السيرة العمرية [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون! المسئولية العمرية معلم بارز من معالم السيرة العمرية النورانية، وقد وقفنا من قبل مع قوة عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، فلننظر إليه اليوم وهو يتحمل أمانة الله عز وجل، وهو يتكلف مسئولية الأمة كلها، فكيف تأهل عمر لهذا المنصب الرفيع، إنه لم يتقدم إليه بنفع من قرابة، ولا بدفع من وساطة، وإنما كان إيمانه في قلبه، ويقينه في فؤاده، وبلاؤه في نصرة دين الله عز وجل، وحفاظه على الأمة، وغيرته على الدين، وشدته على الأعداء، إلى غير ذلك من المواصفات العظيمة التي كانت مؤهلاً لأن يتسلم هذا المنصب الرفيع في أمة الإسلام، وأن يكون خلفاً لـأبي بكر الذي كان خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

لما اشتد المرض على أبي بكر رضي الله عنه دعا بعض الصحابة من المهاجرين والأنصار، وقال: ( اختاروا لكم أميراً من بعدي؛ فإنكم في حل من عقدي وبيعتي، وأوشك أن أنتقل إلى ربي )، فلم يجتمع أمرهم على أحد، وقالوا: ( قد فوضنا الأمر إليك يا أبا بكر ، فنظر أبو بكر فيمن صحب محمداً صلى الله عليه وسلم فوجدهم كلهم أصحاب فضل وسبق، وكلهم أصحاب جهاد وبلاء، وكلهم أصحاب بذل وعطاء؛ فإذا به يقلب الأسماء اسماً اسماً، وإذا به يتصفح الوجوه وجهاً وجهاً، وإذا به يستنطق التاريخ حدثاً حدثاً ويوماً يوماً، وإذا به يستقر رأيه على عمر رضي الله عنه، ثم ينطلق مستشيراً أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كانت الشورى منهجاً نزل في القرآن وطبقه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المسدد بالوحي من الرحمن، وسار على إثره من بعده صحابته رضوان الله عليهم، فأي شيء قيل عن عمر ؟ دعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف ليسأله عن عمر ؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: ( ما تسألني عن أمر وأنت أعلم به مني؟ ) أي: لا يوجد رجل أخبر بـعمر من أبي بكر ، لكن أبا بكر أراد أن يستفرغ جهده في النصح للأمة وتحمل المسئولية في أمر هو من أعظم أمورها وأخطر قضاياها، فقال: ( وإن يا عبد الرحمن ؟! ) أي: وإن كنت به خبيراً فإني أقضي في توليته مستشيراً، فأجاب عبد الرحمن بكلمات موجزات، وقال: ( هو والله! أفضل من رأيك فيه)، ولعمري إنها لكلمات عظيمة؛ فأي رأي لـأبي بكر في عمر ؟ إنه رأي التقدير والتعظيم لرجل قد ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام في شأنه على وجه الخصوص ما ذكر، ثم دعا أبو بكر رضي الله عنه عثمان بن عفان رضي الله عنه واستشاره، فقال عثمان : ( علمي به: أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله )، ثم دعا أسيداً وبعض الأنصار، فقال أسيد : ( اللهم أعلمه الخيرة بعدك )، ثم قال عن عمر : ( يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن )، ثم قال مقالة واضحة جلية في أهلية عمر : ( ولن يلي الأمر أحد أقوى عليه منه )، وكان الأمر كما قال، فاستقر رأي أبي بكر على عمر ، فتكلم بعض الناس في أمر عمر وشدته وقالوا: أتولي بعدك عمر ؟! أما تخاف الله يا أبا بكر ؟! فأمر أبو بكر أن يجلس، وكان قد أقعده المرض، وقال: أبالله تخوفونني؟! والله لئن سئلت لأقولن: وليت على أمة الإسلام خيرهم )، وكان يرى ذلك أبو بكر والصحابة رضوان الله عليهم، واستقبل عمر رضي الله عنه الخلافة في صبيحة الثلاثاء بعد دفن أبي بكر وانتقاله إلى الدار الآخرة ليلقى ربه ومولاه.

بدأت ملامح القيادة العمرية والتصوير الدقيق لعظمة وأهمية ودقة المسئولية في صورة عملية تكررت في كل لحظة من اللحظات، وفي كل ليلة من الليالي، وفي كل يوم من الأيام عبر عشر سنوات طوال امتدت فيها خلافة عمر رضي الله عنه، ولم يكن الأمر كلاماً وثناءً، ولم يكن قولاً وادعاءً، وإنما كان ممارسة وتطبيقاً تنظر إليه الأمة كلها في شرق الأرض وغربها، عبر مرور الزمان، وعبر تغير المكان، فالكل رأى هذه الصورة المشرقة الوضيئة لمسئولية عمر ، ولقيادة عمر ، ولنموذج الحاكم المسلم الذي ضرب أمثلة رائعة في شتى المجالات يقصر حديثنا دونها، وتضيق مقاماتنا عن استيعابها، وتقل طموحاتنا وخيالاتنا في هذا العصر الذي تخلفت فيه أمتنا عن أن ندركها أو نتصورها.

فكان أول أمر عمر هو أول أمر ينبغي أن يبدأ به كل مسلم في كل عمل وكل مسئولية صغيرة كانت أو كبيرة، إنه أمر الاستعانة بالله عز وجل، إن المرء ضعيف بنفسه، قليلة حيلته، ذاهبة خبرته ما لم يسدد من الله سبحانه وتعالى، ولقد كان عمر من أعظم الناس اتصالاً بالله، وأعظمهم ارتباطاً وخشية وخوفاً من مولاه، فلما تلقى الأمر ولما تحمل المسئولية كان أول ما قال دعاءً يستعين الله سبحانه وتعالى فيه على أن يعينه، فقال: ( اللهم إني ضعيف فقوني، اللهم إني غليظ فليني، اللهم إني بخيل فسخني )، فكان عمر يرى في أمر نفسه شدة، وكان يريد لنفسه في أمر أمته أمراً يحبه الله عز وجل ويرضاه، ثم قال عمر : ( لو علمت أن أحداً أقوى على هذا الأمر مني لكان ضرب العنق أحب إليَّ من أن ألي هذه الولاية )، أي: لم تكن فرصة أو غنيمة اكتسبها، ولم يكن شرفاً كان يسعى إليه، ولم يكن أمراً من الفخر كان يتطلع إليه، بل كانت مسئولية عظيمة ناء بها ظهره، وأشغلت ليله ونهاره.

ولذلك بدأ عمر يرسم ملامح المسئولية، وأولها: المباشرة والمشاركة، فلم يتخذ عمر أبواباً، ولم يتخذ حجاباً، ولم يجعل بينه وبين الناس باباً، ولذلك كان أول مجلس جلسه في بداية سياسته أنه بين للناس ما ينبغي أن يؤدى من الرعية للراعي، ومن الراعي للرعية في فقه إيماني عمري، قال فيه عمر رضي الله عنه: ( الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى إلى الله عز وجل، فإذا ركع ركعوا )، بين في هذا أن أمر الصلاح متعلق بصلاحه؛ لأنه القائد والحاكم والآمر والناهي، فإن أدى حق الله وإن خاف الله انعكس ذلك في رعيته، ثم قال للناس: ( والله! لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني شيء من أمركم فآلوا فيه عن أهل الصدق والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم، ما يكون من أمر بين يدي إلا وأكون أنا الذي أتولاه، وأنا الذي أباشره، وأنا الذي أشارك فيه، لا أكون بعيداً عنكم، ولا مترفعاً عنكم، ولا مبتعداً عن أموركم )، أي: أنه سوف يباشر ذلك بنفسه رضي الله عنه وأرضاه.

ولقد طبق ذلك؛ فكان عمر بنفسه يطعم ويسقي، ويسأل ويفصل، ويقضي ويحكم، ويعس ويستقضي، وكان يذهب كل مذهب، حتى قال فيه الصحابة: لقد أتعبت من بعدك يا عمر!

ثم إنه لم يخلد إلى الراحة، ولم يسكن إلى الاستراحة، وإنما كان الأمر عنده مسئولية عظيمة، فهذا معاوية بن خديج يأتي من مصر في زمن عمر يبشره بالفتح ودخول الإسكندرية، فوافى المدينة في وقت الظهيرة، فأتى إلى بيت عمر ناحية مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجده فيه، فدخل إلى المسجد، فلما قدم عمر قالوا: رجل من مصر يسأل عنك، فذهب إلى المسجد فدعاه إلى بيته، ثم قال له: ( ما قلت يا معاوية ! إذ لم تجدني؟ ) يعني: أي ظن دار في خاطرك؟ فقال معاوية : (قلت: إن أمير المؤمنين قائل)، أي: نائم في وقت القيلولة، فقال عمر وقد ضرب على صدره: (بئس ما ظننت؛ والله لئن نمت النهار لأضيعن رعيتي، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي!) قالوا: وكان عمر لا ينام إلا غراراً من ليل أو نهار. أي: خفقات يخفقها، لا يطمئن فيها قلبه، ولا يغمض جفنه؛ لأنه يرى أنه تحمل مسئولية الصغير والكبير، وشرق الأرض وغربها، والجنود والرعية كلها، فكان لا يرى هذه الراحة ولا يأنس بها؛ لأن في قلبه هماً عظيماً يشارك فيه الأمة في كل مأساة من مآسيها، وفي كل مصيبة من مصائبها، وفي كل حاجة من حاجاتها.

ولما جاء عام الرمادة -وهو عام المجاعة الذي أصاب المدينة وبعض بلاد نجد، وبلغ الأمر مبلغاً- كان عمر أول المشاركين في تحمل هذه المعاناة، وأول المبالغين في الشدة على نفسه رحمة الله عليه ورضي الله عنه، وكان من شأنه -كما ذكر كُتَّاب السيرة- ما روى أسلم -وكان من مواليه والعاملين معه- فقال: ( كنا نقول: لو لم يرفع الله المجاعة عام الرمادة لظننا أن عمر يموت هماً بأمر المسلمين )، أي: أنهم كانوا يخشون عليه الموت من شدة همه وغمة لحال الأمة في ذلك الوقت.

وقد روى الواقدي عن بعض أزواج عمر ونسائه: ( أن عمر ما قرب امرأة من أهله في عام الرمادة؛ هماً بأمر المسلمين ) أي: من شدة همه وتحمل مسئوليته، حيث إنه كان يتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الإمارة: (إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة)، فكان عمر يحمل الأمانة كما ينبغي أن تحمل، وكان يخشى الخزي والندامة خشية لا يتصورها كثير من الناس، وهكذا كان عمر في مباشرته وفي مشاركته لرعيته أنه بين أول صورة من صور المسئولية.

ثم قام بأمر ثانٍ وهو: أمر التوجيه والإرشاد، وهو أمر من مهمات المسئولية، فأي شيء كان يوصي عمر به رعيته؟ لقد قال لهم في أول أمره وفي بداية خلافته: (اقرءوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية. اتقوا الله عباد الله! وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإخباري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم )، هذا هو توجيهه لكي يحصل التكامل والتعاون بين الراعي والرعية، حيث قال: ( أعينوني على أنفسكم بكفها عني، فلا تشغفوا، ولا تخالفوا، ولا تعتدوا، ولا تظلموا، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإخباري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم ).

كان عمر رضي الله عنه يطلب من الناس أن ينقدوه وينصحوه، ويوجهوه ويأمروه وينهوه ما دام ذلك بأمر الله وبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو وهم خاضعون لأمر الله ولهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان يقول رضي الله عنه: ( أحب الناس إلي من رفع إلي عيوبي )، ولم يكن ذلك أيضاً إعلاناً سياسياً، ولا قولاً ادعائياً، وإنما كان صورة حية عملية، وكان عمر يأتيه الآتي من الناس ويقول: اتق الله يا عمر ! ويهز عمر بقوته وهيبته، فيطأطئ عمر رأسه، وينسكب دمعه من عينه خشية لله عز وجل، وكان يسمع للصغير والكبير، وللقاصي والداني؛ حتى إنه كان يبحث عمن يستشيره ومن يسأله بحثاً عجيباً.

ثم هناك أمر ثالث في مسئولية عمر المالية، وما أدراك ما ارتباط المسئولية بالنواحي المالية، كان عمر يرسم في ذلك على نفسه ثم على ولاته صورة من أعظم الصور التي يضمن بها ضبط الحقوق ووضعها في مواضعها، فقال للناس من أول يوم وفي بداية أمره: ( لكم علي ألا أجتبي من خراجكم ولا من فيئكم شيئاً إلا من وجهه -أي: الشرعي- ولكم علي إذا وقع في يدي ألا يخرج إلا في حقه، ثم قال: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم من مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وان افتقرت أكلت بالمعروف، وإذا أيسرت قضيت، أما أموالكم وخراجكم وبيت مال المسلمين فلا حق له فيه إلا كحق ولي اليتيم، إن افتقر أكل بالمعروف بقدر ما يحتاج مقابل عمله، وإن أيسر استغنى، قال: ( وإن استغنيت استعففت )، أي: أنه استغنى من أن يأخذ شيئاً، وإن أخذ أخذ بالمعروف، ثم إن أيسر قضى إلى بيت مال المسلمين.

وهكذا كان عمر في صورته العملية، فقد كان يعمل في بعض الأحوال بالتجارة؛ ليكسب قوته وقوت عياله، فأرسل مرة إلى رجل من الصحابة من يستقرض له أربعة آلاف درهم يريد أن يستعين بها في أمر تجارة من الشام، فرد الصحابي رسول عمر ، وقال له: قل له: يأخذها من بيت المال، فإذا غنم فليردها. فغضب عمر وأسرها في نفسه، وشق ذلك عليه، فلما لقي ذلك الصحابي قال له: ( أنت القائل: فليأخذها من بيت المال ثم ليردها؟ قال: نعم، قال: ولعلي إن فعلت ذلك فمت قلتم: أخذها أمير المؤمنين دعوها له، وأؤخذ بها يوم القيامة، لا والله! لا أقدر، ولكن أردت أن آخذها من رجل صحيح شحيح مثلك، حتى إذا مت أخذها من ورثتي )، وهكذا كانت عفة عمر عن الأموال العامة وسياسته ومسئوليته فيها، وقد جاء إليه مرة حفص بن أبي العاص ، ودخل إلى بيت أمير المؤمنين، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر ، وصاحب أعظم منصب في الأمة التي ورثت ملك كسرى وقيصر، فدخل على عمر ، فقدم له عمر طعاماً، فأمسك الرجل يده، فقال: ( مالك لا تصيب من طعامنا؟! ) إنه طعام الخليفة في دار الخليفة في وقت خلافته وعظمته، فقال الرجل: إن طعامك جشب غليظ، وإني راجع إلى طعام لين قد صنع لي فأصيب منه. فقال عمر : ( أو أعجز أن آمر بشاة أو بعناق فتذبح، ثم يسلخ عنها جلدها، ثم آمر بدقيق فيعجن، ثم آمر بهما فيضرم عليهما النار ...؟ ) فوصف الطعام حتى عجب الرجل، وقال: والله! إنك لعالم بالطعام يا عمر ! فقال عمر رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده! لولا أن تنتقص حسناتي لشاركتكم لين عيشكم؛ فإني سمعت الله عز وجل يقول: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20] ).

لقد كان عمر يعف ويتوقأ ويزهد؛ لأنه تلقى ذلك من مدرسة النبوة؛ فقد دخل يوماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نام على حصير أثر في جنبه، فحزن عمر ، وجرت دمعته في عينه، وطأطأ رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لك يا عمر ؟! قال عمر : كسرى وقيصر في العيش الرغيد الهنيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجد بينه وبين الحصير وقاءً يقي جنباً؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم)، هكذا تربى عمر رضي الله عنه، فلم يكن في قلبه تعلق بالمال، ولم يكن في نفسه شغف بالثروة، وإنما كان عنها معرضاً، وفيها زاهداً، ولمصلحة المسلمين مسخراً، ولذلك كان عمر في هذا سريع التجاوب، لقيه مرة أبو الدرداء رضي الله عنه وهو علم من أعلام الزهد في مدرسة النبوة من صحب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لـعمر يعظه ويذكره ويذكر نفسه: ( أتذكر حديثاً حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: وما هو يا أبا الدرداء ؟! قال: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب)، فقال عمر: نعم، فقال أبو الدرداء : فما صنعنا بعده؟ فجعلا يتذاكران ويبكيان رضي الله عنهما وأرضاهما ).

فإذاً: لم تكن المسئولية عند عمر مغنماً، ولم يكن ذلك في شأنه، وكان يطبق هذا على ولاته أيضاً، كما سنذكر.

وهناك معلم رابع من معالم مسئولية عمر وهو: الدقة والشمولية، والدقة في هذه المسئولية وشمولها لا يخرج عنها صغير ولا كبير، ولا قوي ولا ضعيف، وليس فيها محاباة لأحد، ولذلك كان عمر رضي الله عنه من دقته أنه كان ينظر في إبل الصدقة أمراضها، وكان ينظر إلى البعير من إبل الصدقة قد أصابه المرض، ويقول: ( إني لخائف أن أسأل عنك يوم القيامة ).

وهكذا قال في الرواية المشهورة التي ذكرها ابن سعد في طبقاته وغيره: ( والله! لو أن جملاً مات بشط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه )، فكان دقيقاً في مسئوليته غاية الدقة، حتى إن علياً رضي الله عنه رآه مرة وهو يمشي ويستبكي، فقال: ( مالك يا أمير المؤمنين؟! قال: إبل من إبل الصدقة ند فأنا في أثره حتى أرجعه! فقال علي : لقد أتعبت من بعدك )، وهكذا كان عمر رضي الله عنه.

ثم إنه كان إذا أمر بأمر أو نهى عن نهي جمع أهل بيته وذوي قرابته، ثم قال لهم: ( فإني قد أمرت بكذا وكذا، أو نهيت عن كذا وكذا، وإن الناس ناظرون إليكم لمكانكم مني -أي: لأنكم أقرباء الخليفة، أو أصهار أمير المؤمنين- فإذا وقعتم وقعوا، وإذا هبتم هابوا، والله! لا أرين أحداً منكم أتى ما نهيت عنه إلا ضاعفت له العذاب لمكانه مني، فمن شاء منكم فليتقدم، ومن شاء منكم فليتأخر ).

وكان عمر رضي الله عنه يتنبه لقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2]، وكان يخشى مما ذكر الله عز وجل من وصف اليهود وكبرائهم، وأنهم كانوا يأمرون الناس بما يخالفونه، فكان يطبق ذلك على نفسه وعلى خاصة أهله.

كان أيضاً لا يدع مجالاً للنفاق والادعاء والكذب، بل كان دائماً يضع حداً فاصلاً بين الحق والباطل، ولا يقبل مداهنة ولا مجاملة، وكان مرة في مجلسه، فتذاكر بعض الناس مآثر عمر ، وهو جالس معهم، فقال بعضهم: ( والله! ما رأينا رجلاً أقضى بالقسط ولا أقول بالحق، ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين! فأنت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: عوف بن مالك -وكان يعلم من عمر عدم حبه للنفاق والمراءاة والمداهنة-: ( كذبتم؛ إني قد رأيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً من عمر أبا بكر رضي الله عنه )، فماذا قال عمر في مثل هذا الموقف، وهو أمير المؤمنين يمدح، ثم يأتي من يقوِّم المدح ويرد ما كان فيه من باطل؟ قال: ( صدق عوف ، وكذبتم، والله! لـأبو بكر أطيب من ريح المسك وإني أضل من بعير أهلي )، أي: يوم كان قد أسلم كنت لا زلت بعد في الجاهلية، فهذه بعض معالم المسئولية في سيرة عمر رضي الله عنه.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يتحملون الأمانة حق التحمل، ويقومون بكل ما استرعانا الله عز وجل فيه من المسئولية؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

إن من أعظم معالم المسئولية العمرية منهج عمر في تولية الولاة ومحاسبتهم؛ فإنه كان يشرف بنفسه على ما تحته أو ما عنده من الأمور، وكان يولي على الآفاق والأمصار، وعلى الجند والجيوش، فأي الرجال كان يولي عمر ؟ لقد كان يعرضهم عوداً عوداً، ويخبرهم واحداً واحداً، ويسأل عنهم، ثم بعد ذلك لا يطمئن حتى يتابع أعمالهم، فكان عمر رضي الله عنه يقول: ( إني لأستحيي أن أستعمل رجلاً وأنا أجد أقوى منه )، أي: ولو كان هذا الرجل صالحاً لهذه المسئولية، ولكن هناك من هو أصلح منه، فإن عمر كان لا يرى جعله على هذه الولاية وهذا الشأن، وهكذا كان عمر رضي الله عنه على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حذر من مغبة آخر الزمان، وذكر من أوصافه: (أنه يوسد الأمر إلى غير أهله، وتضيع الأمانة)، أما في عهد عمر فقد كان معلم النبوة بارزاً ظاهراً، ولذلك كان كثيراً ما يستشير أصحابه ويقول: دلوني على رجل لأمر كذا وكذا، فذكروا له فلاناً من الناس، فقال: لا حاجة لي فيه، قالوا: فمن تريد يا أمير المؤمنين! قال: ( أريد رجلاً إذا كان في قوم وليس أميرهم كأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو أميرهم كأنه رجل منهم)، يريد عمر نموذجاً مصغراً، وصورة منه رضي الله عنه، فقد كان شديداً في الحق ليناً لأهل الحق، كان يريد رجلاً إذا كان في الناس وليس أميرهم كأنه أميرهم من حبهم وتوقيرهم له، وتقديمهم إياه، وإذا كان فيهم وهو أمير عليهم كأنه واحد منهم من قربه منهم، ومن لينه معهم، ومن بساطته بينهم، ومن عدم غلظته عليهم، وهذه المواصفات لم تكن خيالاً أو تنظيراً، بل كان عمر يمحص ويمهد ويختبر وينتقي مثل هذه المواصفات في أعيان الصحابة وأعيان الرجال الأبطال ممن جاء بعدهم.

وكان إذا ولَّى رجلاً كتب له كتاباً، وأشهد عليه جمعاً من الأنصار والمهاجرين؛ حتى يعظم المسئولية في نفس هذا الوالي، وحتى يعظم خوف الله في قلبه، فكان يقول له فيما يكتب عليه مما قد يشابه اليوم ما يسمى بالقسم الذي يقسمه أصحاب المسئولية أو نحو ذلك، كان يقول له في كتابه: ( إنه ينبغي له ألا يظلم أحداً في جسده، ولا في ماله، ولا يستغل منصبه لفائدة أو مصلحة له، ولا لمن يلوذ به )، وكان يقول لولاته: ( إني لم أستعملكم على دماء المسلمين ولا على أعراضهم، ولكن أستعملتكم لتقيموا الصلاة، وتقسموا بينهم، وتحكموا بالعدل. إني لم أبعثكم جبابرة، ولكن بعثتكم أئمة؛ فلا تضربوا المسلمين فتضلوهم، ولا تمدحوهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم فتظلموهم )، وكان يشهد على هذا الكلام عندما يولي الولايات، وكان يأخذ على كل والٍ ألا يغلق بابه دون الناس.

بل قد ورد في بعض السير أنه بلغه أن بعض ولاته اتخذ قصراً أو داراً وجعل له باباً، فبعث إليه محمد بن مسلمة -وكان المفتش الإداري العام عند عمر رضي الله عنه- وبعث معه من يحرق هذا الباب أول بلوغه، وقال: ( اتخذت باباً دون الناس حتى لا يصل إليك ذو الحاجة المظلوم؟! ) وهكذا كانت ولايته رضي الله عنه، وقد كان ولاته من الصحابة، فكيف إذا كانوا من غيرهم؟!

ورد أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري : ( أن سو بين الناس في مجلسك وجاهك؛ حتى لا ييئس ضعيف من عدلك، ولا يطمع شريف في حيفك ).

ثم بعد هذا الاختيار والانتقاء والوصايا والإشهاد لا يقنع بذلك، فقد قال مرة لجمع من الناس: ( أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل أكنت قضيت الذي علي؟ -أي: هل أخليت مسئوليتي باختيار الأفضل وتوصيته وأمره؟- قالوا: نعم يا أمير المؤمنين! قال: لا؛ حتى أنظر في عمله: أعمل بما أمرته أم لا؟).

اتخاذ عمر رضي الله عنه مبدأ الإشراف والمراقبة والمتابعة لعماله

كان عمر يأخذ مبدأ الإشراف والرقابة والمتابعة، وأذكر نموذجاً واحداً من نماذج شتى يضيق المقام عن حصرها، هذا أحد النماذج التي كان عمر يفتح لها صدره وبابه ليسمع شكاية الناس في الولاة، ثم يأتي بالوالي والرعية في المجلس بين يديه، وينظر أمير المؤمنين في القضية: سعيد بن عامر الجمحي رضي الله عنه كان والياً لـعمر على حمص، فجاء إليه أهل حمص، فسألهم عن أميرهم، فشكوا إليه أربع خصال، فاستدعاه عمر من حينه إلى المدينة إلى مقر الخلافة؛ ليكون في مجلس القضاء الفصل، والحكم بالعدل بين يدي عمر رضي الله عنه، فجيء بـسعيد وجيء ببعض أهل حمص الذين قالوا هذه المقالة، وتقدموا بشكاواهم، وكان سعيد بن عامر يدافع ويرد على ذلك بين يدي عمر ، وقبل أن يقدم على عمر قال: ( اللهم لا تخيب فراستي فيه )، فقد كان عمر يحزن أشد الحزن إذا وجد في ولاته تغيراً؛ لأنه كان ينتقيهم ويختارهم، ويتفرس فيهم، وينظر فيهم بفراسة المؤمن التي آتاه الله إياها، فكان يرى سعيد بن عامر مثلاً من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يحب أن يكون فيه نقص أو تغير، لكنه كان يرى العدل، وكان يرى ضرورة ضبط الأمور في هذه المسئولية، فلما جاء أهل حمص قال لهم: ما شكايتكم؟ قالوا: كان لا يخرج إلينا حتى يرتفع النهار، فالتفت عمر إلى سعيد : ما تقول؟ فيقول: أما إني ما كنت أحب أن أقول، ولكنه ليس لأهلي خادم، فإذا أصبح الصباح عجنت عجيني، وخبزت خبزي، فلا أخرج لهم إلا وقد مضى من النهار شيء، فحمد الله عمر رضي الله عنه، ثم قال لأهل حمص: وما شكايتكم؟ قال: لا يرد على أحد بالليل، فالتفت إليه عمر ، فقال: قد تركت النهار لهم، وتركت الليل لربي، فحمد الله عمر رضي الله عنه، ثم قالوا له: إنه يغيب عنا يوماً في الشهر فلا يظهر إلا آخر النهار، فقال: أما إني كنت لا أحب أن أقول، ثم قال: إنه ليس لي إلا ثوب واحد، فإذا اتسخ غسلته، وانتظرته؛ حتى يجف، فأخرج إليهم متأخراً، قالوا: وكان يغشى عليه المرة بعد المرة، أي: يصاب بإغماء، قال: أما إني ما كنت أريد أن أقول، ولكني شهدت مصرع خبيب بن عدي رضي الله عنه في مكة يوم صلبه كفار قريش وقالوا له: أتحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم مكانك؟ فقال: ما أحب أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة وأنا آمن في أهلي، ثم قتل، قال: ففي نفسي أني لم أكن نصرته يومئذٍ، وكنت من الكافرين، فكلما ذكرت موقفه أُغمي علي، فحمد الله عمر على أن هذا النموذج من ولاته يمثل سياسته ويمثل نظرته للمسئولية، ثم بعث به إلى حمص مرة أخرى، وبعث في إثره بأربعة آلاف درهم، كتب له أن ينفقها على نفسه وأهله؛ لأنه قد بلغت حاله من الزهد والفقر مبلغاً عظيماً، فدخل سعيد بن عامر على أهله -وقد كان في ذلك الوقت يتوقع مجيء جيش من جيوش الكفر- وهو مهموم مغموم، فقالت له زوجته: أي شيء يا سعيد ! أجاء العدو؟ قال: لا، بل أعظم، قالت: فاذكر من عندك، قال: فإني لا آمنكم عليه، قالت: خذ الأمان لنفسك، قال: قد بعث عمر إلي بأربعة آلاف درهم، وأمرني أن أنفقها على نفسي وأهلي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن فقراء المهاجرين يسبقون أغنياءهم إلى الجنة بأربعين خريفاً)، وأخشى ألا أكون من السابقين، قالت: قد أمنتك، فدونك المال، فجعل يربطه خرقاً خرقاً ويوزعه، حتى ما انتهى يومه إلا وقد وزعه كله.

فهذا نموذج من نماذج ولاة عمر رضي الله عنه، وهذه ثمرة ذلك النظر الثاقب في الرجال، وتلك المراقبة الدقيقة في متابعة الأعمال، فرضي الله عن عمر على ما قدم لأمة الإسلام والمسلمين.

ونسأل الله عز وجل أن يجدد فينا سيرة عمر وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.

كان عمر يأخذ مبدأ الإشراف والرقابة والمتابعة، وأذكر نموذجاً واحداً من نماذج شتى يضيق المقام عن حصرها، هذا أحد النماذج التي كان عمر يفتح لها صدره وبابه ليسمع شكاية الناس في الولاة، ثم يأتي بالوالي والرعية في المجلس بين يديه، وينظر أمير المؤمنين في القضية: سعيد بن عامر الجمحي رضي الله عنه كان والياً لـعمر على حمص، فجاء إليه أهل حمص، فسألهم عن أميرهم، فشكوا إليه أربع خصال، فاستدعاه عمر من حينه إلى المدينة إلى مقر الخلافة؛ ليكون في مجلس القضاء الفصل، والحكم بالعدل بين يدي عمر رضي الله عنه، فجيء بـسعيد وجيء ببعض أهل حمص الذين قالوا هذه المقالة، وتقدموا بشكاواهم، وكان سعيد بن عامر يدافع ويرد على ذلك بين يدي عمر ، وقبل أن يقدم على عمر قال: ( اللهم لا تخيب فراستي فيه )، فقد كان عمر يحزن أشد الحزن إذا وجد في ولاته تغيراً؛ لأنه كان ينتقيهم ويختارهم، ويتفرس فيهم، وينظر فيهم بفراسة المؤمن التي آتاه الله إياها، فكان يرى سعيد بن عامر مثلاً من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يحب أن يكون فيه نقص أو تغير، لكنه كان يرى العدل، وكان يرى ضرورة ضبط الأمور في هذه المسئولية، فلما جاء أهل حمص قال لهم: ما شكايتكم؟ قالوا: كان لا يخرج إلينا حتى يرتفع النهار، فالتفت عمر إلى سعيد : ما تقول؟ فيقول: أما إني ما كنت أحب أن أقول، ولكنه ليس لأهلي خادم، فإذا أصبح الصباح عجنت عجيني، وخبزت خبزي، فلا أخرج لهم إلا وقد مضى من النهار شيء، فحمد الله عمر رضي الله عنه، ثم قال لأهل حمص: وما شكايتكم؟ قال: لا يرد على أحد بالليل، فالتفت إليه عمر ، فقال: قد تركت النهار لهم، وتركت الليل لربي، فحمد الله عمر رضي الله عنه، ثم قالوا له: إنه يغيب عنا يوماً في الشهر فلا يظهر إلا آخر النهار، فقال: أما إني كنت لا أحب أن أقول، ثم قال: إنه ليس لي إلا ثوب واحد، فإذا اتسخ غسلته، وانتظرته؛ حتى يجف، فأخرج إليهم متأخراً، قالوا: وكان يغشى عليه المرة بعد المرة، أي: يصاب بإغماء، قال: أما إني ما كنت أريد أن أقول، ولكني شهدت مصرع خبيب بن عدي رضي الله عنه في مكة يوم صلبه كفار قريش وقالوا له: أتحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم مكانك؟ فقال: ما أحب أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة وأنا آمن في أهلي، ثم قتل، قال: ففي نفسي أني لم أكن نصرته يومئذٍ، وكنت من الكافرين، فكلما ذكرت موقفه أُغمي علي، فحمد الله عمر على أن هذا النموذج من ولاته يمثل سياسته ويمثل نظرته للمسئولية، ثم بعث به إلى حمص مرة أخرى، وبعث في إثره بأربعة آلاف درهم، كتب له أن ينفقها على نفسه وأهله؛ لأنه قد بلغت حاله من الزهد والفقر مبلغاً عظيماً، فدخل سعيد بن عامر على أهله -وقد كان في ذلك الوقت يتوقع مجيء جيش من جيوش الكفر- وهو مهموم مغموم، فقالت له زوجته: أي شيء يا سعيد ! أجاء العدو؟ قال: لا، بل أعظم، قالت: فاذكر من عندك، قال: فإني لا آمنكم عليه، قالت: خذ الأمان لنفسك، قال: قد بعث عمر إلي بأربعة آلاف درهم، وأمرني أن أنفقها على نفسي وأهلي، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن فقراء المهاجرين يسبقون أغنياءهم إلى الجنة بأربعين خريفاً)، وأخشى ألا أكون من السابقين، قالت: قد أمنتك، فدونك المال، فجعل يربطه خرقاً خرقاً ويوزعه، حتى ما انتهى يومه إلا وقد وزعه كله.

فهذا نموذج من نماذج ولاة عمر رضي الله عنه، وهذه ثمرة ذلك النظر الثاقب في الرجال، وتلك المراقبة الدقيقة في متابعة الأعمال، فرضي الله عن عمر على ما قدم لأمة الإسلام والمسلمين.

ونسأل الله عز وجل أن يجدد فينا سيرة عمر وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.

أما التنمية العمرية فقد ساس عمر الناس وقادهم وسعى في صلاحهم، وجهد في خيرهم وعطائهم ورخائهم؛ لتبرز لنا صورة مشرقة من صور التطبيق الإسلامي الأمثل لإدارة شئون الحياة، وللتعامل مع مستجدات الأمور، ونحن اليوم نسمع حديث التنمية والرخاء يتردد صباح مساء، وكثير من حديث الناس والساسة وأهل التحليلات والأخبار إنما يدور حول هذه القضايا، وقد مر بنا قريباً مؤتمر السكان والتنمية، وغير ذلك مما هو حديث الناس اليوم عن الدول المتقدمة والدول المتخلفة، وعن الفقر، وعن مستوى المعيشة، وغير ذلك، ويُنسب كثير من النقص والقصور زوراً وبهتاناً واعتداءً وافتراءً إلى دين الإسلام! والإسلام من ذلك براء.

فهذه صورة الحياة الإسلامية والرفاهية الإسلامية في عهد عمر رضي الله عنه تبرز لنا الجانب المهم الذي ينبغي أن يكون يقيناً راسخاً عند كل مؤمن ومسلم، وهو أن الحياة في ظلال القرآن وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم وعلى منهج الإسلام هي الحياة الهنيئة الوضيئة في هذه الحياة الدنيا، وهي التي تؤهل -بإذن الله عز وجل- إلى رضوان الله ورحمته في الحياة الأخرى، وأما غير ذلك فهو الشقاء وإن عظمت الأموال، وهو النكد والتعاسة والبلاء وإن اتسعت أسباب الرزق وتنوعت سبل التقدم، كما قال جل وعلا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].

إن عمر رضي الله عنه كان قد جعل للتنمية أسساً في طبيعة الفكر والحكم والمبادئ التي ساس بها أمته، فجعل المساواة والعدالة والحرية والشورى أسساً تنطلق من خلالها كل الإبداعات، وتتفجر عبرها سائر الطاقات، ويحصل من خلالها التنافس في مجال الخيرات، ولذلك جعل عمر هذه القوائم دعائم وأسساً لم يتخل عنها في إعلانه، ولا في تطبيقه، ولا في ممارسته، فجعل ذلك أمراً بيناً واضحاً، فهو في المساواة يعلن للأمة في ملأ منها قائلاً: ( والله! الذي لا إله إلا هو ما أحد إلا وله في هذا المال حق أعطيه أو منعه، وما أحد أحق به من أحد، وما أنا فيه إلا كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم )، أي: التفريق إنما هو في العطاء والبذل للإسلام، قال عمر : (الرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وضناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام، والله! لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من المال وهو مكانه قبل أن يحمر وجهه)، أي: في طلبه واستجداءً لغيره، قالها عمر بلسانه ثم طبقها بفعله، كما سنتحدث في بعض ومضات من تنمية عمر رضي الله عنه.

لقد كان عمر رضي الله عنه يطبق المساواة عملياً، فحينما جاءت بعض البرد -وهي الثياب الطيبة الرخية من بلاد اليمن- وزع عمر على الصحابة وعلى المسلمين، وأخذ لنفسه مثلهم، ثم لما رقي المنبر قال: (اسمعوا وأطيعوا)، قال: سلمان : (لا سمع ولا طاعة)، قال: (ما بك يا أبا عبد الله ، قال: أعطيتنا برداً برداً وأخذت بردين، فقال عمر : قم يا عبد الله بن عمر ! من أين هذه البردة؟ قال: إنها لي، وقد أعطيتها لأبي، قال عمر : لم يكن لي ثوب ) وكان عمر طويلاً جسيماً، فأخذ ثوب ابنه وجعله معه، فقال سلمان : (أما الآن فقل نسمع ونطع بإذن الله عز وجل).