خطب ومحاضرات
نظرات في غزوة تبوك
الحلقة مفرغة
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرَح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أَعْيُناً عُمْياً وآذاناً صُماً وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]..
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعـد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً تُبَيِّض وجوهنا يوم نلقى الله يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
ثم اعلموا علم يقين أن حكمة الله اقتضت أن يكون الحق والباطل في خلاف دائم وصراع مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، فمذ بَزَغَ نجم هذا الدين وأعداؤه من يهودٍ ونصارى ومشركين يحاولون القضاء عليه بكل ما يستطيعون: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوكَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32].
حاول أعداء هذا الدين القضاء عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فما أفلحوا، وحاولوا في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فما أفلحوا، ثم في العصور المُتَأَخرة إلى وقتنا هذا وهم يحاولون دائبين؛ بالعنف والصراع المُسلح تارة، وبالمكر والخداع والخطط والمؤامرات تارة أخرى، ولسنا مجازفين -والله- عندما نقول ذلك؛ فالله يقول: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] والله جل وعلا يقول: وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] .
هذه شهادة الله على أعدائنا بما يريدونه منا، وأَيُ شهادة أعظم من شهادة الله وأصدق، والتاريخ في ماضيه وحاضره يشهد بذلك، لكن أنَّى لهم أن يفلحوا ما تمسَّكنا بكتابنا وسُنَّةِ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم.
كلُّ العِـدَا قَدْ جَـنَّدوا طَاقَاتِهِم ضِدَّ الهُدَى والنُّورِ ضِدَّ الرِّفْعَةِ |
إِسلامُنا هُـَودِرْعُـنَا وَسِـَلاحُنَا ومنارنا عَبْرَ الدجى فِي الظُّلْمَةِ |
هُـَوبِالعَـقِيدةِ رَافِعٌ أَعْلامَهُ فَامْشِ بِظِلِّ لِوَائهَـا يَا أُمَّتِي |
لا الغَـْربُ يَقصِد عِزَّنَاكَلا ولا شَــرْقُ التَحَلُّلِ إنَّهُ كَالحَـيَّةِ |
الكُلُّ يَقْـصدُ ذُلَّـنَا وهَوَانَنَا أَفَغَـيْرُ رَبِّي مُنْقِـذٌ مِنْ شِدَّةِ |
عبادَ الله: يوم يُقلِّب المرء صفحات الماضي المجيد، ويتدبر القرآن الكريم، ثم ينظر لواقعنا، ويقارنه بماضينا، يتحسر يوم يَجِد البَوْن شاسعاً والفرق عظيماً، يتحسر يوم يرى تلك الأمة وقد كانت قائدة وإذا بها قد أصبحت تابعة، ثم يدرك أن السبب هو بُعدنا عمَّا كان عليه أسلافنا، ويتساءل المرء: متى ينزاح هذا السواد الحالِك من الذل والمسكنة؟
متى يَنْبَرِي للأَمَّة أمثال خالد وصلاح والقعقاع؟
متى تُحيَا في القلوب آل عِمران والأنفالُ وبَرَاءة؟
قُلْ: عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً:
وإنَّا لنرجُو اللهَ حتَّى كأنَّما نَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللهُ صَانِعُ |
عَوداً والعَود أحمد، عَوداً سريعاً إلى الماضي المجيد لنستلهِم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر، عَوداً لسيرة من لم يطْرق العالم دعوة كدعوته، ولم يُؤَرِّخ التاريخ عن مُصلِح أعظم منه، ولم تسمع أُذن عن داعية أكرم منه:
رُوحِي الفِدَاءُ لِمَنْ أَخْلاقُهُ شَهِدَتْ بِأَنَّهُ خَـيْرُ مَبْعُـوثٍ مِنَ البَشَرِ |
عَمَّتْ فَضَائِلُهُ كُلَّ البِــلادِ كَمَا عَمَّ البَرِيَّةَ ضوء الشَّمسِ والقَمَرِ |
صلوات الله وسلامه عليه ما هَطَلَتْ الغمائم بتهتان المطر، وما هَدَلَتْ الحمائم على أفنان الشجر.
العَيْش في سيرته عَيْشٌ رَغِيد سعيد ؛ هِداية ونور وحبور وبِشْر وسرور، ما أحرانا ونحن في هذه الأيام العَصِيبة أن نخترق أربعة عشر قرناً ؛ لنعيش يوماً من أيام محمد صلى الله عليه وسلم، بل ساعة من سُوَيْعاته الثمينة؛ لنأخذ العِبرة والدروس من تلك الساعة في هذه الساعة:
اقرءوا التَّارِيخَ إِذْ فيه العِــبَرْ ضَلَّ قَوْمٌ لَيْسَ يَدْرُونَ الخَــبَرْ |
عَوْداً بكم إلى السنة التاسعة للهجرة والعود أحمد؛ لنعيش معكم أحداث غزوة العسرة التي تساقط فيها المنافقون، وثبت فيها المؤمنون، وذَلَّ فيها الكافرون.
ما السبب وما الأحداث؟ ما آيات النبوة فيها؟ ما الدروس المستفادة؟ إليكموها، فاسمعوها وعُوها واعتبروا بما فيها.
واسألوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحمدياً |
بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم ؛ لكونه قد أذاقهم مرارة غزوة مؤتة التي جلبوا لها مائتيْ ألف، ولم يتمكنوا من إبادة ثلاثة آلاف مقاتل ؛ بل ولا هزيمتهم، فيا للَّه!!
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا |
عند ذلك أعلن النبي صلى الله عليه وسلم ولأول مرة عن مقصده، وأعلن التعبئة العامة فتجهز أقوام وأبطأ آخرون، تجهز ثلاثون ألف مقاتل قد باعوا أنفسهم من الله، وأعلنوا نصرة لا إله إلا الله.
موقف المنافقين من غزوة تبوك
هاهو أحد المنافقين يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم له: هل لك في جلاد بني الأصفر؟ -أي: الروم- فيقول: يا رسول الله!! ائذن لي ولا تفتني؛ فوالله! لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجباً بالنساء منِّي، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر: (فر من الموت وفي الموت وقع).
أعرض عنه صلى الله عليه وسلم وعذَره، لكن الذي يعلم خائنة الأعين، والذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فَضَحَهُ وأذلَّه وأنزل فيه قرآناً يُتلى: ومِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لي ولاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49].
ويتخلف أناس آخرون عن الخروج، لا رغبةً بأنفسهم عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن غلبتهم نفوسهم لصعوبة الظرف واشتداد الحر، قد آن أوان الرطب وظلال الأشجار، فاعتذروا بعد عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَبِل عُذْرَهم، وتاب الله عليهم وأرجأ توبة ثلاثة منهم امتحاناً لهم فَمُحِصُوا حتى: ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظَنُّوا أَلاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّه تَّوَّابُ رَّحِيمُ [التوبة:118].
ويأتي سبعة رجال مؤمنون صادقون، لكنهم فقراء لم يجدوا زاداً ولا راحلة، وعز عليهم التخلف، نياتهم صادقة لكن ليس هناك عدة، فأتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: يا رسول الله! لا زاد ولا راحلة، ويبحث لهم صلى الله عليه وسلم عن زاد وراحلة فلا يجد ما يحملهم عليه فيرجعوا: وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون يالله! ظلّ السيف للمسلم مثل ظل حديقة خضراء، تنبت حولها الأزهار.
وتدنو ثمار المدينة ويشتد الحر، ويبتلي الله من يشاء من عباده: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] ويخرج صلى الله عليه وسلم ويستخلف على أهل بيته علياً رضي الله عنه، ويخيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثنية الوداع ومعه ثلاثون ألفاً.
ويأتي المنافقون الذين لا يتركون دسائسهم وإرجافهم على مر الأيام يلاحقون أهل الخير والاستقامة، يلمزون ويهمزون ويتندرون ويسخرون -سخر الله منهم- ويستهزئون -والله يستهزئ بهم- يأتون إلى علي رضي الله عنه ويقولون: ما خلفك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا استثقالاً لك؟ يريد التخفف منك، وعلي بَشَرٌ، تأثَّر لذلك، ولبس دِرعه، وشَهَرَ سيفه يريد الجهاد في سبيل الله، ويلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتنق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: {يا رسول الله! زَعَم الناس أنك استثقلتني فخلفتني في النساء والصبيان؟ فتهراق دموعه صلى الله عليه وسلم ويقول: كذبوا يا
يَدعُـو جَهاراً لا إلهَ سِوى الذِي خَلَقَ الوُجُـودَ وقَـدَّرَ الأقْـدَارَا |
وقبل مسير الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم تقوم فرقة للصَدِّ عن سبيل الله، تُثبِّط الناس بعد أن اجتمعوا في بيت أحدها، تقول- وهي تزهد في الجهاد-: لا تنفروا في الحَرِّ، تشكك في الحق وترجف برسول الحق، ويتولى الحق سبحانه الرد: وقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوكَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81] هم في مؤامرة الصَدِّ عن سبيل الله، ويأمر صلى الله عليه وسلم بإحراق البيوت عليهم، ويُنَفِّذُ ذلك الأمر طلحة رضي الله عنه؛ فيقتحمون الأسوار خوفاً من نار الدنيا، فتنكسر رِجل أحدهم، ويفِرُّ الباقون:
ويَعِزُّ جُنْدَ الحق رغم أنوفهـم ويخيب كل منافق خَوَّان |
مرور النبي صلى الله عليه وسلم بديار ثمود
ديار غضب الله على أهلها، فتلك بيوتهم خاوية، وآبارهم معطَّلة، وأشجارهم مقطَّعة، فيدخلها وقد غطَّى وجهه وهويبكي، ويقول لجيشه: {لا تدخلوها إلا باكين أو مُتباكين لئلا يصيبكم ما أصابهم}.
يا لله!! هذه أرض سكنها الظَلَمَة، فقولوا لي بالله في من يجالس الظَلَمَة، ويؤيد الظَلَمَة، ويركَن إلى الظَلَمَة، ويكون لهم أنيساً ولساناً وصاحباً؛ كيف يكون حاله؟! ألا يخاف أن يغضب الله عليه ؛ فيأخذه أخذ عزيز مقتدر وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113].
ويستسقي الناس من بئر في ديار ثَمُود فيقول صلى الله عليه وسلم: {لا تشربوا من مائها، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما عَجَنتم من عجين بمائها فاعْلِفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً} ففعلوا امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع الغروب يُعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها سوف تَهُبُّ رياح شديدة، فلا يخرج أحد من مُخَيَّمِه إلا مع صاحب له حتى تهدأ الريح، وخالف أمره رَجُلان من المسلمين، لضَعف في إيمانهم، خرج أحدهم ليقضي حاجته فخَنَقَتْه الجِنُّ عند حاجته، وخرج الآخر في طلب بَعِير له، فاحْتَمَلته الريح حتى طرحته في جبال طيء، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي أُصيب بخَنْق الجِنِّ، فَشُفِي، فكانت هذه آية من آيات نبوَّته صلى الله عليه وسلم وأمَّا الآخر: فسُلِّم للنبي صلى الله عليه وسلم عند عودته إلى المدينة .
حفظ أبي قتادة للرسول صلى الله عليه وسلم
يقول أهل العلم: فوالله مازال أبوقتادة محفوظاً بحفظ الله في أهله وذريته ما أصابهم سوء حتى ماتوا.
وهذا درس عظيم، فإن من حفظ الله حفظه الله فلا خوف عليه، إن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
علامة من علامات النبوة
يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {هي في هذا الوادي في شعب كذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانْطَلِقُوا حتى تأتوني بها} فذهبوا فوجدوها كما ذكر صلى الله عليه وسلم وظهرت آية نبوته؛ وفُضِحَ هذا المنافق؛ وطُرِدَ عدو الله من جيش محمد صلى الله عليه وسلم.
أبو ذر يلحق بالجيش
وتمضي الأيام على هذه المقولة، وتمضي الأعوام، ويُنْفَى أبو ذر إلى الربذة ، ويحضره الموت هناك، وليس معه إلا امرأته وغلامه، وقبل موته أوصاهما: أن يُكَفِّنَاه ويُغَسِّلاه، ويضعاه على الطريق، وأول ركب يمر بهم يقولون: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه.
ويفعلان ذلك، ويأتي عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق ؛ ليعتمروا، وما راعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق، كادت الإبل أن تطأها، عندها قام غلام أبي ذر وقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، فاندفع عبد الله بن مسعود باكياً يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تمشي وحدك وتموت وحدك} ثم نزل هو وأصحابه فدفنوه، ودموعهم تَهْراق على خدودهم.
وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روحٌ تسيل فتَقْطُرُ |
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على معاوية الليثي في تبوك
روى البيهقي من حديث يزيد بن هارون أنَّه صلى الله عليه وسلم لما نام ليلة في تبوك أتاه جبريل عليه السلام وقال: {يا رسول الله! قم صَلِّ صلاة الغائب على معاوية بن معاوية الليثِي فقد تُوفِى بـالمدينة} من يا ترى معاوية؟
عابد صالح يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه، وكأنَّه صلى الله عليه وسلم يتساءل لِمَ؟
فأُخْبِر أنَّه كان يقرأ: قُلْ هُو اللهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] قائماً وقاعداً وعلى جنب؛ بالليل والنهار، وقد تُوفِي بـالمدينة وصُلِّيَ عليه هناك، وشهد الصلاة عليه صفان من الملائكة، في كل صف سبعون ألف ملك، فلا إله إلا الله، قام صلى الله عليه وسلم وصلَّى عليه، وكان قد سافر صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وهو مريض فهنيئاً له دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم وصلاة الملائكة عليه.
دفن النبي صلى الله عليه وسلم لذي البجادين في تبوك
إنه أحد الصحابة، حلت به سكرات الموت بالليل، فقام صلى الله عليه وسلم وشهد موته، وودعه ودعا له، وحفر قبره بيده الشريفة وأيقظ أبا بكر وعمر.
يقول ابن مسعود: {فو الذي لا إله إلا هو! ما نسيت قوله صلى الله عليه وسلم وهو في القبر، وقد مد ذراعيه لـ
إنه صحابي جليل، أسلم وكان تاجراً، فأخذ قومه أهله ماله؛ لأنه آمن وهم يريدون له الكفر، أخذوا حتى لباسه، فذهب فما وجد لباساً غير شملة قطعها إزاراً ورداء - بجادين- وفر بدينه يريد الله والدار الآخرة.
قدم على المصطفىصلى الله عليه وسلم ذوالبجادين ، وأُخبِرَ صلى الله عليه وسلم بخبره: {فقال: تركت مالك لله ورسوله، أبدلك الله ببجاديْك إزاراً ورداء في الجنة، أنت
ويقيم صلى الله عليه وسلم بـتبوك ويدنو من الروم ويفزعهم، ويكاتب رسلهم، ويفرض عليهم الجزية، وهم صاغرون، ولم يلق كيداً منهم؛ لأن الله قد نصره بالرعب مسيرة شهر، فلم يقرب إليه الروم خوفاً وفزعاً، وقد كانوا قبل قد عزموا على غزوه في عقر داره: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً [الطارق:16-18].
القبض على ملك دومة الجندل
قدم خالد بالـأكيدر ، وحقن دمه صلى الله عليه وسلم وضرب عليه الجزية، ولكنه مجرم، ولو علم الله فيه خيرا لأسمعه، نقض العهد في عهد أبي بكر، فقتله خالد رضي الله عنه وأرضاه.
وهكذا نصر الله جنده وأولياءه ورسله وعباده في الحياة الدنيا، وينصرهم يوم يقوم الأشهاد.
تساقط المنافقون: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة:41].
هاهو أحد المنافقين يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم له: هل لك في جلاد بني الأصفر؟ -أي: الروم- فيقول: يا رسول الله!! ائذن لي ولا تفتني؛ فوالله! لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجباً بالنساء منِّي، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر: (فر من الموت وفي الموت وقع).
أعرض عنه صلى الله عليه وسلم وعذَره، لكن الذي يعلم خائنة الأعين، والذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فَضَحَهُ وأذلَّه وأنزل فيه قرآناً يُتلى: ومِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لي ولاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49].
ويتخلف أناس آخرون عن الخروج، لا رغبةً بأنفسهم عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن غلبتهم نفوسهم لصعوبة الظرف واشتداد الحر، قد آن أوان الرطب وظلال الأشجار، فاعتذروا بعد عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَبِل عُذْرَهم، وتاب الله عليهم وأرجأ توبة ثلاثة منهم امتحاناً لهم فَمُحِصُوا حتى: ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظَنُّوا أَلاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّه تَّوَّابُ رَّحِيمُ [التوبة:118].
ويأتي سبعة رجال مؤمنون صادقون، لكنهم فقراء لم يجدوا زاداً ولا راحلة، وعز عليهم التخلف، نياتهم صادقة لكن ليس هناك عدة، فأتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: يا رسول الله! لا زاد ولا راحلة، ويبحث لهم صلى الله عليه وسلم عن زاد وراحلة فلا يجد ما يحملهم عليه فيرجعوا: وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون يالله! ظلّ السيف للمسلم مثل ظل حديقة خضراء، تنبت حولها الأزهار.
وتدنو ثمار المدينة ويشتد الحر، ويبتلي الله من يشاء من عباده: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2] ويخرج صلى الله عليه وسلم ويستخلف على أهل بيته علياً رضي الله عنه، ويخيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثنية الوداع ومعه ثلاثون ألفاً.
ويأتي المنافقون الذين لا يتركون دسائسهم وإرجافهم على مر الأيام يلاحقون أهل الخير والاستقامة، يلمزون ويهمزون ويتندرون ويسخرون -سخر الله منهم- ويستهزئون -والله يستهزئ بهم- يأتون إلى علي رضي الله عنه ويقولون: ما خلفك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا استثقالاً لك؟ يريد التخفف منك، وعلي بَشَرٌ، تأثَّر لذلك، ولبس دِرعه، وشَهَرَ سيفه يريد الجهاد في سبيل الله، ويلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتنق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: {يا رسول الله! زَعَم الناس أنك استثقلتني فخلفتني في النساء والصبيان؟ فتهراق دموعه صلى الله عليه وسلم ويقول: كذبوا يا
يَدعُـو جَهاراً لا إلهَ سِوى الذِي خَلَقَ الوُجُـودَ وقَـدَّرَ الأقْـدَارَا |
وقبل مسير الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم تقوم فرقة للصَدِّ عن سبيل الله، تُثبِّط الناس بعد أن اجتمعوا في بيت أحدها، تقول- وهي تزهد في الجهاد-: لا تنفروا في الحَرِّ، تشكك في الحق وترجف برسول الحق، ويتولى الحق سبحانه الرد: وقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوكَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81] هم في مؤامرة الصَدِّ عن سبيل الله، ويأمر صلى الله عليه وسلم بإحراق البيوت عليهم، ويُنَفِّذُ ذلك الأمر طلحة رضي الله عنه؛ فيقتحمون الأسوار خوفاً من نار الدنيا، فتنكسر رِجل أحدهم، ويفِرُّ الباقون:
ويَعِزُّ جُنْدَ الحق رغم أنوفهـم ويخيب كل منافق خَوَّان |
يتوجَّه صلى الله عليه وسلم ويمر بديار ثَمُود، وما أدراكم ما تلك الديار؟!
ديار غضب الله على أهلها، فتلك بيوتهم خاوية، وآبارهم معطَّلة، وأشجارهم مقطَّعة، فيدخلها وقد غطَّى وجهه وهويبكي، ويقول لجيشه: {لا تدخلوها إلا باكين أو مُتباكين لئلا يصيبكم ما أصابهم}.
يا لله!! هذه أرض سكنها الظَلَمَة، فقولوا لي بالله في من يجالس الظَلَمَة، ويؤيد الظَلَمَة، ويركَن إلى الظَلَمَة، ويكون لهم أنيساً ولساناً وصاحباً؛ كيف يكون حاله؟! ألا يخاف أن يغضب الله عليه ؛ فيأخذه أخذ عزيز مقتدر وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113].
ويستسقي الناس من بئر في ديار ثَمُود فيقول صلى الله عليه وسلم: {لا تشربوا من مائها، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما عَجَنتم من عجين بمائها فاعْلِفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً} ففعلوا امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع الغروب يُعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها سوف تَهُبُّ رياح شديدة، فلا يخرج أحد من مُخَيَّمِه إلا مع صاحب له حتى تهدأ الريح، وخالف أمره رَجُلان من المسلمين، لضَعف في إيمانهم، خرج أحدهم ليقضي حاجته فخَنَقَتْه الجِنُّ عند حاجته، وخرج الآخر في طلب بَعِير له، فاحْتَمَلته الريح حتى طرحته في جبال طيء، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي أُصيب بخَنْق الجِنِّ، فَشُفِي، فكانت هذه آية من آيات نبوَّته صلى الله عليه وسلم وأمَّا الآخر: فسُلِّم للنبي صلى الله عليه وسلم عند عودته إلى المدينة .
استمع المزيد من الشيخ علي بن عبد الخالق القرني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
صور وعبر | 2803 استماع |
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا | 2674 استماع |
هلموا إلى القرآن | 2497 استماع |
الإكليل في حق الخليل | 2496 استماع |
أرعد وأبرق يا سخيف | 2410 استماع |
هكذا علمتني الحياة [2] | 2408 استماع |
أين المفر | 2328 استماع |
اسألوا التاريخ | 2276 استماع |
حقيقة الكلمة | 2243 استماع |
الأمر بالمعروف | 2202 استماع |