السيرة العمرية [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! القوة العمرية معلم من معالم السيرة العمرية، نجعله موضوع حديثا هذا اليوم، ونحن نستجني سيرة عمر رضي الله عنه، ونعيش معها، وننظر إلى جوانب العظمة فيها، ونستلهم الدروس منها.

وكما أشرت فيما مضى فإن الجوانب العظيمة في الشخصية العمرية، وإن المواقف العظيمة في السيرة العمرية تستحق منا كثيراً من الوقفات، وعديداً من مواقف التأمل والتدبر، وهذا أحدها، وهذا موقف من مواقفها.

فلقد كان عمر مشهوراً بقوته، ومعروفاً بحميته، ولكن لننظر إلى هذه القوة في أي مجال كانت، وفي أي ميدان صالت، ولنرى حدودها ومواقفها، ولنرى منافعها ومآثرها؛ حتى ندرك جوانب النقص في حياتنا، وأسباب الضعف والخور في نفوسنا، وما يُرى في بيئاتنا وكثير من مجتمعاتنا من صور الكسل والخور والخمول مما لا يليق بالمسلم ولا يليق بمجتمع المسلمين، وقد كانت قوة عمر في الحذر من الكافرين؛ فقد كان لا يأمنهم على دينه، وكان لا يأمنهم على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يأمنهم على أمة الإسلام، وكانت قوته متجسدة في عمق إيمانه، وفي رسوخ يقينه، وفي همة نفسه، وفي علو إيمانه واستعلائه به عند الله عز وجل، فنفسه تأبى عليه إلا أن يكون قوياً في حيطته، شديداً في حذره من أولئك القوم، وقد تجسد ذلك في أوائل حياته في الإسلام، وفي أوائل سيرته مع ركب المؤمنين من صحب محمد صلى الله عليه وسلم.

قوة عمر رضي الله عنه وشدة حذره من الكفار

لما أراد عمر الهجرة هو وبعض الصحابة قص علينا خبره؛ فقال: اتعدت -أي: تواعدت- أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي عند أضاة بني غفار، وكان موعدهم أن من أتى منهم مضى، ومن حُبس تُرك، قال: فجاءني عياش وحبس عنا هشام ، ثم مضى هو وعياش بن أبي ربيعة مهاجرين إلى المدينة النبوية قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغا قباء، ونزلا في بني عوف، فجاء أبو جهل وأخوه الحارث ، وقد كان أبو جهل أخاً لـعياش من أمه، وأدركا عمر وعياشاً وهما في قباء، فجاء أبو جهل وقد كان يمثل موقف القوة وصورتها في صف الكافرين، كما كان عمر يجسد صورة من صور القوة في صف المسلمين، فجاء أبو جهل إلى أخيه عياش وهو يريد أن يثنيه عن عزمه، ويريد أن يثبطه عن هجرته، فجاء إليه وهو يقول: إن أمك قد نذرت ألا يظلها سقف، وألا يمس رأسها دهن حتى تراك. وهذا أسلوب من أساليب الضغط النفسي، وأسلوب من أساليب التأثير العاطفي، وفي بعض الروايات: فما زال أبو جهل يفتل في الذروة والغارب، أي: ما زال يدور ويحور ويناقش ويعارض حتى كأن عياشاً لان له، فالتفت عياش إلى رفيق هجرته عمر يريد رأيه ومشورته، فانظر إلى قوة عمر في شدة حيطته وحذره، فإذا بـعمر يقول لـعياش رضي الله عنه: والله ما أرادا إلا دينك. أي: أي شيء يريدون؟ أهم أحن عليك من أمك؟ أهم ينظرون إلى هذه المعاني الإنسانية؟ أهم يلتفتون إلى هذه الأمور العاطفية؟ وقد كان عمر أبعد في نظره وأعمق في فكره وأقوى في قوته من عياش رضي الله عنه، فهتف بها واضحة قوية: والله ما أرادا إلا دينك! ثم قال: فاحذرهما، ولا تذهب معهما، فوالله لو آذى أمك القمل لادهنت وامتشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت. أي: دع عنك مثل هذه الأقاويل المثبطة، ودع عنك مثل هذه الخدعة الهامشية التافهة، إذ كان عمر أعلى وأقوى من هذا كله؛ فقال هذه المقالة لـعياش ، ولكن عياشاً قد تأثر بذلك رضي الله عنه، فقال: ولي مال في مكة آخذه فأعين به المسلمين، لكن عمر ما يزال في موقفه من الحيطة والحذر وقوته في حماية الدين والحياطة له، فقال: إنك تعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فخذ شطر مالي ولا تذهب معهما، فرأى إلا أن يذهب، فقال عمر : أما وقد عزمت أن تذهب فخذ ناقتي هذه؛ فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.

انظر إلى هذه القوة التي تستمر في هذه المواقف ولا تخور، ولا تنثني، ولا تتغير، بل كان يستمر في الحيطة إلى آخر الأمر، وقد كان من الأمر ما قال عمر ، فلما كانوا في بعض الطريق قال أبو جهل : قد استوحشت واستصعبت جملي، فهلا أركبتني ناقتك يا عياش ؟! فأناخ عياش ، وما عنده حيطة عمر وقوته وشدته، فلما أناخ واستبدل الناقة قيداه وكتفاه، ثم ذهبا به إلى مكة أسيراً يضربانه، وفي بعض الروايات: أنه جلده كل واحد منهما مائة جلدة، وكان أبو جهل يقول: هكذا افعلوا بسفهائكم كما نفعل بسفهائنا.

فـعمر رضي الله عنه كانت قوته واضحة في الحيطة والحذر من الكافرين؛ لا يأمنهم، ولا يغتر بقولهم، ولا ينخدع بمعسول كلامهم.

موقف عمر مع عمير بن وهب

وهكذا كان له موقف آخر: يوم جاء عمير بن وهب بعد بدر، وكان قد خلا بـصفوان بن أمية يندبان ما كان من قتلى قريش في بدر، ويتحرقان شوقاً لقتل محمد صلى الله عليه وسلم، فأعطى صفوان عميراً مالاً وجهزه ليمضي إلى قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ سيفه وذهب إلى المدينة، بحجة أنه يريد أن يفدي ابناً له عند المسلمين من أسارى بدر، فلما رآه عمر وقد أناخ ناقته عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى سيفه معلقاً برقبته مضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليسبقه إليه، فقال: يا رسول الله! هذا عمير بن وهب عدو الله مرني لأضرب عنقه، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (أدخله علي يا عمر)، فجاء به عمر وهو ممسك بتلابيبه -شد عليه ملابسه- حتى دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتعد فرائصه فرقاً وخوفاً من عمر ، فقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: (أرسله يا عمر !)، فاستجاب عمر أمر النبي عليه الصلاة والسلام، فماذا صنع؟ أكان يترك النبي مع عدو من أعداء الله؟ الجواب: لا، وإنما خرج عمر وقال لبعض الأنصار: ادخلوا فكونوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يخلصن إليه عدو الله، وإنما خرج لأن نفسه لم تتحمل أن ترى هذا الكافر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه قوته في الحذر من الكافرين.

وكانت قوته أيضاً في إذلال الكافرين، فقد كان دائماً يحقق معنى العلو والاستعلاء بالإيمان المأمور به في قوله عز وجل: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، فكان يرى كل مؤمن مهما كان فقيراً ضعيفاً هو أقوى وأعز من كل كافر مهما كان غنياً قوياً فتياً.

وهكذا كان عمر دائماً في كل المواقف تظهر قوته ليذل أهل الكفر والكافرين.

قوة عمر رضي الله عنه عند هجرته إلى المدينة

في يوم هجرته يروي علي رضي الله عنه فيقول: ما هاجر أحد من المهاجرين إلا مستخفياً إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه لما أزمع الهجرة توشح سيفه، وتنكب قوسه، وأخذ أسهمه بيده، ثم أتى البيت فطاف متمكناً، ثم صلى خلف المقام، ثم مر على حلق قريش حلقة حلقة وهو يقول: شاهت الوجوه، والله لا يغضب الله إلا هذه المعاصي، ثم نادى فيهم بقوة: من أراد أن تثكله أمه، من أراد أن ييتم ولده، من أراد أن يرمل زوجه فليلحق بي إلى بطن هذا الوادي!

فهل لحق به أحد من المشركين؟ لم يجرؤ أحد منهم -وفيهم من فيهم من الصناديد والعظماء- أن يفكر في مجرد اللحاق بـعمر رضي الله عنه، لقد أذلهم بهذه المقالات الإيمانية وبهذا الاستعلاء الإيماني وهو يطوف بهم في مجالسهم، ويسفههم بلسانه، ويتحداهم بفعله؛ حتى يظهر عزة الإيمان وعزة الإسلام.

اعتزاز المسلمين بإسلام عمر رضي الله عنه

وكانت قوة عمر أيضاً في الاعتزاز بالدين وإعزاز المسلمين، فهذا ابن مسعود -كما يروي الإمام البخاري - رضي الله عنه يقول: ( ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر رضي الله عنه )، لقد كان في قلبه فيض من القوة، وفي نفسه بحر متلاطم من العزة يأبى إلا أن يعز به هذا الدين، وأن ينصر به إخوانه المؤمنين، فلما أسلم عمر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي قد رأى في الإسلام انتشاراً، وقد رأى في صحبه كثرة تناسب الظهور، فقال عمر : ما ينبغي لنا أن نختفي بديننا، فاستجاب له النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فخرج المسلمون في صفين في أحدهما عمر بن الخطاب فاروق الأمة، وفي الآخر: حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم المشركون -ورأوا على وجه الخصوص عمر وحمزة - علتهم الكآبة ودخلهم الهم والغم وما استطاع أحد منهم أن ينطق ببنت شفة، وما تكلم أحد منهم بكلمة؛ لهذه القوة والهيبة التي كان عمر يعز بها دين الله، وينصر بها عباد الله.

عزة عمر يوم أحد

ولما كان يوم بدر وانتصر المسلمون، وجاء بعده يوم أحد وحل ما حل بالمسلمين، وجاء أبو سفيان بعد المعركة واندلاع غبارها يسأل: أفيكم محمد؟ أفيكم أبو بكر ؟ أفيكم عمر ؟ فصاح به عمر : قد أبقى الله لك ما يخزيك يا أبا سفيان ! ثم قال أبو سفيان : اعل هبل، قال عمر : الله أعلى وأجل. فقال: الحرب سجال يوم بيوم بدر، فقال عمر رضي الله عنه: لا سوى؛ قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. وكلما جاء بكلمة رد عليه عمر رضي الله عنه، حتى قال: اعل هبل، فقال عمر رضي الله عنه: الله مولانا ولا مولى لكم، هكذا كان عمر لا يرضى الدنية في دينه، ولا يرضى الضيم على المسلمين ولا الذلة على أمة الإسلام، حتى كان يتحرق ويتحرك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.

موقف عمر في صلح الحديبية

ونعلم موقفه الشهير في صلح الحديبية، فبعد أن قُضيت وانتهت بدر وأحد والخندق، وبعد أن أعز الله المسلمين، وجاءوا إلى بيت الله معتمرين، ثم صدوا عنه من قبل المشركين، وجاء بالمفاوضة، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع والقبول بالصلح، جاء عمر وقد تحركت غيرته الإيمانية، وحميته الإسلامية فقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟)، إنها كلمة ما زال عمر يشقها في آذان المسلمين إلى اليوم، هذا هو ظاهر الموقف، أما النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فقد كان مسدداً بالوحي، فقال: (إني رسول الله؛ وإنه لن يضيعني أبداً)، لكن عمر هكذا كان لا يحب أن يرى موقفاً فيه إهانة للإسلام، أو إذلال للمسلمين بأي حال من الأحوال، وهكذا كان عمر في مواجهة الكافرين.

وأيضاً فإن قوته كما ظهرت في نصرة المسلمين، وفي إعزاز الدين، فقد ظهرت في مواجهة الكافرين، فكان في قلبه وفي نفسه شدة وغلظة عليهم، هدفها هو: إعلاء راية الله عز وجل، وإخضاع كل قوي وجبار ومتكبر لنهج الله ولشرع الله ولهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

موقف عمر رضي الله عنه من أسارى بدر

ويوم انجلى غبار المعركة في بدر، وكان بين يدي المسلمين سبعون أسيراً من صناديد قريش، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ( يا نبي الله! بنو العم والعشيرة والإخوان؛ فإني أرى أن تأخذ منهم فدية، فيكون ما أخذنا منهم قوة، عسى الله أن يهديهم فيكونوا لنا عضداً ). هذه رقة أبي بكر ، وهذا لينه، فانظر إلى شدة عمر ، وإلى حزمه وقوته رضي الله عنه، لما التفت له الرسول فسأله: (ما ترى يا عمر ؟!)، فقال: والله! ما أرى رأي أبي بكر ، قد كان صريحاً في الحق، قد كان مخلصاً في النطق، قد كان جريئاً فيما يظنه مصلحة للمسلمين، قال: ( والله! ما أرى رأي أبي بكر ، ولكن أرى أن تمكنني من فلان فأضرب عنقه، وأن تمكن حمزة من فلان -أخ له- فيضرب عنقه، وأن تمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه؛ حتى يعلم أن ليس في قلوبنا هوادة للكفار )، وهؤلاء كانوا صناديدهم وقادتهم وأئمتهم، ثم تنزل الوحي من فوق سبع سموات يشير إلى أن رأي عمر رضي الله عنه كان رأياً وجيهاً حكيماً: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:67]، هكذا كان عمر رضي الله عنه في مواجهة الكفر والكافرين.

موقف عمر رضي الله عنه من أبي سفيان في صلح الحديبية

وانظر إلى موقف آخر من المواقف الطريفة والعجيبة التي تتجلى فيها قوة عمر بأظهر ما تكون في شدته على الكافرين: يوم نقضت قريش عهدها في صلح الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتدت على حلفائه، ورأت أنها بذلك قد ارتكبت خطأً فادحاً، ويوشك النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرك جيوش الإيمان وجند الإسلام فيسطو على خضراء قريش وبيدائها، فأرسلوا أبا سفيان حكيمهم ومفاوضهم عله أن يهدئ من روع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: شد العقد، وزد في المدة. فجاء أبو سفيان إلى بيت بنته أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان منها ما كان؛ إذ طوت عنه فراش النبي صلى الله عليه وسلم، فاستغرب، وقال: ( أرغبت به عني أم رغبت بي عنه؟! ) فقالت: (إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك امرؤ نجس)، ثم مضى إلى أبي بكر يريد أن يكون شفيعاً له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر ، ثم مضى إلى علي وقال: أنت أقرب الناس إلى محمد فكلمه، فقال: (قد والله رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأياً، ولا يكلمه فيه أحد)، ثم أخطأ أبو سفيان خطأً فادحاً فذهب إلى عمر ليكون شفيعاً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش وكفارها وصناديدها، فأي شيء قال عمر رضي الله عنه؟ قال: (أنا أشفع لكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! والله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به)، أين عقلك يا أبا سفيان ! أوعمر يشفع في أعداء الله؟ ولو لم يجد من قوة إلا الذر والنمل لقاتل به الكفار؛ من شدته عليهم، وحنقه منهم، وتأديبه لهم، هكذا كان عمر في قوته في مواجهة الكافرين، وهكذا كانت صورته التي جعلته مؤهلاً بعد ذلك لقيادة المؤمنين.

قوة عمر رضي الله عنه وصراحته في الحق وموقفه في ذلك يوم الحديبية

ومع هذه القوة في هذه الجوانب كانت لـعمر قوة في جانب من أهم الجوانب، ذلك أنه كان قوياً في الصراحة في الحق، وقوياً مع ذلك في الالتزام والسمع والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي موقف الحديبية لما قال له النبي ما قال، سكت عمر ، وسكن غضبه، وهدأت حميته، وعلم ما كان من نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال -كما في بعض الروايات-: (فلم أزل أكفر وأستغفر من الذي قلت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية).

ثم انظر أيضاً إلى صراحته التي قد يظهر لأول الأمر أنها لا تتفق مع قوته، فيوم جاء النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية، وأرادت قريش أن ترده، أراد أن يبعث إلى قريش مبعوثاً ليخبرها أن النبي وصحبه لم يأتوا إلا معتمرين، وللبيت معظمين، وما جاءوا محاربين مقاتلين، فدعا الرسول عليه الصلاة والسلام عمر ليبعثه إلى قريش، وهو المؤمن العظيم في إيمانه، القوي الشديد في قوته، لكنه كان أيضاً قوياً في الصراحة، وقوياً في رعاية المصلحة الإسلامية، ولم تكن قوته تهوراً، ولم تكن حميته طيشاً واندفاعاً، فقال للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب -أي: قومه- أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة عمر رضي الله عنه، وما كان في ذلك الموقف جبن ولا خوف، بل كان فيه قوة وشجاعة في الحق، ونظر إلى رعاية المصلحة الإسلامية، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم أمره لامتثل؛ فإنه كان وقافاً عند حدود الله، قوياً في التزام أمر الله سبحانه وتعالى.

وفي يوم الحديبية أيضاً بعد أن وقف عمر موقفه، والتزم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، جاء أبو جندل وهو من المستضعفين المسلمين المحبوسين في مكة، جاء وهو يرسف في قيوده، وأبوه هو الذي أمضى العقد ممثلاً لقريش، جاء يريد أن يلتحق بالمسلمين، وتصوروا هذا الموقف: هذا مسلم مستضعف يعذب لأجل دينه، جاء راكباً مقيداً بقيوده، وهو يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخوانه المسلمين رأي العين، يريد أن ينضم إليهم، وأن يلحق بهم، وأن يكون معهم، ولكن العهد والميثاق قد أُبرم، والمسلمون عند شروطهم، ولا أحد أوفى بعهوده منهم، فماذا فعل عمر رضي الله عنه؟ لم يخرق الالتزام، ولم تأخذه شدته وقوته، ولكن كانت قوته فيها التزام، وكانت شدته تظهر على أعداء الإسلام، فقال عمر رضي الله عنه: ( فماشيت أبا جندل ، وكنت أقول له: اصبر يا أبا جندل ! اصبر يا أبا جندل ! ) هذا جانب الالتزام وقوته فيه، ثم قال له: ( إنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم مثل دم الكلب )، وجعل يدني قائم السيف منه، ماذا يريد عمر ؟ قال: ( وكنت أريد أن يأخذ السيف فيضرب به عنق أبيه )، أي: بدون أن يكون هناك إخلال بالعهد؛ لأن أبا جندل لم يكن ممن أبرم العهد ودخل فيه، قال: ( فما زلت أقول له: إنهم المشركون، وإن دم أحدهم مثل دم الكلب، وأدني منه قائم السيف لعله أن يضرب به عنق أبيه، فضن الرجل بأبيه )، ومضت القضية، وهكذا كان موقف عمر رضي الله عنه مع قوته، فهو قوي في التزام أمر الله وفي التزام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت قوته طيشاً ولا تهوراً رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا ينبغي أن تكون لنا القوة في هذه الجوانب.

فأسأل الله عز وجل أن يرزقنا القوة في دين الله، والقوة على أعداء الله، والقوة في نصرة عباد الله.

شدة عمر رضي الله عنه في دين الله عز وجل

أيها الإخوة المؤمنون! عندما نقف هذه الوقفات مع قوة عمر قد يقول القائل: فأين السماحة؟ وأين اللين؟ فأقول: قد أسرف الناس اليوم في أمر السماحة واللين وما يتصل بهما؛ حتى انقلب الأمر إلى مجاملات، ثم إلى مداهنات، ثم إلى منافقات، ثم إلى تنازلات، ثم إلى إعطاء الدنية في الدين، ثم إلى بيع الدين بالدنيا. نسأل الله عز وجل العافية.

وكأني بـعمر لو شهد مثل مواقفنا ومجتمعاتنا وأقوالنا لتفجر غيظاً من هذا التميع والتساهل والترخص بحجة إظهار سماحة الإسلام، والإسلام كله سماحة، وكله لين، وكله رفق، لكن فيه شدة، كما قال عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، هذا وصف النبي الكريم ووصف صحبه رضوان الله عليهم، أفلا نرضى أن نأخذ بهذا الوصف؟ أفلا نجرؤ أن نقتفي آثار القوم، وقد كان عمر كذلك، وقد بين لنا حقيقة موقفه في شدته، ولم يدع لقائل مقالاً، ولم يدع لشبهة بقاءً، فإذا هو يخطب الناس عندما ولي أمره، فهو يعلم ما في قلوبهم من هيبته وشدته وقوته، وقد كان الناس في عهد أبي بكر يدنون منه؛ حتى إذا مشى في الطريق جاء صبيان المسلمين إلى أبي بكر يلاعبونه، فيمسح رءوسهم، وهكذا كانت سجيته: لين هين، أما عمر فكان الرجال يفرقون منه، ويتفرقون عنه، ويخافون عندما يرونه، وكانت هذه هيبته وشدته، لكنه جعل لكل شيء موضعاً، فقد رقى المنبر يشرح منهجه في القوة، وقال للناس مقالة عظيمة شرح لهم فيها موقفه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر من بعده فقال: ( بلغني أن الناس هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وأبو بكر والينا دونه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟! ) إنه يتحدث بما يجول في خواطرهم، وبما يهجس في نفوسهم، فإنهم يقولون: عمر كان شديداً بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وغليظاً بين يدي أبي بكر ، فكيف وقد صارت الأمور إليه، والأمر رهن إشارته؟! فإذا به يقول: ( ومن قال ذلك فقد صدق، كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكنت عبده وخادمه، وكان لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان كما قال الله: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فكنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه سيفاً مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فأمضي ).

لقد كان رضي الله عنه رهن الإشارة وطوع الأمر، فإن دعته قوته إلى أمر وأجيز مضى، وإن منع وقف.

قال: ( وكنت مع أبي بكر ، وكان من لا تنفد دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدته بلينه، وأكون سيفاً مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فأمضي، ورغم أني وليت أموركم أيها الناس! واعلموا أن تلك الشدة قد أُضعفت -أي: تضاعف، فتصوروا ماذا خالط قلوب القوم وهم يسمعون عمر يقول هذا؟- ولكن إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، أما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يتعدى عليه؛ حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق -هذه هي القوة فانظر إلى اللين- وإني بعد شدتي تلك أضع خدي على الأرض لأهل العفاف ولأهل الكفاف ).

وقد كان عمر رضي الله عنه كما قال، فكان منهجاً في القوة فريداً، وكان يضع كل شيء في موضعه وضعاً عجيباً.

هيبة الناس من عمر رضي الله عنه لشدته وحزمه

وانظر أيضاً إلى موقف آخر يوضح فيه عمر هذا الأمر توضيحاً عجيباً فريداً: اجتمع بعض الصحابة ورأوا من عمر في شدته ما يدعوهم إلى أن يكلموه في ذلك، فانتدبوا عبد الرحمن بن عوف ، وكان أجرأهم على عمر ، فجاء إلى عمر وقال: ( يا أمير المؤمنين! لن للناس، فإنه يقدم القادم -أي: من بلاد المسلمين- فتمنعه هيبتك أن يكلمك في حاجته حتى يرجع ولم يكلمك، قد خاف الناس أن يكلموك بحوائجهم )، فماذا قال عمر رضي الله عنه؟ قال: ( أنشدك الله، أقال لك هذا فلان وفلان؟ ) أي: هذا ليس قولك وحدك، بل هو قول جمع من الصحابة، فقد كان عمر يعرف ذلك منهم، ويعرف هيبتهم له، وجرأة عبد الرحمن عليه، فقال: ( نعم، فقال عمر : يا عبد الرحمن ! لقد لنت للناس حتى خشيت الله في ديني، ثم اشتددت عليهم حتى خشيت الله في شدتي، وايم الله! لأنا أشد منهم فرقاً -أي: خوفاً من الله- منهم مني )، أي: أنا أشد خوفاً من الله من خوفهم مني، فأين المخرج؟ فماذا يقصد عمر ؟ قال: ( إني ألين ولا أترك اللين إلا عندما أرى أنه ضعف في الدين، وأشتد ولا أطلق الشدة إلا أن أرى أنها غلظة ليست في موضعها، وأجتهد في ذلك رعاية المسلمين ومراقبة لله، فوالله! إني لأشد منهم فرقاً منهم مني )، ثم جر رداءه وخرج يبكي رضي الله عنه وأرضاه، فالتفت عبد الرحمن بن عوف وهو يقول: ( أف لهم من بعدك يا عمر ! أف لهم من بعدك يا عمر ! ).

وهكذا نجد هذه الفلسفة وهذا الشرح والبيان في موقف عمر في قوته رضي الله عنه، فقد كان كما قال الشاعر:

في الجاهلية والإسلام هيبته تثني الخطوب فلا تعدو عواديها

في طي شدته أسرار مرحمة للعالمين ولكن ليس يحكيها

وبين جنبيه في أوفى صرامته فؤاد والدة ترعى جراريها

أغنت عن الصارم المسلول درته فكم أخافت غوي النفس عاديها

قد كانت شدة عمر نصرة للحق، وكان لينه تقريباً لأهل الحق، وهكذا كان عمر رضي الله عنه لا تأخذه في الله لومة لائم، وهكذا كان يجسد ما أنبأنا الله عز وجل به في شأن وصف أهل الإيمان الذين يحبهم الله عز وجل ويحبونه، فقد جاء في وصفهم قوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، وقد كان عمر كذلك، فقد كان يعس ويرعى شأن العجائز والأطفال والصغار، بل كان يبكي ويرق لهم، بل كان يخدمهم بنفسه رضي الله عنه، وهكذا جسد المعنى الذي ذكره النبي الكريم في قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، وكان عمر رضي الله عنه يريد بقوته أن يعز الإسلام، وأن يظهر قوته، ويريد بلينه أن يدعو إلى الإسلام وأن يظهر سماحته، فكان في كل موقف داعياً لله عز وجل، وكان في كل موقف ملتزماً أمر الله سبحانه وتعالى، وكان مجسداً لصورة الإسلام الحق في أبهى وأجلى وأنصع صوره، وما أحرانا أن نتلمس مثل هذه القوة بمثل هذا المنهج في سيرة عمر رضي الله عنه.

فالله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، والله أسأل أن يجع


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
السيرة العمرية [3] 1645 استماع
السيرة العمرية [1] 1222 استماع