هكذا علمتني الحياة [1]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].. . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في هذه الحياة تحت ظل لا إله إلا الله، وأن يجعل آخر كلامنا فيها لا إله إلا الله، ثم يجمعنا أخرى سرمدية أبدية في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

أشهد الله الذي لا إله إلا هو على حبكم فيه، ولعلكم تلحظون ذلك فالوجه يعبر عما في النفس:

والنفس تعرف في عيني محدثها     إن كان من حزبها أو من أعاديها

عيناك قد دلتا عيني منك على أشياء     لولاهما ما كنت أدريها

اللهم لا تعذب جمعاً التقى فيك ولك. اللهم لا تعذب ألسنة تخبر عنك. اللهم لا تعذب قلوباً تشتاق إلى لقاك. اللهم لا تعذب أعينا ترجو لذة النظر إلى وجهك برحمتك يا أرحم الراحمين.

أحسن الظن إخوتي بي إذ دعوني؛ فأجبت الدعوة وما حالي وحالكم هذه الليلة إلا كبائع زمزم على أهل مكة أو كبائع التمر على أهل المدينة أوكبائع السمك على أهل جدة؛ لكني أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلني خيراً مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون، وألا يأخذني بما تقولون.

يا منزل الآيات والقرآن     بيني وبينك حرمة الفرقان

اشرح به صدري لمعرفة الهدى     واعصم به قلبي من الشيطان

يسر به أمري واقض مآربي     وأجر به جسدي من النيران

واحطط به وزرى وأخلص نيتى     واشدد به أزري وأصلح شانى

واقطع به طمعي وشرَّف همتي     كثر به ورعي وأحي جناني

أنت الذي صورتني وخلقتني     وهديتني لشرائع الإيمان

أنت الذي أطعمتني وسقيتني     من غير كسب يد ولا دكان

أنت الذي آويتني وحبوتني     وهديتني من حيرة الخذلان

وزرعت لي بين القلوب مودة     والعطف منك برحمة وحنان

ونشرت لي في العالمين محاسناً     وسترت عن أبصارهم عصياني

والله لو علموا قبيح سريرتي     لأبى السلام علي من يلقاني

ولأعرضوا عني وملوا صحبتي     ولبؤت بعد كرامة بهوان

لكن سترت معايبي ومثالبي     وحلمت عن سقطي وعن طغياني

فلك المحامد والمدائح كلها     بخواطري وجوانحي ولساني

هكذا علمتني الحياة.

أي حياة تعلم؟ وأي حياة تدرس؟ وأي حياة تربي أيها الأحبة؟

أهي حياة اللهو واللعب؟ أهي حياة العبث واللعب؟ أهي حياة الضياع والتيه؟

لا والذي رفع السماء بلا عمد!

إنها الحياة في ظل العقيدة الإسلامية. إنها الحياة التي تجعلك متفاعلاً مع هذا الكون، تتدبر فيه وتتفكر:

حياة على الحق نعم الحياة     وبئس الحياة إذا لم نحق

إنها الحياة الحقيقية؛ حياة تحت ظل الإسلام، تعلم وتربي وتدرس.

حياة على الهدى والنور، حياة الحبور والنعيم والسرور، من عاش تحت ظلها عاش في نور وعلى نور، ومات على نور، ولقي الله بنور، وعبر الصراط ومعه النور: نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35].

إذا جاء يوم القيامة وقسمت الأنوار بين المؤمنين والمنافقين عندما توضع الأقدام على الصراط يتبين من بكى ممن تباكى، سرعان ما تنطفئ أنوار المنافقين فهم في ظلمات لا يبصرون، ينادون: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد:13-15]. في تلك اللحظات وفي هذه الساعات يكون المؤمنون قد عبروا بنورهم: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد:12] فلا يرضى المؤمنون إلا بجوار الرحمن في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين: أو من كان ميتا أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] هل يستويان مثلاً؟ كلا وألف كلا وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ [فاطر:19-22].

لا يستوي عاقل كلا وذو سفه     لا والذي علم الإنسان بالقلم

هل يستوي من على حق تصرفه     ومن مشى تائهاً في حالك الظلم

لا يستوون أبدا.

أحبتي في الله: الحياة في ظل العقيدة مدرسة وأي مدرسة! عظات وعبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فإليكم هذه الليلة أزف بعض دروس علمتنيها الحياة تحت ذلك الظل، وهي تعلم كل شخص كان من هذه الأمة إن كان له قلب. أسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح والنظر الثاقب والبصيرة النافذة والعظة والاعتبار، وأن يظلنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن سهلاً إذا شئت.

علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلامية: أن توحيد الله هو محور الرسالات السماوية، ومحور حياة الإنسان الحق. فقيمة الإنسان تظهر عندما يجعل ربه محور حياته فيستعبد كل ذرة من ذرات جسده وكل حركة من حركاته وكل سكنة من سكناته ونفسه؛ لله رب العالمين. فصلاته لله ونسكه لله وحياته لله وموته لله، شعاره: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]. وبذلك تتفق وجهة الإنسان مع هذا الكون الذي يعيش فيه، فالكون -يا أيها الأحبة- كله مطيع لله جل وعلا، خاضع لسلطان الله، مسبح بحمد الله. فإذا تمرد هذا العبد أصبح شاذا في هذا الكون الهائل المتجه إلى الله وحده بالطاعة والخشوع والخضوع، فالكون كله في اتجاه وهو في اتجاه مضاد: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [الروم:44].

خلق الله سوانا كثير وكثير لا يعلمهم إلا خالقهم سبحانه وبحمده، وطاعتك -أيها العبد- لك ومعصيتك -أيها العبد- عليك ولن تضر الله شيئاً.

في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.

يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.

يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.

يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

إذا ما خلوت الدهر يوماً     فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة     ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن توحيد الله هو نقطة البداية في حياة المسلم والأمة، وأن التوحيد هو كذلك نقطة النهاية في حياة المسلم والأمة. من ضل عنه خسر الدنيا والآخرة، فهو أضل من حمار أهله، قلبه لا يفقه، وعينه لا تبصر، وأذنه لا تسمع، بهيمة في مسلاخ بشر، حياته ضنك، وسعيه مردود، وذنبه غير مغفور: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً [النساء:48].. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].. إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72] نعوذ بالله من النار.

وفي المقابل من ظفر بتوحيد الله جل وعلا فقد ربح الدنيا والآخرة وسعد في الدنيا والآخرة. فسعيه مشكور، وذنبه مغفور، وتجارته لن تبور، يقول الله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107].

العز في كنف العزيز ومن     عبد العبيد أذله الله

علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن بلسم الجراحات هو الإيمان بالقضاء والقدر، وعجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، قد علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ علم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل عليه. رضي فرضي الله عنه وسعد في حياته وأخراه واطمأن قلبه وسكنت روحه، فهو في نعيم وأي نعيم.

في الموقف العظيم يوم يقول الله -والناس في عرصات القيامة- لأناس من بين الخلائق جميعهم: ادخلوا الجنة بلا حساب، فيقولون: ياربنا ويامولانا! قد حاسبت الناس وتركتنا؟ فيقول: قد حاسبتكم في الدنيا، وعزتي وجلالي لا أجمع عليكم مصيبتين، ادخلوا الجنة. فيتمنى أهل الموقف أن لو قرضوا بالمقاريض لينالوا ما نال هؤلاء من النعيم.

وفي الصحيح أن الله عز وجل يقول كما في الحديث القدسي: (ما لعبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة) ويا له من جزاء! ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وفي الصحيح أن الله عز وجل -كما في الحديث القدسي- يقول لملائكته: (قبضتم ابن عبدي المؤمن قبضتم ثمرة فؤاده؟ -وهو أعلم سبحانه وبحمده- فتقول الملائكة: نعم. فيقول: وماذا قال؟ -وهو أعلم جل وعلا- قالوا: حمدك واسترجع. فيقول الله جل وعلا: ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد).. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].

دع الأيام تفعل ما تشاء     وطب نفساً إذا حكم القضاء

ولا تجزع لحادثة الليالي     فما لحوادث الدنيا بقاء

ومن نزلت بساحته المنايا     فلا أرض تقيه ولا سماء

مروا بـيزيد بن هارون عليه رحمة الله وقد عمي، وكانت له عينان جميلتان قل أن توجد عند أحد في عصره مثل تلك العينين، فقالوا له وقد عمي: ما فعلت العينان الجميلتان يا بن هارون ؟ فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار، وإني لأحتسبهما عند الله الواحد الغفار.

فالإيمان بالقضاء والقدر نعمة على البشر، وبلسم وظل وارف من الطمأنينة وفيض من الأمن والسكينة ووقاية من الشرور وحافز على العمل وباعث على الصبر والرضا، والصبر مر مذاقه لذيذة عاقبته:

صبرت ومن يصبر يجد غب صبره     ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم

(فاحرص على ما ينفعك -وارض بما قسم الله لك- واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل).

ولست بمدرك ما فات مني     بلهف ولا بليت ولا لو أني

علمتني الحياة في ظل العقيدة: أنه كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد، والجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً:

حصادك يوما ما زرعت وإنما     يدان الفتى يوماً كما هو دائن

إن زرعت خيراً حصدت خيراً     وإن زرعت شراً حصدت مثله

وإن لم تزرع وأبصرت حاصداً     ندمت على التفريط في زمن البذر

ها هو رجل كان له عبد يعمل في مزرعته، فيقول هذا السيد لهذا العبد: ازرع هذه القطعة براً، وذهب وتركه وكان هذا العبد لبيباً عاقلاً، فما كان منه إلا أن زرع القطعة شعيراً بدل البر، ولم يأت ذلك الرجل إلا بعد أن استوى وحان وقت حصاده، فجاء فإذا هي قد زرعت شعيراً، فما كان منه إلا أن قال: أنا قلت لك ازرعها براً لم زرعتها شعيراً؟! قال: رجوت من الشعير أن ينتج براً. قال: يا أحمق! أو ترجو من الشعير أن ينتج براً؟! قال: يا سيدي! أفتعصي الله وترجو رحمته؟! أفتعصي الله وترجو جنته؟! فذعر وخاف واندهش وتذكر أنه إلى الله قادم، فقال: تبت إلى الله وأبت إلى الله، أنت حر لوجه الله.

كما تدين تدان والجزاء من جنس العمل ولا يظلم ربك أحداً: مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].

ها هو رجل كان له أب قد بلغ من الكبر عتياً وقد قام على خدمته زمناً طويلاً ثم مله وسئمه، فما كان منه إلا أن أخذه في يوم من الأيام على ظهر دابة وخرج به إلى الصحراء، ويوم وصل إلى الصحراء قال الأب لابنه: يا بني! ماذا تريد مني هنا. قال: أريد أن أذبحك. لا إله إلا الله! ابن يذبح أباه! قال: أهكذا جزاء الإحسان يا بني؟! قال: لابد من ذبحك فقد أسأمتني وأمللتني، قال: إن كان ولابد يا بني فاذبحني عند تلك الصخرة. قال: أبتاه! ما ضرك أن أذبحك هنا أو أذبحك هناك؟! قال: إن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند تلك الصخرة فلقد ذبحت أبي هناك، ولك يا بني مثلها والجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان ولا يظلم ربك أحداً.

علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن العقيدة قوة عظمى، لا تعدلها قوة مادية بشرية أرضية أياً كانت هذه القوة. والأمثلة على ذلك كثيرة وبالمثال يتضح المقال.

ها هي جموع المسلمين وعددها ثلاثة آلاف في مؤتة تقابل مائتي ألف بقلوب ملؤها العقيدة، يقول قائل المسلمين: والله! ما نقاتلهم بعدد ولا عدة وإنما نقاتلهم بهذا الدين، فسل خالداً كم سيف اندق في يمينه؟ يجبك خالد : اندق في يميني تسعة أسياف. وسل خالداً : ما الذي ثبت في يده وهو يضرب الكافرين؟ يجبك: إنها صحيفة يمانية ثبتت في يده.

انظر إليه يوم يقبل مائتا ألف مقاتل إلى ثلاثة آلاف ليهجموا عليهم هجمة واحدة، يوم يأتي بعض المسلمين ويرى هذه الحشود فيقول لـخالد : يا خالد ! إلى أين الملجأ؟ أإلى سلمى وأجا ؟ فتذرف عيناه الدموع وينتخي ويقول: لا إلى سلمى ولا إلى أجا ولكن إلى الله الملتجى؛ فينصره الله الذي التجأ إليه سبحانه وبحمده.

بربك هل هذه قوة جسدية في خالد بن الوليد ؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد ! إنها العقيدة وكفى:

إن العقيدة في قلوب رجالها     من ذرة أقوى وألف مهند

وها هو صلاح الدين في عصر آخر غير ذلك العصر -عليه رحمة الله- تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى وقد كان أسيراً في يد الصليبيين يوم ذاك، تقول الرسالة:

يا أيها الملك الذي     لمعالم الصلبان نكس

جاءت إليك ظلامة     تسعى من البيت المقدس

كل المساجد طهرت     وأنا على شرفي أنجس

فينتخي صلاح الدين ويقودها حملة لا تبقي ولا تذر، ويشحذ الهمم قبل ذلك، فيمنع المزاح في جيشه، ويمنع الضحك في جيشه، ويهيء الأمة لاسترداد المسجد الأقصى الذي هو أسير في يد الصليبيين يوم ذاك، ثم يقودها حملة لا تبقي ولا تذر، فيكسر شوكتهم ويعيد الأقصى بإذن الله إلى حظيرة المسلمين.

ثم ماذا بعد صلاح الدين يا أيها الأحبة؟

عادوا بعد صلاح الدين بفترة يوم تخلى مَنْ تخلى عن مبادئ صلاح الدين ، عادوا فاحتلوه وذهبوا إلى قبر صلاح الدين ورفسوه بأرجلهم وقالوا: ها قد عدنا يا صلاح الدين ! ها قد عدنا يا صلاح الدين! وهم ينشدون: محمد مات. خلف بنات.

فما الحال الآن يا أيها الأحبة؟

إن ما يجري هناك لتتفطر له الأكباد، إن المسجد الأقصى -بلسان حاله- ليصيح بالأمة المسلمة: هل من صلاح ؟ هل من عمر ؟ هل من صلاح ؟ هل من عمر ؟ فلا أذن تسمع، ولا قلوب تجيب:

إني تذكرت والذكرى مؤرقة     مجداً تليداً بأيدينا أضعناه

أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد     تجده كالطير مقصوصاً جناحاه

كم صرفتنا يد كنا نصرفها     وبات يملكنا شعب ملكناه

استرشد الغرب بالماضي فأرشده     ونحن كان لنا ماض نسيناه

إنا مشينا وراء الغرب نقبس من     ضيائه فأصابتنا شظاياه

بالله سل خلف بحر الروم عن عرب     بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا

وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها     عمن بناه لعل الصخر ينعاه

هذي معالم خرس كل واحدة     منهن قامت خطيباً فاغراً فاه

الله يعلم ما قلبت سيرتهم     يوماً وأخطأ دمع العين مجراه

لا در امرئ يطري أوائله     فخراً ويطرق إن ساءلته ماه

يا من يرى عمراً تكسوه بردته     والزيت أدم له والكوخ مأواه

يهتز كسرى على كرسيه فرقا     من خوفه وملوك الروم تخشاه

يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً     يشيدون لنا مجداً أضعناه

وها هو ألب أرسلان ذلكم الفتى المسلم الشجاع المؤمن بالله، كان عائداً من إحدى معاركه متجها ببقية جيشه إلى عاصمته خراسان ، فسمع به إمبراطور القسطنطينية رومانوس فجهز جيشاً قوامه ستمائة ألف مقاتل، والله! ما جمعوا هذه الجموع إلا بقلوب ملؤها الخور والضعف والهون.

جاء الخبر لـأرسلان ومعه خمسة عشر ألف مقاتل في سبيل لا إله إلا الله، وانظروا ووازنوا بين الجيشين: ستمائة ألف تقابل خمسة عشر ألف مقاتل، بمعنى أن الواحد يقابل أربعين. هل هذه قوى جسدية؟

إنها قوى العقيدة وكفى يا أيها الأحبة.

نظر هذا الرجل في جيشه، جيش منهك من القتال، ما بين مصاب وجريح، قد أنهكه السير الطويل، فكر وقدر ونظر في جيشه، أيترك هذا الجيش القادم ليدخل بلاده ويعيث فيها الفساد أم يجازف بهذا الجيش؟ خمسة عشر ألف مقابل ستمائة ألف. فكر قليلاً ثم هزه الإيمان وخرجت العقيدة لتبرز في مواقفها الحرجة، فدخل خيمته وخلع ملابسه وحنط جسده ثم تكفن وخرج إلى الجيش وخطبهم قائلاً: إن الإسلام اليوم في خطر وإن المسلمين كذلك، وإني لأخشى أن يقضى على لا إله إلا الله من الوجود، ثم صاح: وا إسلاماه! وا إسلاماه! هأنذا قد تحنطت وتكفنت فمن أراد الجنة فليلبس كما لبست ولنقاتل دون لا إله إلا الله حتى نهلك أو ترفع لا إله إلا الله:

فما هو إلا الوحي أوحد مرهف     تقيم ظباه أخدعي كل مائل

فهذا دواء الداء من كل عاقل     وهذا دواء الداء من كل جاهل

وما هي إلا ساعة، ويتكفن الجيش الإسلامي كله، وتفوح رائحة الحنوط وتهب رياح الجنة وتدوي السماء بصيحات: الله أكبر! يا خيل الله! اثبتي، يا خيل الله! اركبي.

لا إله إلا الله! هل سمعتم بجيش مكفن؟

هل سمعتم بجيش لبس ثياب حشره قبل أن يدخل المعركة؟

هل شممتم رائحة حنوط خمسة عشر ألف مسلم في آن واحد؟

هل تخيلتم صورة جيش كامل يسير إلى معركة يثق أنه من على أرضها يكون بعثه يوم ينفخ في الصور؟

التقى الجمعان واصطدمت الفئتان: فئة تؤمن بالله وتشتاق إلى لقاء الله، وفئة تكفر بالله ولا تحب لقاء الله، ودوَّت صيحات: الله أكبر، واندفع كل مؤمن ولسان حاله: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] تطايرت رءوس، وسقطت جماجم، وسالت دماء، وفي خضم المعركة إذ بالمنادي ينادي مبشراً: انهزم الرومان وأسر قائدهم رومانوس . الله أكبر! لا إله إلا الله! صدق وعده ونصر جنده: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249].

ذهب من جند الله كثير وكثير -نحسبهم شهداء- وبقي الباقون يبكون، فهل يبكون على ما فاتهم من غنائم؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد! لكنهم يبكون لأنهم مضطرون إلى خلع أكفانهم وقد باعوا أنفسهم من الله. أما القائد المسلم فبكى طويلاً وحمد الله حمداً كثيراً وبقي يجاهد حتى لقي الله بعقيدة لا يقف في وجهها أي قوة، ويوم حلت به سكرات الموت كان يقول: آه آه! آمال لم تنل، وحوائج لم تقض، وأنفس تموت بحسراتها. كان يتمنى أن يموت تحت ظلال السيوف، ولكن شاء الله له أن يموت على الفراش:

إن العقيدة في قلوب رجالها     من ذرة أقوى وألف مهند

فاعرف يا بن أمي في العقيدة     يا أخا الإسلام في الأرض المديدة

ما حياة المرء من غير عقيدة     وجهاد وصراعات عنيدة

فهي طوبى واختبارات مجيدة

فانطلق وامض بإيمان وثيق

وإذا ما مسك الضر صديقي     فلأنَّا قد مشينا في الطريق

علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن من حفظ الله حفظه الله، ومن وقف عند أوامر الله بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم التجاوز؛ حفظه الله.

من حفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى حفظه الله.

من حفظ ما بين فكيه وما بين فخذيه حفظه الله.

من حفظ الله في وقت الرخاء حفظه الله في وقت الشدة.

من حفظ الله في صباه حفظه الله عند ضعفه وقوته: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64] .

ها هو الإمام الأوزاعي ذلكم الإمام العابد المحدث الورع الفقيه عندما يدخل عبد الله بن علي ذلكم الحاكم العباسي دمشق في يوم من الأيام فيقتل فيها ثمانية وثلاثين ألف مسلم، ثم يُدخل الخيول مسجد بني أمية، ثم يتبجح ويقول: من ينكر علي فيما أفعل؟ قالوا: لا نعلم أحداً غير الإمام الأوزاعي . فيستدعيه، فيذهب من يذهب ليستدعيه؛ فعلم أنه الامتحان؛ وعلم أنه الابتلاء؛ وعلم أنه إماأن ينجح ونجاح ما بعده رسوب، وإما أن يرسب ورسوب ما بعده نجاح.

فماذا كان من هذا الرجل؟ قام واغتسل وتحنط وتكفن ولبس ثيابه من على كفنه ثم أخذ عصاه في يده واتجه إلى من حفظه في وقت الرخاء فقال: يا ذا العزة التي لا تضام! والركن الذي لا يرام! يا من لا يهزم جنده! ولا يغلب أولياؤه! أنت حسبي ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبي الله ونعم الوكيل.

ثم ينطلق وقد اتصل بالله سبحانه وتعالى انطلاقة الأسد إلى ذاك، وذاك قد صف وزراءه وصف سماطين من الجلود يريد أن يقتله وأن يرهبه بها، قال: فدخلت -ويوم دخلت- وإذا السيوف مسلطة، وإذا السماط معد، وإذا الأمور غير ما كنت أتوقع، قال: فدخلت، ووالله! ما تصورت في تلك اللحظة إلا عرش الرحمن بارزاً، والمنادي ينادي: فريق في الجنة وفريق في السعير. فوالله! ما رأيته أمامي إلا كالذباب، والله! ما دخلت بلاطه حتى بعت نفسي من الله جل وعلا. قال: فانعقد جبين هذا الرجل من الغضب ثم قال: أأنت الأوزاعي ؟ قال: يقول الناس: أني الأوزاعي . قال: ما ترى في هذه الدماء التي سفكنا؟ قال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن جدك ابن عباس وعن ابن مسعود وعن أنس وعن أبي هريرة وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).

قال: فتلمظ كما تتلمظ الحية، قال: وقام الناس يتحفزون ويرفعون ثيابهم لئلا يصيبهم دمي، قال: ورفعت عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: وإذا به يقول وما ترى في هذه الدور التي اغتصبنا والأموال التي أخذنا، قال: سوف يجردك الله عرياناً كما خلقك، ثم يسألك عن الصغير والكبير والنقير والقطمير؛ فإن كانت حلالاً فحساب وإن كانت حراماً فعقاب.

قال: فانعقد جبينه مرة أخرى من الغضب، قال: وقام الوزراء يرفعون ثيابهم، قال: وقمت لأرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: وإذ به تنتفخ أوداجه ثم يقول: اخرج. قال: فخرجت، فوالله! ما زادني ربي إلا عزة.

ذهب وما كان منه إلا أن سار في طريقه إلى الله عز وجل حتى لقي الله جل وعلا بحفظه سبحانه وتعالى.

ثم جاء هذا الحاكم ومر على قبره بعد أن توفي، فوقف عليه وقال: والله! ما كنت أخاف أحداً على وجه الأرض كخوفي من هذا المدفون في هذا القبر، والله! إني كنت إذا رأيته رأيت الأسد بارزاً.

اعتصم بالله، وحفظ الله في الرخاء فحفظه الله في الشدة: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].

ويا أيها الأحبة: ما ندري أنحن مقبلون على مرحلة عزة وتمكين أم نحن مقبلون على مرحلة ابتلاء، يجب أن نحفظ أنفسنا ونحفظ الله عز وجل وحدوده وأوامره ونواهيه في الرخاء ليحفظنا سبحانه وبحمده في وقت الشدة ولابد من الابتلاء: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2].

ها هو الأسود العنسي ذلكم الساحر القبيح الظالم، الذي ادعى النبوة بـاليمن، يجتمع حوله اللصوص وقطاع الطرق ليكونوا فرقة تسمى فرقة الصد عن سبيل الله جل وعلا؛ ليذبح الدعاة في سبيل الله، ذبح من المسلمين من ذبح، وأحرق منهم من أحرق، وطرد منهم من طرد، وهتك أعراض بعضهم وفر الناس بدينهم، عذب من الدعاة من عذب وكان من هؤلاء أبو مسلم الخولاني -عليه رحمة الله ورضوانه- عذبه فثبت كثبات سحرة فرعون، حاول أن يثنيه عن دعوته قال: كلا والذي فطرني! لن أقف: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72].

فما كان منه إلا أن جمع الجموع كلها، وقال لهم: إن كان داعيتكم على حق فسينجيه الحق، وإن كان على غير ذلك فسترون. ثم أمر بنار عظيمة فأضرمت، ثم جاء بـأبي مسلم الخولاني -عليه رحمة الله- فربط يديه وربط رجليه ووضعوه في مقلاع ثم رموه في لهيب النار ولظاها.

إن هذه النار -كما يقولون- كان يمر الطير من فوقها فتسقط الطيور في وسطها من عظم ألسنة لهبها، وهو بين السماء والأرض لم يذكر إلا الله جل وعلا، فكان يقول: حسبي الله ونعم الوكيل؛ ليسقط فى وسط النار وكادت قلوب الموحدين أن تنخلع وكادت أن تنفطر وانتظروا والنار تخبو شيئاً فشيئاً وإذا بـأبي مسلم قد فكت النار وثاقه، ثيابه لم تحترق، رجلاه حافيتان يمشي بهما على الجمر ويتبسم، ذهل الطاغية وخاف أن يسلم من بقي من الناس فقام يتهددهم ويتوعدهم، أما هذا الرجل فانطلق إلى المدينة النبوية إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر ويصل إلى المسجد ويصلي ركعتين، ويسمع عمر رضي الله عنه وأرضاه بهذا الرجل، فينطلق ويأتي إليه، ويقول: أأنت أبو مسلم ؟ قال: نعم. قال: أأنت الذي قذفت في النار وأنقذك الله منها؟ قال: نعم. فيعتنقه ويبكي ويقول: الحمد لله الذي أراني في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم عليه السلام، من حفظ أبا مسلم ؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو، حفظ الله عز وجل فحفظه الله: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].

وها هو ابن طولون وال من ولاة مصر -وما زالت مصر ترزأ بظالم وراء ظالم، ونسأل الله أن يفرج عن إخواننا في كل مكان. هذا الوالي يا أيها الأحبة- ما كان منه إلا أن قتل ثمانية عشر ألف مسلم في تلك الأرض، وقد قتلهم بقتلة هي من أبشع أنواع القتل، حبس عنهم الطعام والشراب حتى ماتوا جوعاً وعطشاً، فسمع أبو الحسن الزاهد -عليه رحمة الله- فأقض مضجعه أن يسمع بإخوته يعذبون ثم لا يذهب، وقد سمع قبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر) فذهب إليه وقال له: اتق الله في دماء المسلمين. وخوفه بالله، فأرغى وأزبد وأمر بأن يسجن فى سجن، وأمر بأسد أن يجوع لمدة ثلاثة أيام، ثم جاء فجمع الناس جميعهم، ثم ما كان منه إلا أن جاء بهذا الرجل وجاء بذلك الأسد المجوع ثلاثة أيام، فقام هذا الرجل متصلاً بالله الذي لا إله إلا هو، وقام يصلي.

أما الأسد فقد أطلقوه عليه فانطلق الأسد حتى قرب منه ثم توقف وقام ينظر إليه ويشمشمه ويسيل اللعاب على يديه وفيها من الجراح ما فيها، فما كان من الناس إلا أن ذهلوا، وما كان من الطاغية إلا أن ذهل، وما كان من الأسد إلا أن رجع وهو جائع ثلاثة أيام.

من الذي حفظه إلا الله الذي يحفظ من يحفظه في وقت الرخاء، فما كان من طلاب الشيخ إلا أن اجتمعوا بشيخهم وإمامهم بعد ذلك وقالوا: يا أبا الحسن ! فيم كنت تفكر يوم قدم عليك الأسد؟ قال: والله! ما فكرت فيما فيه تفكرون ولا خفت مما منه تخافون، ولكني كنت أقول في نفسي: ألعاب الأسد نجس أم طاهر لكيلا يفسد وضوئي وأنا متصل بالله الذي لا إله إلا هو.

حفظوا الله فحفظهم الله، وما اعتصم عبد بالله فكادته السماوات والأرض إلا جعل الله له منها فرجاً ومخرجاً.

اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بك اللهم أن نغتال من تحتنا.

علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلاميه: أن الظلم مرتعه وخيم، وأن الظلم يفضي إلى الندم، وأنه ظلمات يوم القيامة، وأن الله لا يغفل عما يعمل الظالمون؛ لكن يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.

في الحديث القدسي يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة     على المرء من وقع الحسام المهند

ها هم أهل قرية من القرى قبل وقت من الزمن نقص عددهم نتيجة الحروب التي كانت تقام بين القبائل لأتفه الأسباب، فما كان منهم إلا أن فكروا في أن يزيدوا عددهم فاجتمعوا وعقدواً مؤتمراً لهم، وكان قائدهم في ذلك المؤتمر إبليس عليه غضب الله جل وعلا ونعوذ بالله منه، فاتفقوا على أن يرجع كل واحد من أهل هذه القرية فيقع على محارمه؛ يقع على أخته وعلى بنته ليكثر العدد، والحادثة معروفة ومشهورة والقرية معروفة ومشهورة، وهي عبرة وعظة لكل من يعتبر.

ما كان منهم إلا أن رجعوا من اجتماعهم فمنهم من رجع إلى أهله ونفذ ما اجتمعوا عليه، ومنهم من رضي بذلك ولم يفعل، والراضي كالفاعل، فما كانت النتيجة؟ أي ظلم -يا أيها الأحبة- وأي ظلمات أن يقع الأب على ابنته، أو يقع الأخ على أخته، أو يقع المحرم على محارمه؟ إنه -والله- الظلم والظلمات.

فيرسل الله عز وجل جندياً من جنوده: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] فيخرج عليهم النمل، تقوم النملة فتلدغ الواحد منهم فيذبل ثم يذبل ثم يذبل ثم يموت، وهكذا واحدا وراء الآخر، فما كان من أحدهم إلا أن أراد أن يفلت، فسرق من أموالهم ما سرق، وجمع من الذهب والفضة ما جمع، ثم أخذه في وعاء معين، ثم حفر له تحت صخرة من الصخرات، ثم ما كان منه إلا أن علمه بهذه الصخرة، وذهب هارباً إلى مكة ، وبقي في مكة ردحاً من الزمن، قيل: إنها عشرون سنة أو أكثر من ذلك، ثم تذكر ذلك الذي حصل ولم يبق في تلك القرية إلا النساء، فماذا كان يا أيها الأحبة؟

ما كان من هذا الرجل بعد عشرين سنة إلا أن أرسل واحداً من أهل مكة -وما استطاع هو بنفسه أن يرجع إلى هناك- وقال: اذهب إلى ذاك المكان وستجد في المكان الفلاني تحت الصخرة الفلانية وعاء فيه كذا وكذا، خذه وائتنا به ولك كذا وكذا، فذهب الرجل على وصفه وسأل عن المكان واستخرج ذلك الكنز وجاء به إليه في مكة ، ويوم وصل به إلى مكة جاء الرجل ليفتحه، وكان ذلك الرجل أميناً لم يغير فيه ولم يبدل، أخذه كما هو، وعندما فتحه وإذا بنملة على ظهره إذ بها تأتي فتقفز إلى أنفه فتلدغه فيذبل ثم يذبل ثم يموت: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42].

وها هو المعتمد حاكم بعض ولايات الأندلس ذلكم الشجاع القوي المترف، يستعين به حاكم ولاية مجاورة، غزاها أحد أعدائه فيسرع المعتمد لنجدة ذلك الرجل ويرجع ذلك الغازي مدحوراً لما رأى جيوش المعتمد . وهنا انتهت مهمة المعتمد، لكنه في ظلام الليل يقوم ليبث جنوده في المدينة وحول قصر من استنجد به ويحتل المدينة ويا له من مجير:

والمستجير بعمر عند كربته     كالمستجير من الرمضاء بالنار

أصيب ذلك الحاكم -لأنه دعاه- بصدمة عنيفة شُلَّ منها، قبض عليه وعلى والده وأخذت أمواله وأودع السجن، وسبيت زوجاته وبناته ثم أخرج من ولايته مهاناً ذليلاً، يقول أبوه: والله! إن هذا بسبب دعوة مظلوم ظلمناه بالأمس. ثم يرفع يديه إلى من لا يغفل عما يعمل الظالمون، قائلا: اللهم كما انتقمت للمظلومين منا فانتقم لنا من الظالمين.

وتصعد الدعوة إلى من ينصر المظلوم، ويظل المعتمد في ملكه فترة، ينام والمظلوم يدعو عليه وعين الله لم تنم، وتجتاحه دولة المرابطين في ليلة من الليالي وتأسره في آخر الليل:

يا راقد الليل مسرورا بأوله     إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

ويقضي حياته في أغمات في بلاد المغرب أسيراً حسيراً كسيراً، وأصبحن بناته المترفات اللائي كن يخلط لهن التراب بالمسك ليمشين عليه؛ حسيرات يغزلن للناس الصوف ما عندهن ما يسترن به سوآتهن، ويأتين أباهن يوم العيد في السجن يزرنه، فيتأوه ويبكي وينشد وكان شاعراً:

فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً     فساءك العيد في أغمات مأسوراً

ترى بناتك في الأطمار جائعة     يغزلن للناس ما يملكن قطميرا

برزن نحوك للتسليم خاشعة     أبصارهن حسيرات مكاسيرا

يطأن في الطين والأقدام حافية     كأنها لم تطأ مسكا وكافورا

من بات بعدك في ملك يسر به     فإنما بات بالأحلام مغرورا

كم من دعوة مظلوم قصمت ظهر طاغية، والعدل أساس الملك: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].

ها هو حمزة البسيوني الجبار الطاغية الظالم، كان يقول للمؤمنين وهو يعذبهم وهم يستغيثون الله جل وعلا -وما نقموا منهم إلا أن آمنوا بالله- يقول لهم متبجحاً: أين إلهكم الذي تستغيثون؛ لأضعنه معكم في الحديد. جل الله وتبارك سبحانه وبحمده.

ويخرج ويركب سيارته وظن أنه بعيد عن قبضة الله جل وعلا، وإذ به يرتطم بشاحنة ليدخل الحديد في جسده فما يخرجونه منه إلا قطعة قطعة.

( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ).. وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].ولما أهين الإمام أحمد بن حنبل من قبل ابن أبي دؤاد رفع يديه إلى من ينصر المظلوم وقال: اللهم إنه ظلمني وما لي من ناصر إلا أنت؛ اللهم احبسه في جلده وعذبه، فما مات هذا حتى أصابه الفالج فيبس نصف جسمه وبقي نصفه حياً، دخلوا عليه وإذا به يخور كما يخور الثور، ويقول: أصابتني دعوة الإمام أحمد ما لي وللإمام أحمد؟! ما لي وللإمام أحمد؟!

ثم يقول: والله لو وقع ذباب على نصف جسمي لكأن جبال الدنيا وقعت علي، أما النصف الآخر فلو قرض بالمقاريض ما أحسست به.

فإياك والظلم مهما استطعت     فظلم العباد شديد الوخم

وفي الأثر أن الله عز وجل يقول: (وعزتي وجلالي لا تنصرفون اليوم ولأحد عند أحد مظلمة، وعزتي وجلالي لا يجاوز هذا الجسر اليوم ظالم).

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً     فالظلم آخره يفضي إلى الندم

تنام عينك والمظلوم منتبه     يدعو عليك وعين الله لم تنم

علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن البناء صعب جد صعب، والهدم سهل جد سهل؛ فما يبنى في مئات الأعوام من المدن والقرى والقصور والدور يمكن هدمه في لحظات. وما يبنى من الأخلاق والقيم والمثل في قرون يمكن هدمه في أيام وليال.

ما رأيكم -يا أيها الأحبة- إن كان هناك ألف بان ووراءهم هادم واحد هل يقوم البناء؟ كلا لا يمكن أن يقوم.

فما رأيكم إن كان الباني واحداً والهادم ألفاً.

أرى ألف بان لا يقوموا لهادم     فكيف ببان خلفه ألف هادم

وسائل في غالبها تهدم، ومجتمع في بعض أفراده يهدم، ومدارس في بعض أفرادها تهدم، وشوارع تهدم، وأندية تهدم، وبناة قلة إذا قيسوا بهؤلاء الهادمين؛ لكن الحق يعلو والباطل يسفل، فهل يستقيم الظل والعود أعوج:

أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم     قد ضل من كانت العميان تهديه

علمتني الحياة في ظل العقيدة: ألا أيئس وألا أقنط وأن أعمل وأدعو إلى الله ولا أستعجل النتائج، وأن أبذر الحب قطفت جنيه أم لم أقطف جنيه: فلا ييئس إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87].. وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56].

لو تأملت -أخي الحبيب- قصة نوح عليه السلام، الذي طالما دعا بالليل والنهار، بالسر والإعلان، لم يزدهم دعاؤه إلا فراراً: جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً [نوح:7] والدعوة لمدة تسعمائة وخمسين عاماً، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل، قيل: اثني عشر، وغاية ما قيل أنهم ثمانون، بمعنى أنه في كل خمس وثمانين سنة يؤمن واحداً أو في كل اثنتي عشرة سنة يؤمن واحداً، ولم ييئس صلوات الله وسلامه عليه وما كان له أن ييئس.

ها هو صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يقول: (يأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي وليس معه شيء) ولم ييئسوا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وها هم أصحاب القرية -قرية أنطاكية- يرسل الله إليهم رسولين فكذبوهما فعزز بثالث فكذبوه، ثلاثة رسل إلى قرية واحدة، ثم يقوم داعية من بينهم قد آمن بالله الذي لا إله إلا هو، فما كان منهم إلا أن قتلوه، فما النتيجة؟ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].

يا أيها الأحبة: النملة تلكم الحشرة الصغيرة تعمل وتجمع الحب في الصيف لتأكله في الشتاء، ينزل المطر فتخرجه من جحورها ومن مخازنها لتعرضه للشمس، ثم تعيده مرة أخرى، تحاول صعود الجدار فتسقط، ثم تحاول أخرى وتسقط، ثم تحاول مرتين وثلاثاً وأربعاً حتى تصعد الجدار، أفيعجز أحدنا أن يكون ولو كهذه الحشرة يا أيها الأحبة؟

بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.

إن الله جل وعلا يقول: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:18-20] ثم ماذا قال بعدها: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21] كأن الله عز وجل يريد من الذين يدعون إلى الله أن يأخذوا: صبر الإبل، وسمو السماء، وثبات الجبال، وذلة الأرض للمؤمنين، ثم بعد ذلك: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21] ليس لليأس مكان عند المؤمن، وليس للقنوط مكان عند المؤمن.

ها هو رجل يركب البحر وتنكسر به سفينته فيسبح إلى جزيرة في وسط البحر ويمكث ثلاثة أيام لم يذق طعاماً ولا شراباً، ويئس من الحياة فقام ينشد ويقول:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي     وصار القار كاللبن الحليب

لا يمكن أن يكون القار كاللبن ولا يمكن أن يشيب الغراب، معنى ذلك أنه يئس وأيقن بالموت، وإذا بهاتف يهتف ويقول:

عسى الكرب الذي أمسيت فيه     يكون وراءه فرج قريب

وبينما هو يسمع هذا النداء وإذا بسفينة تمر فَيُلوح لها، فتأتي فتحمله وإذ على ظهر السفينة أحدهم يردد منشدا.

عسى فرج يأتي به الله إنه     له كل يوم في خليقته أمر

إذا لاح عسر فارج يسرا فإنه     قضى الله أن العسر يتبعه اليسر

ولن يغلب عسر يسرين، فاعمل أخي! لا تيئس وابذر الحب.

فعليك بذر الحب لا قطف الجنى     والله للساعين خير معين

ستسير فلك الحق تحمل جنده     وستنتهي للشاطئ المأمون

بالله مجراها ومرساها فهل تخشى     الردى والله خير ضمين

ولنا بيوسف أسوة في صبره     وقد ارتمى في السجن بضع سنين

لا يأس يسكننا فإن كبر الأسى     وطغى فإن يقين قلبي أكبر

في منهج الرحمن أمن مخاوفي     وإليه في ليل الشدائد نجأر

علمتني الحياة في ظل العقيدة: أن أنظر في أمور دنياي إلى من هو تحتي، فذلك جدير ألا أزدري نعمة الله علي. وأن أنظر في أمور آخرتي إلى من هو فوقي فأجتهد اجتهاده لعلي ألحق به وبالصالحين، فلا أحقد على أحد ما استطعت ولا أحسد أحداً ما استطعت. يقول أحدهم عن ابن تيمية -عليه رحمة الله- وددت -والله- أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه. ويقول: والله! ما رأيته يدعو على أحد من خصومه بل كان يدعو لهم، جئته يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه، قال: فنهرني واسترجع وحوقل وذهب إلى بيت الميت فعزاهم وقال: إني لكم مكان أبيكم فسلوا ما شئتم. فسروا به كثيراً ودعواً له كثيراً وعظموا حاله ولسان حالهم: والله! ما رأينا مثلك:

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم     لطالما ملك الإنسان إحسان

لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب     ولا ينال العلى من طبعه الغضب

ماذا استفاد الحاقدون؟ ماذا استفاد الحاسدون؟ ما استفادوا إلا النصب، وما استفادوا إلا التعب، وما استفادوا إلا السيئات، ووالله! لن يردوا نعمة أنعمها الله على عبد أياً كان، ولله در الحسد ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله:

اصبر على مضض الحسود     فإن صبرك قاتله

كالنار تأكل بعضها     إن لم تجد ما تأكله


استمع المزيد من الشيخ علي بن عبد الخالق القرني - عنوان الحلقة اسٌتمع
صور وعبر 2804 استماع
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا 2675 استماع
هلموا إلى القرآن 2499 استماع
الإكليل في حق الخليل 2497 استماع
أرعد وأبرق يا سخيف 2411 استماع
هكذا علمتني الحياة [2] 2409 استماع
أين المفر 2329 استماع
اسألوا التاريخ 2277 استماع
حقيقة الكلمة 2246 استماع
الأمر بالمعروف 2203 استماع