صدقوا ما عاهدوا


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. ولا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وقيُّوم السماوات والأرضين، ومالك يوم الدين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عِزَّ إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار لرحمته. لا هدى إلا في الاستهداء بنوره، ولا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في قُرْبِه، ولا صلاح ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيد حبه.

إذا أطيع شَكَر، وإذا عُصِيَ تاب وغَفَر، وإذا دُعِي أجاب، وإذا عوُمِل أثاب.

لا إله إلا هو سبحانه وبحمده! لا يُحصي عدد نعمته العادُّون، ولا يؤدِّي حق شكره الحامدون، ولا يَبلُغ مدى عظمته الواصفون: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117].

اللهم لك الحمد مِلء السماوات والأرض؛ فكل الحمد لك.

اللهم لك الشكر على نعم لا نحصيها؛ فكل الشكر لك.

اللهم لك المتوبة والتذلل والخضوع فلا معبود غيرك.

الحمد لله شَهِدت له بالربوبية جميع مخلوقاته، وأقرت له بالألوهية جميع مصنوعاته، سبحانه وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

ولا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته كما أنه لا شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في ذاته ولا أفعاله ولا صفاته.

سبحانه سبحت له السماوات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها، والأرض وسكانها، والبحار وحيتانها، والنجوم والجبال والشجر والدواب والآكام والرمال، وكل رطب ويابس، وكل حي وميت: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [الإسراء:44].

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رسله، وأنزل كتبه، وشرَّع شرائعه؛ لأجلها نُصِبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسم الخلائق إلى مؤمنين وكفار، وأبرار وفجَّار، عنها وعن حقوقها يكون السؤال والجواب، وعليها يقع الثواب والعقاب، عليها نصبت القِبْلة، وعليها أسِّست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد.

إنها كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، لن تزول قدما عبد بين يدي الله حتى يسأل: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟

فلا إله إلا الله، شهادة حق وصدق أتولى بها الله ورسوله والذين آمنوا، وأتبرأ بها من الطواغيت والأنداد المعبودين ظلماً وزوراً من دون الله.

وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أشرف من وطئ الحصى بنعله، أرسله الله رحمة للعالمين، وإماماً للمتقين، وحجَّة على الخلائق أجمعين. بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حق الجهاد، وقمع أهل الزيغ والفساد، فتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً.

صلوات الله وسلامه عليه، وعلى أهل بيته الطيبين، وأصحابه المنتخبين، وخلفائه الراشدين، وأزواجه الطاهرات؛ أمهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أحبتي في الله: أسعد اللحظات في حياة العبد يوم يطرق مسامعه ذكر الله، يوم يطمئن قلبه بقول الله، وقول رسول الله صلى وسلم عليه الله: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

إن من نعمة الله علينا تهيئة مثل هذا المخيم لنجتمع فيه على الخير والبر والذكر والتناصح.

فأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجزيَ القائمين والمساهمين عليه وفيه أفضل ما يجزي عباده الصالحين، وأن يرزقنا شكر نعمته، وقد تأذن لمن شكر بالمزيد، وحيا الله هذه الوجوه، حيا الله وجوهاً أقبلت على الله فجعلت حياتها كلها لله.

وهنيئاً لها من قلوب تَأَرِز إلى ذكر الله، فتسكن وتسعد بإذن الله.

هنيئاً لأسماع امتلأت بذكر الله، فتلذذت بقول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هنيئاً لأبصار تنعَّمَت بمجالسة من يذكر الله.

هنيئاً لها من أقدام جعلت خطاها إلى ذكر الله.

هنيئاً لكم يوم يرجى لكم أن تنصرفوا مغفوراً لكم، قد بُدِّلت سيئاتكم حسنات بإذن ربكم.

هنيئاً لكم تُذكرون في ملأ خير من ملئكم، ملائكةٌ تحفُّ، ورحمة تغشى، وسكينة تتنزل.

فيا حسرة وندامة وخزي من لم تنعم عينه وجوارحه بذكر الله!

لَوْ يَعلَمُ العَبدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ     أمْضَى الحياةَ بتسبيحٍ وتَهْليلِ

لَوْ يَعْلمُ النَّاسُ مَا في الشُّكْرِ مِنْ شَرَفٍ     لَمْ يُلْهِهِم عَنْهُ تَجْمِيعُ الدَّنانيرِ

ولم يُبالُوا بأوراقٍ ولا ذهبٍ     ولَو تجَمَّع آلافُ القناطيرِ

فأكْثِرْ ذِكرهُ في الأرضِ دأباً     لتُذْكَرَ في السَّماءِ إذا ذَكَرتا

ونادِ إذا سَجدتَ لَهُ اعْترافاً     بما ناداهُ ذو النون بنُ متَّى

وسَلْ منْ رَبِّك التوفِيقَ فيها     وأخلصْ في السُّؤال إذا سَألتا

ولازم بابه قرعاً عساهُ     سيُفتحُ بابه لك إن قَرعتا

ونفسَك ذُمَّ لا تَذْمُمْ سِواها     بعيبٍ فهْيَ أجدرُ منْ ذممْتا

فلو بكت الدما عيناك خوفاً     لذنبكَ لَمْ أقُلْ لَكَ قَدْ أَمِنْتا

وَمَنْ لَكَ بالأمانِ وأنتَ عبدٌ     أُمِرْتَ فَمَا ائْتُمِرْتَ ولا أََطَعْتا

ثَقُلتَ منَ الذُّنوبِ ولستَ تَخْشَى     بجهلِكَ أن تَخِفَّ إذا وُزِنْتا

فلا تضحكْ مع السفهاءِ لهواً     فإنك سوفَ تَبْكِي إنْ ضَحِكْتا

ولا تَقُلِ الصِّبَا فيه مَجَالٌ     وفكِّر كَمْ صَبِيٍّ قَدْ دَفَنْتا

تَفتُّ فؤادَك الأيامُ فتّا     وتَنْحِتُ جِسمكَ السَّاعاتُ نَحْتا

وتدعوكَ المنونُ دعاءَ صدقٍ     ألا يا صَاحِ أنتَ أُرِيدُ أنتا

أحبتي في الله: أوصيكم جميعاً ونفسي بتقوى الله، وأن نقدِّم لأنفسنا أعمالاً تبيض وجوهنا يوم نلقى الله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] .. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:42].

يقول أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: [[ما تصدق متصدق بأفضل من موعظة يعظ بها الرجل قوماً، فيقومون وقد نفعهم الله عز وجل بها]].

(والكلمة الطيبة صدقة) كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وللكلمة الطيبة ملامح، أرجو الله أن تتوفر في هذه الكلمة تلك الملامح؛ لتتغلغل إلى الجوانح، فتظهر على الجوارح.

فالكلمة الطيبة مِعْطَاءٌ جميلة رقيقة لا تؤذي المشاعر، ولا تخدش النفوس.

جميلة اللفظ، جميلة المعنى، رقيقة المبنى، رقيقة المعنى، يشتاق لها السامع فيطرب ويخشى ويسعى.

طيبة الثمر، نتاجها مفيد، غايتها بنَّاءة، منفعتها واضحة، أصلها ثابت مستمد من النبع الصافي؛ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتمتد شامخة بفرعها إلى السماء؛ لأنها نقية، وصادرة -بإذن الله- عن صدق نية، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، يسمعها السامع فينتفع بها، وينقلها لغيره فينتفع، حتى إنه لينتفع بها الفئام من الناس، ويمتد النفع إلى ما شاء الله، وصاحبها لا يعلم مداها؛ فتبقى ذخراً له بعد الممات، ورصيداً له في الحياة.

كلمة من رضوان الله يكتب الله بها الرضوان للعبد إلى أن يلقى الله.

أسأل الله أن يجعل هذه الكلمات من الباقيات الصالحات، وأن ينفعني بها ومن رام الانتفاع بها من إخواني، وأن يجعلها من الأعمال التي لا ينقطع عني نفعها بعد أن أدرج في أكفاني، وأن يجعلها للجميع ذخراً في يوم الحسرات على ضياع الأوقات في غير الطاعات، يوم يوقف العبد بشحمه ولحمه ودمه وعصبه وشعره وأظفاره يعرض على الله، لا يخفى منه خافٍ، الجسد مكشوف، والضمير مكشوف، والقلب مكشوف، والصحيفة مكشوفة، والتاريخ مكشوف: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].

أما بعد:

أيها المؤمنون: إن لكل مجتمع رموزاً وقادة يمثلون قِيَمَهُ، ويوجهون الأمة، ويُقَوون الهِمَّة؛ ليصعدوا بالناس إلى القمة.

ورموز المجتمع الإسلامي هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأفضلهم أهل السابقة؛ مَنْ محَّصتهم الفتنُ، ونقَّتهم المحن، من امتُحنوا بالنفس والنفيس، فاسترخَصُوا كل شئ من أجل رفع راية التوحيد؛ رضي الله عنهم، ورحمهم، وأخرج في الأمة من أمثالهم.

إن المتملي والمتأمل لواقع أمتنا اليوم يجدها تكاد تفتقر إلى القدوات، وينقصها المثال؛ ولذلك فتحت باب استيراد القدوات من خارج الحدود، فتنَكرتْ لتاريخِها، وتَعَاظَمَ سُخْفُهَا وجهلها بسلفها وقدواتها، وتناقص عنصر الخير فيها بمرور الأيام، وخفتت قوةُ الضوء فيها؛ لأنها ابتعدت عن مصدر الضوء، وعن مركز الإشعاع فيها.

إذا تمَثلَ ماضِينا لحَاضِرنا     تكادُ أكبادُنا بالغَيْظِ تنفَطِرُ

ولذا كان لابد للأمة أن ترجع لتاريخها، لا للتسلية، ولا لقتل الفراغ، ولا لاجترار الماضي، ولا للافتخار بالآباء فحسب، بل لنتعظ ونعتبر ونتشبه، ونعرف ذلك الجدول الفياض الذي نَهَل منه أسلافنا؛ لنعُبَّ منه كما عبُّوا، لنعلم ماذا فعلوا، لنقتدي بهم فيما فعلوا، لنعلم كيف وصلوا، لنصل كما وصلوا.

ما أحوجنا إلى أن نترسَّم خطاهم، ونتلمَّس العزَّة في طريقهم، ونسير على هداهم: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].

غابت شخوصهم، فلنسمع ولْنَعِ أخبارهم؛ فلعل ذاك يقوم مقام رؤيتهم على حد قول القائل:

فاتَنِي أَنْ أَرَى الديارَ بطَرْفي     فَلَعَلِّي أَعِي الدِّيَارَ بسَمْعِي

لهذا كله كانت هذه الكلمات التي عنونتها بهذا العنوان: صدقوا ما عاهدوا؛ لتحكي لكم حياة جيل لا كالأجيال، وأبطال لا كالأبطال، ورجال لا كالرجال.

رجال جاءتهم دعوة الحق فما ترددوا، وما كَبَوا، وما تلكئوا، وآمنوا بها وصدقتها قلوبهم، واستيقنتها أنفسهم، فما كان قولهم يوم أن دُعوا إلى الله ورسوله إلا أن قالوا: سمعنا وأطعنا: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا [آل عمران:193].

وضعوا أيديهم في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهان عليهم بعد ذلك أبناؤهم ونفوسهم وأموالهم وعشيرتهم؛ إذ علموا أن طريق الجنة صعب، محفوف بالمكاره، لكن آخره السعادة الدائمة فسلكوه، وعلموا أن طريق النار سهل محفوف بالشهوات لكن آخره الشقاوة الدائمة فاجتنبوه.

رجال وأي رجال: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37] في السِّلم هداة مصلحون، عالمون عاملون، وفي الحرب مؤمنون محتسبون، مجاهدون ثابتون، عبَّاد ليل، وأُسْدِ نهار، حملوا السلاح في الميدان، وعلقوا القلوب وملئوها بالقرآن، قاوموا الشهوات، وقاوموا أهل العداوات، سيَّان الشيوخ منهم والشباب والشابات.

القارئونَ كِتَابَ اللهِ فِي رَهِبٍ     والواردونَ حِيَاضَ المَوْتِ فِي رَغبٍ

منحوا الحياة جمالاً، ومعنى ومغزى في جميل مبنى:

كيفَ الحياةُ إذا خلَتْ     منهم ظواهر أو بطاح

أين الأعزةُ والأَسِنَّةُ     عند ذلكَ والسَّماحُ

وقفة أقفها معكم إزاء هذه الصفوة المختارة ممن صدقوا ما عاهدوا، ما هي إلا قطوف من أشجار، وقطرات من بحار، ورحلة في أكثر من أربعة عشر قرناً في بساتين الصادقين اليانعة؛ للوقوف على ثمار مجتناه، وزهور منتقاه، وإني لأستغفر الله، ثم أستغفر الله، ثم أستغفر الله من وصف حال أولئك مع ضعف الاتصاف مني بصفاتهم، بل -والله- ما شممنا رائحتهم، ولكنها محبة القوم تحملنا على التعرف على منزلتهم، وقراءة سيرهم، وإن لم نلحق، فعسى همَّة منا أن تنهض إلى التشبث بساقة القوم ولو من بعيد: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى [يوسف:111] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.

مواقف من تربية النبي صلى الله عليه وسلم

صدقوا ما عاهدوا من خلال تربية المصطفى صلى الله عليه وسلم، صار كل صحابي أمَّة وحده، فما من صحابي إلا وله سمة معينة، وموقف خاص، منهم من أشار واقترح، ومنهم من أوضح وشرح، ومنهم من أضاف واستدرك، وكل ذلك فيما يخدم الدعوة إلى الله جل وعلا.

فـسلمان يستفيد من خلفيَّته الحضارية الفارسية المادية ليخدم هذا الدين؛ فيقترح يوم تحزّب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حفر الخندق ، وأَنْعِمْ به من اقتراح.

والخباب يقترح الوقوف في غزوة بدر على الماء، فيشرب المسلمون ويحرم المشركون.

ويوم يُعاد أبو جندل وهو يستنجد بالمسلمين ويقول: يا معشر المسلمين! أتردوني إلى أهل الشرك فيفتنوني عن ديني، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسليه ويعزيه ويقول: {اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً}.

وإذا بـعمر -وما عمر ؟! عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر - ينفعل مع الموقف، ويمشي بجوار أبي جندل ويقرب سيفه من أبي جندل ؛ طمعاً في أن يستله ليقتل أباه دون مؤاخذة على بنود صلح الحديبية ، لكن أبا جندل لم يفعل؛ فأعيد.

وانظر إلى الصديق ، وما الصديق ؟!

يوم يتولى الخلافة، فترتد بعض قبائل العرب بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم تكن الجمعة تقام إلا في بعض الأمصار؛ كـمكة والمدينة ، فيقوم لله قومة صادق مخلص؛ ليؤدب المرتدين، وينفذ جيش أسامة ، وفي أقل من سنتين إذا بجيوشه ترابط على أبواب أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت؛ ألا وهي فارس والروم، شعاره: [[ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي]].

شعاره شعار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم يقول: {لأقاتلنكم حتى تنفرد سالفتي}.

وأبو بصير، ما أبو بصير؟! يخطط لحرب عصابات بعيدة عن بنود صلح الحديبية ، إذ جاء مسلماً فارّاً بدينه من قريش إلى المدينة بعد صلح الحديبية ، وبعد توقيع المعاهدة.

فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فسلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم -وفاءً بالعهد- إليهم، وفي الطريق تمكَّن أبو بصير بشجاعته وحكمته وذكائه من قتل أحد الرجلين، ويفر الثاني، ويرجع هو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: {قد -والله- أوفى الله ذمتك يا رسول الله! فلقد رددتني إليهم، ثم نجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم-كما في البخاري - { ويل أمِّه؛ مسعر حرب لو كان معه أحد }.

فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر ، واستقر به المقام هناك، وفهم المستضعفون من عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم -وكانوا أذكياء- أن أبا بصير في حاجة إلى الرجال، فأخذوا يفرون من مكة إلى أبي بصير ، وكان على رأسهم أبو جندل ، جاء الفرج والمخرج كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

اجتمع منهم عصابة يتعرضون لقوافل قريش، فيقتلون حراسها، ويأخذون أموالها، وتضطر عندها قريش مرغمة ذليلة راكعة أن ترسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أن يرسل إلى أبي بصير ومن معه؛ فمن أتاه فهو آمن.

تنازلت عن هذا الشرط تحت ضغط العصابة المؤمنة كـأبي بصير وأبي جندل ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وأبو بصير في مرض الموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، وقدم أصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنين سالمين غانمين قد جعلوا من أنفسهم أنموذجاً يُقتدى به في الثبات، والإخلاص، والعزيمة، والجهاد، وتمريغ أنوف المشركين، والذكاء، وبذل الجهد في نصرة هذا الدين، حتى قرروا مبدأ من المبادئ؛ ألا وهو: (قد يسع الفرد مالا يسع الجماعة).

كل ذلك في حكمة، وأي حكمة! إذ كان ذلك بإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم، وتشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم يوم وصف أبا بصير بأنه مسعر حرب لو كان معه رجال، ثم إن أبا بصير خارج عن السلطة، ولو في ظاهر الحال، فلا مؤاخذة على بنود المعاهدة: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269].

وهذا خالد بن الوليد يستلم الراية يوم مؤتة -يوم سقط القوَّاد الثلاثة- بلا تأمير فرضي الله عن الجميع.

وفي القادسية تنفر خيل المسلمين من الفِيَلة، فيعمد صحابي ليصنع فيلاً من طين، ويؤنس ويؤلف فرسه به حتى يألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيلة، فحمل على الفيل الذي كان يقدم الفيلة، فقيل له: إنه قاتلك، قال: لا ضير أن أقتل ويفتح الله على المسلمين.

ما كانوا يعيشون لأنفسهم، لكن يعيشون لدينهم، ويعيشون لعقيدتهم.

وهذا عبد الرحمن بن عوف يصفق بالأسواق حتى لا يكون عالة على غيره:

مَضَوْا في الدُّنَا شرقاً فأسلمَ فُرسُها     وسَاروا بِها غَرباً فسلَمَ رُومُها

زيد يجمع القرآن، وابن عمرو يدوِّن الحديث، وابن عباس يخرج إلى الأسواق ليسلم على الناس، ويذكرهم برب الناس.

ويتحاور ويتناقش سلمان وأبو الدرداء حول قيام الليل، وحقوق العيال.

تسابق إلى الخيرات، عزيمة في الأداء، إيجابية في العمل دون النظر لما يقوله الآخرون، أو حب لشهرة يراها المسلمون.

صدقوا ما عاهدوا من خلال تربية المصطفى صلى الله عليه وسلم، صار كل صحابي أمَّة وحده، فما من صحابي إلا وله سمة معينة، وموقف خاص، منهم من أشار واقترح، ومنهم من أوضح وشرح، ومنهم من أضاف واستدرك، وكل ذلك فيما يخدم الدعوة إلى الله جل وعلا.

فـسلمان يستفيد من خلفيَّته الحضارية الفارسية المادية ليخدم هذا الدين؛ فيقترح يوم تحزّب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حفر الخندق ، وأَنْعِمْ به من اقتراح.

والخباب يقترح الوقوف في غزوة بدر على الماء، فيشرب المسلمون ويحرم المشركون.

ويوم يُعاد أبو جندل وهو يستنجد بالمسلمين ويقول: يا معشر المسلمين! أتردوني إلى أهل الشرك فيفتنوني عن ديني، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسليه ويعزيه ويقول: {اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً}.

وإذا بـعمر -وما عمر ؟! عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر - ينفعل مع الموقف، ويمشي بجوار أبي جندل ويقرب سيفه من أبي جندل ؛ طمعاً في أن يستله ليقتل أباه دون مؤاخذة على بنود صلح الحديبية ، لكن أبا جندل لم يفعل؛ فأعيد.

وانظر إلى الصديق ، وما الصديق ؟!

يوم يتولى الخلافة، فترتد بعض قبائل العرب بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم تكن الجمعة تقام إلا في بعض الأمصار؛ كـمكة والمدينة ، فيقوم لله قومة صادق مخلص؛ ليؤدب المرتدين، وينفذ جيش أسامة ، وفي أقل من سنتين إذا بجيوشه ترابط على أبواب أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت؛ ألا وهي فارس والروم، شعاره: [[ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي]].

شعاره شعار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم يقول: {لأقاتلنكم حتى تنفرد سالفتي}.

وأبو بصير، ما أبو بصير؟! يخطط لحرب عصابات بعيدة عن بنود صلح الحديبية ، إذ جاء مسلماً فارّاً بدينه من قريش إلى المدينة بعد صلح الحديبية ، وبعد توقيع المعاهدة.

فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فسلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم -وفاءً بالعهد- إليهم، وفي الطريق تمكَّن أبو بصير بشجاعته وحكمته وذكائه من قتل أحد الرجلين، ويفر الثاني، ويرجع هو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: {قد -والله- أوفى الله ذمتك يا رسول الله! فلقد رددتني إليهم، ثم نجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم-كما في البخاري - { ويل أمِّه؛ مسعر حرب لو كان معه أحد }.

فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر ، واستقر به المقام هناك، وفهم المستضعفون من عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم -وكانوا أذكياء- أن أبا بصير في حاجة إلى الرجال، فأخذوا يفرون من مكة إلى أبي بصير ، وكان على رأسهم أبو جندل ، جاء الفرج والمخرج كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

اجتمع منهم عصابة يتعرضون لقوافل قريش، فيقتلون حراسها، ويأخذون أموالها، وتضطر عندها قريش مرغمة ذليلة راكعة أن ترسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أن يرسل إلى أبي بصير ومن معه؛ فمن أتاه فهو آمن.

تنازلت عن هذا الشرط تحت ضغط العصابة المؤمنة كـأبي بصير وأبي جندل ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وأبو بصير في مرض الموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، وقدم أصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنين سالمين غانمين قد جعلوا من أنفسهم أنموذجاً يُقتدى به في الثبات، والإخلاص، والعزيمة، والجهاد، وتمريغ أنوف المشركين، والذكاء، وبذل الجهد في نصرة هذا الدين، حتى قرروا مبدأ من المبادئ؛ ألا وهو: (قد يسع الفرد مالا يسع الجماعة).

كل ذلك في حكمة، وأي حكمة! إذ كان ذلك بإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم، وتشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم يوم وصف أبا بصير بأنه مسعر حرب لو كان معه رجال، ثم إن أبا بصير خارج عن السلطة، ولو في ظاهر الحال، فلا مؤاخذة على بنود المعاهدة: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269].

وهذا خالد بن الوليد يستلم الراية يوم مؤتة -يوم سقط القوَّاد الثلاثة- بلا تأمير فرضي الله عن الجميع.

وفي القادسية تنفر خيل المسلمين من الفِيَلة، فيعمد صحابي ليصنع فيلاً من طين، ويؤنس ويؤلف فرسه به حتى يألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيلة، فحمل على الفيل الذي كان يقدم الفيلة، فقيل له: إنه قاتلك، قال: لا ضير أن أقتل ويفتح الله على المسلمين.

ما كانوا يعيشون لأنفسهم، لكن يعيشون لدينهم، ويعيشون لعقيدتهم.

وهذا عبد الرحمن بن عوف يصفق بالأسواق حتى لا يكون عالة على غيره:

مَضَوْا في الدُّنَا شرقاً فأسلمَ فُرسُها     وسَاروا بِها غَرباً فسلَمَ رُومُها

زيد يجمع القرآن، وابن عمرو يدوِّن الحديث، وابن عباس يخرج إلى الأسواق ليسلم على الناس، ويذكرهم برب الناس.

ويتحاور ويتناقش سلمان وأبو الدرداء حول قيام الليل، وحقوق العيال.

تسابق إلى الخيرات، عزيمة في الأداء، إيجابية في العمل دون النظر لما يقوله الآخرون، أو حب لشهرة يراها المسلمون.

علموا أن الإيجابية إعذار إلى الله من التقصير، فأدوا واجبهم قدر الإمكان، ولم ينتظروا النتائج، على مبدأ:

فعلي بِذرُ الحبِّ لا قَطْفُ الجَنَى     واللهُ للساعين خيرُ مُعينِ

علموا أن التكليف فردي، وكل سيحاسب يوم القيامة فرداً: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21] فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84].

فكان كل فرد منهم أمة؛ يوم تربوا على منهج المصطفى صلى الله عليه وسلم فصدقوا ما عاهدوا.

معاصرتهم نزول الوحيين

صدقوا ما عاهدوا: وكيف لا يصدقون وقد عاصروا نزول الوحيين، وتلقوا التربية من القدوة المطلقة -صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهم أجمعين- يوم بعثه الله بـمكة ، فأخرج العباد من الظلمات إلى النور بإذن ربه، يوم أخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام؟!

رأوه وهو يقف على الصفا وحيداً فريداً قد اجتمعوا حوله وهو يقول: {إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد} {قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} فأعرضوا وأصروا واستكبروا استكباراً، وقال عمه: تبّاً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فتبت يداه، ثم تبت يداه.

لم يتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ييئس، وما كان له ذلك؛ لأنه يعلم أنه على الحق، ويستمر عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، في عكاظ ومجنة في المواسم، يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلَّغ رسالة ربي وله الجنة؟

فلا يؤويه ولا ينصره أحد، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر، فيأتيه قومه، فيحذرونه غلام قريش لا يفتنه.

حرب إعلامية ضخمة في الصد عن سبيل الله تمارس ضد الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان:

والسرُّ باقٍ والزمانُ مجددٌ     والسيفُ ما فَقَدَ المضِاءَ وما نَبَا

معاصرتهم لمحن النبي صلى الله عليه وسلم

كيف لا يصدقون وقد عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا نفر قليل؛ خمسة أعبد وامرأتان فلم يهن ولم يضعف ولم يستكن، وما كان له ذلك صلوات الله وسلامه عليه، بل جاهد وجالد حتى كثر أصحابه وأوذا كما أوذوي في سبيل الله؛ فما ضعفوا وما وهنوا وما استكانوا، بل صابروا، وهاجروا فراراً بدينهم هجرتين: إلى الحبشة ثم إلى المدينة رضوان الله عليهم أجمعين.

عاصروا وعايشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا له الأعوان والأنصار، آووه وصدقوه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه.

عاصروا محنة الهجرة بقسوتها وشدتها عليهم؛ كيف وهم يفقدون أوطانهم وأهاليهم -مرابع الطفولة وحياتهم كلها- ويرون فوق ذلك قائدهم ورسولهم صلى الله عليه وسلم يقف أمامهم يخاطب مكة بـالحزورة قائلاً: {والله! إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ، ولولا أني أُخْرِجت ما خرجت}.

دموعه تهطل على لحيته صلى الله عليه وسلم؛ فيا لها من قلوب احترقت وهي ترى نبيها على ذلك الحال! ويا لها من قلوب غلبت مصلحة العقيدة ومتطلبات الدعوة على هوى النفس وشهواتها! فما النتيجة؟

أمضى الله لها هجرتها، ولم يردها على أعقابها.

معايشتهم لجهاد النبي صلى الله عليه وسلم ومشاركتهم فيه

كيف لا يصدقون وقد عاصروا وعايشوا وشاركوا في الصراع بين الحق والباطل، فكانوا ضمن ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً في بدر يقولون: ربنا الله، يقابلون ألفاً يكفرون بالله قد خرجوا بطراً ورئاء الناس، فنصر الله القلة على الكثرة، فيعلو الحق، ويسكنُ الباطل كما قضى الله؟!

ما كبروا الله حتَّى كلُّ ناحيةٍ     ردَّت ورجَّعَ في تكبيرها النغمُ

تجاوبتْ بالصدى الأرجاءُ صائحةً     فالريح تصرخ والقيعانُ والأكمُ

كيف لا يصدقون، وقد عايشوا تجمع الأحزاب من قريظة وقريش، وخذلان أهل النفاق، وتسللهم من الصف مدعين أن بيوتهم عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً، جاءوا من فوقهم ومن أسفل منهم، وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا، ونصر الله جنده بعد ذلك بجندي من جنوده؛ ألا وهو الريح: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]؟!

كيف لا يصدقون وقد عاصروا صلح الحديبية، وقد بلغوا ألفاً وأربعمائة وأكثر من ذلك، فكتب الله لهم الرضوان في بيعة الرضوان كما سطر ذلك القرآن: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح:18]؟!

كيف لا يصدقون وقد كانوا جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم من ضمن عشرة آلاف؛ منهم من أخرج من دياره بغير حق إلا أن قال: ربيَ الله، وإذ بنصر الله يتنزل، فإذا هم عائدون إلى مكة التي أخرجوا منها فاتحين، قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خاشعاً شاكراً لأنعم الله، يقرأ سورة الفتح وهو على راحلته، يطوف بالكعبة، ويستلم الركن بمحجنه كراهة أن يزاحم الطائفين، ثم يحطم الأصنام ويطهر البيت الحرام، ويجيء الحق، ويزهق الباطل، والباطل زهوق كما قضى الله وقدر الله.

وإذ بالذين أخرجوه نكست رءوسهم، خاضعين، أذلة، راكعين، وهو يقول لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقاموا يتملقونه وقد كانوا يؤذونه، يقولون: أخ كريم وابن أخ كريم، فكان كريماً، والكرم من طبعه وخلقه -صلى الله عليه وسلم- قال: { اذهبوا فأنتم الطلقاء }.

يا ربِّ صلِّ على المختارِ ما ضحكَتْ     زواهرُ الرَّوضِ للأنداء والدِيَم

كيف لا يصدقون، وهم ضمن ثلاثين ألفاً يقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ليؤدب الروم في شمال الجزيرة العربية ، وكان له ذلك؟!

كيف لا يصدقون، وهم يرون من كانوا ثلاثة أصبحوا مائة ألف، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الموضع الذي أهين فيه، على الصفا يكبر ويقول: {خذوا عني مناسككم} في حجة الوداع، فيكبر وراءه مائة ألف قد شخصت الأبصار إليه؛ لتعرف نسكها منه صلى الله عليه وسلم، عندها يعلم الجميع في ذلك الوقت وفي هذا الوقت أن العاقبة للمتقين؟!

فليصدق الذين عاهدوا، فالعِبْرَة ليست بكثرة عدد، فمن ثلاثة إلى خمسة، إلى ثلاثمائة، إلى ألف وأربعمائة، إلى عشرة آلاف، إلى ثلاثين ألفاً، إلى مائة ألف؛ ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدواً بعدد، وإنما قاتلهم بما هو أقل من عددهم، لكنها حكمة الله الربانية التي جعلت نقباء الفضل في الناس هم الأقل، كما جعلت الصقر بين الطير هو الأقل: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].

صدقوا ما عاهدوا: وكيف لا يصدقون وقد عاصروا نزول الوحيين، وتلقوا التربية من القدوة المطلقة -صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهم أجمعين- يوم بعثه الله بـمكة ، فأخرج العباد من الظلمات إلى النور بإذن ربه، يوم أخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام؟!

رأوه وهو يقف على الصفا وحيداً فريداً قد اجتمعوا حوله وهو يقول: {إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد} {قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} فأعرضوا وأصروا واستكبروا استكباراً، وقال عمه: تبّاً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فتبت يداه، ثم تبت يداه.

لم يتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ييئس، وما كان له ذلك؛ لأنه يعلم أنه على الحق، ويستمر عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، في عكاظ ومجنة في المواسم، يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلَّغ رسالة ربي وله الجنة؟

فلا يؤويه ولا ينصره أحد، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر، فيأتيه قومه، فيحذرونه غلام قريش لا يفتنه.

حرب إعلامية ضخمة في الصد عن سبيل الله تمارس ضد الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان:

والسرُّ باقٍ والزمانُ مجددٌ     والسيفُ ما فَقَدَ المضِاءَ وما نَبَا

كيف لا يصدقون وقد عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا نفر قليل؛ خمسة أعبد وامرأتان فلم يهن ولم يضعف ولم يستكن، وما كان له ذلك صلوات الله وسلامه عليه، بل جاهد وجالد حتى كثر أصحابه وأوذا كما أوذوي في سبيل الله؛ فما ضعفوا وما وهنوا وما استكانوا، بل صابروا، وهاجروا فراراً بدينهم هجرتين: إلى الحبشة ثم إلى المدينة رضوان الله عليهم أجمعين.

عاصروا وعايشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا له الأعوان والأنصار، آووه وصدقوه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه.

عاصروا محنة الهجرة بقسوتها وشدتها عليهم؛ كيف وهم يفقدون أوطانهم وأهاليهم -مرابع الطفولة وحياتهم كلها- ويرون فوق ذلك قائدهم ورسولهم صلى الله عليه وسلم يقف أمامهم يخاطب مكة بـالحزورة قائلاً: {والله! إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ، ولولا أني أُخْرِجت ما خرجت}.

دموعه تهطل على لحيته صلى الله عليه وسلم؛ فيا لها من قلوب احترقت وهي ترى نبيها على ذلك الحال! ويا لها من قلوب غلبت مصلحة العقيدة ومتطلبات الدعوة على هوى النفس وشهواتها! فما النتيجة؟

أمضى الله لها هجرتها، ولم يردها على أعقابها.

كيف لا يصدقون وقد عاصروا وعايشوا وشاركوا في الصراع بين الحق والباطل، فكانوا ضمن ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً في بدر يقولون: ربنا الله، يقابلون ألفاً يكفرون بالله قد خرجوا بطراً ورئاء الناس، فنصر الله القلة على الكثرة، فيعلو الحق، ويسكنُ الباطل كما قضى الله؟!

ما كبروا الله حتَّى كلُّ ناحيةٍ     ردَّت ورجَّعَ في تكبيرها النغمُ

تجاوبتْ بالصدى الأرجاءُ صائحةً     فالريح تصرخ والقيعانُ والأكمُ

كيف لا يصدقون، وقد عايشوا تجمع الأحزاب من قريظة وقريش، وخذلان أهل النفاق، وتسللهم من الصف مدعين أن بيوتهم عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً، جاءوا من فوقهم ومن أسفل منهم، وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا، ونصر الله جنده بعد ذلك بجندي من جنوده؛ ألا وهو الريح: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]؟!

كيف لا يصدقون وقد عاصروا صلح الحديبية، وقد بلغوا ألفاً وأربعمائة وأكثر من ذلك، فكتب الله لهم الرضوان في بيعة الرضوان كما سطر ذلك القرآن: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح:18]؟!

كيف لا يصدقون وقد كانوا جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم من ضمن عشرة آلاف؛ منهم من أخرج من دياره بغير حق إلا أن قال: ربيَ الله، وإذ بنصر الله يتنزل، فإذا هم عائدون إلى مكة التي أخرجوا منها فاتحين، قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خاشعاً شاكراً لأنعم الله، يقرأ سورة الفتح وهو على راحلته، يطوف بالكعبة، ويستلم الركن بمحجنه كراهة أن يزاحم الطائفين، ثم يحطم الأصنام ويطهر البيت الحرام، ويجيء الحق، ويزهق الباطل، والباطل زهوق كما قضى الله وقدر الله.

وإذ بالذين أخرجوه نكست رءوسهم، خاضعين، أذلة، راكعين، وهو يقول لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقاموا يتملقونه وقد كانوا يؤذونه، يقولون: أخ كريم وابن أخ كريم، فكان كريماً، والكرم من طبعه وخلقه -صلى الله عليه وسلم- قال: { اذهبوا فأنتم الطلقاء }.

يا ربِّ صلِّ على المختارِ ما ضحكَتْ     زواهرُ الرَّوضِ للأنداء والدِيَم

كيف لا يصدقون، وهم ضمن ثلاثين ألفاً يقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ليؤدب الروم في شمال الجزيرة العربية ، وكان له ذلك؟!

كيف لا يصدقون، وهم يرون من كانوا ثلاثة أصبحوا مائة ألف، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الموضع الذي أهين فيه، على الصفا يكبر ويقول: {خذوا عني مناسككم} في حجة الوداع، فيكبر وراءه مائة ألف قد شخصت الأبصار إليه؛ لتعرف نسكها منه صلى الله عليه وسلم، عندها يعلم الجميع في ذلك الوقت وفي هذا الوقت أن العاقبة للمتقين؟!

فليصدق الذين عاهدوا، فالعِبْرَة ليست بكثرة عدد، فمن ثلاثة إلى خمسة، إلى ثلاثمائة، إلى ألف وأربعمائة، إلى عشرة آلاف، إلى ثلاثين ألفاً، إلى مائة ألف؛ ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدواً بعدد، وإنما قاتلهم بما هو أقل من عددهم، لكنها حكمة الله الربانية التي جعلت نقباء الفضل في الناس هم الأقل، كما جعلت الصقر بين الطير هو الأقل: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].

صدقوا ما عاهدوا: صدقوا الله في تلقيهم للقرآن، فتلألأت كلمات القرآن على شفاههم كما تتلألئ الكواكب في صفحات السماء، ملئوا الجوانح بكلام الله؛ فظهر أثر ذلك على الجوارح.

رتَّلوا القرآن ترتيلاً ينمُّ عن التأثر بما يَتْلُونَ، وعلى وعي وحسن فَهْمٍ لما يقرءون، تلذذوا بقراءة القرآن، تعلموه وعلموه، وجعلوه خلقهم، فما من آية تنزل إلا ويرون أنهم المعنيون بها دون غيرهم، ما سمعوا: (يا أيها الذين آمنوا) إلا أصغوا بآذانهم يتلقون ما يؤمرون به؛ ليعملوا به، وما ينهون عنه لينتهوا عنه، فشرح الله صدورهم للإيمان بالقرآن، وأعلى قدرهم، ورفع ذكرهم ودرجتهم.

وقفة مع ثابت بن قيس

يأتي أحدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم هلعاً، فزعاً، جزعاً، ترتعد فرائصه، فيقال له: ما بك؟

قال: أخشى أن أكون هلكت يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: ولِمَ ؟

قال: لقد نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد، ونهانا عن الخيلاء، وأراني أحب الزهو.

فمازال صلى الله عليه وسلم يهدئ من روعه حتى قال: {يا ثابت بن قيس ! ألا ترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة، فتبرق أسارير وجهه ويقول: بلى.

بلى يا رسول الله! فيقول صلى الله عليه وسلم: إن لك ذلك فلا تسل عن حالك}.

ثم تتنزل آية الحجرات يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] وكان رجلاً جهوري الصوت، يلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفارقه، عندها يلزم بيته ولا يكاد يخرج إلا لأداء المكتوبة، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: { من يأتيني بخبر ثابت }، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله!

فانطلق هذا الأنصاري فجاء إليه فإذا هو في بيته منكَّس الرأس، فقال: ما بك يا أبا محمد ؟

قال: شر والله!

قال: وما ذاك؟

قال: تعلم أني رجل جهوري الصوت، وكثيراً ما يعلو صوتي صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علمت ما نزل في كتاب الله، والله! ما أحسبني إلا حبط عملي، وأني من أهل النار.

فيرجع الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! كان من أمره كذا وكذا، ويقول: كذا وكذا.

قال: ارجع إليه فقل له: {لست من أهل النار، أنت من أهل الجنة يا ثابت} فيأتي إليه ليخبره، فلا تسل عن المبشِّر، ولا تسل عن المبشَّر، ولا تسل عن الحال، حال وأي حال.

وإذا به ينتظر تلك البشارة طوال حياته، يجاهد لله، ويجالد لله، وينطلق من معركة إلى معركة، إلى أن يصاب بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أصيب المسلمون؛ ويرتد العرب؛ فيكون في من يردون المرتدين إلى الواحد القهار.

جاء في المعركة، ورأى انخذال المسلمين، ورأى جرأة العدو، تحنط وتكفَّن ووقف على رءوس المسلمين يقول: [[ يا معشر المسلمين! والله ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بئس ما عوَّدتم عدوكم من الجرأة عليكم، وبئس ما عودتم أنفسكم من الانخذال لعدوكم. اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ]].

ثم هبَّ هبَّة الأسد الضاري، فانطلق معه البراء وزيد وسالم ، فنشروا الرعب في قلوب المشركين، وثارت الحمية في قلوب المسلمين، فنصر الله المسلمين، وإذا به يخر صريعاً على تلك الأرض، ينتظر بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعلى علِّيين مثواه.

وقفة مع عباد بن بشر

عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع ونزل المسلمون شعباً من الشعاب ليقضوا ليلتهم، فلما أناخوا رواحلهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يحرسنا الليلة؟ فقام عباد بن بشر ، وعمار بن ياسر -وقد آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقالا: نحن يا رسول الله! ثم خرجا إلى فم الشعب، فقال عباد لـعمار : أتنام أول الليل أم آخره؟ فقال عمار : بل أنام أوله، اضطجع عمار غير بعيد.

بقي عباد يحرس جند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، هدأت العيون، وسكنت الجفون، ولم يبقَ إلا الحي القيوم، عندها تاقت نفس عباد للعبادة، واشتاق قلبه للقرآن، فقام يصلي؛ ليجمع متعة الصلاة إلى متعة التلاوة، وطفق يقرأ سورة الكهف، يسبح مع آيات الله البينات.

ويراه رجل من المشركين يصلي على فم الشعب، فعرف أنه حارس جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لئن ظفرت به لأظفرن بجيش رسول الله صلى الله وسلم على نبينا محمد فوتر قوسه، وتناول سهماً من كنانته، ورماه به فوضعه فيه، فانتزعه عباد من جسده ورمى به، ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالآخر فانتزعه، ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالثالث فانتزعه، وإذا الدماء تنزف منه، فزحف إلى عمار وأيقظه قائلاً: لقد أثخنتني الجراح، عليك بثغر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولَّى المشرك هارباً، وأمَّا عمار فنظر -ويا للهول! أثخنته الجراح، فقال: رحمك الله هلا أيقظتني من عند أول سهم رماك به؟ فقال عباد -واسمعوا إلى ما يقول-: [[ كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أفرغ منها، وايم الله؛ لولا خوفي أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه؛ لكان قطع نفسي أحب إلي من قطعها ]].

لا نامت أعين الجبناء، لا نامت أعين التنابلة والكسالى والبطالين.

يا بنَ الهُدَى! يا فَتَى القرآنِ! دعكَ مِنَ الأوْهَامِ؛ جلجَلَ أمرُ الله أنْ أَفِقِ.

تلذذوا بمناجاة الله في الخلوات، فما عدلوا بذلك شيئاً.

عبَّر أحدهم عن تلك اللذة بقوله: [[ والله لولا قيام الليل بكلام الله ما أحببت البقاء في هذه الدنيا. ووالله! إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص القلب فيها طرباً بذكر الله، حتى أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم ]].

وعبر الآخر عن لذته بمناجاة الله بقوله: والله لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف.

فقال قائل: وما الذي أنتم فيه تتلذذون، وبه تتلذذون؟

قال: لذة مناجاة الله في الخلوات.

هذه حالهم يا متأمل! هذه حالهم يا متبصر! فما حالنا؟

كُثُرٌ ولكنْ عديدٌ لا اعتدادَ بِهِ     جمعٌ ولكنْ بديدٌ غيرُ متَّسِقِ

شككتْ نفسي مهانتكم     أنكمُ يا قومِ منْ مُضَر

خَبِّرُونِي أين حِسِّكُم     لأزْيَد الوَخْز بالإبرِ

نطقنا بالعربية والقرآن فما نكاد نلحن، ولحنا بالعمل فما نكاد نعرب، قنعنا بفصاحة اللسان مع عُجْمة الجنان:

وكانَ البرُّ فعلا دونَ قولٍ     فصارَ البرُّ نُطقاً بالكلامِ

أبو طلحة وجهاده في سبيل الله

إن الصحابة لم يتلذذوا بالقرآن فحسب، بل عملوا بمقتضاه، وطبقوه واقعاً عملياً لا نظير له في تاريخ الأمة، فإذا بك ترى أبا طلحة الأنصاري وهو يسمع قول الله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] فيبادر فيجعل أفضل بساتينه في سبيل الله صدقة؛ يرجو برها وذخرها عند الله.

ليس هذا فحسب، بل يفتح كتاب الله فيقرأ قول الله: انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [التوبة:41] فيقول لأبنائه: جهزوني جهزوني.

يا لله! شيخ كبير نيف على الثمانين لم يعذر نفسه، فيقول أبناؤه: رحمك الله، جاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وصرت شيخاً كبيراً، فدعنا نغزو عنك، قال: والله! ما أرى هذه الآية إلا استنفرت الشيوخ، ثم أبى إلا الخروج لمواصلة الجهاد في سبيل الله، والضرب في فجاج الأرض؛ إعلاء لكلمة الله، وإعزازاً لدين الله.

فيشاء الله يوم علم صدق نيته أن يكون في الغزو في البحر لا في البر ليكون له الأجر مضاعفاً، وعلى ظهر السفينة في وسط أمواج البحار المتلاطمة يمرض مرضاً شديداً يفارق على إثره الحياة، فأين يدفن وهو في وسط البحر؟! ذهبوا ليبحثوا له عن جزيرة ليدفنوه فيها فلم يعثروا على جزيرة إلا بعد سبعة أيام من موته، وهو مسجى بينهم، لم يتغير فيه شيء كالنائم تماماً.

وفي وسط البحر بعيداً عن الأهل والوطن نائياً عن العشيرة والسكن دفن أبو طلحة ، وما يضره أن يدفن بعيداً عن الناس ما دام قريباً من الله عز وجل، ماذا يضره أن يدفن في وسط جزيرة لا أعلمها ولا تعلمها، يوم يجبر الله -بإذن الله- له كل مصاب بالجنة.

لا نامت أعين الجبناء:

ويلٌ لكم هل سِوَى الأكفانِ حُجَّتُكُم     وهلْ يكونُ سوى الأكفانِ حَظَّكُمُ

هيَّا اسلبُوها من الأجْداثِ باليةً     ثم البسوها وقُولُوا الإرثُ إرثُكُمُ

الصحابة وصدقهم مع كتاب الله

صدقوا ما عاهدوا: فكان القرآن فيصلاً في المواقف التي يحار فيها أولو الألباب، ما كانوا يرجعون إلا إلى كتاب الله؛ ففي يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيب المسلمون وفجعوا، وفقد بعض الصحابة الصواب، حتى قال: والله! ما مات، فإذا بـأبي بكر -تربية القرآن- يتلو ويقول: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144] فعلموا بذلك أنه مات، حتى إن بعضهم سقط ما كادت تحمله رجلاه، وحق له ذلك.

ويختلف المسلمون بعد ذلك في من يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المهاجرون: نحن أولى بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعض الأنصار: نحن أولى بها، وقال بعضهم: بل تكون فينا وفيكم؛ منَّا أمير ومنكم أمير، وكادت تحدث الفتنة، ونبي الله ما زال بين ظهرانيهم ولم يدفن بعد، وإذا بأهل القرآن بكلماتهم الناصعة التي تئد الفتنة في مهدها ينطقون، إذا بـزيد بن ثابت رضي الله عنه تربية القرآن يقول: [[يا معشر الأنصار! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، فخليفته مهاجر مثله، وكنا أنصاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنكون أنصاراً لخليفته]] ثم بسط يده إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: هذا خليفتكم فبايعوه؛ فبايعوه ووئدت الفتنة في مهدها.

هذا صدقهم مع كتاب الله، أصلحوا سرائرهم ففاح عبير فضلهم، وعبقت القلوب بنشر طيبهم.

فالله الله في كتاب الله قراءة وتدبراً وعملاً؛ لأننا جعلناه -ومع الأسف- للمآتم صوتاً ومحدثاً، قبَّلناه وأكثرنا تقبيله، وما قبِلناه ولم يلامس شغاف قلوبنا، ادَّعينا حب من أُنزل عليه القرآن، ثم أحدثنا ما أحدثنا، وكل محدث ضلال، ومن عمل عملاً ليس عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدث في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس منه فهو رَدٌّ.

فالله الله في القرآن! والله الله في السرائر والأعمال وفق شرع الرحمن وعلى طريقة خير الأنام! فإنه لا ينفع مع فساد السرائر وتنكُّب الاتباع صلاح ظاهر: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ [الزخرف:43-44].

عقبة بن عامر وطلبه العلم

صدقوا ما عاهدوا: صدقوا في فقههم لدينهم، وفي طلبهم العلم ليعملوا به: {من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين} .. {وخيركم من تعلم القرآن وعلَّمه}.

فإذا براعي الغنم في باديته الذي رأس ماله في الحياة غنيماته يتركها يوم سمع بوصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، يتركها وهي أعز وأنفس ما لديه في تلك الفترة؛ لينطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيشهد شهادة الحق، ويبايع المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم يعود إلى غنيماته، ويسلم معه اثنا عشر راعياً.

اجتمعوا يوماً من الأيام وقالوا: لا خير فينا إن لم نقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفقهنا في ديننا، ويسمعنا ما ينزل عليه من وحي السماء، ثم اتفقوا على أن يمضي كل يوم منهم واحد إلى المدينة ؛ فيتفقه في الدين، ويسمع ما نزل من القرآن، وما نزل من الأحكام، فيرجع فينقله إليهم.

يقول عقبة وهو أولهم: كنت أقول: اذهبوا واحداً تلو الآخر، وأنا أحفظ لمن ذهب غنمه؛ لشدة إشفاقه على غنمه أن يتركها لأحد من الناس، فطفقوا واحداً بعد الآخر يذهبون ويرجعون، فيأخذ عقبة منهم ما سمعوا، ويتلقى عنهم ما فقهوا.

يقول عقبة : ثم ما لبثت بعد ذلك أن رجعت لنفسي، وقلت: ويحك يا نفس! من أجل غنيمات لا تسمن ولا تغني من جوع تفوت على نفسك صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه مشافهة بلا واسطة، والله! لا يكون ذلك، ثم يتنحى عن أنفس ما لديه؛ عن غنمه، لكن إلى الغنيمة، فيلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يمضي معه أينما سار، يأخذ بزمام بغلته، يمضي بين يديه أنَّى اتجه، وكثيراً ما أردفه صلى الله عليه وسلم على دابته، وربما نزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته ليركب عقبة .

جعل يَعُبُّ من مناهل رسول الله صلى الله عليه وسلم العذبة حتى غدا مقرئاً محدِّثاً فقيها فَرَضِياً أديباً فصيحاً شاعراً، بل كان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا هدأ الليل، وسكن الكون، انصرف إلى كتاب الله عز وجل ليقرأ، فتصغي أفئدة الصحابة لترتيله، وتخشع قلوبهم، وتفيض بالدمع أعينهم من خشية الله جل وعلا، حتى كان يدعوه عمر -رضي الله عنه- ويقول: [[اعرض عليَّ شيئاً من كتاب الله. فيجعل يقرأ من آيات الله ما يتيسر وعمر يبكي حتى تبلل دموعه لحيته]].

قاد الجيوش فكان قدوة لكل قائد، وولي ولاية فعدل، ورمى وتعلم الرمي، وجاهد وجالد حتى لقي الله مخلِّفاً تَرِكَة المجاهدين الصادقين، ما تركته؟

إنها بضع وسبعون قوساً، أوصى أن تكون في سبيل الله؛ فرضي الله عنه وأرضاه، وعن جميع أهل القرآن.

أقوالهم في طلب العلم

صدقوا: حتى قيل لأحدهم وقد استغرق طلب العلم وكتابته وتبليغه وقته، قيل له: إلى متى تكتب العلم؟

إلى متى وأنت تكتب في تلك العلوم؟

فقال: لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تكتب بعد.

فلا يدري المرء متى يقول الكلمة، فيهدي الله بها خلقاً كثيراً، ولا يدري المرء متى يقول الكلمة أو يكتب الكلمة الصادقة فتنجيه بين يدي الله. حتى إن أحدهم لتعاتبه زوجته على كثرة شراء الكتب فيقول رادّاً عليها:

وقائلة أنفقتَ في الكتب ما حَوَتْ     يمينُك من مالِ فقلت دعيني

لعلِّي أَرَى فيها كتاباً يَدُلني          لأخذِ كتابِي آمناً بيميني

صدقوا: حتى قيل لأحدهم: بم كنت عالماً من بين أقرانك وأترابك؟

قال: لأني أنفقت في زيت المصباح لأدرس العلم في الكتب مثلما أنفقوا في شرب الخمور، وفرق بين إنسان بالعلم قد زكاها، وآخر بالمعازف ورنات الكئوس والغفلة قد دساها، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].