابر وعائشة ، أو رجالاً وفتيات كـأسماء وعبد الله ، ليؤدي كل واحد دوره.

ولا يرضى صلى الله عليه وسلم لعملية الصحبة بالهجرة، إلا أصحاب السوابق، بل إلا واحد منهم وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الكهل الذي يتصاغر الشباب والرجال أمام همته العظيمة، فهو حارس الطريق، ومهيأ المقيل، ومعد الزاد، ومظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تلفحه الشمس، يقول عمر : [[والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر]] يقصد ليلة الغار، إذ هو: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40] والذي يبكي وقد رأى الطلب وراء النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: [[أما والله ما على نفسي أبكي ولكن أبكي عليك يا رسول الله]].

إن أية دعوة إلى الله عز وجل لا بد أن يكون عمادها عنصر الشباب الحي المضحي الذي لا يعرف الخوف والخور والوهن سبيلاً إليه رجالاً كانوا أو نساء، ولقد رأينا الفتاة المسلمة شريكة في البيعة والهجرة والإعداد والائتمان على السر، إن مسئولية إقامة دين الله في الأرض تحتاج إلى تضافر جهود الشباب مع الكهول مع الرجال والنساء والأطفال، من جابر الذي لا يستطيع أن يرمي بحجر لصغره إلى أبي بكر شاب كهول، من عائشة ذات الثمان سنوات إلى أم عمارة تلكم العجوز الفدائية التي لطالما شاركت وذبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن باكورة تاريخنا تقول: إن الأمة في مجملها بشيبها وشبابها ورجالها ونسائها وأطفالها كلهم أصحاب رسالة، يساهمون في حملها ونشرها والصبر على الأذى في تبليغها.