بلغوا عني ولو آية


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

يقول تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] أخرجت هذه الأمة للناس، ماذا تفعل؟ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110] بل أمر الله جل وعلا هذه الأمة كلها نساءً ورجالاً، شباباً وشيباً، قال الله جل وعلا: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران:104] أي: لتكونوا كلكم أمة، ما تفعل هذه الأمة؟ ماذا تصنع؟ تلعب؟ تلهو؟ تأكل؟ تشرب؟ تنام؟ تنكح؟ لا، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104].

الفتور في الدعوة: كان رجلاً داعية إلى الله جل وعلا، لا يرى منكراً إلا أنكره، وزجر عنه، يصدع بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، يدخل في المجالس يذكرهم بالله، إذا ذهب إلى الصلاة ومر في الطريق على بشر قال لهم: الصلاة يا قوم، الصلاة، أذكركم الصلاة، كان إذا خرج من المسجد ورأى منكراً، لا يتركه إلا أنكره بيده إن استطاع، وإن لم يستطع فبلسانه، كان آمراً ناهياً داعياً إلى الله جل وعلا.

ما الذي أصابه؟!

أصابه الفتور، وبدأ يضعف، بدأ الآن يرى المنكرات فيولي، ويستطيع الكلام لكن لا يتكلم، يدخل في محل فيه الموسيقى والمعازف لا يتكلم، كان في السابق يقف عند الباب، أأطفأتم المعازف والموسيقى وإلا لا أدخل؟ أما اليوم تغير الحال، بدأ يدخل، لا يبالي سواءً أأُطْفِئت الموسيقى أم لَمْ تُطْفَأ، بل بدأ يتطور الأمر، بدأ يجلس مجلساً فيه المنكر، ويُعمَل فيه بالحرام، ويتكلم فيه بالإثم، وهو مبتسم، لا يبالي!

ما الذي جرى؟! ما الذي حدث؟!

أكثر من هذا: بدأ يتصور الأمر، بدأ يفعل هو المنكر، بدأ يقع فيه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71] أنت وليي وأنت أخي وأنت خليلي، لِمَ؟ لنأمر بالمعروف ولننهى عن المنكر! ولَمْ يَسْتَثْنِ الله جل وعلا النساء، قال: حتى النساء، المرأة في بني جنسها، المرأة في بيتها، المرأة بين قريباتها، داعية إلى الله جل وعلا.

أسمعتَ بـعائشة كيف حفظت لنا شيئاً كثيراً من ديننا؟!

كانت تدعو إلى الله جل وعلا، وتُعلم الدين، وكم سمعنا في التاريخ من نساء، كن عالماتٍ، آمراتٍ بالمعروف، ناهياتٍ عن المنكر بين بنات جنسهن.

أيها الأخ الكريم: الدعوة إلى الله قد يصيب صاحبها الفتور والضعف والخمول، ولهذا أسباب، سوف نتكلم عنها في هذا المجلس، فأعرني سمعك، وانتبه، ولا تقولن: إن الدعوة إلى الله وظيفة الإمام، أو وظيفة الشيخ، أو وظيفة لجنة من اللجان، أو هيئة خيرية، أو هذا عمل وزارة الأوقاف، أو العلماء والدعاة؟! كلا، كل مسلم هو داعية الله جل وعلا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية).

ألا تحفظ آية من كتاب الله؟! بلغها يا عبد الله، ألم تحفظ حديثاً من أحاديث رسول الله؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضَّر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها فبلغها، فرب مبلغ أوعى من سامع).

هذا رجل في أقصى المدينة، سمع أن في آخر المدينة قوماً كفروا بالله، جاءهم رسول يأمرهم بالمعروف فما استجابوا، نهاهم عن المنكر فما انتهوا، بلغهم دعوة الله فما استجابوا له وكذبوه، هل جلس وقال: هم بعيدون عني؟! هل قال: يهلكوا إن هلكوا، وأنا الحمد لله نجوت بديني؟!

ما قال هذه الكلمات، بل ركض على رجليه، ما مشى، أخذ يركض ويسعى ليبلغهم دين الله، قال الله عن هذا الرجل: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس:20] من أبعد مكان في المدينة، بعض الناس تقول له: جارك لا يصلي، يقول: ما لي علاقة به.

يا أخي: في المحل الذي بالقرب منك، هناك منكر يُباع، هلاَّ بلغت ولو مرة في حياتك، قال: أنا الحمد لله ما أبيع، ما لي علاقة بالناس: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس:20] يركض على رجليه، أتعرفون ماذا قال؟! قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:20-21].

في النهاية بعد دعوته إلى الله، هل قالوا: جزاك الله خيراً، كما يُقال لنا اليوم؟! هل قالوا له: جزاك الله خيراً؛ لكن لا تعيد الكرَّة؟!

لا. بل قتلوه؛ لأنه دعا إلى الله جل وعلا، جاء من آخر المدينة، يركض على رجليه، ينقذ الناس من النار، فكانت النتيجة والثواب: أنهم قتلوه.

فبعثه الله جل وعلا: قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [يس:26] إلى الآن مشفق على قومه، قتلوك أيها الداعية! ذبحوك أيها المبشر المنذر! ومع هذا تشفق على قومك؟! نعم. إنها الرحمة على الناس: قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].

لمَ يترك كثير من الناس الدعوة إلى الله؟ يدعو سنة أو سنتين ثم يترك الدعوة إلى الله، انظر واستمع إلى هذه الأسباب.

الدعوة لغير الله وترك الإخلاص

السبب الأول يا عبد الله: بعض الناس يدعو لكن لغير الله، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن لغير الله جل وعلا، يدعو لنفسه، يدعو لسمعة، يدعو لوجاهة؛ حتى يصل إلى منصب، حتى يقال في الناس: فلان ما شاء الله اهتدى على يديه عشرة، يتمنى هذه الكلمات، ما يريد وجه الله تبارك وتعالى.

يريد أموالاً من الناس، يعلِّم القرآن، يدرِّس الناس، يهديهم إلى الله جل وعلا من أجل حفنة دنانير، لَمْ يدعُ إلى الله جل وعلا؛ ولكن دعا من أجل هذه الدنانير، وكانت الأنبياء تقول لأقوامها: يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ [هود:51].

إنما يتعثر وينقطع عن الدعوة من لم يخلص لله، هل حقاً كنت تدعو إلى الله؟ فما بالك اليوم جلست؟! هل الله تبارك وتعالى الذي كنت تدعو إليه في السابق غاب الآن؟

انظر لنوح عليه الصلاة والسلام، انظر للمخلص، تعرف كم ظل يدعو إلى الله تبارك وتعالى؟!

ألف سنة إلا خمسين عاماً، كلها دعوة إلى الله جل وعلا: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً [نوح:5] ما كان هناك دوام، في الليل أدعو وفي النهار ما أدعو، لا، كل حياته دعوة إلى الله، سواءً أكنتُ في العمل أو في البيت، أو في المسجد، أو في الشارع، أنا داعية إلى الله تبارك وتعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ [نوح:5-7] هل جربتَ أن تدعو إنساناً فيضع أصبعيه في أُذنيه حتى لا يسمع؟ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ [نوح:7] يضعوا الثياب على وجوههم حتى لا يسمعون نوحاً: وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً [نوح:7] انظروا! عنادٌ وعتوٌّ وفجور؛ لكن نوح كان يدعو لله، لا يدعو لأجل السمعة، لأجل المال والدنانير، لأجل المناصب، بل يدعو لله جل وعلا، بعد تسعمائة وخمسين سنة قال الله جل وعلا: يا نوح! انتهى الأمر: لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36].

أغلقت أبواب التوبة، ما هناك أحد سيهتدي يا نوح. ونوح عليه السلام الآن يخاف على المؤمنين أن يضلوا، لأن باب الضلال لم يُقْفَل، فماذا قال نوح عليه السلام؟

قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:26-27].

يخاف على قومه أنهم إذا ولدوا فسيولدون كفاراً، وإذا بقوا لعلهم يضلوا، اسمع -يا عبد الله- في آخر حياته لما قال الله له: فاركب على السفينة، أتعرفون ماذا قال الله؟ ما حصيلة تسعمائة وخمسين سنة من الدعوة؟ أمثل ما في هذا المسجد ثلاثمائة أو أربعمائة رجل؟! لا. قال الله جل وعلا بعد تسعمائة وخمسين سنة دعوة إلى الله: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40] إنا لله وإنا إليه راجعون! تسعمائة وخمسون سنة؟! ما فَتَر، ما تَعِب، ما سئم، أتعرفون لِمَ؟ لأن الله يعلم أن الله خلقه لعبادته، والدعوة إلى الله من أشرف العبادة: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33].

إذاً: أول أمر -يا عبد الله- الإخلاص.

أنت تدعو لله أم للذين كفروا؟! لِمَ الآن تغيرت يا عبد الله؟! لِمَ كنتَ في السابق خطيباً داعياً واعظاً، أما اليوم نجدك في المقاهي تستمع إلى الأغاني، وتغتاب المسلمين، وتلعب بعض الألعاب المحرمة؟! ما الذي جرى؟! ما الذي حدث؟! كنت في السابق تجول وتصول، تصدع بالحق، أما اليوم على مدرجات الملاعب تصفق وتزمجر، ما الذي حدث؟! هل كنت تدعو إلى الله حقاً أم كنتَ تدعو لغيره؟!

الركون إلى الدنيا

السبب الآخر الذي به يفتر الناس عن الدعوة -واستمع لهذه الأسباب، وابحث عن دائك، فإن بعض الناس لا يدري أصلاً، ولعل أحد هذه الأسباب أو أكثرها تقع عليك يا عبد الله-

آفة النسيان: الركون إلى الدنيا:-

همه.. قلبه.. حياته.. مماته لأجل الدنيا.. يعيش من أجلها.. يموت من أجلها.. لا يتمنى ولا يطلب غيرها.. قلبه منشغل بها.. واسمع إلى ما يقوله الرب جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا [هود:15] كان يوماً من الأيام يأمر بالمعروف، دخل في تجارة، وليست بحرام، ولكن انشغل عن الدعوة، بدأ في تجارته يتعامل بالربا، بدأ يسلف النساء، بدأ يعاقر الحرام، بدأ يتساهل في دين الله شيئاً فشيئاً: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].

شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله يدخل على الملك، فيقول له الملك الطاغية: يا بن تيمية! سمعنا أنك تريد ملكنا، وملك آبائنا؟

أتعرفون ماذا قال ابن تيمية؟! كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر لا يخاف في الله لومة لائم، سُجن مرات عديدة، رُمي في بئر عاماً كاملاً، لا يرى الشمس فيه، يُنزل إليه الطعام بالحبل، يقضي حاجته في مكانه، عاماً كاملاً في السجن.

استدعاه الملك فقال له: سمعنا أنك تريد ملكنا؟ انظروا إلى أهل الدنيا، يخافون من الدعاة إلى الله، يظنون أن الدعاة يريدون الحكم، يريدون الملك، يريدون المنصب، لا والله، الدعاة إلى الله جل وعلا ما يريدون شيئاً من الدنيا، فقال له شيخ الإسلام، وقد أخذ حفنة من تراب بيده، ثم قال له: والله ما ملكُك ولا ملك آبائك وأجدادك يساوي عندي حفنة من هذا التراب.

انظر يا عبد الله إلى الدنيا في قلب شيخ الإسلام، مات ولم يتزوج، ليس رغبة عن الزواج، ولكنه لم يتفرغ للزواج، من سجن إلى آخر، من سجن إلى آخر، حتى توفي في سجن دمشق وقد ختم القرآن إحدى وثمانين مرة، حتى وصل في المرة الحادية والثمانين إلى قول الله جل وعلا: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55] ثم خرجت روحه إلى بارئها، انظروا لمن تبرأ من الدنيا! لمن ترك الدنيا! كيف عوضه الله جل وعلا! لعله يحصل على مقعد صدق عند مليك مقتدر.

صهيب الرومي: جاء فقيراً إلى مكة، فجمع المال، انظر -يا عبد الله- الفتنة، جمع المال، وكان ثرياً غنياً تاجراً معروفاً في قريش، فلما آمن وأراد الهجرة إلى المدينة، قال له صناديد قريش: جمعتَ أموالنا، وتريد أن تذهب بها؟! والله لا ندعَك، الآن لو يُقال لك: تريد أن تدعو إلى الله؟! تريد أن تنشر دين الله؟! اترك جميع أموالك، اترك هذا العمل، اترك المنصب الذي أنت فيه، اترك الدنيا وزينتها، هل تفعل؟!

قال صهيب الرومي: [يا قوم! تريدون أموالي وتتركوني أهاجر بديني؟ قالوا: نعم، نريد أموالك، قال: اذهبوا إلى مكان كذا وكذا ففيه جميع أموالي وما جمعتُه] فذهبوا يأخذون أمواله فإذا بـصهيب الرومي يهاجر، فلما أقبل إلى المدينة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع أبا يحيى! ربح البيع أبا يحيى! ).

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5] إن المنافق إذا أمرته بعمل دعوي، أو شجعته لنشاط دعوي يحسب حسبته: هل هناك مصلحة مادية؟! هل هناك أموال من ورائها؟! هل هناك عَرَضٌ قريب، شهرة، منصب، أموال، فإذا لم يجد يتعذر بالأعذار: لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ [التوبة:42] والله الذي لا إله غيره لو كانت الدعوة إلى الله جل وعلا فيها أموال، وفيها مناصب، وفيها كنوز لاتبع أكثر الناس سبيل الدعوة إلى الله جل وعلا، ولكن بالعكس، فيها تضحيات، فيها بذل من المال، فيها بذل من الوقت والنفس ولعلها الروح يا عبد الله!.

ولهذا ما يتبعها إلا قليل، وإذا سألتهم يعتذرون بالتجارات، يعتذرون بالأعمال، يعتذرون بالأولاد، يعتذرون بالأهل، يقولون لك: شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا [الفتح:11] هذا عذرهم في السابق وهذا عذرهم في اللاحق.

اسمع يا عبد الله إلى أبي بكر رضي الله عنه، لما علم أن الدعوة إلى الله تحتاج منه بعض المال، تحتاج الآن الدعوة إلى الله مالاً، وأنت فقير ما عندك شيء، أتعرف ماذا فعل أبو بكر رضي الله عنه؟! جاء بكل ماله، لم يفكر في غده، ولم يفكر في أولاده، وأهله، الإيمان إذا بلغ هذه المرتبة، لا يفكر الإنسان بحطام الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ماذا تركت لأهلك؟! قال: تركتُ لهم الله ورسوله) أسألك بالله، هل سمعت أن ابناً لـأبي بكر أو بنتاً لـأبي بكر مات جوعاً؟! لا يا عبد الله! وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6].

عبد الله: إذا كنت تخاف بعض الأحيان على منصب، أو رزق، أو أموال، أو تجارات تضيع، فاعلم -يا عبد الله- أن الرزق: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22] لا أقول لك: اجلس في المسجد، أو اترك العمل نهائياً، لا يا عبد الله! ولكن ادعُ إلى الله ولو كنت في العمل، ادعُ إلى الله ولو كنت في تجارة، ادع إلى الله جل وعلا ولو كنت تبيع وتشتري، كن داعياً إلى الله جل وعلا صباح مساء، في السر والعلن، في البيت وخارج البيت، كن داعياً إلى الله تبارك وتعالى.

عدم الصبر

السبب الثالث: من الأسباب التي يترك بعض الناس بها الدعوة إلى الله: عدم الصبر:-

فهو يترك الدعوة إلى الله جل وعلا، لسب أو شتم، أو قرار فصل، ولعلها إهانة، أُغلق الباب في وجهه، أو طُرد من البيت، قال: لن أتعب نفسي لأجل هذه المساجد، أجلس كما كنتُ في السابق، أعبد الله، وليس لي علاقة بأحد، ويتحدث بقول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة:105].

اسمع يا عبد الله للسابقين كيف صبروا؟! وأضرب لك أمثلة للنساء قبل الرجال، لتعلم أيها الرجل! أن من النساء من صبرن على الدين، ومن الرجال من لم يصبر.

انظر إلى هذه المرأة التي شم النبي صلى الله عليه وسلم رائحتها في السماء، رائحة طيبة، قال لجبريل: (ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون) خادمة، وظيفتها تمشِّط شعر بنت فرعون، الذي كان يقول لقومه: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] أنا إلهكم، فاستحيا النساء، وذبح الأبناء، الدماء تسيل في الشوارع، بذنب وبغير ذنب، فرعون كان يقوم في الناس فيقول لهم: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف:51] أدلة الربوبية عنده، أنه يملك مصر: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] انظر السخافة: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [الزخرف:54] حتى إنه قال لهم يوماً: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] أعوذ بالله! وليس أي رب، بل قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] كانت عندهم آلهة، لكن كان يقول: أنا الأعلى، أعوذ بالله: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ [النازعات:25] قوله: الأعلى: وَالْأُولَى [النازعات:25] قوله: ربكم.

جاءت هذه الماشطة فآمنت بالله، خادمة عندها أولاد صغار رُضَّع، وكانت تقوم بتمشيط بنت فرعون، وفي يوم من الأيام، وكانت تكتم إيمانها، سقط المشط، فأخذت المشط، وقالت: باسم الله، فقالت البنت: مَن؟ أبي؟ قالت: بل ربي وربكِ ورب أبيكِ الله رب العالمين، طفح الإيمان، وانفجر الإيمان من القلب، لم تبالِ بقتل ولا بسفك دماء، ولا بغير هذا، لم ترفق بأولادها، قالت: بل ربي وربكِ ورب أبيكِ الله رب العالمين، فتهددتها وقالت: سأخبر أبي، قالت: أخبريه، فأُخْبِر فرعون، فاستدعيت الماشطة، إنا لله وإنا إليه راجعون!

ثم سألها -وراءك أولاد، وراءك بيت يا عبد الله! وراءك أهل تنفق عليهم، هذه ليس وراءها رجل، وراءها أولاد صغار، جيء بالماشطة في قصر فرعون- قال لها فرعون: أَوَلَكِ ربٌ غيري؟! قالت والموت ينتظرها، والدماء تسيل في الشوارع، والأولاد خلفها قالت: نعم، ربي وربكَ الله رب العالمين.

انظر إلى الداعية إلى الله، بدأت الآن تدعو فرعون إلى الله جل وعلا، فتقول: ليس ربي فقط بل ربي وربك، أي: ارجع إلى الله يا فرعون! امرأة خادمة ماشطة، قال: ما تقولين؟ قالت: أقول: ربي وربك الله ورب العالمين، أي: فافعل فما تريد، ما قتلها، بل جاء بأولادها الصغار، والأم تقتل نفسها ولا ترى أولادها يصيبهم شيء، فجيء بأولادها الصغار، الرضع يا عبد الله! وأحميت القدور.

أحميت القدور، وجيء بولدها، وتخيل المنظر، الولد لما يُجَر، يلتفت لمن؟ لأمه، وتخيل المنظر، يظنه لا يبكي، نعم يبكي، المشهد يقتضي أنه يبكي، وأن يستنجد بأمه، وأن قلب الأم قد تفطر، وأن الموت أمامه، والجنود يسحبونه، ولعلهم يتضاحكون، وفرعون أمامها، وينتظر منها كلمة تنقذ أولادها، ولكنه الصبر، أُخذ الولد الأول، فيرمى في القدر وهو حي يصيح، ويحترق، وينفصل اللحم عن العظم، وهي تراه، حتى طفحت العظام وذابت اللحوم، والولد الآخر -والقصة حقيقية يا عبد الله- الولد الآخر هكذا، والأطفال ينظرون إلى إخوانهم، والولد الثالث، حتى فني أولادها جميعاً، ما بقيت إلا العظام، جيء بها الآن تُجر إلى ذلك القدر، فقالت لفرعون والتفتت: لي إليك حاجة، فرح فرعون، ظن أنها سوف ترجع عن دينها، قال: ما تريدين؟ قالت: أسألك: أنك إن أحرقتني أن تجمع عظامي وعظام أولادي في كفن واحد، وتدفننا جميعاً، عجب فرعون وقال: ذلك لك من الحق علينا، فإذا بها ترمى في القدر وتحرق معهم.

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت:3] لا تظن -يا عبد الله- أن هذا الدين هكذا، الحمد لله نصلي في المسجد ونرجع، ولا شيء، أتعرف لِمَ؟ لأنه يُبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه قوة وزيادة اشتد عليه البلاء، وأشد الناس بلاءً الأنبياء.

فهذا زكريا تبعه قومه ليقتلوه، تخيل، نبي يدعو إلى الله، ليتهم طردوه من بيته بل تبعوه ليقتلوه، زكريا -يا عبد الله- الذي ما كان بدعاء ربه شقياً، لو رفع يديه لأهلك الله قومه، تبعوه فدخل في الغابة، وهم يركضون خلفه، والشيطان معهم، حتى فتح الله له شجرة، فدخل فيها، وأغلق الله الشجرة عليه، ولكن بقي شيءٌ من ثيابه خارج الشجرة، فجاء الشيطان يدل الناس على مكانه، فقال: هذا مكان زكريا، دخل في الشجرة وهو حي، فإذا بقومه يأتون بالمنشار، لينشروا زكريا، فإذا به لما بدأ المنشار ينشره يئنُّ من الألم، فقال الله: وعزتي وجلالي لئن لم يسكن أنينك لأقلبن الأرض عليهم، فسكت زكريا، وتحمل العذاب، حتى لا يهلك الله قومه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

الواحد منا يدعو سنة أو سنتين قال: مللتُ، ماذا يا عبد الله؟! أنت داعية إلى الله جل وعلا حتى تخرج روحك من جسدك، ادعُ إلى الله في السوق، ادعُ إلى الله في الشارع، بعض الناس للأسف إذا أُغلق الباب في وجهه ترك الدعوة إلى الله جل وعلا، وإذا بصق في وجهه قال: بطَّلنا الدعوة إلى الله، هذا محمد عليه الصلاة والسلام يسجد عند الكعبة، فإذا بـأبي جهل يقول لقومه: [من يذهب إلى سلى جزور بني فلان، فيرميه على ظهر محمد؟] عليه الصلاة والسلام، فيقوم أشقى القوم إلى سلى جزور بني فلان فيأتي به فيرميه على ظهره عليه الصلاة والسلام، قذارة، ونجاسة البعير، يرميها كلها على ظهره عليه الصلاة والسلام، ولم يستطع أن يرفع رأسه عليه الصلاة والسلام، ولم يستطع أحد من الصحابة أن يتحرك، كل منهم قد كتم إيمانه، وآمن سراً، فإذا بـفاطمة وكانت بنتاً صغيرة جويرية تركض ركضاً إلى أبيها، وهي تبكي، حتى جاءت إليه تزيح الدم وسلى الجزور عن ظهره عليه الصلاة والسلام.

أناس يُضربون بالسياط، أناس يُحمى الحديد فيطفأ في ظهورهم، أناس يوضعون على الجمر، فينسلخ الجلد عن اللحم، عمار يقف وأمه أمامه تضرب وتجلد، ويمر عليه الصلاة والسلام عليهم فيقول: (صبراً آل ياسر -ما عنده شيء، ما عنده جنود، ما عنده جيش- فإن موعدكم الجنة) تريدون الجنة؟ هذا طريقها، جنة بغير بلاء ومكاره، ليست هناك جنة: (حفت الجنة بالمكاره) فإذا بـعمار ينظر إلى أمه فيقوم أبو جهل الطاغية فرعون هذه الأمة، فيأخذ حربة بيده، فيطعن أم عمار في فرجها، فيسيل الدم، وهي تصيح حتى تموت، من ينظر إليها؟ عمار يا عبد الله، ابنها الصغير، ينظر إلى أمه تعذب هذا العذاب، لكنه صبر في سبيل دين الله جل وعلا.

خباب قال: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! ...) جاع الصحابة ثلاثين يوماً، ليس عندهم طعام ولا شراب، أطفالهم يصيحون من الجوع، والمشركون يأكلون اللحوم والأطعمة، حتى يقول عليه الصلاة والسلام: (ليس لي ولـبلال طعام إلا ما يواريه بلال تحت إبطه) يخفي الطعام بلال تحت إبطه حتى يأكله عليه الصلاة والسلام، أكلوا ورق الشجر، ونحن للأسف لأجل وجبة غداء تركنا الدعوة إلى الله، لأجل وجبة عشاء نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأجل بطوننا، لأجل فروجنا، إلا من رحم الله جل وعلا، فيأتي خباب فيقول: (ألا تدعو لنا؟! -ماذا يريد خباب؟ يريد دعوة إلى الله، أتعرف ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟- قام مغضباً وقد تغير لون وجهه فقال: يا خباب! إنه كان فيمن كان قبلكم، يؤتى بالرجل -انتبه!- فتحفر له الحفرة -وتخيَّل!- فيوضع فيها، ويؤتى بالمنشار فيوضع على مفرق رأسه -فيفرق فرقتين، ليس هناك مخدر، تخيل المنشار على رأسك، ويبدأ ينشر الرأس، ولا تموت إلا بعد ملل، إنا لله! لِمَ كل هذا؟- قال: ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه -يفصل اللحم عن العظم وهو حي- قال: لا يرده ذلك عن دينه... لكنكم قوم تستعجلون).

انظر يا عبد الله! إلى هذا العالم الداعية، دعا إلى الله جل وعلا في بلده، وأطلق فتوى تعارض الطاغية في بلده في ذلك الحين، وسمع الملك الطاغية أن عالماً في بلده أصدر فتوى تعارض سياسته، فاستدعاه في القصر، وكان طاغية جباراً ظالماً، يسفك الدماء، فاستدعى ذلك الرجل العالم الداعية، فقال له: سمعنا أنك أفتيت فتوى، قال: وما هي؟ قال: سمعنا أنك تقول: لو كان عندك عشرة أسهم لرميت النصارى بتسعة، ورميتنا بسهم واحد، هل قلت هذا؟ لو قال: نعم، يقتل الآن.

فقال هذا العالم الداعية: لا والله ما قلت هذه الفتوى، ففرح الطاغية، وقال: إذاً ماذا قلتَ؟ قال: قلتُ: لو كان عندي عشرة أسهم لرميت النصارى بسهم واحد، ورميتكم بتسعة. صححِّ الفتوى، أنتم تسعة أسهم، والنصارى واحد، فقال: ماذا تقول؟ قال: أقول ما تسمع. فما قتله الملك، بل صلبه بين الناس، وقال ليهودي -أشد الناس عداوة-: اسلخ جلده من رجليه إلى رأسه، ولا تقتله. اسلخ الجلد وهو حي، فجاء أمام الناس والناس ينظرون.

للأسف ينظرون إلى هذا العالم يُضرب، وهذا يُقتل، وهذا يُسجن، وهذا يُبعد، وهذا يُضيق عليه، والناس يتفرجون، كل منهم يخاف على أولاده، وعلى ماله، وعلى نفسه، إلا من رحم الله، فإذا بهذا اليهودي يسلخه من رجليه، تخيل الآن المنظر، يسلخ الجلد وهذا العالم الداعية يقول: حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:129] ويرددها: حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:129] وإذا به يسلخه حتى وصل إلى صدره، وهو يردد هذا الذكر، فتأخذ اليهودي رأفة؛ فيطعنه بالخنجر في قلبه، حتى مات: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2].

وهذه امرأة تحمل رضيعاً بيدها، وأمامها أخدود مليء بالنيران، يقال لها: ترجعي عن دينك أو ترمي بنفسك والرضيع في النار؟ قالت: أرمي بنفسي، فلما أرادت أن ترمي نفسها، ترددت، وقالت: ما ذنب هذا الرضيع؟! أنا أحرق نفسي لله، لا بأس، روحي فداء لدين الله، لكن هذا الرضيع ما ذنبه؟! ما جريمته؟! لِمَ أحرقه بهذه النيران؟! فإذا بها تتردد وتتقاعس، فينطق الله الرضيع في المهد فيقول: يا أماه! اثبتي فإنك على الحق. فترمي بنفسها ورضيعها في النار: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:4-7].

لم كل هذا؟!

وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8].

لا تقل يا عبد الله: أنا ما أُبتلى!

أقول: يبتلى المرء على قدر دينه.

ضعف الإيمان

السبب الرابع: من أسباب ترك الدعوة إلى الله جل وعلا: ضعف الإيمان:

فلان يدعو إلى الله ثلاث سنوات، ثم يترك الدعوة! ما السبب؟!

ضعُف الإيمان، فتَر، بدأ يرتكب بعض الذنوب والمعاصي.

فتش في نفسك يا عبد الله، لِمَ كنت في السابق إذا رأيتَ منكراً انقبض الصدر، تضجرت، خرجت من هذا المجلس، ما تتحمل منكراً في الأرض؟! أما اليوم تنظر إلى التلفاز صباح مساء، الأفلام العارية الداعرة، المجلات القذرة تقرؤها صباح مساء، ما الذي جرى؟!

إنها الذنوب والمعاصي.

أتذكر يا عبد الله تلك النظرات؟! أتذكر تلك المسلسلات؟! أتذكر تلك الأشرطة؟! أتذكر تلك الليالي الحمراء؟! أتذكر عندما كنت تغلق الباب على نفسك وتفعل ما تفعل؟! هذا الذي ثبطك عن الدعوة إلى الله! وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]. ولهذا يا عبد الله إن الدعوة إلى الله متناسبة مع الإيمان، كلما ارتفع الإيمان ازدادت الدعوة إلى الله، وكلما ضعف الإيمان قلت الدعوة إلى الله.

واسمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ...) الواجب الأول باليد، إذا رأيت تلفازاً والأهل ينظرون فأغلق التلفاز في بيتك، أنت صاحب البيت ورب الأسرة، تستطيع أن تمنع المنكر فامنع بيدك، أنت مدير في مؤسسة، أنت مسئول في مكان، أنت صاحب المحل، أنت صاحب السلطة، أنكر المنكر بيدك، إلا إذا رتب منكراً أكبر من هذا، فهنا يحرم الإنكار.

قال: (... فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ...) يا عبد الله! ما الذي يمنعك من اللسان؟! فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94] اصدع يا عبد الله، هل تخاف في الله لومة لائم؟! هل تخاف كلام الناس؟! هل تتثبط لاستهزاء المستهزئين؟! اصدع بما تؤمر.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (... فإن لم يستطع -الدرجة الثالثة- فليغيره بقلبه ...).

كيف يغير بالقلب؟!

قالوا: يخرج من المجلس، يتضايق، يغادر هذا المكان، يبين لمن حوله: أنني صحيح لم أستطع أن أتكلم؛ لكن لتعلموا أنني لا أرضى بهذا المنكر، أخرج من هذا المكان.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (... وذلك أضعف الإيمان) أضعف الإيمان، يعني: أقوى الإيمان الإنكار باليد، ثم اللسان، وقد يتفاوت، فأحياناً يكون الإنكار باللسان خير من اليد.

عبد الله: الإيمان يتناسب مع تغيير المنكر، مع الأمر بالمعروف، مع الدعوة إلى الله، ولهذا قال الله جل وعلا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِوَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الإيمان بالله جل وعلا.

تذكر ذنوباً، تذكر معاصٍ كنت تفعلها يا عبد الله صدتك عن طريق الدعوة إلى الله جل وعلا.

عدم التوكل على الله سبحانه

السبب الخامس: وهو يمنع كثيراً من الناس عن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ويصيبهم بالضعف والفتور وهو: عدم التوكل على الله:-

يعتمد على أسبابه، يظن أنه إذا دعا اهتدى الناس! لا يا عبد الله! الأمر كله معلق بالله جل وعلا، أسمعت بمؤمن آل فرعون؟! فرعون كان في قصره مؤمن، كتم إيمانه، وخاف، لكن لما اجتمع فرعون والحاشية وكان هو موجوداً، واتفقوا على قتل موسى، هذا الرجل ما استطاع كتمان الإيمان، فأظهر إيمانه وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [غافر:28] أتفعلون هذا الفعل في رجل يدعو إلى الله جل وعلا؟! أتسجنون هذا الرجل؟! ما جريمته؟! ألأنه دعا إلى الله جل وعلا تطردونه، وتضربونه، وتقتلونه، وتستهزئون به؟! هذا المؤمن الداعية إلى الله جل وعلا ما تحمل وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ [غافر:28]. وأخذ يجادلهم، وأخذ يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويناقشهم، ويقنعهم بالدعوة إلى الله، وبصحة هذا الدين، وفي النهاية ماذا قال؟ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44] قال: ستذكرون هذا الكلام، وأنا أفوض أمري إلى الله، ومتوكل على الله جل وعلا، أنا فقط عليَّ البلاغ، ومتوكل على الله. قبل قليل قال لهم: فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا [غافر:29].

عباد الله: يقع زلزال في خمس ثوانٍ فيدمر جميع البيوت، هذا جندي من جنود الله، فهذه ريح أرسلها الله على قوم عاد سبع ليالٍ وثمانية أيام دمَّر الله القرية كلها، حتى إنه كانت الريح تأخذ الواحد منهم إلى أعلى السماء ثم تطرحه على الأرض فينفصل الرأس عن الجسد. العجوز كانت تختبئ في البيت من شدة البرد، ريحٌ صرصر بارد، تجلس في البيت فتغلق الباب على نفسها، وتشعل النار، فتموت من البرد وهي في بيتها.

وسمعتم بذلك الرجل، الذي قتل، وقد قدمنا قصته أول المحاضرة، هل أرسل الله عزَّ وجلَّ جيشاً؟! هل أرسل الله ملائكة؟! هل أرسل الله عزَّ وجلَّ عباداً له؟!

لا يا عباد الله! انظر ماذا قال الله عزَّ وجلَّ: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ [يس:28] ما أنزل الله ملائكة.

ماذا فعل الله؟!

إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [يس:29] صيحة واحدة، جندي من جنود الله جل وعلا: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].

توكل على الله، وفوض أمرك إلى الله جل وعلا، وإياك إياك أن تعتمد على حساب الماديات، تعتمد على حولك وقوتك ونشاطك وذكائك! لا يا عبد الله.

انظر إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، رمي في النار بالمنجنيق، شهر كامل يجمعون الحطب لحرق إبراهيم، فلما جمعوا الحطب وأشعلوا النار، يمر الطير من فوق النار فيسقط من حرارتها، إبراهيم ما استطاعوا أن يأتوا إلى النار فيقذفوه فيها، بل رموه بالمنجنيق، فلما كان في الهواء جاءه جبريل في اللحظة الأخيرة، قال: ألك إليَّ حاجة؟ -جبريل ينقذه الآن- فقال إبراهيم: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم: حسبي الله ونعم الوكيل، فلما سقط في النار، قال الله جل وعلا: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [الأنبياء:69-70].

توكل على الله أيها الداعية، لا تقل: أنا بقوتي وبنشاطي وبعملي سوف أكره الناس جميعاً! لا يا عبد الل




استمع المزيد من الشيخ نبيل العوضي - عنوان الحلقة اسٌتمع
رسالة إلى كل من ابتلي بمس أو سحر أو عين 2685 استماع
فرصة للتوبة 2632 استماع
فصة برصيصا 2600 استماع
التوحيد 2596 استماع
قصة الفاروق الحلقة السادسة 2530 استماع
العبادة في رمضان 2487 استماع
الوقت وأهميته 2468 استماع
دعاة الفساد 2462 استماع
لنخرج العباد من عبادة العباد 2458 استماع
لقاء مع الشيخ المغامسي 2439 استماع