السيرة العمرية [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، الحمد لله الكريم المنان، دعا إلى الطاعة والإيمان، وأمر بالعدل والإحسان، جعل لكل شيء قدراً، وكتب لكل حي أجلاً، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بعثه كافة للناس أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين.

وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين!

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! لا شك أن أوضاع المسلمين وأحوال مجتمعاتهم تنبئ عن وجود مفارقات ومخالفات، ويظهر من خلالها ذلك البعد عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتفاوت ذلك من بلد إلى بلد ومن فرد إلى فرد، وبقدر هذا التفاوت وبمقدار ذلك البعد يكون العناء والشقاء، وتكون الذلة، ويقع الصغار، وبقدر ما تعود الأمة إلى كتاب ربها، وتسعى إلى تتبع هدي نبيها صلى الله عليه وسلم، بقدر ما ترجع إليها عزتها المفقودة، وهيبتها الضائعة، وقوتها المبددة.

ونحن في هذا الزمن الذي فشا فيه الظلم في كثير من البلاد، وجثم على صدور معظم العباد، تتلهف النفوس إلى العدل الذي يطمئنها، ويدخل عليها السرور.

ونحن في هذا الزمن الذي رق فيه الدين، وضعف فيه اليقين عند كثير من المسلمين، تتلهف قلوبنا إلى نماذج من اليقين الراسخ والإيمان الصادق.

ونحن في هذا الزمن الذي سرى فيه الضعف، وفشا فيه الكسل، ودب بين كثير من أبناء الأمة الخور، نتلفت لنرى صور القوة الإيمانية، ونبحث عن صور العزة الإسلامية.

ونحن في هذا الزمن الذي كثرت فيه المداهنة، وانتشر النفاق، نبحث عن صورة الحزم والعزم والجد والمفاصلة في دين الله عز وجل.

ونحن في هذا الزمن الذي ضُيعت فيه الأمانة، وغابت فيه المسئولية؛ حتى غدت المسئوليات أموراً ملهيات وأموراً مغريات، وأصبحت تعتمد على المجاملات، نبحث عن صورة المسئولية في نموذجها الإيماني الذي يراقب الله عز وجل، ويحرص على مصلحة الأمة.

ونحن في ظل هذه الصور من التخلف والمخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى نحتاج إلى النماذج التي تذكرنا بمنهج الإسلام، وتذكرنا بتربية محمد صلى الله عليه وسلم، وتذكرنا بالتاريخ العريق الذي ضرب فيه المسلمون أروع الأمثلة على شمول هذا الدين وكماله، وعلى تنظيمه لشئون الدنيا ورعايته لأمور الآخرة في المجتمع الإسلامي الذي يرفع شعاراً إسلامياً في كل أمر من أمور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، نحن نريد نماذج من مدرسة النبوة.

عندما كنت أتصفح بعض هذه النماذج رأيت نموذجاً أرى أنه النموذج الذي يعد قمة شامخةً من قمم الإسلام السامقة، تحنو أمامه كل الهامات التي ترتفع غروراً، وكل العظمة التي تنتفخ وليس لها أصل ولا فصل، وعندما نتأمل في هذه السيرة وفي تلك الشخصية نجد كثيراً من الحنين والشوق إليها؛ لما ضاع من معانيها ومعالمها في حياتنا.

إنها معالم السيرة العمرية؛ سيرة الفاروق رضي الله عنه، ثاني خلفاء هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتحدث دائماً ويتردد في آذاننا نبأ العدل العمري، وقصص الحزم العمري، وفصل القول العمري، ونعرف قصة الدرة العمرية، ونعرف العسس بالليل في سيرة عمر ، وهكذا أموراً وأموراً كثيرة أخرى، فعندما طالعت بعض هذه المواقف رأيت أنني أنشد إليها شداً، وأنجذب إليها جذباً؛ لأنه بقدر ما يكون فيك من فراغ وضعف بقدر ما تنجذب إلى القوي، ونحن اليوم تغيب عنا كثير من معالم السيرة العمرية في العدل والحزم والجد والمسئولية والورع والتواضع والقوة في الدين؛ فأحببت أن يكون لنا من السيرة العمرية ذكرى نحيي بها ما مات من هذه المعالم والمعاني في عقولنا وقلوبنا، ونتذكرها لتكون واقعاً حياً في حياتنا، وعندما نقول: عمر رضي الله عنه، وعندما نذكر الفاروق رضي الله عنه فليس لنا أن نتحدث عنه بألسنتنا، وليس عندنا من قدرة مهما رأينا من عظمته ومهما رأينا من سبقه وقوته ونصرته لدين الله ليس في أساليبنا ولا في بلاغتنا ولا في إمكاننا أن نصف عمر بمثل ما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمثل ما نطق به الصديق أبو بكر رضي الله عنه، وبمثل ما قال عثمان وعلي وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إننا في الحقيقة عندما نتحدث عن عمر بألسنتنا نجهل قدر عمر ، ونغض من مكانته، وإذا أردنا أن نعرفه أو أن نهيئ القلوب لتلقي سيرته أو أن نحيي في نفوسنا ما مات من هذه المعاني العزيزة، فلنستمع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في عمر المبشر بالجنة، ففي الحديث الصحيح عند البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: (بينما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقيل: لـعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأسرعت بعيداً منه، وتذكرت غيرتك يا عمر ! فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: أمنك أغار يا رسول الله؟!)، إنها صورة تمثل لنا تلك الشخصية في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعبر عن هيبته من غيرة عمر ومن حياء عمر ومن قوة عمر ، وذلك في المنام في رؤيا يرى فيها قصراً لـعمر في الجنة تتوضأ إلى جانبه امرأة.

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده في يوم من الأيام نساء من قريش -ذكر بعض أهل الحديث أنهن من أزواجه- وكن يتحدثن إليه، وتعلو أصواتهن بين يديه، فدخل عمر رضي الله عنه، فانقمعن، وابتدرن إلى حجبهن فقال: يا عدوات أنفسكن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: نعم؛ فإنك فظ غليظ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كذلك -وما كانت فيه فظاظة، ولكنه حزم، وما كانت فيه غلظة، ولكنها قوة وهيبة- فلما رأى ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تبسم وضحك عليه الصلاة والسلام، وقال: (إيهٍ يا ابن الخطاب ! والذي نفسي بيده! ما لقيك الشيطان قد سلكت فجاً قط إلا سلك فجاً غيره).

عجباً لهذه القوة، ولتلك الهيبة، ولذلك الإيمان، ولتلك العظمة التي فرق منها إبليس الذي أقسم بأن يغوي بني آدم، وأن يقعد لهم بكل صراط، وأن يقف لهم على كل ناصية، وأن يكون مقدماً لهم في كل ميدان من ميادين الشر، فإذا به ينقمع عن عمر ، وإذا به يخشى الفاروق ، وإذا به يفرق من الفاروق رضي الله عنه، هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

وجاء أن عمر قال: من يحدثنا حديث الفتن؟ فقال حذيفة : أنا يا أمير المؤمنين! فقال: إنك والله! لجريء، قال حذيفة: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتنة الرجل في أهله وماله وأنها يكفرها الصلاة، قال: لست عن هذا أنشدك، وإنما أسألك عن الفتن التي تموج كموج البحر، فقال حذيفة : يا أمير المؤمنين! إن بينك وبينها باباً -أي: ليست في زمانك ولا في عهدك، ولا يمكن أن ترفع رأسها وبيدك سيفك ودرتك، ولا يمكن أن يظهر صوتها وصوتك بالحق جاهر- فقال عمر رضي الله عنه: أيفتح أم يكسر يا حذيفة ؟ قال: بل يكسر يا أمير المؤمنين! قال: فإذاً لا يغلق، فقيل لـحذيفة : أكان عمر يعلم ما الباب؟ فقال: نعم، فهبنا أن نسأله، حتى سأله بعض منا خفية، فقال: الباب عمر. رضي الله عنه وأرضاه).

لقد كان يفر منه الشيطان، وتفر منه الفتنة، وينخنس الظلم، ويتوارى الضعف، فكان رضي الله عنه وأرضاه مجمعاً لخصال من الخير عظيمة.

وهذا أنس رضي الله عنه -كما في مسند الإمام أحمد - يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر رضي الله عنه، وأشدهم في دين الله عمر).

عمر ذاك الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، ذاك الذي لا تعرف المداهنة والنفاق إليه سبيلاً، ذاك الذي لا تعرف الشفاعة بغير الحق إليه طريقاً، فهل عرفنا من هو عمر بهذه الأقوال اليسيرة من بعض مناقبه الكثيرة رضي الله عنه؟

إننا عندما نتحدث عن عمر نتحدث عن قول علي رضي الله عنه في مفهوم حديث الفتنة الذي ذكرته، فإنه قال: (إن موت عمر ثلمة في الإسلام لا تُسد إلى يوم القيامة)، ولقد كان علي رضي الله عنه صادقاً مصدقاً في لهجته رضي الله عنه وأرضاه.

وهاهو علي رضي الله عنه -كما في مسند الإمام أحمد - يقول على ملأ من أصحابه، في الزمن الذي ظهرت فيه الفتن، وغلا في علي رضي الله عنه من غلا، فأراد أن يرد الناس إلى الجادة، وأن يعلمهم الصواب، وأن يعرفهم مقادير الرجال، فصاح في صحبه: ( ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى، قال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه. ثم صاح مرة أخرى: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكر رضي الله عنه؟ قالوا: بلى، قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه )، فليمت بغيظه كل شانئ لـعمر رضي الله عنه.

وفي بعض الروايات: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً وعن يمنيه أبو بكر وعن يساره عمر ، ثم قال: هكذا نبعث يوم القيامة).

ويوم اهتز أحد قال: (اسكن أحد؛ فما فوقك إلا نبي وشهيد وصديق)، هكذا كان عمر رضي الله عنه.

وهذه بعض الملامح والمعالم التي تهيئنا بأن نطيل الحديث في سيرة عمر ، وأن نستخرج المخبوء من الكنوز المشعة المضيئة والمعاني العظيمة والدروس الكثيرة في سيرة عمر رضي الله عنه.

نحن اليوم نرى الناس في عصرنا قد مالوا إلى الدنيا، وشغلت بها عقولهم، وانخطفت من بريقها أبصارهم، وتعلقت بحبها قلوبهم، يوم نرى ذلك نسمع قول عمر يدوي في سمع الزمان، ويصب في قلب كل مسلم ذي إيمان، وهو يقول: ( إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم؛ فإن كل محب يخوض فيما أحب).

وعندما نرى ذلك التميع والترخص والخور والضعف والتكاسل والتماوت الذي سرى في كثير من أبناء الأمة الإسلامية، بل في المتصدرين من قوادها وزعمائها، نستمع إلى قول عمر في حكمة موجزة، وكلمات بليغة معبرة سطرها في تاريخه الكريم، في تاريخه الوضيء وهو يقول: (إن هذا الأمر لا يصلح له إلا اللين في غير ضعف، والقوي في غير عنف).

لقد أرسلها حكمة، وطبقها واقعاً، فساس الأمة أعظم سياسة، وكان لها في عهده عظمة لا منتهى لها، حينما دك عروش كسرى وعروش قيصر، وحينما ذهبت جيوش الإسلام تفتح الأمصار، ثم يمضي الخليفة رضي الله عنه وأرضاه يمشي برجليه، ويركب على جمله؛ يتناوب مع غلام له، خرج من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يشق الصحراء إلى شمال الجزيرة؛ ليأخذ بيده مفاتيح بيت المقدس، ويفتحها باسم الله، ويرفع فيها ذكر الله عز وجل.

هكذا كان عمر رضي الله عنه، وهذا بعض ما يهيئنا إلى سيرته، وعندما نرى في واقعنا كثرة الجدل وقلة العمل نسمع عمر رضي الله عنه وهو يدعو قائلاً: (رحم الله امرأً أمسك فضل القول، وقدم فضل العمل)، فنحن أمة قوالة؛ تجيد كثيراً فن الخطب وتكثر كثيراً من الكلام مكتوباً ومقروءاً، مسجوعاً ومنثوراً ومنظوماً، ثم ليس لها في ميدان العمل إلا النزر القليل الذي لا يقدم متأخراً ولا يحرك ساكناً، إلا ما رحم الله، أما عمر فكان قليل الكلام كثير العمل رضي الله عنه وأرضاه.

وعندما نرى الأمانة التي ضُيعت والمسئولية التي غيبت نسمع عمر يخشى أن يُسأل عن بغلة تعثر في أرض العراق: لِمَ لم يسو لها الطريق؟ ونحن نعلم عمر وهو يعس في الليل؛ لينظر هل من شاكٍ أو من باكٍ أو محزون، ونذكر واقع الأمة اليوم ونسمع عمر وهو ينادي في سمع الزمان: (من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يحمله على استعماله إلا ذلك فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، ومن استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله)، وعندما يكثر اللغط واللغو، وتمتلئ المجالس بذكر السوءات وتلمس العثرات تأتينا مقالة عمر وهي نصيحة أثمن من الذهب والألماس وكل ما يغلو ويعز في هذه الدنيا وهو يقول لنا: (إياكم والحديث عن الناس! فإنه داء، واشغلوا أنفسكم بذكر الله؛ فإنه دواء).

أيها الأحبة! بمثل هذه المقالات اليسيرة أشوقكم لأشتاق معكم ونمضي لنتلمس كل مَعْلَم من معالم سيرة عمر على حدة؛ حتى نجدد مثل هذه المعاني والمعالم؛ لأن أمتنا اليوم قد تغيرت أحوالها كثيراً؛ فتحتاج إلى مثل هذه السيرة، وقد حل بها ما حل مما يصفه الواصفون، ويطنب فيه المطنبون، ويفيض فيه الشعراء والأدباء، حتى قال قائلهم في وصف أبناء هذه الأمة وما حل بها من نكبات وما شغلوا به مع ذلك كله من الترهات:

ديست كرامتهم واحتل موطنهم وأنفهم راغم في الوحل ممدود

وهم إلى اللهو سباقون غايتهم هز الخواصر والأوتار والعود

هذا فتىً تائه والعشق ديدنه وذاك صب أسير القلب معمود

وثالث طيف ليلاه يؤرقه وتستبد به أجفانها السود

وهؤلاء أضاعوا العمر في سفه وآخرون سكارى أو عرابيد

أولئك الذين ضلوا من أبناء أمتنا.. أولئك الذين ضاعوا وغفلوا كيف لنا أن نعيدهم؟! وأن نذكرهم؟! وأن نسعى نحن وهم؟! وأن نتلمس خطا عمر الذي كان واحداً من مدرسة النبوة على منهج الإسلام وبتربية محمد صلى الله عليه وسلم؟! نريد أن نذكر أنفسنا ونذكر مجتمعاتنا وأمتنا حتى تتجدد في الجيل الجديد هذه المعاني والمعالم، كما قال الشاعر:

فمن يذكر أبناء العروبة والإسـ ـلام بالعز والإكرام والغلب

ومن يقص عليهم ماضياً عطراً ومن يذكرهم بالفتية النجب

ومن يعلمهم أن البطولة في إجادة الطعن لا في جودة الخطب

وأن دينهم الغلاب منذ أتى لم يقبل العيش بين اللهو والطرب

وأن آباءهم سادوا الورى زمناً بالكد والجد لا بالنوم واللعب

هذا الذي أرت أن أحييه في نفسي وفي نفوسكم، وأن أذكر به نفسي وإياكم، فالله أسال أن يجدد لنا سيرة الخلفاء الراشدين، وصحب محمد ومن كان معهم من التابعين.

والله أسأل أن يلزمنا هدي نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يلزمنا كتابه.

والله سبحانه وتعالى أسال أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين!

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى العمل والاجتهاد في نصرة دين الله عز وجل، وتتبع آثار السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.

أيها الإخوة الكرام! إنما أردت في هذا المقام أن أهيج القلوب والنفوس إلى سيرة رجل من رجال الإسلام، عاش ثلاثين عاماً في الجاهلية في ظلماتها، فكان نسياً منسياً، وكان ظلماً وظلاماً، ثم أشرق قلبه بالإيمان، فدخل تاريخ البشرية كله، ورفع راية العدل في ربوع الأرض، ونشر نور الإسلام، وأدخله في قلوب ونفوس كثير من الناس بإذن الله سبحانه وتعالى.

كان عمر في الجاهلية نسياً منسياً، فعاد بعد الإسلام ذكراً مجيداً عاطراً.

كان عمر رضي الله عنه في الجاهلية من أشد الناس وأغلظهم وأفظهم، ثم إذا هو في شأن الإيمان والخشية والتقوى من أرقهم في دين الله سبحانه وتعالى، وكان ذا قوة وشكيمة، فإذا به يجعلها قوة في دين الله، وحراسة لدين الله، وحماية لعباد الله، هكذا كان عمر في جاهليته، لم يكن فيه من الصفات والمزايا غير أن خيراً كان يستقر في نفسه، وكانت فيه خلال تتوارى في ظلمات الجاهلية، فاستخرجها الإسلام، وفتح لها الآفاق، ورباها محمد صلى الله عليه وسلم حتى عظمت كأعظم ما تكون الجبال.

فهذه أم عبد الله بنت حنتمة -وهي من المسلمات المهاجرات- كانت تعد عدتها من أجل الهجرة إلى الحبشة، يوم أن كان عمر ما يزال يرسف في أغلال الجاهلية، وكان من أشد كفار قريش على أهل الإسلام، فأتى عمر رضي الله عنه ودارت في ذهنه أول خاطرة من الخواطر المهيئة لإسلامه: كيف يخرج هؤلاء الناس من أرضهم؟ وكيف يتركون أهلهم وقرابتهم؟ وكيف يخلفون أموالهم وديارهم؟ أي شيء سرى في أولئك القوم فغيرهم؟ وأي أمر خالط عقولهم وقلوبهم فنورهم؟

تروي لنا هذه الصحابية قصتها فتقول: لما أردنا أن نرتحل مهاجرين إلى الحبشة أقبل عمر ووقف علي، وكنا نلقى منه البلاء والأذى والغلظة علينا، فقال لي: الانطلاق يا أم عبد الله ؟ الرحيل؟ الوداع؟ الفراق؟ الهجرة؟ ترك الأهل والديار والأموال؟ الانطلاق يا أم عبد الله ؟ قلت: نعم، والله! لنخرجن في أرض الله؛ لقد آذيتمونا وقهرتمونا؛ حتى يجعل الله لنا فرجاً! إنها كلمات ما سمع بها عمر من قبل، ومبادئ ما رآها متجسدة في الواقع من قبل، فإذا بـعمر رضي الله عنه يرق، وتفجأه هذه القوة في موقف الحق، وهو يعرف القوة في أسمى معانيها، فيقول رضي الله عنه: صحبكم الله! تقول أم عبد الله : فرأيت منه رقة لم أرها من قبل، فلما جاء عامر بن ربيعة قلت له خبر عمر ، فالتفت إلي وقال: لعلك طمعت في إسلام عمر ؟ فقلت: نعم، قال: والله! لا يسلم؛ حتى يسلم حمار الخطاب ! قالها مستبعداً إسلام عمر ، مستنكراً أن يكون هذا الشديد على المسلمين الغليظ عليهم ممن سيكون يوماً ناصراً ومعزاً لهم بإذن الله، فانظر إلى أقدار الله كيف تسوق المرء إلى رضوان الله عز وجل، فكانت هذه أول ومضة.

ثم يذكر عمر رضي الله عنه كيف ساقته الأقدار مرة أخرى إلى إشراقة أقوى، فيروي لنا قوله: إنه مضى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعرض له، خرج ليتعرض للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، قال: فإذا هو قد سبقني إلى المسجد. أي: إلى بيت الله الحرام، قال: فقمت وراءه، فكان يقرأ من سورة الحاقة، قال عمر : ما رأيت مثل هذا الكلام، ثم قلت لنفسي: إنه شاعر، فتلا قول الله عز وجل في هذه السورة: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ [الحاقة:40-41]، قال: فقلت في نفسي: فإنه كاهن، فتلا قوله سبحانه وتعالى: وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة:42]، ثم تلا الآيات، قال عمر رضي الله عنه: فوقع الإسلام في قلبي، ولكن بقايا الجاهلية وظلماتها ما تزال تصارعني، وتأتي دعوة رسول الله مع قدر الله، وتنطلق الدعوة النبوية الكريمة: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين)، أي: إما بـأبي جهل . الذي هو عمرو بن هشام ، أو بـعمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأنهما كانا أشد الناس على المسلمين، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون إحدى هاتين القوتين للمسلمين على الأقل، فأصابت الدعوة عمر رضي الله عنه.

فتلك ومضة، ثم إشراقة، ثم دعوة، ثم يأتي القدر، ليروي لنا أهل السيرة قصة إسلام عمر رضي الله عنه: اجتمعت قريش لتنظر في شأن قتل محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بدأت هجرة أصحابه إلى الحبشة؛ تريد أن تتدارك الأمر، فقالوا: من يقتل محمداً؟ فقال عمر : أنا لها! كان صاحب قوة ومواقف، ولو كانت غير حق، فقالوا: أنت لها يا ابن الخطاب ! فتوشح سيفه، وخرج يتيمم موقع محمد صلى الله عليه وسلم، وقد سمع أنه هو وأصحابه يجتمعون في مكان ما في الصفا، فلقيه رجل -اختُلف في اسمه أو في إسلامه- فجرى بينه وبينه حوار ساقته إليه الأقدار الإلهية، فإذا بهذا الرجل يعترض عمر ، وهو قد خرج متوشحاً سيفه ليقتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أراد أن يتوشح سيفه ليقف منافحاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال له الرجل: أين تريد يا ابن الخطاب ؟! قال: أريد محمداً الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب آلهتها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله، هكذا كان عمر في ذلك الموقف، وهو يعيب محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم انقلب إلى أنه لو سمع شطر كلمة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى لها دواءً إلا قطع لسان صاحبها، أو فصل ما بين رقبته وجسده، هكذا صار عمر رضي الله عنه، فانطلق، فقال له الرجل: لبئس الممشى مشيت يا عمر ! وكان رجلاً ذكياً حصيفاً، فقال له: والله! لقد غرتك نفسك؛ ففرطت، وأردت هلكة بني عدي؛ أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي في الأرض وقد قتلت محمداً؟! أراد أن يصرف عمر بمثل هذه المقالة المخيفة، لكن عمر لا تثنيه هذه الكلمات العارضة وهذه التهديدات؛ فإنه من علو همته قد قال: أنا لها، فأراد أن يكون لها، وأراد الله عز وجل أن يكون لها بطريقة أخرى، فلم ينثن عمر عن هذا، فلما رأى الرجل عزمه قال: أوغير ذلك يا ابن الخطاب ؟! قال: وما ذاك؟ قال: أختك وختنك قد سبقوا إلى دين محمد وصبئوا. أراد أن يحرف الطريق، فرأى عمر -وقد كان ذلك ديدنه بعد ذلك في خلافته- أن يبدأ بأهله أولاً، فتوجه صوب بيت أخته وختنه؛ حتى يقوم ما اعوج في نظره، ثم ينصرف بعد ذلك إلى الغاية الأخرى، وأراد الله به الخير، فجاء وهم مع خباب بن الأرت يتدارسون القرآن خفية في ذلك الزمن في العهد المكي، فسمع هينمة القرآن، ثم دخل عمر بقوته، وبشدته، وبهيبته، دخل وقد اختبأ خباب رضي الله عنه حينذاك، ودخل عمر يسأل: ما هذه الهينمة التي تُسمع؟ قالوا: لا شيء؛ كنا نتحدث، كانت القلوب ترتعد من عمر خوفاً، لكن قلوب المؤمنين لا تأبه بالطغاة والجبارين، فلما رأى عمر هذه المقالة، قال: والله! لقد سمعت نبأً، وبدأ يرعد ويتوعد، فأراد ختنه سعيد بن زيد رضي الله عنه أن يواجه عمر بالحق، وأن يجهر في وجهه بالدعوة، وأن يظهر علو الإيمان وقوة الإسلام، فقال: يا عمر ! أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فماذا قال عمر ؟ لم يكن قوله كلاماً وإنما كان ضرباً ولكماً، فوثب عمر على ختنه يضربه ويصارعه، فجاءت المرأة الضعيفة بجسمها، القوية بإيمانها، العزيزة بإسلامها، جاءت تذوده عن زوجها، وتضربه بيدها، فنفحها نفحة أزاحها عنه، وأدمى وجهها، فتحركت قوة الإيمان في قلبها رضي الله عنها، وقالت: يا عدو الله! أتضربني على أن أوحد الله؟ قال عمر في غيظته وشدته: نعم، فقالت له: ما كنت فاعلاً فافعل؛ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله! فأدركت عمر رقة، وجاءته دعوة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطوني صحيفتكم أقرأ فيها، وما كان هناك ذلك الخوف ولا التميع، فقالت: إنك امرؤ كافر نجس؛ وإنه لا يمسه إلا المطهرون، قم فاغتسل يا ابن الخطاب ! فصارت تأمر عمر وتوجهه، فاستكان بداية لسكينة الإيمان، واغتسل عمر ، وجاء يقرأ، والروايات في ذلك فيها أقوال كثيرة، ومنها: أنه قرأ أول طه: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [طه:1-6]، قرأها عمر رضي الله عنه فانخلع لها قلبه، ورأى فيها عظمة؛ حتى قال: من كان هذا وصفه لا يصح أن يعبد معه غيره، ثم قال: دلوني على محمد، فدلوه على المكان بعينه، وهو دار الأرقم بن أبي الأرقم في أسفل الصفا، فمضى عمر ، وكان قد أسلم قبله بثلاثة أيام أو نحوها -كما في السير- حمرة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله، فرأى أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام عمر متوشحاً سيفه ميمماً دار الأرقم ، فتهامس القوم خوفاً، وتكلموا بما قد يقع من عظائم الأمور والويل والثبور، فنطق حمزة : من؟ قالوا: عمر . قال: افتحوا له، فوالله! إن جاء يريد الإسلام وإلا فإن قتله علينا أسهل ما يكون، وهو عمر ، لكن الإيمان أعظم وأقوى من عمر ، فاستؤذن له على رسول الله، فقال: (دعوه يدخل)، فلما دخل وكان متوشحاً سيفه معلقاً له، تروي الروايات في السيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بمجامع ثوبه وحمائم سيفه فنتره نترة وطأه بها عليه الصلاة والسلام، ثم قال: (أما آن لك أن تسلم يا ابن الخطاب ؟!)، فقوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهيبته استولت على عمر ، فنطق قائلاً: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله! فبدأ تاريخ عظيم، وسيرة مجيدة، جدير بنا أن نقف معها، وأن نتأمل فيها، فالله نسأل أن يوفقنا لذلك، وأن يبصرنا بما في سير القوم من خير ومن بر وصلاح ومن قوة وإيمان.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والحمد لله رب العالمين.