تفسير سورة سبأ [1-6]


الحلقة مفرغة

سورة سبأ سورة مكية، فقد نزل بها الروح الأمين عن رب العزة جل جلاله على قلب نبينا خاتم الأنبياء عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم، وكان ذلك في مكة المكرمة مسقط رأسه الشريف، ومنزل الوحي الأول، وبيت الله الحرام، ومركز الكعبة المشرفة، ومناسك الحج المقدسة.

والجمهور يقولون: هي مكية إلا آية، وزعم قوم -بعد أن أجمعوا على أنها مكية- أن هذه الآية مدنية، والآي في أكثرها تدل على أنها مكية.

ولكن من سبأ الذي سميت به السورة؟

جاء من يسأل رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ما سبأ يا رسول الله! أرجل هو أو امرأة أو أرض؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: هو رجل كان له عشرة أولاد، تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة)، أي: ستة ذهبوا لليمن، وأربعة ذهبوا إلى الشام.

قال النسابة: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ولذلك أكثر ما يقال عن عرب اليمن: القحطانية، ومنهم ملوك سبأ، ومنهم بلقيس صاحبة سليمان في القصة التي مضت، وأخذنا منها العبر والحكم والأحكام.

وهذا الاسم هو من باب تسمية الكل باسم البعض، وذلك في الآية الخامسة عشرة: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا [سبأ:15-16]، فعندما أعرضوا عن النعم والمغفرة أصابهم الله بما أصابهم به.

هذه السورة التي سميت بسبأ، سيقص الله علينا فيها قصته مع ما يتخللها على عادة القرآن الكريم من حكم وعبر وأحكام وآداب ورقائق، ونحن مع القرآن ومع السنة الطاهرة وخاصة في كتاب الله يجد الدارس والتالي والعالم والطلاب يجدون أنفسهم في روض فيه من كل ثمرة زوجان.

ففيها صفات الله ونعوته الكريمة، وتحدثت عن الأنبياء وكيف أكرمهم الله بالنبوءة وأوحى إليهم، وعن الأمم السابقة العاصية والمطيعة، وقصة بدء الخليقة منذ خلق آدم من تراب وإلى يوم القيامة، وعن الحلال والحرام، والآداب والرقائق والقصص، فلا تجد المدرس ولا الطلاب يملون منها؛ لأنهم يتنقلون من زهرة إلى وردة، إلى عسل إلى ثمرات طيبات في كتاب الله.

وعن نفسي أقول قبل أن أقول عنكم: عندما أدرس كتاباً مصنفاً على طريقة كتب الفقه، وأجد نفسي أبقى في أبواب الطهارة الشهور المتعددة، وقل مثل ذلك على بقية الأبواب، فإني أمل وأكل، وأما مع كتاب الله وسنة رسوله في المسانيد المرتبة على أسماء الرواة من الصحابة لا على أبواب الفقه، فالإنسان ينتقل من حديث في أول الخلق، إلى حديث في الله، إلى حديث في النبوءة، إلى أحاديث في الأحكام والحلال والحرام، وهكذا، فلا يمل، وهكذا نحن في كتاب الله، وقد أعاننا الله وتابعنا بيانه وشرحه ولنا إلى الآن تسع سنوات بنشاط وغبطة ولله الحمد، وعدم ملل البتة، وكما نرجو من الله الذي أعاننا في الماضي أن يعيننا في الآتي إلى إتمامه بفضله وكرمه.

قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ:1].

ابتدأ الله الخلق بالحمد، وختم الدنيا والخلق بالحمد لله، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10]، وكانت السورة التي هي ديباجة كتاب الله، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وهي التي نتلوها ونقرأها وقلنا بفرضيتها كما تؤكد ذلك الأحاديث في جميع الصلوات، فرائضها ونوافلها، وفي كل الحالات جماعات أو فرادى.

وهنا الحمد لله: الحمد الكامل، بجميع أنواعه، الحمد الحق لله، فمهما أوتيت من عافية ومن رزق ومن مال ومن كل شيء إذا جاء على يد العبيد، فالله هو الذي ألهمهم، والله الذي حرك قلوبهم، فهو المحمود على ذلك، وإن كان من آداب الإسلام كما يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله).

ولكن الحمد الكامل، والحمد التام بجميع أنواعه هو لله، نحمده على ما هدانا إليه من دين وإسلام، نحمده على أن جعلنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، نحمده على ما وفقنا إليه من التزام ذلك والرجاء والضراعة إليه أن يحيينا عليه وأن يميتنا عليه، إلى أن نلقاه يوم القيامة مع محمد وصحبه.

نحمده على ما أولانا به من عافية ومن رزق ومسكن، وكسوة، وذرية، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، ومهما قلنا: يبقى فضل الله عظيماً، ولكننا مع ذلك نقول ما علمنا الله أن نقول: الحمد لله، فنحمده على كل حال، ويتأكد ذلك عقب الصلوات، وتجدد النعمة في الذات أو الأخلاق أو الأولاد أو الأرزاق.

وعلمنا الله أن نحمده، وعلى أن له السماوات والأرض، وهو من السماوات يميتنا، ويسيل الأمطار لغياث الأرض ولخصبها، ولإنباتها بما نعيش عليه، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30]، لا يحيا مخلوق بلا ماء، كان إنساناً أو حيواناً أو نباتاً، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سبأ:1].

ونحمد الله على أن الأرض له، أسكننا في أطرافها، نضرب في جوانبها ونسترزق ربنا، نعيش من باطنها بما ينبته من نبات وثمرات، وما يعيش عليها من دواب وحيوانات من أشكال اللحوم وأشكال النعم، فنحن نحمد الله أن السموات والأرض هي له ومن عليها من خلق، الكل ملك له، والكل عبد له، والكل متوقف على رحمته، والكل متوقف على رزقه، فهو المحيي وهو المميت.

وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ [سبأ:1]، أي: في يوم القيامة الحمد له وحده، فلم يكن لأحد فيه حمد أو شكر؛ لأن الكل له، ولن يستطيع أحد فعل شيء إلا ما كان من الشفاعة المحمدية -أكرمنا الله بها- وإلا ما كان من شفاعة العلماء والصالحين والأخيار كذلك -أكرمنا الله بها- وهي أيضاً من الله، ولن يشفع أحد إلا بإذنه، فالحمد كله لله، فهو الذي أذن لمن يشفع أن يشفع، ولا يشفع إلا في مؤمن أدى الشهادتين، فالحمد في الدنيا لله: في السموات والأرض، والحمد في الآخرة لله، فالحمد إذاً كله لله بتمامه وأنواعه وأشكاله دنيا وآخرة، ولذلك ينبغي للمسلم كما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الأعرابي الذي جاء وقال: (يا رسول الله، قد كثرت علي شرائع الإسلام، فقل لي شيئاً أكتفي به، قال: إن استطعت أن يكون لسانك رطباً بذكر الله فافعل).

ومن أعظم الذكر وأعلاه وأسماه: الحمد لله، الذي امتلأ بها كتاب الله، فهو كما أثنى على نفسه لا نحصي ثناءً عليه.

وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ:1] أي: هو الحكيم في كل أعماله، وفي كل أقواله، وفي جميع قدره، والحكمة هي وضع الشيء محله، والله وحده حكيم، ومن يكرمه الله بشيء من ذلك، فهو الحكيم في أمره، الحكيم في نهيه، الحكيم في قدره جل جلاله وعز مقامه، (وهو الحكيم الخبير) الخبير بعباده مؤمنهم وكافرهم، وما يصلح لهم نساءً ورجالاً، كباراً وصغاراً، فمن يصلح له الفقر أفقره، ومن يصلح له الغنى أغناه، ومن تصلح الحياة له أكبره إلى الشيخوخة، ومن يصلح له الموت أماته في الطفولة، فالأمر أمره، فلا يسأل عما يفعل ونحن نسأل، فهو الحكيم بكل أعماله، الخبير بكل خلقه.

قال تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سبأ:2].

ربنا جل جلاله الخالق لكل شيء هو العالم بكل شيء، يعلم ما يلج في الأرض: أي: ما يدخلها، ويلج: يدخل، والمعنى: ما يلج الأرض من أمطار: كم قطراتها، وكم أوزانها، وفي أي ساعة وفي أي وقت من ليل أو نهار نزلت أو ستنزل، وما يلج في الأرض من أموات ومن أجسام، فالله يعلم كل شيء، (وما يخرج منها) أي: ما ينبت من ثمراتها وأرزاقها ومعادنها وخيراتها.

فهو العالم بما يدخل إلى الأرض مما ينزل من أوامر ونواهٍ.

وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [سبأ:2] ويعلم ما يعرج ويصعد للسماء من أرواح المؤمنين، ومن الملائكة الجند المكلفين، ومن دعوات الداعين، وهو جل جلاله الخالق لذلك، العليم به وحده.

وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سبأ:2] الرحيم بعباده المؤمنين، فمن رحمته أنه غفر ذنوبهم، وقبل توبتهم، واستجاب لاستغفارهم، وتاب على من تاب وأناب إليه، فهو الرحيم بعبادة المؤمنين التائبين، وهو الغفور لذنوبهم عندما يستغفرون.

قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ:3].

كفروا بالقيامة وأنكروها، وكذبوا رسلهم، وأنكروا ما ورد عن الله لرسلهم، فكان جواب الله لنبيه: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3] أي: قل يا رسول الله: بلى، وكلمة بلى تعني نعم بعد الإنكار، فهم أنكروا فكان الجواب: بلى ستأتي الساعة. (بلى وربي) أمره الله أن يقسم بربه أن الساعة آتية لا محالة، عَالِمِ الْغَيْبِ صفة لربي.

وقد ورد القسم على قيام الساعة في ثلاثة مواضع:

الموضع الأول: في سورة يونس، والآية: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ [يونس:53] أي: يطلبون نبأك وخبرك أحقٌ يوم القيامة؟ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53]، فهم طلبوا الاستنباء والاستخبار من رسول الله عن القيامة، فقال الله: قُلْ إِي وَرَبِّي [يونس:53] أي: نعم وربي، فأقسم بربه أن يوم القيامة حق لا مين ولا شك فيه.

الموضع الثاني: آيتنا هذه التي في سبأ.

الموضع الثالث: قوله في سورة التغابن: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7]، والزعم مطية الكذب، فقد زعموا بأنه لا بعث ولا نشور ولا قيامة، قال الله لنبيه: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7]، فأكد ذلك بلام الابتداء، وبنون التوكيد الثقيلة، زيادة على القسم الظاهر، فهي ثلاث آيات في ثلاث سورة كريمات، يأمر الله نبيه فيها أن يقسم به أن القيامة حق، ونحن تبعاً لأمر الله، ولما استجاب إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام كذلك نقسم ونقول للمنكرين الكافرين: بلى وربي لتبعثن، بلى وربي إن يوم الساعة حق.

قوله: لَتَأْتِيَنَّكُمْ ، أكد القسم بلام الابتداء، مع التأكيد بنون التوكيد المثقلة.

(عالم الغيب) أي: الذي لا يطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول، وهذا من الغيب الذي أخبر به رسوله، وعلمناه نحن عن رسولنا عليه الصلاة والسلام.

قوله: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ:3].

قوله: لا يعزب عنه أي: لا يغيب، ولا يغرب، ولا يبعد عنه الاطلاع على خلقه، ولو كان هذا الخلق في وزن ذرة، والذرة هي الهباءة الصغيرة التي لا تكاد ترى إلا بالمجهر، سواء كانت في السماوات أو في الأرض، وفي السموات السبع العلى وما فوقها إلى سدرة المنتهى إلى العرش، إلى الأرضين السبع .. بحارها وجبالها ووهادها وأعماقها إلا ويعلمها الله جل جلاله، ولا تغيب عنه ولا تبعد.

وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ ولا أصغر من الذرة.

وَلا أَكْبَرُ أكبر من الذرة.

إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ علم كل ذلك وغيبه في الكتاب، والكتاب هنا اللوح المحفوظ، واللوح المحفوظ لوحان، لوح من قبل الحق لا يراه إلا الله، ولوح من قبل الملائكة، فما كان من قبل الله لا يراه غيره، قال عنه: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:29]، وما دون فيه لا يغير ولا يبدل، جفت الصحف ورفعت الأقلام. واللوح الذي من قبل الملائكة، هذا يقع فيه المحو والإثبات، يمحى ما سبق أن كتب فيه الجنين شقياً أو فقيراً أو بائساً، بدعوات والديه، وبالصدقة، وبالضراعة إلى الله، أو بأي سبب من الأسباب، كما جاء في أحاديث كثيرة، وفي كتاب الله، وهو ما قال الله عنه: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39].

فاللوح المحفوظ الذي من قبل الله هو الأم، كما نقول: أم الشريعة كتاب الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسنة النبوية شرح وبيان لأم الكتاب، وهو أيضاً فيما صح عنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، هو المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهو الذي إذا قال لا يقول إلا الحق، وإذا غضب لا يغضب إلا للحق، وإذا سر لا يسر إلا للحق، وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل ما سمع من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسمى بعد ذلك ما كتبه: الصادقة، وكان في هذا الكتاب ألفا حديث، لم يضع منها شيء ولله الحمد، وكلها رويت في الكتب الستة، وبقية الصحاح والسنن، فانقطع عن الكتابة يوماً، فانتبه له رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (ما بالك لا تكتب؟ قال: يا رسول الله! رآني فلان وفلان فقالا لي: أتكتب كل ما يقول رسول الله في الغضب والرضا وهو بشر؟ قال: اكتب فوالله لا يخرج عن هذا إلا حق في الغضب والرضا).

ولذلك كانت حياة رسول الله في جميع سيرته قولاً وفعلاً وعملاً وإقراراً من الشريعة الشارحة والمبينة للقرآن الكريم، ومن هنا قال الله لنا في كتابه في أكثر من آية: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فرسول الله أسوتنا وقدوتنا في غضبه ورضاه، وفي حبه وبغضه، وفي سلمه وحربه، وفي حضوره وغيبته، وفي حضره وسفره، وفي سلامه ومعاركه عليه الصلاة والسلام، وفي كل أحواله.

قال تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [سبأ:4-5].

قال تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سبأ:4]، لم كانت القيامة؟ ولم جعل الله لهذه الدنيا الدنية حياة فانية؟ حتى لا يفر الظلمة في الأرض بظلمهم وبجبروتهم وبطغيانهم، ويظنون أن الأمر كان سبهللاً، وأن الضعيف لا يجد من يدافع عن حقه، وهيهات هيهات، ما كانت الآخرة إلا للحكم العدل، وسيكون الحاكم العدل أحكم الحاكمين الله جل جلاله.

قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3] لم؟ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سبأ:4] ليجزيهم أجر ذلك، ليجزيهم ويحسن إليهم ويكافئهم على ما فعلوه من طاعة وعبادة، وهيهات أن يكون المحسن كالمسيء، والجاهل كالعالم، والظالم كالعادل، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [سبأ:4]، أولئك الذين أحسنوا وآمنوا وعملوا الصالحات يجزيهم الله المغفرة والرزق الكريم، المغفرة مما أتوا به، وهم دائمون على الإيمان والإسلام، ثم يرزقهم الرزق الكريم، والرزق الكريم هو الجنة، ورضا الله جل جلاله، والحياة الدائمة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

ومقابل ذلك قال تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [سبأ:5]، فكانت الساعة وكانت القيامة ليجازي الله المؤمنين العاملين للصالحات بمغفرة ذنوبهم، وبرضاه عنهم، ثم يرزقهم الرزق الكريم الذي لا مشقة فيه ولا تعب، وذلك في دخولهم الجنان، وتمتعهم بما فيها.

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا أولئك الذين أساءوا وسعوا في الأرض بالفساد.

مُعَاجِزِينَ : ظنوا أنهم سيفوتون على ربهم ويعجزونه، وأنه يعجز عن عذابهم، زعمت ذلك عقولهم الكاسدة، وهيهات أن يكون لذلك أصل أو وجود إلا في ضمائرهم الفاسدة الغبية.

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ [سبأ:5] سعوا في تكذيب آياتنا وكتابنا ومعجزات أنبيائنا، وما أمرنا به وقلناه في كتابنا، وأنزلناه على أنبيائنا، هؤلاء يسعون في صد الناس عن الإيمان.

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا [سبأ:5]، سعوا في إفسادها، وصد الناس عنها، وبذلوا من أنفسهم سعياً وحركة وعملاً للإفساد والصد عن الله وعن دينه، أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [سبأ:5]، (أليم) قرئ: (مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٍ)، وقرئ: (أليمٌ) صفة للعذاب، بمعنى: أولئك لهم عذاب أليم من رجز، والرجز أشد العذاب والمهانة والإذلال، ففي يوم القيامة يحسن إلى المحسن، ويساء إلى المسيء، يلاقي المحسن رضاء ربه ومغفرته ودخول الجنان، ويلقى المسيء الساعي في الأرض الفساد، المكذب لله ورسوله، الصاد عن الله ورسله، العذاب والمهانة في جهنم وبئس المصير.

قال الله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ:6].

(ويرى الذين أوتوا العلم) هذا كلام عام، وقد فسره البعض بمؤمني أهل الكتاب الذين آمنوا برسول الله، وكانوا من أهل العلم الذين فهموا التوراة والإنجيل، وفسروه بعلماء المسلمين، والآية تشمل الكل: من آمن من أهل الكتاب من علمائهم كـعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وهؤلاء الذين كانوا من أهل العلم، والذين حازوا رتبة العلم بالله والمعرفة به.

وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي: يعلموا، أي: من رأيهم، ومن عقيدتهم، ومن فهمهم، كما نقول: يرى فلان كذا وكذا، أي: يعتقد ويدين بهذا الرأي.

الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ يرون ويعتقدون ويؤمنون أن ما نزل إليك من كتاب الله، وما نزل إليك من رسالة الله هو الحق، الذي انفرد بعد الأديان السابقة وتبديل أصحابها لها وتحريفها، ولم يبق الحق إلا الإسلام، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] لا سواه ولا غيره.

وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ أي: أن الذي أنزله إليك ربك بواسطة رسول الملائكة إليك جبريل، هو الحق، لا كما يزعم الكفرة، والحق الذي أنزل عليك هو قوله بيوم القيامة وبالنبوءة وبالجنة والنار، وبالجن والملائكة، وبالموت والحياة، وبأن خالق الخلق هو الله الواحد جل جلاله.

وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ هذا الذي أنزل إليك يهدي أي: يدل ويرشد ويوجه إلى الصراط وإلى الطريق، والعزيز هو الله الذي لا ينال، والغالب الذي لا يغالب، وصراط الله الحق هو الإسلام، أي: رسالة محمد عليه الصلاة والسلام. فهؤلاء أهل العلم يعتقدون بأن هذا القرآن الكريم يهدي إلى صراط الله العزيز الحميد، المحمود في السماء، والمحمود في الأرض، الذي له حق الحمد.