تفسير سورة محمد [31-35]


الحلقة مفرغة

قال الله ربنا جل جلاله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31].

بعد أن حدثنا الله جل جلاله عن المنافقين والكافرين، وكشف أفكارهم، وأعلم بها نبينا صلى الله عليه وسلم، فطرد بعضاً وسكت عن بعض لعلهم يتوبون ويرجعون؛ يقول الله لنا: (ولنبلونكم) أي: لنختبرنكم، واللام: هنا للقسم، وأكده بنون التوكيد الثقيلة.

يقول جل جلاله: إنه يمتحن ويختبر الناس ليعلم منهم المجاهد الصادق والصابر على الجهاد.

وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31] أي: ويعلم الأخبار الظاهرة والباطنة، الخفية والمعلنة، والله جل جلاله هو يعلمه منذ أمر الملائكة بكتبه في اللوح المحفوظ، ولكن معنى العلم هنا الرؤية، كما يقول عبد الله بن عباس ؛ أي: ولنبلونكم لنرى أعمالكم، ونرى ما تقومون به بعد الأمر والنهي.

يقول الإمام القرطبي : الله جل جلاله لا يعاقبه على علمه، وإنما يعاقبه على الأعمال؛ ولذلك خلق الخلق واختبرهم بالأعمال وهو يعلم ماذا سيعملون قبل، ولكنه لا يعاقبهم إن أساءوا ولا يحسن إليهم إن أحسنوا حتى يعملوا، فيكون جزاؤه حسب أعمالهم وامتثالهم، وحسب إيمانهم.

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ [محمد:32] .

يقول ربنا جل جلاله بعد الاختبار والابتلاء: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [محمد:32] أي: كفروا ومنعوا الناس من الإيمان، ودفعوهم عن الإسلام، وزينوا لهم الأهواء والوساوس، وما يسخط الله جل جلاله؛ فهؤلاء كفروا في أنفسهم، ونشئوا بين غيرهم صادين ومنفرين الناس عن سبيل الله، وعن الإيمان والإسلام والطاعة والامتثال.

قوله: وَشَاقُّوا الرَّسُولَ [محمد:32] أي: خرجوا عن شقه، فشقوا الطاعة عليه، وعصوه وخالفوه.

قوله: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ [محمد:32] هؤلاء الذين كفروا بالله، ثم ازدادوا كفراً فصدوا عن سبيل الله، ثم ازدادوا شركاً وكفراً بالله فشاقوا الرسول خرجوا عن طاعته، وكان الرسول في شق وجانب وكانوا هم في شق وجانب، هؤلاء لن يضروا الله شيئاً، إنما ضررهم يعود على أنفسهم؛ لكفرهم وخسرانهم أنفسهم في الدنيا والآخرة.

وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) أي: لو كفر أهل السماء والأرض فلن يضر كفرهم إلا أنفسهم، ولن يجنوه إلا على أنفسهم، لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37] المتقي المؤمن الصالح هو الذي ينفع نفسه، والكافر لا يضر إلا نفسه.

قوله: وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ [محمد:32] أي: هؤلاء الكفرة المرتدون عن سبيل الله، المشاقون المخالفون لرسول الله سَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ [محمد:32] أي: سيبطلها ويجعلها هباءً منثوراً، ولن يضروا إلا أنفسهم.

والله جمع بين طاعته وطاعة نبيه، وهذا زيادة في التأكيد، على أن التوحيد لا يتم إلا بالإيمان بالله واحداً وطاعة الله، وإلا بالإيمان بمحمد عبداً ورسولاً، وطاعته وعدم الخروج عنه، ومن لم يفعل ذلك فضر نفسه وأحبط عمله، ولا يلومن أحد إلا نفسه إن خرج عن الهدى والتقى والصلاح.

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] .

يأمر الله جل جلاله بطاعته وطاعة رسوله، وكما يقول: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80] ، فطاعة الرسول طاعة لله، والطاعة لله هي كذلك طاعة لرسول الله؛ لأن الرسول جاء عن الله، وبلغ كتاب الله، وبلغ رسالة الله، فطاعته طاعة لله، والخروج عنه خروج عن الله.

فالله يؤكد ذلك ويأمر ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33] أي: لا ترتدوا عن دينكم بعد الهداية، ولا ترتدوا عن الطريق المستقيم بعد معرفتكم به، لا ترتكبوا الكبائر والفواحش فيخاف على إيمانكم إن أنتم زدتم في ذلك وأغرقتم فيه.

قال بعض الصحابة: إبطال الأعمال في ارتكاب الكبائر، فأخذوا يحرصون على الاجتناب عن الكبائر زناً وسرقة، ورباً وفاحشة، وكل كبيرة حذر الله منها وبنى عليها حداً، ورتب عليها اللعنة والطرد عن الله ورحمته؛ قال: وإذا بنا بعد ذلك ينزل قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ، فعادت إلينا نفوسنا، وعلمنا أن الكبائر لا تكفر صاحبها، ولكننا مع ذلك بقينا بين الخوف والرجاء؛ لعل الله يقبل أعمالنا، لعل الله لا يحبط أعمالنا، والإحباط هنا هو الكفر، والإحباط الردة، فإسقاط الأعمال يكون بالردة والخروج عن الإسلام، وقد يكون ذلك بكلمة يقولها الإنسان لا يلقي لها بالاً، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في قعر جهنم سبعين خريفاً) .

قد يقول القائل كلمة يظن أنه يمزح، ولكن المزاح لا يكون مع السماء، وإذا به يقول كلامه الذي يخرجه عن الإسلام ويهوي به في قعر جهنم، ويستمر هويه سبعين عاماً؛ لأن السنة ليس فيها إلا خريف واحد.

ثلاثة من الشباب الفقهاء العلماء كانوا في الأندلس، وإذا بأحدهم يريد أن يمزح، وكانت السماء قد أخذت تمطر وترش رذاذاً خفيفاً فقال أحد هؤلاء: إن الدباغ يرش جلوده، وكانوا يمزحون، وإذا بالاثنين الآخرين يلتفتان إليه ويقولان له: أنت تمزح أرضاً وإذا بك تناولت الذات العلية بما ارتددت وخرجت عن الإسلام، ورفعوا به قضية، وإذا به يقول: كنت أمزح، أيكون المزاح بالكفر؟ أيكون المزاح بقلة الأدب مع الذات العلية؟ فما أتم يومه إلا مفصولاً رأسه عن جسده.

وهكذا من يقول عن الله ما لا يليق بجلال الله، ومن لا يتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقى نفس العقاب والعذاب.

فهم الفقهاء من قوله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ كما فهم الإمام مالك وجماعة من الأئمة: أن النوافل عند الشروع فيها تصبح ملزمة، ولا يجوز إبطالها، فمن صام نافلة فلا يجوز له أن يلغي صومه؛ لأنه يكون قد أبطل عمله، ومن ابتدأ صلاة نافلة لا يجوز له قطعها، وإلا كان قد أبطل عمله.

ولكن الإمام الشافعي له فهم آخر قال: المتنفل عندما صام وصلى لم يكن الأمر واجباً عليه، فهو إن شاء صام، وإن شاء أفطر، أما في الصيام فالدليل مع الإمام الشافعي ، لقد قال عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر) ومن أجل ذلك في مذهب الإمام الشافعي : من أكل وهو صائم ناسياً لا إعادة عليه، وأكثر من ذلك من دعي إلى صديق فأصر عليه بالطعام عنده، له أن يفطر وليسر صديقه بذلك.

والآية عامة، ولكن الصيام مستثنى: (المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر).

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [محمد:34].

يقول ربنا تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [محمد:34] أي: كفروا بالله، وبكتاب الله، وبرسول الله.

وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [محمد:34] أي: صدوا عن الله وطاعته، وعن رسول الله والإيمان به.

ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [محمد:34] أي: عاشوا كافرين صادين عن الله، وماتوا وهم كافرون.

فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [محمد:34] وهذه الآية كالآية الأخرى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] وحرم الله الجنة على الكافرين، فمن مات على كفره وضلاله ولم يقل قبل أن يغرغر: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا بعث ومات على الكفر لن يغفر الله ذنبه، ويخلد في النار أبد الآبدين، ودهر الداهرين.

قال تعالى: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35].

يقول الله للمؤمنين وهم أهل العزة والكرامة والسيادة، وهم سادة الأرض، وهم أنصار الله ورسوله، وهم المؤمنون المتبعون الحق، لقد قال ربنا: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].

يقول تعالى: فَلا تَهِنُوا [محمد:35] أي: فلا تضعفوا أمام العدو، ولا تذلوا له، ولا تطأطئوا إليه، ولا تهابوه، ولا تبتدئوا بطلب الصلح، بل ولا تطلبوا الصلح في حال كونكم أقوياء.

قوله: فَلا تَهِنُوا [محمد:35] من الوهن وهو الضعف.

وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ السَلم والسِلم قراءتان سبعيتان متواترتان والمعنى: لا تضعفوا فتدعوا عدوكم وتنادوه إلى الصلح والسلام، ذاك ضعف، وذاك هوان، وذاك ذلة لا يزيد الله فاعلها إلا ذلاً وهواناً، ويكون عاصياً لربه وخارجاً عن أمره.

قوله: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [محمد:35] أي: أنتم الأعلى والأشرف؛ لأنكم المؤمنون الموحدون؛ لأنكم أصحاب الأرض وليس لغيركم ما أخذه إلا بحسب العارية، وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [الحشر:6] ما أعاد وأرجع، فما في يد الأعداء هو للمؤمنين أصلاً، ويجب أن يعود للمؤمنين وليس للكافرين في ذلك حق، فإن أخذه فبسيف القوة، بل ولتذلل المسلمين وضعفهم، وعدم جهادهم للعدو وقتالهم واسترجاع ما أخذ منهم.

قوله: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد:35] ومن كان الله معه كان معه النصر، وكان معه التأييد، وكان معه أهل السماء والأرض، ولا يضر المؤمن بعد ذلك أن يكون الشيطان وحزب الشيطان ضده.

كانت جماعة من الصحابة ينتضلون، أي: يتعلمون الرمي والجري والسباق على الخيل، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لطائفة: (ارموا بني إسماعيل وأنا معكم؛ فكف الآخرون أيديهم وقالوا: يا رسول الله! إن كنت معهم فهم الحزب الأقوى، فعاد فقال: ارموا أنا معكم جميعاً) عند ذلك تسابقوا وعادوا وقد تعلموا الرمي والمسايفة وما إلى ذلك، فمن كان الله معه غلب كل شيء، ومن كان الله عليه غلبه كل شيء، والمؤمن الله معه.

قوله: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35] أي: لن ينقصكم أعمالكم، فمن عمل خيراً زاده على كل حسنة عشر حسنات .. إلى أضعاف كثيرة .. إلى سبعمائة ضعف .. إلى ما يريد الله جل جلاله، ومن كرمه أنه لا يجازي على السيئات إن لم يغفرها إلا بسيئة واحدة.

وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35] يقال: وتره إذا نقصه، ومنه الحديث النبوي: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) أي: كأنه فقد الأهل والمال،فمن فاتته العصر بلا سبب حتى غربت الشمس يكون حاله بين الناس كحال من فقد الأهل والمال، وكيف بمن فقد الأهل والمال؟ ولم التأكيد على العصر بالذات؟ لأنها الصلاة الوسطى كما في الصحاح: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم ناراً).

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] أمر بالصلوات بصفة عامة، وأمر بالوسطى بصفة خاصة، فكانت العناية فيها أكثر أجراً وثواباً والتفريط فيها أكثر إثماً وعذاباً.

قوله: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35] أي: لن يفقدكم إياها، ولن ينقصكم منها، هكذا عفو الله، وهكذا كرم الله جل جلاله.


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة محمد [36-38] 2272 استماع
تفسير سورة محمد [8-14] 2161 استماع
تفسير سورة محمد [15-19] 2013 استماع
تفسير سورة محمد [4-7] 1941 استماع
تفسير سورة محمد [20-24] 1671 استماع
تفسير سورة محمد [1-3] 1513 استماع
تفسير سورة محمد [25-30] 893 استماع