عوامل بناء النفس


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومن لا غنى له طرفة عين عن رحمته.

وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلِّم تسليماً كثيراً.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم من نفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] ، يا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله أن يجعل هذا الجمع في ميزان الحسنات في يوم تعز فيه الحسنات.

أما بعــد:

أحبتي في الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً تبيِّض وجوهنا يوم نلقى الله يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].. يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106].. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ محْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران:30].. يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ [الفرقان:25].. يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ [الفرقان:27].. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ [الحج:2] يوم الحاقة، يوم الطامة، يوم القارعة، يوم الصَّاخة يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ منْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:24-37].

التباين في بناء النفس

اعلموا أن النفس بطبيعتها -يا أيها الأحبة- طموحة إلى الشهوات واللَّذَّات، كسولة عن الطاعات وفعل الخيرات، لكن في قَمْعِها عن رغبتها عزُّها، وفي تمكينها مما تشتهي ذلها وهوانها؛ فمن وُفِّق لقمْعِها نال المُنَى، ونفسَه بنى. ومن أرخى لها العنان ألْقَتْ به إلى سُبُل الهلاك والردى، ونفسَه هدم وما بنى.

فمن هجر اللذات نال المنى ومن     أكبَّ على اللذات عض على اليد

ففي قمع أهواء النفوس اعتزازها     وفي نيلها ما تشتهي ذلُّ سرمدِ

فلا تشتغل إلا بما يُكسب العلى     ولا ترضَ للنفس النفيسة بالرَّدِي

وعلى هذا فالناس مختلفون في بناء أنفسهم وتأسيسها وتربيتها اختلافاً بيِّناً جليّاً واضحاً، يظهر ذلك في استقبال المِحَن والمِنَح، والإغراء والتحذير، والنعم والنِقَم، والترغيب والترهيب، والفقر والغنى؛ فمنهم من أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ فلا تضره فتنة، ولا تُزَعْزعُه شبهة، ولا تغلبه شهوة، صامد كالطود الشامخ، فهم الحياة نعمة ونقمة، ومحنة ومنحة، ويسراً وعسراً، ثم عمل موازنة، فوجد أن

الدهر يومان ذا أمن وذا خطر     والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر

فضبط نفسه في الحاليْن؛ فلم يأسَ على ما فات، ولم يفرح بما هو آتٍ؛ فلا خُيَلاء عند غنى، ولا حزن عند افتقار، لا يبطر إن رَأَس، ولا يتكدر إن رُئِس، يقلق من الدنيا، ولا يقلق على الدنيا أبداً، يستعجل الباقية على الفانية؛ فتجده راضي النفس، مطمئن الفؤاد، إن هذا الصنف من الناس صنف قيِّم كريم، لكنه قليل قليل، وما ضره أنه قليل وهو عزيز؛ فمثله كالشجرة الطيبة، عميقة الجذور، ثابتة الأصول، مفيدة الفروع، لا تزعزعها الأعاصير، ولا تنال منها العواصف، والسر إنه الإيمان، الذي إذا خالطت بشاشته القلوب ثبت صاحبه، واطمأن وضرب بجذوره فلا تزعزعه المِحَن، ولا تؤثر فيه الفتن؛ بل يُكِنُّ الخير ويجني الفوائد، شجر بثمر، لسان، حال هذا الصنف:

أنا الحسام بريق الشمس في طرفٍ مني      وشفرة سيف الهند في طرف

فلا أبالي بأشواك ولا مِحَنٍ     على طريقي ولي عزمي ولي شغفي

ماض فلو كنت وحدي والدُّنَا صرخت     بي قف لسرت فلم أُبطئ ولم أقفِ

وهذه نماذج من هذا الصنف العزيز الشامخ القليل، جديرة بالتأمل، أضعها بين أيديكم، وهي قليل من كثير.

سعد بن الربيع بناء ثابت

هاهو مجاهد، جريح من جرحى أحد به سبعون ضربة؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، لم يبقَ له في هذه الدنيا وما فيها من أهل ومال ومتاع إلا لحظات. فيمَ كان يفكر هذا الشخص؟ وما الذي كان يشغل باله؟

اسمع ما رواه الحاكم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع رضي الله عنه وأرضاه في القتلى، وقال لي: {إن رأيته فأقرِئْه مني السلام، وقل له: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني كيف تجدك؟} قال زيد : فجعلت أبحث عنه في القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق، به سبعون ضربة؛ ما بين طعنة رمح، وضربة سيف، ورمية سهم، فقلت له: يا سعد ! إن رسول الله يقرؤك السلام، ويقول: أخبرني كيف تجدك؟ قال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام وعليك السلام، قل له: إني -والله- لأجد رائحة الجنة -ليس هذا موضع الشاهد، ولكن اسمع ماذا قال؟- وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يُخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، ثم فاضت روحه رحمه الله.

ثبت سعد وعلَّم غيره دروس الثبات وهو يودِّع الدنيا، فما أوصى بأهل، وما أوصى بمال، كان همُّه أعلى وأغلى وأحلى، همُّه الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم؛ فرَضِيَ الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأوانا ومأواه.

ولئن انتقلت بعيداً عن هذا لوجدت الخير في الأمة لا يزال وسيبقى بإذن الله عز وجل.

الزهري لا تغيره محنة أو منحة

ها هو الزهري عليه رحمة الله ذلكم المحدث الكبير الذي يدخل على هشام بن عبد الملك ، فيقول هشام للعلماء -وكانوا حوله-: من الذي تولى كِبر الإفك في حادثة الإفك؟ -وكان هشام يدعي أن الذي تولى كبره هو علي رضي الله عنه وأرضاه، فقال هشام لـسليمان بن يسار : من الذي تولى كبره؟ قال: ابن أُبيّ ، فقال هشام: كذبت، هو علي بن أبي طالب ، فقال سليمان : الأمير أعلم بما يقول، ثم قال للآخر: من الذي تولى كبره؟ فأجابه وكذَّبه.

ثم وصل الدور إلى الإمام الزهري عليه رحمة الله ذلكم الرجل الذي نحسب أنه أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، فقال له هشام : من تولى كبره؟ قال: ابن أُبيّ -عليه من الله ما يستحق- قال: كذبت، فانتفض الإمام الزهري ، وقال: أنا أكذب لا أبا لك! والذي لا إله إلا هو لو نادى منادٍ من السماء: أن الكذب حلال ما كذبت، والذي لا إله إلاَّ هو لقد حدثني سعيد وعروة وعبيدة وعلقمة عن عائشة بأن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي ، فارتعد هشام وانتفض، وقال: هيَّجناك يا إمام سامِحْنا، سامِحْنا.

إنه الثبات! وإنه بناء النفس الذي لا يضره أي موقف يتعرض إليه من محنة أو منحة!

وقبل هذا وذاك أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم.

يوسف عليه السلام الثبات بكل معانيه

هاهو يوسف عليه السلام في عنفوان شبابه، وفي قمة نضجه؛ تخرج وتبرز إليه امرأة العزيز الجميلة، بأبهى حُلَّة، متعطرة، متبهرجة، مبدية لمفاتنها، قد غلَّقت الأبواب، ودَعَتْهُ بصريح العبارة ولم تُكنِّ، فقالت: هَيْتَ لَكَ [يوسف:23] أقبل قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].

ولم تقتصر الفتنة عند ذلك؛ بل ازدادت سعيراً حين شملت نساء عِلْيَة القوم؛ حين أُعجِبْنَ بيوسف -عليه السلام- وفُتِنَّ برجولته وجماله؛ فأخذن يطاردْنَه يُردْنه أن يعمل بهن الفاحشة، وتبلغ الأمور ذروتها يوم تأتي امرأة العزيز تهدده، وتقول: وَلَئِن لمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونن من الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] فماذا رد؟ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33].

إنه ثبات أنبياء الله أمام الشهوات وأمام التهديدات، عليهم صلوات الله وسلامه، وهم الأسوة والقدوة.

إنه الثبات بكل معانيه، والثبات بكل مبانيه أمام الشهوات وأمام الشبهات، والذي لا يوفَّق له إلا مَنْ علم صدقَه ربُّ الأرض والسماوات.

الإمام أحمد ذهب أحمر

لا يَخْفَاكُم إن خَفَاكُم شيء ما لقيه الإمام أحمد في سبيل عقيدته من أذى وتعذيب، تُخلَع يداه، ويُجلد السياطَ الكثيرة، يختار الظالمون له عدداً من قساة القلوب، وغلاظ الأفئدة ليجلده كل واحدٍ منهم سوطيْن بكل ما أوتي من قوة، وهم يتعاقبون عليه، وهو ثابت كالطَّوْد الأشمِّ، لا يتراجع أبداً، يغمى عليه من شدة التعذيب ثم يفيق، فيعرض عليه الأمر فلا يتراجع، حتى انتصر بإيمانه وبناء نفسه، وبتوفيق الله قبل هذا وذاك، وكان انتصاره دليلاً على الإخلاص والعزم والقوة.

لقد خرج الإمام من المحنة خروج السيف من الجلاء، والبدر من الظلماء، أُدخل في الكِير فخرج ذهباً أحمر، وتواطأت القلوب على محبته، حتى أصبح حبه شعاراً لـأهل السنة . فأين الذين عارضوه؟ وأين الذين عذَّبوه؟ وأين الذين نالوا منه؟ ذهبوا إلى ما قدموا.

وبقي حيّاً بذكره، والذكر للإنسان عمر ثانٍ، والبغي مهما طال عدوانه، فالله من عدوانه أكبر.

العز بن عبد السلام الإباء والاستعلاء

وتتعاقب النماذج الثابتة المبنية في هذه الأمة، والخير فيها ولو خلت لانقلبت -كما قيل-.

ويتحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين، والثمن تسليم ديار المسلمين، فشهد ذلك الأمر العز بن عبد السلام ، وشقَّ عليه الأمر، شقَّ على سلطان العلماء ، فأنكر ذلك أيَّما إنكار، وترك الدعاء لـإسماعيل ، وعندئذٍ كتب جواسيس السلطان الذين بثَّهم لاستراق السمع بذلك، ورفعوا التقارير الظالمة، وحرَّفوا القول وزخرفوه، فجاء كتاب السلطان باعتقال العز بن عبد السلام عليه رحمة الله.

فسجن وضُيِّق عليه، ثم أطلق ومُنع من الخطابة والتدريس، ومُنع من الاجتماع إليه، وخرج مهاجراً إلى أرض مصر ، فأرسل له السلطان رسولاً وطلب منه التلطف مع العز ، وعرض عليه بعض الأمور علَّه أن يلين أو يَهِن أو يضعف. وقال: إن وافق فذلك، وإن خالف فاعتقله في خيْمة بجانب خيْمتي.

فذهب رسول السلطان إلى سلطان العلماء ، وقال له: يا إمام! بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان، وتقبل يده لا غير، فأبى سلطان العلماء إلا الثبوت على محض الحق، وقال قولاً خرَّ من هوله ذلك الرسول صعقاً. قال : يا مسكين! والله الذي لا إله إلا هو ما أرضى أن يقبل السلطان يدي فضلاً عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.

فأرغى رسول السلطان وأَزْبَدَ وهدده، وأعلن اعتقال الشيخ على الملا، فقال الشيخ: افعلوا ما بدا لكم، فاعتقلوه في خيمة بجانب خيمة السلطان، فأخذ الشيخ يرتل آيات الله البينات، يتصل بالله عن طريق التعبد بكلام الله.

وكان بعض ملوك الصليبيين عند ذلك السلطان، فقال هذا السلطان: أتسمعون هذا الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم. قال: هذا أكبر رجل دين في المسلمين، وقد حبسته وعزلته عن الخطابة والتدريس من أجلكم، فلما سمع ملوك الفرنجة هذه الميوعة الرخيصة من ذلك السلطان أرادوا أن يهينوه ويُذلُّوه؛ لأنه هان واستمرأ الهوان فقالوا: والله لو كان هذا قسيسنا لغسَّلنا رجليْه وشربنا مرقتها.

ثم انتصر المسلمون بعد ذلك على الصليبيين، ونجَّى الله الشيخ من كيد الشيطان وحزبه، فدخل مصر آمناً لم يقدم تنازلاً، وازداد في الحق صلابة، فرحمه الله.

إنه بناء النفوس، إنه الإباء والاستعلاء، إنها ليست كبرياء إنما هي عزة العقيدة وعلو الراية ولاشك، ولقد تعرض البناة لأنفسهم في كل العصور لمواقف فنجحوا فيها بفضل الله.

بناء النفس يظهر في الفتن

أحدهم يصدع بكلمة الحق فيشْرَق بها المنافقون والظالمون، ويذيقونه في سبيلها ألواناً شتى من التعذيب في السجن لا تضاهيها إلاَّ ألوان التعذيب في محاكم التفتيش في القرون الوسطى، كانوا يسلطون عليه الكلاب بعد تجويعها، فتطارده الساعات، ثم تنقض على لحمه، تنهشه نهشاً إذا توقف عن الجري وهو صابر ثابت، معتصم بالله، لم يرده ذلك عن هدفه، ولم يصده عن بغيته وغايته، فأغاظهم ذلك فماذا يفعلون؟

حكموا عليه بالقتل، وتلك -والله- فتنة أيما فتنة، ثم جاءه الإغراء أن استرحِمْ ذلك الظالم ليخفف عنك الحكم، فقال في إباء واستعلاء: لئن كنت حوكمت بحقٍ فأنا أرتضي الحق، وإن كنت حوكمت بباطل؛ فأنا أعلى من أن أسترحم الباطل، إن إصبعي التي تشهد لله بالوحدانية كل يوم مرات لترفض أن تقر حكم ظالم أيّاً كان ذلك الظالم ثم يقاد إلى حتفِه، ولسان حاله:

الله أسعدني بظل عقيدتي     أفيستطيع الخلق أن يشقوني

ويأتي أحد علماء السوء الذين باعوا دينهم بعرَضٍ من الدنيا، وما بنَوْا أنفسهم ليلقنه كلمة التوحيد التي يُقاد إلى الموت من أجلها، فيقول له: قل: لا إله إلا الله فيتبسم تبسم المغضب، ويقول: يا مسكين! أنا أقاد إلى الموت من أجل لا إله إلا الله، وترجع أنت لتأكل فتات الموائد بلا إله إلا الله، لا نامت أعين الجبناء.

إنه البناء الحقيقي للأنفس، إنها الثقة بأنهم على الحق، إنها الثقة بغلبة دين الهدى على دين الهوى وبقوة الله على كل القوى.

لا تظنوا -يا أيها الأحبة- أن البناء في الرجال فقط، إنه كذلك في النساء والأطفال.

محمد بن عاصم وبذله من أجل العقيدة

هاهو أحد المحدثين بـخراسان ، واسمه محمد بن عاصم عليه رحمة الله له بُنيات صغار، لا ولد ذكر يقوم عليهن، انتقل إلى بغداد يوم سمع بمحنة الإمام أحمد ليحدث الناس، ويسد ثغرة قد فُتِحَت في ذلك البلد، ترك بنياته بـخراسان ، وسمع في بغداد بتلك المحنة، فانطلق إلى الإمام أحمد ، وقد علم أنه سُجن وعُذِّب وأوذي في الله عز وجل، فقال لأصحابه - وهو يحدث يوماً من الأيام في حلقته-: ألا نقوم فنقول كلمة الحق؟ وقام ليقولها، وتذكر بنياته اللاتي تركهن في خراسان ، وعلم أن رجلاً يقوم ليقول كلمة في ذلك المقام ما عاقبته إلا الموت.

وهو في هذا الصراع مع نفسه يأتيه كتاب من بنيَّاته يقلن له: يا أبانا! إنا قد سمعنا أن الرجل قد دعا الناس إلى القول بخلق القرآن، وإنا نأمرك بألا تجيب؛ فوالذي لا إله إلا هو -يا أبانا- لأن يأتينا نعْيُك أحبُّ إلينا من أن نسمع أنك قلت بخلق القرآن.

الله أكبر! إنه البناء في أوساط النساء، وفي أوساط البنات، وفي أوساط الرجال، أُسَرٌ لم تعرف إلا ربها فهان في سبيله كل شيء، واستعذب في سبيله كل صعب .

كل بذل إذا العقيدة ريعَتْ     دون بذل النفوس بذل زهيد

مسلم يا صعاب لن تقهريني     في فؤادي زمازم ورعود

لا أبالي ولو أُقيمت بدربي     وطريقي حواجز وسدود

من دمائي في مقفرات البراري     يطلع الزهر والحيا والورود

هذه سمة المؤمنين، الاطمئنان إلى الله يملأ نفوسهم فيبنيها، يحرك جوارحهم فيقوِّيها، لا يستمدون تصوراتهم وقِيَمَهم وموازينهم من الناس، وإنما يستمدونها من رب الناس؛ فأنى يجدوا في أنفسهم وهناً عند محنة أو عند منحة أو عند شهوة، أو يجدوا في قلوبهم حزناً على فائت من الدنيا؟

إنهم على الحق؛ فماذا بعد الحق إلاّ الضلال، وليكن للباطل سلطانه، وليكن له هيله وهيلمانه، وليكن معه جمعه وجنوده، إن هذا لا يغير من الخطب شيئاً.

هذا هو الصنف الأول من الناس، ممن أسَّسَ بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ هامات لا تنحني، وقامات لا تنثني، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل هذا الصنف.

اعلموا أن النفس بطبيعتها -يا أيها الأحبة- طموحة إلى الشهوات واللَّذَّات، كسولة عن الطاعات وفعل الخيرات، لكن في قَمْعِها عن رغبتها عزُّها، وفي تمكينها مما تشتهي ذلها وهوانها؛ فمن وُفِّق لقمْعِها نال المُنَى، ونفسَه بنى. ومن أرخى لها العنان ألْقَتْ به إلى سُبُل الهلاك والردى، ونفسَه هدم وما بنى.

فمن هجر اللذات نال المنى ومن     أكبَّ على اللذات عض على اليد

ففي قمع أهواء النفوس اعتزازها     وفي نيلها ما تشتهي ذلُّ سرمدِ

فلا تشتغل إلا بما يُكسب العلى     ولا ترضَ للنفس النفيسة بالرَّدِي

وعلى هذا فالناس مختلفون في بناء أنفسهم وتأسيسها وتربيتها اختلافاً بيِّناً جليّاً واضحاً، يظهر ذلك في استقبال المِحَن والمِنَح، والإغراء والتحذير، والنعم والنِقَم، والترغيب والترهيب، والفقر والغنى؛ فمنهم من أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ فلا تضره فتنة، ولا تُزَعْزعُه شبهة، ولا تغلبه شهوة، صامد كالطود الشامخ، فهم الحياة نعمة ونقمة، ومحنة ومنحة، ويسراً وعسراً، ثم عمل موازنة، فوجد أن

الدهر يومان ذا أمن وذا خطر     والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر

فضبط نفسه في الحاليْن؛ فلم يأسَ على ما فات، ولم يفرح بما هو آتٍ؛ فلا خُيَلاء عند غنى، ولا حزن عند افتقار، لا يبطر إن رَأَس، ولا يتكدر إن رُئِس، يقلق من الدنيا، ولا يقلق على الدنيا أبداً، يستعجل الباقية على الفانية؛ فتجده راضي النفس، مطمئن الفؤاد، إن هذا الصنف من الناس صنف قيِّم كريم، لكنه قليل قليل، وما ضره أنه قليل وهو عزيز؛ فمثله كالشجرة الطيبة، عميقة الجذور، ثابتة الأصول، مفيدة الفروع، لا تزعزعها الأعاصير، ولا تنال منها العواصف، والسر إنه الإيمان، الذي إذا خالطت بشاشته القلوب ثبت صاحبه، واطمأن وضرب بجذوره فلا تزعزعه المِحَن، ولا تؤثر فيه الفتن؛ بل يُكِنُّ الخير ويجني الفوائد، شجر بثمر، لسان، حال هذا الصنف:

أنا الحسام بريق الشمس في طرفٍ مني      وشفرة سيف الهند في طرف

فلا أبالي بأشواك ولا مِحَنٍ     على طريقي ولي عزمي ولي شغفي

ماض فلو كنت وحدي والدُّنَا صرخت     بي قف لسرت فلم أُبطئ ولم أقفِ

وهذه نماذج من هذا الصنف العزيز الشامخ القليل، جديرة بالتأمل، أضعها بين أيديكم، وهي قليل من كثير.

هاهو مجاهد، جريح من جرحى أحد به سبعون ضربة؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، لم يبقَ له في هذه الدنيا وما فيها من أهل ومال ومتاع إلا لحظات. فيمَ كان يفكر هذا الشخص؟ وما الذي كان يشغل باله؟

اسمع ما رواه الحاكم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع رضي الله عنه وأرضاه في القتلى، وقال لي: {إن رأيته فأقرِئْه مني السلام، وقل له: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني كيف تجدك؟} قال زيد : فجعلت أبحث عنه في القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق، به سبعون ضربة؛ ما بين طعنة رمح، وضربة سيف، ورمية سهم، فقلت له: يا سعد ! إن رسول الله يقرؤك السلام، ويقول: أخبرني كيف تجدك؟ قال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام وعليك السلام، قل له: إني -والله- لأجد رائحة الجنة -ليس هذا موضع الشاهد، ولكن اسمع ماذا قال؟- وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يُخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، ثم فاضت روحه رحمه الله.

ثبت سعد وعلَّم غيره دروس الثبات وهو يودِّع الدنيا، فما أوصى بأهل، وما أوصى بمال، كان همُّه أعلى وأغلى وأحلى، همُّه الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم؛ فرَضِيَ الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأوانا ومأواه.

ولئن انتقلت بعيداً عن هذا لوجدت الخير في الأمة لا يزال وسيبقى بإذن الله عز وجل.