تفسير سورة محمد [4-7]


الحلقة مفرغة

معنى قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب)

قال تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4].

هذه آية القتال التي بسببها سميت السورة سورة القتال، وقد علمنا الله فيها كيف نقاتل الكفار والأعداء، فقال تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ أي: فإذا قابلتموهم في الحرب زحفاً هم أمامكم وأنتم تجاههم فاضربوا الرقاب.

فقوله: فَضَرْبَ الرِّقَابِ نصب على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر، والتقدير: اضربوا منهم الرقاب ضرباً، أو منصوب بالإغراء، أي: يغري الله المجاهدين المؤمنين بأن يضربوا من الأعداء رقابهم؛ لأن ضرب الرقاب أقرب إلى الموت وإلى الفناء وإلى التأديب وإلى معاملة الأعداء حسب شركهم وكفرهم بما هم له أهل، فإذا التقى الجيشان المسلم والكافر فليبادر الجيش المسلم الأعداء بضرب رقابهم وفصلها عن أماكنها؛ لأن ذلك أردع لأمثالهم وأنسب في عقوبتهم فهو يوافق ما كانوا عليه من شرك وكفر بالله.

قوله تعالى: حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4].

أي: فلا ترفعوا السيف عنهم حتى تثخنوهم وتكثروا القتل فيهم وتبالغوا بالقتل حتى يموت منهم من يموت بأن تقتل كبارهم وتفنى زعماؤهم وتبقى غوغاؤهم ممن لا رأي لهم في حرب ولا إدارة ولا قتال.

والإثخان: المبالغة في القتل، والإكثار منه، أي: بالغوا في قتالهم وضرب رقابهم حتى يكثر منكم قتلهم وتبلغوا منهم قتل القادة والزعماء.

والوثاق: الرباط الذي يربط به الأسير في الحرب، أي: حتى إذا هزمتموهم وقتلتم كبراءهم واستأصلتم شأفتهم عند ذلك انتقلوا من الحرب إلى الأسر، فقد أصبح الجيش تحت قهركم وغلبتكم، أي: حتى إذا أسرتموهم وأصبحوا تحت أسركم وسلطانكم واستيلائكم فَشُدُّوا الْوَثَاقَ أي: اربطوهم ربطاً شديداً بالحبال والسلاسل وسوقهم بعد ذلك أسرى، وإياكم أن تأسروهم قبل أن تقتلوا كبارهم وضباطهم وزعماءهم؛ لأنه يوشك أن تنتهي المعركة ولا تنتهي الحرب، فينتقلون إذ ذاك من معركة إلى أخرى، ويوشك أن تنقلب الحرب عليكم بعد أن كانت لكم، فلا ترفعوا السيف عنهم حتى تكثروا من القتل فيهم، ثم بعد ذلك أسروهم وشدوا وثاقهم ورباطهم بالحبال والسلاسل بعد الحرب والأسر.

معنى قوله تعالى: (فإما مناً بعد وإما فداء)

قال تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ أي: أنتم مخيرون إذ ذاك بين أن تمنوا على هؤلاء الأسرى بأن تطلقوا سراحهم مناً منكم وتفضلاً بلا فدية وبلا مبادلة وبلا استعباد وبلا استرقاق.

وَإِمَّا فِدَاءً أي: وإما أن تفادوهم بأمثالكم من أسراكم أو بمال يقدمونه أو بعمل يقومون عليه.

قال تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ [محمد:4] حتى غائية، أي: تفانوا في قتال الأعداء وضرب الرقاب منهم وإثخانهم في القتل وشدته وأسرهم وتشديد الرباط والسلاسل على أسراهم، ثم بعد ذلك فالأمر والخيار لكم بحسب ما ترونه من المصلحة، فإما أن تمنوا عليهم وتطلقوا سراحهم بلا مكاتبة وبلا عمل وبلا مال، وإما أن تفدوهم بأن تأخذوا فدية مقابل كل أسير حسب ما ترونه من المصلحة لجيشكم ولدولتكم، ويبقى هذا باستمرار حتى تضع الحرب أوزارها، أي: ليكون هذا في كل حرب وإلى نهاية الحروب في الأرض بينكم وبين أعدائكم.

والأوزار: جمع وزر بمعنى: الثقل، أي: حتى تضع الحرب وتنزل عن كاهلها أثقالها ومشاقها ومتاعبها، ويكون ذلك إما بنهاية الحرب القائمة، أو بنهاية سلسلة الحروب مع الأعداء، والحرب لن تنتهي إلى قيام الساعة بين المؤمنين والكافرين.

وقد أراد بعضهم أن يفسر: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4] بأن الحرب ستنتهي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (الجهاد قائم منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال)، والدجال من العلامات الكبرى لقيام الساعة، فمعنى ذلك: أن يبقى الجيش المسلم مجاهداً مقاتلاً لإعلاء كلمة الله إلى يوم القيامة.

وأما متى تضع الحرب أوزارها، فقالوا: إن ذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، والأحاديث بذلك مستفيضة ومتواترة، وعند ذلك يصبح الدين واحداً والدولة واحدة، فعيسى عليه السلام سيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل اليهود والنصارى والمشركين، ولا يدع في الأرض إلا موحداً مؤمناً مسلماً يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعند ذاك تضع الحرب أوزارها وأثقالها ومشاقها ومتاعبها، ولا حاجة للحرب بعد ذلك.

معنى قوله تعالى: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم)

قال تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ [محمد:4].

(ذَلِكَ) أي: الأمر بقتال الكافرين وضرب رقابهم، والإثخان في قتلهم، ثم المن أو الفداء.

وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ أي: ولو شاء الله لما أمر بحرب ولا قتال ولانتقم من الأعداء بلا حرب ولا قتال، ولو فعل ذلك لفعله مع حبيبه وآخر أنبيائه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو لم يفعل، فقد قاتل عليه الصلاة والسلام الأعداء، وجرح وقتل منهم، وكانت الحرب سجالاً بين المؤمنين والكافرين، يوم لهم ويوم عليهم، وهكذا إلى أن أدال الله للمسلمين وهزم الكافرين، وكانت العاقبة لنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

ولكن الله فعل ذلك لحكمة، وهي ما قاله تعالى: لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ أي: ليختبر المؤمن بالكافر والكافر بالمؤمن وليفتن بعضهم ببعض، وليرى -وهو العالم قبل ذلك- من الذي سيقاتل ممتثلاً لأمر الله حتى يبذل حياته رخيصة في سبيل الله ومن سيجرؤ من الكفار فيقاتل من يقول: لا إله إلا الله، غير عابئ بشيء لا بالأوامر ولا بالزواجر والروادع الواردة عن الأنبياء وفي كتب الله، فهو يبتلي المؤمنين بالكافرين، فيعاقب الكافرين بالنار واللعنة، ويجازي المؤمنين بالجنة والرحمة.

فضل الشهادة في سبيل الله

قوله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [محمد:4].

أي: والذين استشهدوا في سبيل الله وقتلوا من أجل دين الله.

فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4] أي: لن يبطلها، وسيجازيهم عليها بالجنان وبالمغفرة وبالشهادة.

فقد أمرهم الله أن يبذلوا أرواحهم في سبيله، واشتراها منهم رخيصة، فاستجابوا وباعوها، وبذلوا أنفسهم وأرواحهم فأخذوا الثمن الجنة، كما قال الله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [التوبة:111].

فالمؤمن لا يملك نفسه ولا حياته، فقد باعها من الله والثمن الجنة، وهذا وعد من الله على لسان الأنبياء السابقين في الكتب المنزلة عليهم من التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، قال ربنا: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] أي: ومن أكثر وفاء بالعهد من الله؟ أي: لا أوفى منه جل جلاله.

فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [التوبة:111] أي: خذوا البشرى عن الله وأبشروا بهذا البيع المربح الناجح، الذي بعتم فيه أرواحكم -وهي ميتة لا محالة سواء بعتموها أو لم تبيعوها- وأخذتم ثمنها الجنة ورضا ربنا، والله لا يبطل أعمال الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله، وسبل الله كثيرة، منها: القتال في سبيل تحرير أوطان المسلمين، والقتال في سبيل العقيدة وقوانين الإسلام، والقتال في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة، وكلمة الحق يقولها المسلم في وجه سلطان جائر فيقتله فيموت شهيداً، ويكون ثاني الشهداء بعد حمزة سيد الشهداء.

خلاف العلماء في بقاء حكم المن والفداء في القتال

وهذه الآية الكريمة اختلف المفسرون فيها: هل هي محكمة أو منسوخة؟

فقال أبو حنيفة وطائفة معه في رواية عنه: هي منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5] قال: وهذه الآية التي في سورة التوبة مدنية نزلت عند حجة الوداع، ولذلك فالمشهور في مذهب أبي حنيفة : أنه لا أسر ولا من، وليس إلا القتل والقتال، فالأمر بالقتال واجب لإعلاء كلمة الله وسبيله، ومن أسر فليس له إلا القتل، وليس له من ولا استرقاق ولا فداء.

وقال الإمام مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وطوائف من أئمة الاجتهاد وأعلام الإسلام: إن الآية محكمة وليست منسوخة؛ لأن الله أمر بالقتال والإثخان في القتل؛ حتى يكثر القتل في صفوف الأعداء، فتقتل القادة والزعماء والضباط، فلا يبقى إلا أتباع ورعاع لا يقودون جيشاً ولا يدبرون حرباً ولا يستطيعون إلا الامتثال لآمريهم، فهؤلاء ائسروهم وشدوا وثاق أسرهم، واربطوهم ربطاً محكماً بالحبال وبالسلاسل؛ حتى لا يفروا؛ وبعد ذلك الأمر لكم حسب مصلحتكم ومصلحة الإسلام والدولة الإسلامية والجيوش الإسلامية، فإما أن تمنوا على أسراهم فتطلقوا سراحهم بلا مقابل، وإما أن يكون ذلك مبادلة بأسرى آخرين، وإما أن تطلقوا سراحهم بالفداء من مال أو عمل أو مبادلة بأسرى لكم عندهم، ويبقى هذا مستمراً إلى أن تنتهي الحرب ويهزم العدو ويستسلم وينكس رايته ويخضع لسلطانكم وأمركم ونهيكم، وإذا لم يتم ذلك فلا ترفعوا السيف عن رقابهم ولا الأسر عن أسراهم.

هذا قول الجمهور، وهو ما كان يفعله عليه الصلاة والسلام في حروبه، فقد أسر في غزوة بدر قبل أن يثخن في الحرب فعاتبه الله على ذلك، وهدد وأوعد الجيش الإسلامي إن هو عاد، ولولا كلمة من الله سبقت لكان الجيش الإسلامي في خبر كان، ولكان الإسلام وكأنه لم يكن، قال تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:67-68].

وهذه الآية نزلت في أسرى غزوة بدر، فقد انتصر صلى الله عليه وسلم والأصحاب الكرام انتصاراً ساحقاً على أعدائهم وقتلوا وشردوا وأسروا، ولكنهم أخذوا كبار الجيش وقادة الحرب وزعماء المعركة أسرى، وكان عددهم اثنين وسبعين زعيماً، فأسرهم النبي عليه الصلاة والسلام وشد وثاقهم واستشار فيهم أصحابه، فقال له أبو بكر : يا رسول الله! قومك، دعهم لعلهم يسلمون ويخرج من أصلابهم من يؤمن بك وينصرك وينصر دينك.

وقال عمر : يا رسول الله! اذكر صنع هؤلاء معك ومع المسلمين، شتموك وآذوك وأخرجوك، وتآمروا عليك، وقالوا عنك وقالوا، وأدموا عقبيك، وهجروك سنوات، وقتلوا من أصحابك وشردوا، وعذبوا وقتلوا، فأعط كل واحد منا قريبه يقتله؛ ليعلم الله أن ليس في قلوبنا محبة للمشركين.

وكان في الأسرى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن عمر يقول له: أعطني أخي أقتله أنا، واقتل أنت عمك العباس ، ويقتل علي أخاه عقيلاً ، وهكذا بقية القادة.

وقال عبد الله بن رواحة: هذا الوادي مر بأن يملأ حطباً ثم ألقهم فيه، فسكت النبي عنهم، ودخل عريشيه، وبعد ليلة أو أكثر عاد إليهم، فقال: ليؤد كل واحد من هؤلاء الأسرى فدية لنفسه، ومن لم يكن له هذا المال فلتؤد عنه عشيرته، ومن كان قارئاً فليعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.

انظر هذا العلو والحضارة ونشر العلم في الإسلام، ففي في أول معركة انتصر فيها الإسلام هذا الانتصار، جعل النبي صلى الله عليه وسلم من مواد الصلح أن يعلم كل واحد من قرائهم عشرة من الأميين من المسلمين، وهكذا كان.

وإذا بالآية الكريمة تنزل في اليوم الثالث، وهي قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أي: لا ينبغي لنبي أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67] أي: لا يليق به أن يتخذ أسرى وهو لم يقتل بعد ويبالغ في القتل، ويستأصل القادة والزعماء؛ لأنه قد تكون معركة حدثت ويؤسر القادة، ثم سيطلق سراحهم ويعيدونها جذعة، ويتداركون الأخطاء الماضية، وتكون العاقبة على الجيش المسلم خطيرة؛ ولذلك هدد الله وأنذر، ثم امتن وتكرم فقال: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال:68] أي: لولا أن الله سبق في علمه وفي كتابه المكنون أنه ناصر دينه ونبيه لأصاب هؤلاء عذاب عظيم، أي: لهزموا، ولأصبح الإسلام والرسالة المحمدية في خبر كان، وكأنها لم تكن.

والفائدة من الآية: أن ما مضى قد عفا الله عنه تكرمة لسيد البشر صلى الله عليه وسلم.

بقاء حكم المن والفداء في الأسرى

ولكن قال تعالى لمن يأتي بعده: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4] أي: إذا قابلتم عدوكم في معركة، فاضربوا منهم الرقاب، أي: قاتلوهم قتال الصناديد الأشاوس الشجعان، قتال من دخل الحرب وهو لا يريد أن يخرج منها إلا قاتلاً أو مقتولاً.

فاقصدوا في ضرب أعدائكم رقابهم؛ لكي لا يفكروا في الحياة بعد ذلك؛ لأن في قتل الكافر حياة للمسلمين، والسيف شعار للقوة، فضرب الرقاب في كل عصر بحسب سلاحه، فضرب الرقاب كان بالسيف وقتها، والسيف هو سلاح القائد، وضرب الرقاب أيضاً بالقنابل وبالصواريخ وبالمدافع وبالطائرات وبالغاز الخانق، وبكل ما يوصل إلى سحق العدو وقتله، ونصر الإسلام والمسلمين، أشخاصاً وعقيدة وأوطاناً.

والنبي عليه الصلاة السلام فعله وعمله في حروبه وفي غزواته، وهو ما فهمه الأئمة: مالك والشافعي وأحمد ، وفي رواية: أنه عاد لقولهم أبو حنيفة وهو رأي الجماهير، والآية محكمة وليست بمنسوخة.

قال تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [محمد:4] الكافر: هو كل من لم يؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد:2] فلا يتم الإيمان إلا أن يكون مع عمل الصالحات، وإيماناً بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومعنى: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، أي: محمد هو الحق، وما أنزل عليه من كتاب حق، والمنزل عليه حق، جل جلاله وعز مقامه.

ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأسرى في حروبه

والنبي صلى الله عليه وسلم في حروبه أسر، ومنَّ، واسترق، وفدى، كل ذلك قد فعله عليه الصلاة والسلام، ففي غزوة حنين عندما أسر ستة آلاف ظعينة -أي: امرأة وطفل- من هوازن، ثم من عليهم وأطلق سراحهم بلا مقابل، وما كان قد أعطى المجاهدين من الأنصار والمهاجرين أرضاهم صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحهم أيضاً.

وفي غزوة بدر جعل للأسرى فداء، فيفادي بعمل أو مال، وقد أخذ الجزية من كل أسير أربعمائة دينار، ومن لم يملك هذا المال وكان مقرئاً أمره بتعليم عشرة من أميي المسلمين القراءة والكتابة، فهو فداء بمال وفداء بعمل، والاختيار وارد في قوله: (إما مناً) ومفهومه: أو لا تمنوا، وعدم المن يكون بالقتل، فلا يطلق سراح، ولا يفادى بمال، ولا بأعمال.

وفي غزوة بدر قتل صلى الله عليه وسلم من الأسرى: عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ، وعندما قدم عقبة للقتل قال: (من للصبية يا محمد؟ قال: النار)، وهكذا كان شرعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المجاهدين أو قواد الجيش مخيرون بين كل ما فعله عليه الصلاة والسلام.

والقتال فرض عين عندما يهاجم العدو ديار الإسلام كحالنا اليوم، ومع ذلك نرى أن لا حرب ولا قتال، وإنما نرتع بين الشهوات والنزوات والمناكح وبناء القصور، وجمع الملايين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وما يتبع ذلك، ونسينا الله فنسينا، وسلمنا لأذل أعدائه وأحقرهم، إخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت عليهم لعنات الله المتتالية.

إذاً: فالنبي عليه الصلاة والسلام أسر، وبعد الأسر قتل، وفدى بالمال والعمل، وفدى بالمبادلة من بني عقيل، الذين أسروا منه صلى الله عليه وسلم أسيرين، وأسر منهم أسيراً، فبادل أسيرهم بأسيرين.

واسترق صلى الله عليه وسلم عندما حارب يهود خيبر ويهود بني قينقاع، وعشائر اليهود، وأسر منهم، فقتل من قتل واسترق من استرق، وأخرج من البلاد من أخرج؛ ولذلك فالدولة مخيرة في القتال بين أن تطرد وأن تستعبد، أو أن تمن بلا مقابل، أو أن تمن مقابل فدية من مال أو أعمال، وهكذا، فالآية محكمة واضحة صريحة، والسنة النبوية المطهرة أيدتها بالقول وبالعمل.

معنى الألفاظ الواردة في آية القتال

وقوله: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4] أي: إذا لقيتم الكفار في ساحة الحرب والمعركة فابتدئوا بضرب رقابهم، أي: بمقاتلهم حيث تقضون عليهم لأول هجمة لا للجرح والكسر فقط، بل للقتل والقضاء المبرم، ويبقى ذلك مسترسلاً حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ أي: إلى الإثخان والمبالغة في القتل، وقتل الزعماء والقادة والضباط والكبار.

وقوله: فَشُدُّوا الْوَثَاقَ أي: اربطوهم بالسلاسل والحبال بشكل محكم، وربط تام كي لا يفروا.

وقوله: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4] أي: بعد الأسر والقتل والإثخان، فلكم المن أي: بأن تمتنوا عليهم وتطلقوا سراحهم، وتفادوا بهم بمال أو عمل.

وقوله: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4] أي: حتى تضع الحرب التي أنت فيها أثقالها ونهايتها، وذلك باستسلام العدو وتنكيس الراية منه، وقبوله الخضوع لحكم الإسلام دون قيد ولا شرط.

وقوله: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ [محمد:4] أي: ولو شاء الله لانتقم منهم بلا حرب ولا قتال، وانتصر للمسلمين بداهية تنزل على أعدائهم، إما بزلزال من الأرض، وإما بصواعق من السماء، وإما بريح عاصف.

وقوله: وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4] أي: أمر بالقتال والجهاد ليختبركم ويفتن بعضكم ببعض، ليعلم الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر، وهو من قبل أعلم بهم جل جلاله وعز مقامه.

ضابط القتال في سبيل الله

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4].

أي: الذين قتلوا من المسلمين في سبيل الله لا لوطن أو لقوم أو لغنائم أو لإبراز شجاعة.

وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل حمية -أي: وطنية قومية- ويقاتل ليقال: شجاع وبطل، ويقاتل للغنائم، ويقاتل في سبيل الله، أيهم الذي إذا مات كان شهيداً أو في سبيل الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

وسبل الله كثيرة، فكما قال الإمام مالك : الدفاع عن الأطفال والمستضعفين من المؤمنين، ورفع الظلم، والدفاع عن الإسلام وعن وطنه وأحكامه، والدفاع عن كل ما يمت للمسلمين والإسلام بسبب، هو في سبيل الله، ومن مات في سبيل ذلك مات شهيداً، ودخل تحت قوله تعالى: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4] أي: لن يبطل أعمالهم من صلاة وزكاة، وحج وأعمال صالحات، فهم في كل ذلك يجازون الجزاء الأوفى، ويدخلون الجنان؛ لأنهم الذين باعوا لله أرواحهم رخيصة، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111].

باعوا الأنفس لله، وكان الثمن الجنة، ويا سعد من باع، ويا سعد من قبل الثمن، على أن الكل ميت: من باع ومن لم يبع، ومهما طال بالمرء زمن وحياة، فهو ميت لا محالة، قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

قال تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4].

هذه آية القتال التي بسببها سميت السورة سورة القتال، وقد علمنا الله فيها كيف نقاتل الكفار والأعداء، فقال تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ أي: فإذا قابلتموهم في الحرب زحفاً هم أمامكم وأنتم تجاههم فاضربوا الرقاب.

فقوله: فَضَرْبَ الرِّقَابِ نصب على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر، والتقدير: اضربوا منهم الرقاب ضرباً، أو منصوب بالإغراء، أي: يغري الله المجاهدين المؤمنين بأن يضربوا من الأعداء رقابهم؛ لأن ضرب الرقاب أقرب إلى الموت وإلى الفناء وإلى التأديب وإلى معاملة الأعداء حسب شركهم وكفرهم بما هم له أهل، فإذا التقى الجيشان المسلم والكافر فليبادر الجيش المسلم الأعداء بضرب رقابهم وفصلها عن أماكنها؛ لأن ذلك أردع لأمثالهم وأنسب في عقوبتهم فهو يوافق ما كانوا عليه من شرك وكفر بالله.

قوله تعالى: حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ [محمد:4].

أي: فلا ترفعوا السيف عنهم حتى تثخنوهم وتكثروا القتل فيهم وتبالغوا بالقتل حتى يموت منهم من يموت بأن تقتل كبارهم وتفنى زعماؤهم وتبقى غوغاؤهم ممن لا رأي لهم في حرب ولا إدارة ولا قتال.

والإثخان: المبالغة في القتل، والإكثار منه، أي: بالغوا في قتالهم وضرب رقابهم حتى يكثر منكم قتلهم وتبلغوا منهم قتل القادة والزعماء.

والوثاق: الرباط الذي يربط به الأسير في الحرب، أي: حتى إذا هزمتموهم وقتلتم كبراءهم واستأصلتم شأفتهم عند ذلك انتقلوا من الحرب إلى الأسر، فقد أصبح الجيش تحت قهركم وغلبتكم، أي: حتى إذا أسرتموهم وأصبحوا تحت أسركم وسلطانكم واستيلائكم فَشُدُّوا الْوَثَاقَ أي: اربطوهم ربطاً شديداً بالحبال والسلاسل وسوقهم بعد ذلك أسرى، وإياكم أن تأسروهم قبل أن تقتلوا كبارهم وضباطهم وزعماءهم؛ لأنه يوشك أن تنتهي المعركة ولا تنتهي الحرب، فينتقلون إذ ذاك من معركة إلى أخرى، ويوشك أن تنقلب الحرب عليكم بعد أن كانت لكم، فلا ترفعوا السيف عنهم حتى تكثروا من القتل فيهم، ثم بعد ذلك أسروهم وشدوا وثاقهم ورباطهم بالحبال والسلاسل بعد الحرب والأسر.

قال تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ أي: أنتم مخيرون إذ ذاك بين أن تمنوا على هؤلاء الأسرى بأن تطلقوا سراحهم مناً منكم وتفضلاً بلا فدية وبلا مبادلة وبلا استعباد وبلا استرقاق.

وَإِمَّا فِدَاءً أي: وإما أن تفادوهم بأمثالكم من أسراكم أو بمال يقدمونه أو بعمل يقومون عليه.

قال تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ [محمد:4] حتى غائية، أي: تفانوا في قتال الأعداء وضرب الرقاب منهم وإثخانهم في القتل وشدته وأسرهم وتشديد الرباط والسلاسل على أسراهم، ثم بعد ذلك فالأمر والخيار لكم بحسب ما ترونه من المصلحة، فإما أن تمنوا عليهم وتطلقوا سراحهم بلا مكاتبة وبلا عمل وبلا مال، وإما أن تفدوهم بأن تأخذوا فدية مقابل كل أسير حسب ما ترونه من المصلحة لجيشكم ولدولتكم، ويبقى هذا باستمرار حتى تضع الحرب أوزارها، أي: ليكون هذا في كل حرب وإلى نهاية الحروب في الأرض بينكم وبين أعدائكم.

والأوزار: جمع وزر بمعنى: الثقل، أي: حتى تضع الحرب وتنزل عن كاهلها أثقالها ومشاقها ومتاعبها، ويكون ذلك إما بنهاية الحرب القائمة، أو بنهاية سلسلة الحروب مع الأعداء، والحرب لن تنتهي إلى قيام الساعة بين المؤمنين والكافرين.

وقد أراد بعضهم أن يفسر: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4] بأن الحرب ستنتهي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (الجهاد قائم منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال)، والدجال من العلامات الكبرى لقيام الساعة، فمعنى ذلك: أن يبقى الجيش المسلم مجاهداً مقاتلاً لإعلاء كلمة الله إلى يوم القيامة.

وأما متى تضع الحرب أوزارها، فقالوا: إن ذلك عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام، والأحاديث بذلك مستفيضة ومتواترة، وعند ذلك يصبح الدين واحداً والدولة واحدة، فعيسى عليه السلام سيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل اليهود والنصارى والمشركين، ولا يدع في الأرض إلا موحداً مؤمناً مسلماً يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعند ذاك تضع الحرب أوزارها وأثقالها ومشاقها ومتاعبها، ولا حاجة للحرب بعد ذلك.