عقوق الوالدين


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له شهادة أدخرها لي ولكم إلى يوم المصير، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعــد:

عباد الله: كان من المفروض في هذا اليوم أن نتكلم عن فضائل العشر الأولى من ذي الحجة، لكن مشاكل المسلمين كثيرة وأمراضهم خطيرة، وحلولها يجب أن تكون قبل أن يذهب الحاج إلى تلك المشاعر.

ومن تلك المشاكل مشكلة خطيرة انتشرت وفشت وأصبحنا نلاحظها صباح مساء، تسري الأكباد وتقطع نياط القلوب ألا وهي مشكلة العقوق.

إذا ظهرت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أربع عشرة خصلة؛ فانتظروا ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً وقذفاً وآيات تتابع في نظام قطع سلكه، ومن هذه الخصال: إذا أطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأبعد أباه، ولا إله إلا الله ما أكثر هذا في هذا العصر! يأتي رجل وزوجته، وأمه تحمل ولده؛ ليشتروا ذهباً من بائع ذهب في هذه المنطقة، وبائع الذهب هو الذي يروي هذه الحادثة، تدخل زوجة هذا الرجل وتأخذ ذهباً بما يساوي عشرين ألف ريال، وتقف الأم واجمة هناك تحمل ولده ثم تتقدم لتأخذ خاتماً يساوي ثمانين ريالاً، فيقوم الابن بتسديد قيمة ذهب زوجته فيقول البائع: بقي ثمانون ريالاً، قال: لماذا؟ قال: قيمة الذهب الذي أخذته أمك، فانفجر غاضباً وقال: كبار السن لا يحتاجون للذهب، أخذت الأم الخاتم وأعادته للبائع ولسان حالها يقول: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] خرجت تحمل ولده تريد السيارة وكأن زوجته أنبته على هذا الفعل وقالت: من يمسك لنا ابننا، أعطيها الخاتم. فأعطاها إياه فرمته وانفجرت تبكي قائلة: والله لا ألبس ذهباً في حياتي أبداً، حسبي الله ونعم الوكيل!

لا إله إلا الله آباء يئنون وأمهات يشتكين! ولا إله إلا الله يحز في النفس ويدمي القلب ويندي الجبين يوم نسمع بل نرى بعض الأبناء يعق والديه! يؤذيهما ويجاهرهما بالسوء وفاحش القول! يقهرهما وينهرهما! يرفع صوته عليهما، يتأفف منهما! يقول بعضهم: أراحنا الله منك وعجل بزوالك يا شيبة النحس ويا عجوز الشؤم، لا إله إلا الله قول يستحي إبليس أن يقوله وبعض شبابنا يردده ناسياً أو متناسياً قول الله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [النساء:36] لا إله إلا الله!

الإسلام ينهى عن عقوق الوالدين

توعد الله بالعذاب الأليم واللقاء الشديد من عصى والديه؛ لأن تلك معصية عظيمة فظيعة، وجريمة قبيحة شنيعة، يقشعر جلد المؤمن يوم يرى الابن كلما شب وترعرع تغمط حق والديه يوم أذهبا زهرة العمر والشباب في تربيته، سهرا لينام، وجاعا ليشبع، وتعبا ليرتاح، فلما كبرا وضعفا ودنيا من القبر واحدودب ظهراهما، وقلَّت حيلتهما أنكر جميلهما، وقابلهما بالغلظة والجفاء، وجحد حقيهما، وجعلهما في مكان من الذلة والصغار لا يعلمه إلا رب الأرض والسماء.

لقد جعل الله عقوبة العاق عظيمة شديدة، وقد قرن الله حقه بحقهما، وجعل من لوازم العبودية بر الوالدين وصلة الأرحام، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23] قضاؤه وأمره ألا يعبد إلا هو ومع عبادته لا بد من بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إليهم، وأوصى الله وصية خاصة بالوالدين فقال: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14] ضعفاً على ضعف، ومشقة على مشقة، في الحمل وعند الولادة، وفي حضنه في حجرها، ثم إرضاعه وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].

لقد جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم بر الوالدين مقدماً على الجهاد في سبيل الله، ففي حديث إسناده جيد أن رجلاً قال: {يا رسول الله! إنني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد حي؟ قال: نعم. أمي. قال صلى الله عليه وسلم: قابل الله ببرها فإن فعلت فأنت حاج ومعتمر ومجاهد}.

يا أيها المسلمون: لا يجدر بعاقل مؤمن يعلم فضل بر الوالدين، ويعلم آثاره الحميدة في الدنيا والآخرة، ثم يعرض عنه ولا يقوم به ويقابله بالعقوق والقطيعة، وهو يسمع نهي الله تعالى عن عقوق الوالدين في أعظم حال يشق على الولد برهما فيه قال تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا [الإسراء:23] أنتم تعلمون أن الإنسان إذا كبر ضاقت نفسه، وكثرت مطالبه، وقل صبره، وربما صار ثقيلاً على من هو عنده، ومع ذلك فالله يقول: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24] في حال بلوغ الوالدين الكبر يكون الضعف قد تمكن منهما في البدن، وقد يكون -أيضاً- في العقل، وربما وصلا إلى أرذل العمر الذي هو سبب للضجر والملل منهما، في حال كهذه الحال ينهى الله الولد أن يتضجر أقل تضجر، وأمره أن يقول لهما قولاً كريماً، وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، فيخاطبهما خطاباً يستصغر نفسه أمامهما، ويعاملهما معاملة الخادم الذي ذل أمام سيده رحمة بهما وإحساناً إليهما، ويدعو الله لهما بالرحمة كما رحماه في حالة صغره ووقت حاجته فربياه صغيرا.

يا أيها الإنسان: اذكر حال أمك وأنت حملاً في بطنها وما تلقى من المشقة والتعب في جميع أحوالها ليلاً ونهارا، وتفكر في أمرها حال ولادتها، ثم بعد أن ولدتك لا تنام الليل، تسهر لسهرك وتتألم لتألمك، تجوع لتشبع، وتتعب لترتاح، وأنت لا تملك لنفسك ضراً ولا نفعا، أبعد هذا يكون جزاؤهم العقوق والقطيعة والشتم، أي قلوب هذه التي استمرأت العقوق؟! وأي أرواح هذه الأرواح التي ألفت القطيعة؟!

أبناء عقوا آباءهم

لقد بكت العرب والله في جاهليتها قبل إسلامها العقوق، وتوجعت له، وتظلمت، وتبرمت، واشتكت إلى بارئها منه.

في السير أن أعرابياً وفد على بعض الخلفاء وهو يبكي، فقال الخليفة: ما بك؟ قال: أصبت في ولدي بأعظم من كل مصيبة. قال: وما ذاك؟ قال: ربيت ولدي، سهرت لينام، وأشبعته وجعت، وتعبت وارتاح، فلما كبر وأصابني الدهر واحدودب الظهر تغمط حقي، ثم بكى بكاء مراً وقال:

وربيته حتى إذا ما تركته أخ القوم      واستغنى عن المسح شاربه

تغمط حقي ظالماً ولوى يدي      لوى يده الله الذي هو غالبه

فبكى كل من في مجلس الخليفة، وحق لكل عين بكاها.

وفي السير في أسانيد فيها نظر ما معناه: {أن رجلاً وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال: ما بك؟ قال: مظلوم يا رسول الله، قال: من الذي ظلمك وأنت شيخ كبير فقير؟ قال: ابني ظلمني، قال: كيف ظلمك؟ قال: ربيته فلما كبر وضعف بصري ورق عظمي ودنا أجلي تغمط حقي وظلمني وقابلني بالغلظة والجفاء وأخذ كل مالي، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم} وحق للقلوب اللينة وللعيون الرقراقة أن تدمع لهذه المآسي التي وجدت في بلاد الإسلام، والتي شكت قلوب الوالدين إلى بارئها هذا الظلم الفظيع، وهذا الجرم الشنيع، هل أظلم وأكبر وأشنع من أن تربي ابنك، فإذا قوي واشتد ساعده، صائلٌ أصبح في مصاف الرجال، عندما أعطيته شبابك وزهرة عمرك ولذة روحك وشجى نفسك رد عليك الجميل منكراً، وأتى فإذا صوته صائلٌ في البيت لا يجيب لك دعوة، ولا ينفذ لك أمراً، ولا يخفض لك جناحاً، يطيع زوجه ويعصيك، ويدني صديقه ويبعدك، إنها -والله- مأساة ما بعدها مأساة.

توعد الله بالعذاب الأليم واللقاء الشديد من عصى والديه؛ لأن تلك معصية عظيمة فظيعة، وجريمة قبيحة شنيعة، يقشعر جلد المؤمن يوم يرى الابن كلما شب وترعرع تغمط حق والديه يوم أذهبا زهرة العمر والشباب في تربيته، سهرا لينام، وجاعا ليشبع، وتعبا ليرتاح، فلما كبرا وضعفا ودنيا من القبر واحدودب ظهراهما، وقلَّت حيلتهما أنكر جميلهما، وقابلهما بالغلظة والجفاء، وجحد حقيهما، وجعلهما في مكان من الذلة والصغار لا يعلمه إلا رب الأرض والسماء.

لقد جعل الله عقوبة العاق عظيمة شديدة، وقد قرن الله حقه بحقهما، وجعل من لوازم العبودية بر الوالدين وصلة الأرحام، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23] قضاؤه وأمره ألا يعبد إلا هو ومع عبادته لا بد من بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إليهم، وأوصى الله وصية خاصة بالوالدين فقال: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14] ضعفاً على ضعف، ومشقة على مشقة، في الحمل وعند الولادة، وفي حضنه في حجرها، ثم إرضاعه وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].

لقد جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم بر الوالدين مقدماً على الجهاد في سبيل الله، ففي حديث إسناده جيد أن رجلاً قال: {يا رسول الله! إنني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد حي؟ قال: نعم. أمي. قال صلى الله عليه وسلم: قابل الله ببرها فإن فعلت فأنت حاج ومعتمر ومجاهد}.

يا أيها المسلمون: لا يجدر بعاقل مؤمن يعلم فضل بر الوالدين، ويعلم آثاره الحميدة في الدنيا والآخرة، ثم يعرض عنه ولا يقوم به ويقابله بالعقوق والقطيعة، وهو يسمع نهي الله تعالى عن عقوق الوالدين في أعظم حال يشق على الولد برهما فيه قال تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا [الإسراء:23] أنتم تعلمون أن الإنسان إذا كبر ضاقت نفسه، وكثرت مطالبه، وقل صبره، وربما صار ثقيلاً على من هو عنده، ومع ذلك فالله يقول: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24] في حال بلوغ الوالدين الكبر يكون الضعف قد تمكن منهما في البدن، وقد يكون -أيضاً- في العقل، وربما وصلا إلى أرذل العمر الذي هو سبب للضجر والملل منهما، في حال كهذه الحال ينهى الله الولد أن يتضجر أقل تضجر، وأمره أن يقول لهما قولاً كريماً، وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، فيخاطبهما خطاباً يستصغر نفسه أمامهما، ويعاملهما معاملة الخادم الذي ذل أمام سيده رحمة بهما وإحساناً إليهما، ويدعو الله لهما بالرحمة كما رحماه في حالة صغره ووقت حاجته فربياه صغيرا.

يا أيها الإنسان: اذكر حال أمك وأنت حملاً في بطنها وما تلقى من المشقة والتعب في جميع أحوالها ليلاً ونهارا، وتفكر في أمرها حال ولادتها، ثم بعد أن ولدتك لا تنام الليل، تسهر لسهرك وتتألم لتألمك، تجوع لتشبع، وتتعب لترتاح، وأنت لا تملك لنفسك ضراً ولا نفعا، أبعد هذا يكون جزاؤهم العقوق والقطيعة والشتم، أي قلوب هذه التي استمرأت العقوق؟! وأي أرواح هذه الأرواح التي ألفت القطيعة؟!

لقد بكت العرب والله في جاهليتها قبل إسلامها العقوق، وتوجعت له، وتظلمت، وتبرمت، واشتكت إلى بارئها منه.

في السير أن أعرابياً وفد على بعض الخلفاء وهو يبكي، فقال الخليفة: ما بك؟ قال: أصبت في ولدي بأعظم من كل مصيبة. قال: وما ذاك؟ قال: ربيت ولدي، سهرت لينام، وأشبعته وجعت، وتعبت وارتاح، فلما كبر وأصابني الدهر واحدودب الظهر تغمط حقي، ثم بكى بكاء مراً وقال:

وربيته حتى إذا ما تركته أخ القوم      واستغنى عن المسح شاربه

تغمط حقي ظالماً ولوى يدي      لوى يده الله الذي هو غالبه

فبكى كل من في مجلس الخليفة، وحق لكل عين بكاها.

وفي السير في أسانيد فيها نظر ما معناه: {أن رجلاً وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال: ما بك؟ قال: مظلوم يا رسول الله، قال: من الذي ظلمك وأنت شيخ كبير فقير؟ قال: ابني ظلمني، قال: كيف ظلمك؟ قال: ربيته فلما كبر وضعف بصري ورق عظمي ودنا أجلي تغمط حقي وظلمني وقابلني بالغلظة والجفاء وأخذ كل مالي، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم} وحق للقلوب اللينة وللعيون الرقراقة أن تدمع لهذه المآسي التي وجدت في بلاد الإسلام، والتي شكت قلوب الوالدين إلى بارئها هذا الظلم الفظيع، وهذا الجرم الشنيع، هل أظلم وأكبر وأشنع من أن تربي ابنك، فإذا قوي واشتد ساعده، صائلٌ أصبح في مصاف الرجال، عندما أعطيته شبابك وزهرة عمرك ولذة روحك وشجى نفسك رد عليك الجميل منكراً، وأتى فإذا صوته صائلٌ في البيت لا يجيب لك دعوة، ولا ينفذ لك أمراً، ولا يخفض لك جناحاً، يطيع زوجه ويعصيك، ويدني صديقه ويبعدك، إنها -والله- مأساة ما بعدها مأساة.

لقد عد الإسلام بر الوالدين من أعظم الحقوق، يقول صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الأعمال الصالحة أيها أزكى وأعظم، فقال: (الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فلا إله إلا الله ما أعظم حقوق الوالدين!

العقوق مأساة انتشرت في البيوت وأصبحت وبالاً على الآباء والأمهات، في بعض الآثار: أنه في آخر الزمان يود المؤمن أن يربي كلباً ولا يربي ولداً. وأرجو الله ألا يكون هذا الزمان، وجد هذا ورأينا عيون الآباء الذين طعنوا في السن وأصابتهم الشيخوخة وهم يتباكون ويتضرعون ويتوجعون من هذه الذرية الظالمة العاصية، فهل من عودة يا شباب الإسلام إلى الله؟! هل من لطف وحنان وخفض جناح؟! وهل من بر للآباء والأمهات؟! يأتي رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك).

الأم -يا عباد الله- لها ثلاثة أرباع الحق فهي التي تعبت وحملت وأرضعت وغسلت وألحفت وأدفأت:

فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي      لها من جواها أنة وزفير

وفي الوضع لو تدري عليها مشقة      فمن غضض منها الفؤاد يطير

وكم غسلت عنك الأذى بيمينها      وما حجرها إلا لديك سرير

وتفديك مما تشتكيه بنفسها      ومن ثديها شرب لديك تمير

وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها      حناناً وإشفاقاً وأنت صغير

فضيعتها لما أسنت جهالة      وطال عليك الأمر وهو قصير

فآه لذي عقل ويتبع الهوى      وآه لأعمى القلب وهو بصير

فدونك فارغب في عميم دعائها      فأنت لما تدعو إليه فقير

ذكر أن أبا الأسود الدؤلي تخاصم مع امرأته إلى قاضٍ في غلامهما أيهما أحق بحضانته؟ فقالت المرأة: أنا أحق به، حملته مشقة، وحملته تسعة أشهر، ثم وضعته، ثم أرضعته إلى أن ترعرع بين أحضاني وعلى حجري كما ترى أيها القاضي، فقال أبو الأسود : أيها القاضي! حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، فإن كان لها بعض الحق فيه فلي الحق كله أو جله، فقال القاضي: أجيبي أيتها المرأة، قالت: لئن حمله خفة فقد حملته ثقلاً، ولئن وضعه شهوة فقد وضعته كرها، فنظر القاضي إلى أبي الأسود وقال له: ادفع إلى المرأة غلامها ودعنا من سجعك.

وهاهو رجل كان في بيت الله الحرام يطوف بالكعبة المشرفة وأمه على كتفيه، قد أركبها على ظهره من بلده حتى وصل مكة وهو يطوف بها، فشاهد ابن عمر فقال له : يـابن عمر ! أتراني أوفيتها حقها؟ قال ابن عمر : [[والله ما أوفيتها طلقة من طلقات ولادتها]] إن هذا لا يساوي طلقة من طلقات الولادة التي كانت تعاني منها في تلك اللحظات العصيبة، لا إله إلا الله كيف يعق الوالدان؟ حق الوالد عظيم أيما عظم!

في الصحيح عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال: أتى رجل أبا الدرداء رضي الله عنه فقال له: إني تزوجت ابنة عمي وهي أحب الناس إليَّ، أنا أحبها وأمي تكرهها وأمرتني بفراقها وطلاقها، فقال له أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: لا آمرك بفراقها ولا آمرك بإمساكها، إنما أخبرك ما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، لقد سمعته يقول: (الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فضيع ذلك الباب وإن شئت فاحفظه عليك) فلا إله إلا الله كم من شاب ضيع أوسط أبواب الجنة بعقوقه! فمن ضيعه فليعد وليبادر قبل غلق الباب وقبل قول: رب ارجعون.

يا عبد الله: تأمل حال أبيك يجوب الأرض يميناً وشمالاً يطلب الرزق لك وأنت لا تشعر بذلك، إن هذا الأمر لأمر يجب على العاقل أبداً، وإن هناك من نسي ذلك مع الأسف، تبرأ من والديه، وخجل من وجودهما في بيته أمام زملائه، وربما سأل عن بعضهم؟ فقال لأبيه: هذا خادم عندنا لأنه يتوهم أن أباه لا يتناسب مع مركزه ووظيفته وأصحابه، إنما هذه صفاته، سخيف العقل، قليل الدين؛ لأن النفس الشريفة تعتز بأصلها ومنبتها، وإن هناك أيضاً من النساء -ومع الأسف- من إذا سئلت عن أمها، قالت: إنها خادمة أو طباخة، نعوذ بالله من الانتكاس وعمى البصيرة.

واسمعوا إلى العقوق، واسمعوا إليه في الماضي وقد سمعتم صوراً منه في الحاضر، اسمعوا لشاب اسمه: منازل كان منكباً على اللهو لا يفيق عنه، وكان له والد صاحب دين، كثيراً ما كان يعظ هذا الابن، ويقول له: يا بني! احذر هفوات الشباب وجنونه وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، فكان إذا نصح هذا الابن العاق زاد في العقوق وجار على أبيه، ولما كان يوماً من الأيام ألح الأب عليه بالنصح كعادته فمد الولد يده على أبيه فضربه، ذهل الأب وتجرع غصصه، ثم حلف بالله ليأتين بيت الله فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو على هذا الولد العاق، خرج حتى انتهى إلى البيت الحرام فتعلق بأستار الكعبة ثم أنشأ يقول:

يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا      عرض المهامه من قرب ومن بعد

إني أتيتك يا من لا يخيب من      يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد

هذا منازل لا يرتد عن عققي      فخذ بحقي يا رحمان من ولدي

وشل منه بحول منك جانبه      يا من تقدس لم يولد ولم يلد

فما أن فرغ من دعائه حتى يبس شق ولده الأيمن، نعوذ بالله من العقوق وقساوة القلوب. كل الذنوب يغفرها الله ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا العقوق فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة الدنيا قبل الممات.

الجزاء من جنس العمل

نرى العاق لوالديه في أبأس الحالات بعيداً عن القلوب عند من يعلم حاله، لا يعطف عليه صديق ولا شقيق ولا قريب، لا يأخذ بيده كريم في كربه، ولا يرغب أحد في مصاهرته خشية أن يأتي بأولاد فيكونوا مثله عاقين، ثم إن الله سبحانه وتعالى من عدله وكرمه يجازيه من جنس عمله؛ فكما عق أباه وأمه فيهيء الله له من يذيقه ذلك عاجلاً والآجل بيد لله عزَّ وجلَّ، وهاكم مثالاً على ذلك:

ذكر العلماء أن رجلاً كان عنده والد كبير امتدت به الحياة حتى تأفف من خدمته ومن القيام بأمره، فأخذه في يوم من الأيام على دابة، وخرج به إلى الصحراء فلما وصل به إلى صخرة هناك أنزله، فقال: يا بني! ماذا تريد أن تفعل بي هنا؟ قال الابن العاق: أريد أن أذبحك -لا إله إلا الله ابن يذبح أباه!- قال الأب: أهذا جزاء الإحسان يا بني؟ قال: أتعبتني ولا بد من ذبحك، قال الأب: إن أبيت إلا ذبحي فاذبحني عند تلك الصخرة. قال: ولم يا أبتِ؟ ما ضرك لو ذبحتك عند هذه أو عند تلك الصخرة؟ قال: يا بني! لقد كنت عاقاً لوالدي وذبحته عند تلك الصخرة! فإن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند تلك الصخرة ولك -والله- يا بني مثلها، ولك والله يا بني مثلها. إن امتدت بك الحياة سيأتي ولدك ويذبحك عند تلك الصخرة، ومن يعمل سوءاً يجز به ولا يظلم ربك أحد.

حصادك يوماً ما زرعت وإنما      يدان الفتى يوماً كما هو دائن

شاب لم يوفق بسبب دعوة والده عليه

يا عباد الله: دعوة الوالد لاترد، إن بخير أو بغير ذلك، فإياكم ودعوة الشر من الوالدين، وعليكم بالأسباب التي تجلب لكم دعوة الخير منهما ليكون بها -بإذن الله- فلاحكم ونجاحكم، فوالله إن كثيراً ممن لم يوفقوا في حياتهم كان من أسباب ذلك دعوة والديهم عليهم بعقوقهم وقطيعتهم.

هاهو شاب في زمن ليس ببعيد وفي قرية ليست بالبعيدة، كان يرعى الغنم لأبيه، ورأى تهافت الشباب على السفر والانخراط في السلك العسكري، فطلب من أبيه أن يسمح له ليذهب معهم، فرفض الوالد ذلك، حاول مراراً فلم يأذن له، قال الشاب: سأذهب أذنت أم لم تأذن، قال: أما القوة فما لي عليك من قوة، لكن مالي عليك إلا سلاح أوجهه في وقت السحر، وجاء يوم من الأيام وترك هذا الشاب غنمه مع أحد أقرانه، وذهب إلى إحدى قريباته فزودته بما يحتاجه المسافر وذهب إلى سفره، وعلم الأب -وكان صالحاً تقياً- بسفره بدون إذنه، فرفع يديه إلى الحي القيوم وسأل الله عزَّ وجلَّ أن يريه فيه ما يكره، فعمي الولد وهو في الطريق، واستقبله بعض أفراد قبيلته في الطائف وسألوه: ماذا تريد؟ قال: كنت أريد الوظيفة أما الآن فأعمى لا يقبل مثلي في الوظيفة، أخذوه وجاءوا به إلى أبيه، وعندما دخل عليه البيت وهو في الليل -ووالده قليل البصر. وهذا الشاب أعمى- فقال أبوه: أفلان أنت؟ قال: نعم. قال: هل وجدت السهم؟ قال: نعم والله. لكن الأب الحنون حزن حزناً عظيماً، وتأثر تأثراً كبيراً، وكان يود لو كانت في غير عينيه، وقام ليلته يبكي ويئن يركع ويسجد ويلحس بلسانه عين ولده ويدعو الله عزَّ وجلَّ، والله قريب مجيب، فما قام لصلاة الفجر حتى عاد لولده البصر، فحمد الله كثيراً، وهو معروف عند بعضكم أيها الجالسون، قد يكون هنا من يعلم الشخص الذي حصلت له الدعوة والذي كانت منه الدعوة.

لا إله إلا الله! دعوة الوالد مستجابة يا عباد الله، فاجعلوها في الدعوة إلى ما يسركم في الحياة وفي الممات.

يا أيها الآباء: لا تدعوا على أولادكم ولا على أنفسكم ولا على أموالكم فتصادف ساعة إجابة من الله فتندمون حين لا ينفع الندم.

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تصلح لنا ديننا ودنيانا وآخرتنا، اللهم ارض عنا وعن والدينا وآباء وأمهات جميع المسلمين الأحياء منهم والميتين إنك على كل شيء قدير.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.