خطب ومحاضرات
السيرة العمرية [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! القوة العمرية معلم من معالم السيرة العمرية، نجعله موضوع حديثا هذا اليوم، ونحن نستجني سيرة عمر رضي الله عنه، ونعيش معها، وننظر إلى جوانب العظمة فيها، ونستلهم الدروس منها.
وكما أشرت فيما مضى فإن الجوانب العظيمة في الشخصية العمرية، وإن المواقف العظيمة في السيرة العمرية تستحق منا كثيراً من الوقفات، وعديداً من مواقف التأمل والتدبر، وهذا أحدها، وهذا موقف من مواقفها.
فلقد كان عمر مشهوراً بقوته، ومعروفاً بحميته، ولكن لننظر إلى هذه القوة في أي مجال كانت، وفي أي ميدان صالت، ولنرى حدودها ومواقفها، ولنرى منافعها ومآثرها؛ حتى ندرك جوانب النقص في حياتنا، وأسباب الضعف والخور في نفوسنا، وما يُرى في بيئاتنا وكثير من مجتمعاتنا من صور الكسل والخور والخمول مما لا يليق بالمسلم ولا يليق بمجتمع المسلمين، وقد كانت قوة عمر في الحذر من الكافرين؛ فقد كان لا يأمنهم على دينه، وكان لا يأمنهم على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يأمنهم على أمة الإسلام، وكانت قوته متجسدة في عمق إيمانه، وفي رسوخ يقينه، وفي همة نفسه، وفي علو إيمانه واستعلائه به عند الله عز وجل، فنفسه تأبى عليه إلا أن يكون قوياً في حيطته، شديداً في حذره من أولئك القوم، وقد تجسد ذلك في أوائل حياته في الإسلام، وفي أوائل سيرته مع ركب المؤمنين من صحب محمد صلى الله عليه وسلم.
قوة عمر رضي الله عنه وشدة حذره من الكفار
انظر إلى هذه القوة التي تستمر في هذه المواقف ولا تخور، ولا تنثني، ولا تتغير، بل كان يستمر في الحيطة إلى آخر الأمر، وقد كان من الأمر ما قال عمر ، فلما كانوا في بعض الطريق قال أبو جهل : قد استوحشت واستصعبت جملي، فهلا أركبتني ناقتك يا عياش ؟! فأناخ عياش ، وما عنده حيطة عمر وقوته وشدته، فلما أناخ واستبدل الناقة قيداه وكتفاه، ثم ذهبا به إلى مكة أسيراً يضربانه، وفي بعض الروايات: أنه جلده كل واحد منهما مائة جلدة، وكان أبو جهل يقول: هكذا افعلوا بسفهائكم كما نفعل بسفهائنا.
فـعمر رضي الله عنه كانت قوته واضحة في الحيطة والحذر من الكافرين؛ لا يأمنهم، ولا يغتر بقولهم، ولا ينخدع بمعسول كلامهم.
موقف عمر مع عمير بن وهب
وكانت قوته أيضاً في إذلال الكافرين، فقد كان دائماً يحقق معنى العلو والاستعلاء بالإيمان المأمور به في قوله عز وجل: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، فكان يرى كل مؤمن مهما كان فقيراً ضعيفاً هو أقوى وأعز من كل كافر مهما كان غنياً قوياً فتياً.
وهكذا كان عمر دائماً في كل المواقف تظهر قوته ليذل أهل الكفر والكافرين.
قوة عمر رضي الله عنه عند هجرته إلى المدينة
فهل لحق به أحد من المشركين؟ لم يجرؤ أحد منهم -وفيهم من فيهم من الصناديد والعظماء- أن يفكر في مجرد اللحاق بـعمر رضي الله عنه، لقد أذلهم بهذه المقالات الإيمانية وبهذا الاستعلاء الإيماني وهو يطوف بهم في مجالسهم، ويسفههم بلسانه، ويتحداهم بفعله؛ حتى يظهر عزة الإيمان وعزة الإسلام.
اعتزاز المسلمين بإسلام عمر رضي الله عنه
عزة عمر يوم أحد
موقف عمر في صلح الحديبية
وأيضاً فإن قوته كما ظهرت في نصرة المسلمين، وفي إعزاز الدين، فقد ظهرت في مواجهة الكافرين، فكان في قلبه وفي نفسه شدة وغلظة عليهم، هدفها هو: إعلاء راية الله عز وجل، وإخضاع كل قوي وجبار ومتكبر لنهج الله ولشرع الله ولهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
موقف عمر رضي الله عنه من أسارى بدر
موقف عمر رضي الله عنه من أبي سفيان في صلح الحديبية
قوة عمر رضي الله عنه وصراحته في الحق وموقفه في ذلك يوم الحديبية
ثم انظر أيضاً إلى صراحته التي قد يظهر لأول الأمر أنها لا تتفق مع قوته، فيوم جاء النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية، وأرادت قريش أن ترده، أراد أن يبعث إلى قريش مبعوثاً ليخبرها أن النبي وصحبه لم يأتوا إلا معتمرين، وللبيت معظمين، وما جاءوا محاربين مقاتلين، فدعا الرسول عليه الصلاة والسلام عمر ليبعثه إلى قريش، وهو المؤمن العظيم في إيمانه، القوي الشديد في قوته، لكنه كان أيضاً قوياً في الصراحة، وقوياً في رعاية المصلحة الإسلامية، ولم تكن قوته تهوراً، ولم تكن حميته طيشاً واندفاعاً، فقال للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب -أي: قومه- أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة عمر رضي الله عنه، وما كان في ذلك الموقف جبن ولا خوف، بل كان فيه قوة وشجاعة في الحق، ونظر إلى رعاية المصلحة الإسلامية، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم أمره لامتثل؛ فإنه كان وقافاً عند حدود الله، قوياً في التزام أمر الله سبحانه وتعالى.
وفي يوم الحديبية أيضاً بعد أن وقف عمر موقفه، والتزم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، جاء أبو جندل وهو من المستضعفين المسلمين المحبوسين في مكة، جاء وهو يرسف في قيوده، وأبوه هو الذي أمضى العقد ممثلاً لقريش، جاء يريد أن يلتحق بالمسلمين، وتصوروا هذا الموقف: هذا مسلم مستضعف يعذب لأجل دينه، جاء راكباً مقيداً بقيوده، وهو يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوانه المسلمين رأي العين، يريد أن ينضم إليهم، وأن يلحق بهم، وأن يكون معهم، ولكن العهد والميثاق قد أُبرم، والمسلمون عند شروطهم، ولا أحد أوفى بعهوده منهم، فماذا فعل عمر رضي الله عنه؟ لم يخرق الالتزام، ولم تأخذه شدته وقوته، ولكن كانت قوته فيها التزام، وكانت شدته تظهر على أعداء الإسلام، فقال عمر رضي الله عنه: ( فماشيت أبا جندل ، وكنت أقول له: اصبر يا أبا جندل ! اصبر يا أبا جندل ! ) هذا جانب الالتزام وقوته فيه، ثم قال له: ( إنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم مثل دم الكلب )، وجعل يدني قائم السيف منه، ماذا يريد عمر ؟ قال: ( وكنت أريد أن يأخذ السيف فيضرب به عنق أبيه )، أي: بدون أن يكون هناك إخلال بالعهد؛ لأن أبا جندل لم يكن ممن أبرم العهد ودخل فيه، قال: ( فما زلت أقول له: إنهم المشركون، وإن دم أحدهم مثل دم الكلب، وأدني منه قائم السيف لعله أن يضرب به عنق أبيه، فضن الرجل بأبيه )، ومضت القضية، وهكذا كان موقف عمر رضي الله عنه مع قوته، فهو قوي في التزام أمر الله وفي التزام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت قوته طيشاً ولا تهوراً رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا ينبغي أن تكون لنا القوة في هذه الجوانب.
فأسأل الله عز وجل أن يرزقنا القوة في دين الله، والقوة على أعداء الله، والقوة في نصرة عباد الله.
شدة عمر رضي الله عنه في دين الله عز وجل
وكأني بـعمر لو شهد مثل مواقفنا ومجتمعاتنا وأقوالنا لتفجر غيظاً من هذا التميع والتساهل والترخص بحجة إظهار سماحة الإسلام، والإسلام كله سماحة، وكله لين، وكله رفق، لكن فيه شدة، كما قال عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، هذا وصف النبي الكريم ووصف صحبه رضوان الله عليهم، أفلا نرضى أن نأخذ بهذا الوصف؟ أفلا نجرؤ أن نقتفي آثار القوم، وقد كان عمر كذلك، وقد بين لنا حقيقة موقفه في شدته، ولم يدع لقائل مقالاً، ولم يدع لشبهة بقاءً، فإذا هو يخطب الناس عندما ولي أمره، فهو يعلم ما في قلوبهم من هيبته وشدته وقوته، وقد كان الناس في عهد أبي بكر يدنون منه؛ حتى إذا مشى في الطريق جاء صبيان المسلمين إلى أبي بكر يلاعبونه، فيمسح رءوسهم، وهكذا كانت سجيته: لين هين، أما عمر فكان الرجال يفرقون منه، ويتفرقون عنه، ويخافون عندما يرونه، وكانت هذه هيبته وشدته، لكنه جعل لكل شيء موضعاً، فقد رقى المنبر يشرح منهجه في القوة، وقال للناس مقالة عظيمة شرح لهم فيها موقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر من بعده فقال: ( بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟! ) إنه يتحدث بما يجول في خواطرهم، وبما يهجس في نفوسهم، فإنهم يقولون: عمر كان شديداً بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وغليظاً بين يدي أبي بكر ، فكيف وقد صارت الأمور إليه، والأمر رهن إشارته؟! فإذا به يقول: ( ومن قال ذلك فقد صدق، كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكنت عبده وخادمه، وكان لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان كما قال الله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فكنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه سيفاً مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فأمضي ).
لقد كان رضي الله عنه رهن الإشارة وطوع الأمر، فإن دعته قوته إلى أمر وأجيز مضى، وإن منع وقف.
قال: ( وكنت مع أبي بكر ، وكان من لا تنفد دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدته بلينه، وأكون سيفاً مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، ورغم أني وليت أموركم أيها الناس! واعلموا أن تلك الشدة قد أُضعفت -أي: تضاعف، فتصوروا ماذا خالط قلوب القوم وهم يسمعون عمر يقول هذا؟- ولكن إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، أما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يتعدى عليه؛ حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق -هذه هي القوة فانظر إلى اللين- وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف ولأهل الكفاف ).
وقد كان عمر رضي الله عنه كما قال، فكان منهجاً في القوة فريداً، وكان يضع كل شيء في موضعه وضعاً عجيباً.
هيبة الناس من عمر رضي الله عنه لشدته وحزمه
وهكذا نجد هذه الفلسفة وهذا الشرح والبيان في موقف عمر في قوته رضي الله عنه، فقد كان كما قال الشاعر:
في الجاهلية والإسلام هيبته تثني الخطوب فلا تعدو عواديها
في طي شدته أسرار مرحمة للعالمين ولكن ليس يحكيها
وبين جنبيه في أوفى صرامته فؤاد والدة ترعى جراريها
أغنت عن الصارم المسلول درته فكم أخافت غوي النفس عاديها
قد كانت شدة عمر نصرة للحق، وكان لينه تقريباً لأهل الحق، وهكذا كان عمر رضي الله عنه لا تأخذه في الله لومة لائم، وهكذا كان يجسد ما أنبأنا الله عز وجل به في شأن وصف أهل الإيمان الذين يحبهم الله عز وجل ويحبونه، فقد جاء في وصفهم قوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، وقد كان عمر كذلك، فقد كان يعس ويرعى شأن العجائز والأطفال والصغار، بل كان يبكي ويرق لهم، بل كان يخدمهم بنفسه رضي الله عنه، وهكذا جسد المعنى الذي ذكره النبي الكريم في قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، وكان عمر رضي الله عنه يريد بقوته أن يعز الإسلام، وأن يظهر قوته، ويريد بلينه أن يدعو إلى الإسلام وأن يظهر سماحته، فكان في كل موقف داعياً لله عز وجل، وكان في كل موقف ملتزماً أمر الله سبحانه وتعالى، وكان مجسداً لصورة الإسلام الحق في أبهى وأجلى وأنصع صوره، وما أحرانا أن نتلمس مثل هذه القوة بمثل هذا المنهج في سيرة عمر رضي الله عنه.
فالله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، والله أسأل أن يجع
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
السيرة العمرية [3] | 1645 استماع |
السيرة العمرية [1] | 1222 استماع |