تفسير سورة سبأ [42-47]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [سبأ:42].

يقول ربنا يوم القيامة وهو يحذرنا ونحن في دار الدنيا؛ لكي لا نظلم أنفسنا؛ ولكي ننتهز فرصة حياتنا ووجودنا فنرجع عن ذنوبنا ومعاصينا، ويرجع الكفرة عن شركهم وكفرهم فيقولون وهم لا يزالون أحياء: ربنا أغفر لنا خطايانا يوم الدين، ويسجدون لله يدينون لله بالطاعة.

فيقول الله للجن والإنس يوم القيامة: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا [سبأ:42].

أي: ها أنتم أولاء قد حشرتم جميعاً، وتعرضون على الله جميعاً ليفصل القضاء بينكم إما إلى الجنة وإما إلى النار، فاليوم لا ينفع بعضكم بعضاً ولا يضره.

لن يجرؤ هؤلاء الآلهة سواء كانوا ملائكة أو أنبياء أن يشفعوا لكم عند ربكم، إذ لا شفاعة لكافر، وحتى شفاعة المؤمن لن تكون إلا بإذن الله مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255].

ولن يستطيع هذا المعبود العبادة المزيفة أن يضر من كفر بألوهيته، فليس بيده نفع ولا ضر، لم يضر نفسه ولا ينفعها فضلاً عن أن يضر غيره أو أن ينفعه.

وهذا يوم يعترف الكل ويعيش في واقع يوم القيامة الذي أنكروه وهم على حال الحياة في دار الدنيا.

قوله: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا [سبأ:42] أي: الذين أشركوا وكفروا فظلموا أنفسهم بالكفر والشرك.

وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [سبأ:42]:

أي: يا هؤلاء احترقوا في النار وتذوقوها وكأنكم تتذوقون فاكهة شهية وطعاماً شهياً، هذا من باب الهزل والسخرية بهم، أي: ذوقوا عذاب النار وادخلوا فيها واحترقوا بهذه النار التي أنكرتموها وأنتم في دار الدنيا أحياء، هذه النار التي جاء أنبياؤكم ينذرونكم لظاها وعذابها، وقد أخبركم الله بها في الكتب المنزلة في صحائف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى، وفي القرآن المنزل على محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [سبأ:43] .

هؤلاء الكفار إذا تليت عليهم آياتنا، أي: تلاها رسول الله وتلاها الأصحاب وتلاها العلماء والدعاة إلى الله، وهي بينات واضحات في معجزات الله القادر على كل شيء كذبوها.

هذه الآيات البينات صدقها فيها، ونحن نتلوها الآن بعد ألف وأربعمائة عام، كل الكتب السابقة تبدلت وتغيرت وحرفت عن مواضعها، وجعلت كتب كفر وشرك، لكن القرآن آخر كتب الله المنزلة تعهد الله بحفظه، قال جل جلاله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9] فدليله فيه، وقد مضى عليه أربعة عشر قرناً على كثرة أعداء الله من كل ملة ومن كل جنس لم يجرؤ أحد على تغيير كلمة أو تحريف سورة أو رفع آية من مكان ووضعها في مكان آخر بعد هذه الحروب الطوال.

ونأتي نحن ونسمع أن هناك معجزة هي المعجزة الخالدة الدائمة التي يراها ويحس بها كل مؤمن إلى يوم القيامة، وهي القرآن الكريم الذي تحدى الله الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله، وكانوا أعجز من ذلك.

هؤلاء يسمعون هذا القرآن المعجز، الواضح في آياته فماذا قالوا؟ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ[سبأ:43] هذا يشيرون إلى محمد سيد البشر عليه الصلاة والسلام، أي: يريد أن يبعدكم ويدفعكم ويحول بينكم وبين دين آبائكم.

وما هو دين آبائهم؟ عبادة الحجر، عبادة الوثن، عبادة الخلق من جن وملك، عبادة الهوى.

وقالت طائفة أخرى: وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى[سبأ:43] أي: ليس هذا إلا كذباً مختلقاً قاله وزعم أنه قول الله أوحي إليه.

وزاد آخرون بالإلحاح على الكفر: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ[سبأ:43]:

أي: قال طائفة أخرى من قادة الكفار وزعماء الكفار: ليس هذا القرآن إلا سحر مبين يسحرنا ببلاغته وفصاحته وجماله.

وهكذا شيطانهم الذي يعبدونه ويطيعونه أوحى إليهم زخرف القول غروراً!

قال تعالى: وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ [سبأ:44].

هذه خاصة بالعرب، يقول الله لنبيه وللمسلمين: وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا [سبأ:44] هذا الدين من الذي أوحى إليهم به؟

وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا [سبأ:44] أي: لم ننزل كتباً من السماء على هؤلاء، فقد أنزلنا على بني إسرائيل التوراة والإنجيل، وأنزلنا على أمة إبراهيم صحفاً، وأنزلنا على قوم داود من بني إسرائيل الزبور، وأما العرب فلم ننزل عليهم كتاباً ولم تكن لهم رسالة من قبل، فمن أين جاءوا بهذه العبادة؟! ومن أين جاءوا بهذا الدين المزيف؟! وعمن تلقوه؟! وكيف تمسكوا به لدرجة أنهم اتهموا النبي عليه الصلاة والسلام بأنه ليس إلا رجلاً جاء ليصرفهم ويبعدهم عن دينهم.

أي دين هذا؟ هل عبادة الأوثان دين؟ وهل أكل أموال الناس بالباطل دين؟ وهل نشر المنكرات بكل أنواعها دين؟

وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ [سبأ:44].

أي: لم نرسل لهم رسولاً قبلك، فأنت المفرد برسالة إلى العرب أولاً، ثم أرسلناك بشيراً ونذيراً لكل العالمين، فقد كانت الرسالة الأولى وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] .

ثم قال الله له بعد ذلك: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، ثم أنزل إليه تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، فينذر الكفار المشركين الوثنيين بعذاب الله إن بقوا على ذلك، ويبشر من آمن منهم بالجنة والرضا والرحمة، فهو للعالمين.

وقد كانت النبوءة في الأيام الأول وفي الشهور الأولى ليجد من يكون معه، ليجد من يتلقى رسالته؛ ولهذا بعد سنوات وعذاب وتحمل وصبر من رسول الله دخل عمر في الدين وكان المتمم للأربعين، وهو عليه الصلاة والسلام يدعوهم ليلاً ونهاراً، يدعوهم في الأسواق العامة والمجامع الخاصة فلم يجيبوه.

فقوله: وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا [سبأ:44] أي: فقد كانوا أمة أمية كما قال عليه الصلاة والسلام: (نحن العرب أمة أمية لا نحسب ولا نكتب)؛ ولذلك كان من أكبر المعجزات المحمدية ما قال البعض:

كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم

فيكفي أن يكون هذا الأمي عالم العلماء العارف بالأولين وبالآخرين، هذا العلم ما تعلمه من قومه فقد كانوا أميين، ولا تعلمه من النصارى واليهود فلم يكن في مكة يهودي ولا نصراني.

قال تعالى: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [سبأ:45].

قال الله لنبيه: قل لهؤلاء سخاف العقول الضائعين التائهين الضالين الذين لم نرسل إليهم قبلك نبياً ولم ننزل عليهم كتاباً: إنهم إنما اخترعوا أكاذيب وأضاليل من عبادة الأحجار والملائكة والجن، ولم يأت بذلك رسول ولم ينزل به كتاب.

أي: لقد كذب قبلهم أمم لم يبلغوا هم معشار ما آتيناهم من قوة، ومن سلطان، ومن جمال، ومن حضارة.

قالوا: والمعشار هو عشر العشر، أي: لم تكن حضارة العرب ولا جزيرة العرب ولا قوة العرب ولا غنى العرب في مثل قوة أولئك الأمم، حتى قيل: ولا عشر العشر من تلك القوة في الغنى والحضارة.

وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ [سبأ:45] أي: ما بلغ كفار مكة والجزيرة العربية ومن جاء بعدهم نفس الشيء، وإنما جعل العرب مثالاً؛ لأن النبي أرسل فيهم ومنهم، ثم عمم الله رسالته على جميع البشر.

وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ [سبأ:45] ما بلغ هؤلاء ولم يبلغوا إلى معشار ما آتينا الأمم السابقة من قوة الأبدان وقوة الشعوب والدول والحضارة كثمود وعاد، فقد ذكروا في التاريخ أنهم كانوا من القوة والسلطان والحضارة بمكان بليغ.

وكما قص الله علينا في نفس السورة قصة سبأ وما بلغوا من حضارة وغنىً ورفاهية، فكذبوا الرسل إلا قليل منهم، وكذبوا كتب الله.

قوله: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [سبأ:45] استفهام تقريعي توبيخي، أي: ذكرهم وقل لهم: هذه الأمم القوية الغنية عندما كذبوا رسلي كيف كان نكيري؟

والجواب: كان نكير الله -أي إنكاره عليهم وعقوبته لهم- غرقاً وزلزلة الأرض، وقلب عاليها سافلها، وكان لعنة مستمرة أبدية، وغير ذلك.

تلك الأمم كانوا أكثر حضارة وأكثر غنىً وأكثر جمعاً وأكثر أفراداً وأكثر شعوباً، ولم يبلغ العرب معشار ما آتاهم الله من هذه المعاني، فكذبوا رسل الله، والكتب الموحى بها إليهم، فعندما كذبوهم عاقبهم الله، وقد قص الله هذا في كتابه في غير ما سورة من السور، فذكرهم بذلك يا محمد كيف كان؟

وهكذا ينذر الله هؤلاء بأنهم إذا لم يعودوا إلى الله ويؤمنوا بمحمد رسول الله سيقع عليهم ما وقع على الأمم من قبلهم، فلم يعجزنا أولئك على قوتهم وسلطانهم وكثرة عددهم، أفتعجزوننا أنتم، وأنتم شراذم مشتتة في هذه الصحاري القاحلة التي لا تكاد تنبت؟!

قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ:46].

أي: قل لهم يا محمد: إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ:46].

رجع الله لعقولهم ولأذهانهم ولفهومهم، ولم يطلب منهم أن يرجعوا للقرآن أو لطاعة محمد بلا منطق ولا عقل ولا برهان.

قوله: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ [سبأ:46].

أي: إنما آمركم وأنصحكم وأدعوكم إلى خصلة واحدة فقط، وهي (أَنْ تَقُومُوا) أي: تكلفوا أنفسكم بأن تفكروا وأن تنصفوا من أنفسكم.

أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46] أي اعقدوا اجتماعات ومؤتمرات وندوات، وتفكروا اثنين اثنين وواحداً واحداً، جماعة جماعة وأفراداً أفراداً، فكروا وقولوا لأنفسكم: هذا الذي أتى به محمد الذي عرفنا ولادته ونشأته وعشيرته وأجداده منذ عدنان إلى عبد مناف إلى عبد المطلب إلى عبد الله إليه، وعاش بيننا أربعين سنة ونحن نقول: إنه ما كذب كذبة قط!

مر عليه الصلاة والسلام عندما أمره الله بأن ينذر عشيرته الأقربين، فوقف على الصفا ونادى: يا صباحاه! يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد المطلب يا بني عبد مناف، فتجمعوا وحضر ممن حضر عمه أبو لهب فقال لهم: إذا قلت لكم إن خلف هذه الجبال أعداءً جاءوا ليقهروكم ويغزوكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما علمنا عليك كذباً من قبل، قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).

فقال له عمه أبو لهب : تباً لك ألهذا جمعتنا؟ شتم ابن أخيه فأنزل الله فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:1-2] وهكذا أصبح شتم أبي لهب عبادة وتلاوة إلى أبد الآباد.

ومن اللطائف أنه جاء في صحيح البخاري أن العباس عم النبي رأى أخاه أبا لهب في المنام وهو لم يسلم بعد وسأله: يا أبا لهب كيف أنت؟ قال: في محنة وفي عذاب إلا ما كان من يوم الإثنين فإني أسقى قطرة من ماء في هذه الحفيرة بين الإبهام والسبابة فأجد فيها راحة.

ولم ذلك؟ أتدرون لم؟ يوم الإثنين يوم فيه ولد ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، وجاءت جاريته ثويبة وكانت قد حضرت ولادة النبي عليه الصلاة والسلام فقالت لسيدها أبي لهب: أبشرك بأنه ولد لأخيك عبد الله ولد وسموه محمداً، فأعتقها لبشارتها له بذلك.

فكان من رحمة الله له وهو كافر أن يسقى هذه القطرة من الماء جزاء ما أعتق ثويبة عندما بشرته بولادة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

وهكذا ما خدم النبي صلى الله عليه وسلم أحد بالكفر أو الإيمان إلا ويجد شيئاً، ومن ذلك عمه أبو طالب الذي نافح عنه ودافع عنه وكافح عنه، فسئل: أينفعه ذلك يوم القيامة؟ قال: (نعم. هو في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، ولولا أنا لكان في قعر جهنم).

فقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ [سبأ:46] أي: إنما آمركم وأنصحكم بخصلة واحدة أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ [سبأ:46].

أي: تفكروا في هذا الذي قلتم عنه شاعر، ساحر، كاهن، مجنون، طالب مال، طالب ملك، طالب زواج، ففكروا قليلاً متى تعلم هذا الرجل وقد جاءكم بعلم الأولين والآخرين، عاش بينكم أربعين سنة، وكان يكلمكم ويسائلكم، فتقولون له: ما علمنا عليك كذباً قط، وكنتم تلقبونه بالأمين؛ لصدقه وأمانته، أبعد أن بلغ الأربعين وتجاوز حد الشباب وحد الصبا تتهمونه بالكذب على الله؟!

ثم هذا العلم الذي أتاكم به من أين تعلمه؟ وهذا الكلام البليغ الذي تحدث به عن الأمم الماضية والأمم الحاضرة والأمم الآتية وعن الخلق قبل أن يخلق وعن الآخرة بعد زوال الدنيا؛ هذه العلوم والمعاني من الذي آتاه بها؟ هل فيكم الآن أو قبل أو بعد من يعلم جزءاً من هذه المعاني؟

تفكروا .. هذه المعجزات التي ظهرت على يده من تكثير القليل ومكالمة الدواب له عليه الصلاة والسلام بل حتى الجمادات، هل كان هذا لواحد منكم؟ هل رأيتم ساحراً يفعل ذلك؟

وقد تهدمت الكعبة نتيجة الفيضانات يوماً وكدتم تتقاتلون بعد بنائها من يضع الحجر الأسود في مكانه، فحكمتم أول داخل، فكان الداخل محمداً صلى الله عليه وعلى آله، وإذا به يفصل بينكم ولم يستأثر عليكم، ولكن أمر كل واحد من فخد أن يحمل في طرف الثوب الذي وضع فيه الحجر، ثم وضع الحجر بيده الشريفة مكانه؛ فهذا يدل على العقل أو الجنون؟ وكل سيرته وحياته دلت على العقل وعلى الفهم وعلى الإدراك، فمن أين هذه الاتهامات؟ فكروا مجتمعين وأفراداً وليستعن بعضكم ببعض، وليستعينوا بالخلوة كل على حدة.

وفكروا أيمكن أن يكون محمد ساحراً؟ متى تعلم السحر؟ وما الذي رأيتم من السحر بين يديه؟ أهو مجنون يتكلم كلام العقلاء؟

بل كان عاقل العقلاء وكبير الفهماء وذكي الأذكياء، وليس بصاحبكم من جنة، أي ليس بالنبي الذي صاحبوه صحبة العداء وصحبة الكفر وصحبة الاتهام والشتم جنون.

مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ [سبأ:46] الله يخبر أن ما زعمتموه ليس كذلك، وهذا الذي قالوه كله يعيده اليوم الرهبان والحاخامات والمنافقون من الناس أولاد مدارسهم وأفراخ جامعاتهم.

قوله: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ:46].

أي: إنما جاءكم منذراً متوعداً إن بقيتم على كفركم وقد قامت الحجة عليكم، فقد كنتم تقولون من قبل: ما جاءنا من نذير، فقد جاءكم النذير وجاءكم من يرشدكم ويدعوكم إلى الله ويقودكم إلى الخير، فما اعتذاركم بعد هذا، فليس هو إلا رسولاً من الله ونذيراً بين يدي عذاب شديد، مما يكون يوم القيامة من العذاب الشديد الذي تعجز كواهل البشر عن تحمله لمن مات كافراً.

قال تعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سبأ:47].

أي: هل طلبت منكم أجرة في سبيل تحمل ما تحملته في سبيلكم؟ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47].

قل لهم يا رسول الله: الذي سألته من المال والأجرة في مقابل دعوتكم للحق أنا أهبه لكم ولا حاجة لي فيه، وعلى ذلك فأنا لا أفعل هذا رغبة في مال ولا سلطان ولا عز ولا نساء ولا لشيء، وإنما أنا نذير وبشير من الله أبشر المؤمنين وأنذر الكافرين.

قوله: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ:47]:

أي: أجري على الله، فلا أطلب ثوابي إلا من الله؛ لأنه هو الذي أمرني وكلفني وأرسلني إليكم؛ لأبشر الطائعين وأنذر العاصين، فأجري عليه.

قوله: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سبأ:47].

أي: حاضر ناظر شاهد بعلمه على عصيان العصاة وطاعة المطيعين، فهو شاهد على عملي وعملكم، وسيكون جزائي وجزاؤكم كل حسب عمله، فمن كفر بالله وبدين الله كان له عذاب السعير، ومن دعا إلى الله وبلغ رسالات الله، وقصر حياته على الله، كانت له الجنان والفوز.