تفسير سورة سبأ [15-19]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَة جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15] .

ننتقل من الكلام عن سليمان وداود عليهما السلام إلى الكلام عن سبأ، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15] كان لسبإ في مسكنهم قرئت (مَساكِنهِمْ) ، و مسكنِهِم ، على صيغة المسجد، فلقد كان في مساكن سبأ في أرض اليمن آيَةٌ أي: علامة على قدرة الله جل جلاله، كما كانت هذه العلامات فيما سخّر الله لداود ولسليمان، وكذلك سخّر لهؤلاء، وقد كانوا مؤمنين صالحين قبل أن يبدّلوا ويغيروا.

قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ وقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فروة الغطيفي فقال: يا رسول الله! ما سبأ؟ أرجل هو أو امرأة أو أرض؟ والحديث في مسند أحمد قال: (سبأ رجل كان له عشرة من الأولاد، تيامن ستة وتشاءم أربعة) أي: سكن في اليمن ستة وسكن في الشام أربعة، وهؤلاء الذين سكنوا اليمن أسسوا حضارة كبيرة وبنوا السدود؛ لأن أرضهم كانت جبالاً، واستفادوا منها، وجمعوا المياه التي تأتي من العيون والتي تنزل من السماء والتي تجمعها الوديان والوهاد فجعلوا منها سدوداً، وقالوا إن الذي فعل ذلك هي بلقيس صاحبة سليمان، وقد كانت ملكة سبأ، وسبأ أرض على مرحلة من صنعاء عاصمة اليمن، انتبهت بذكائها إلى أن أرض اليمن يمكن أن تكون جناناً، ويمكن أن يكون فيها من الخصوبة ومن الفواكه ومن الأنعام ما يغني البلد ويغني جيرانها ويدع السكان يعيشون في رفاهية، ومن الماء جعل الله كل شيء حي، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30] وانتبهت بأن مأرب هي بين جبلين فأتت بالصنّاع وبالمهندسين وبالأبّارين المعتنيين بالماء وبالمياه، ثم جاءت لهذه الطريق بين الجبلين، فجعلت جداراً سداً من جهة اليمين وسداً من جهة الشمال، وإذا ببحر من الماء يرتفع وجعلت له أبواباً في أعلاه وأسفله قالوا: الأبواب عشرة، إذا فاض الماء فتحت الباب الأعلى، فإذا نقص فتحت الذي يليه، إلى أن تفتح آخر باب، ومع كثرة المياه والأمطار والينابيع أصبح هذا السد بحراً من الماء العذب الزلال، فأصبحت هذه المياه تسقي الجنان والبساتين والدور والقصور وما هم في حاجة إليه، ثم عن يمين وشمال زرعت هذه الجبال والأراضي والقصور والدور والبيوت والبساتين، فكانت فيه جنتان عن يمين وشمال، أي: أشجار وجنان عن اليمين والشمال، عن يمين سد مأرب وعن يساره وفي الدور وحيثما تنقلت، ومن هنا سميت في التاريخ بالأرض السعيدة، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً).

وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (تعود) عاد في لغة العرب هو الرجوع إلى شيء سبق وكان، ومعناه: أن جزيرة العرب بما فيها اليمن كانت في العصور السحيقة جناناً متصلة وبساتين، وهذا سنجد أثره فيما يدل عليه قول الله في الآية الآتية.

فعاشوا زمناً في غاية ما يكون من الرفاهية والخصب وتنوع الفواكه والحبوب وكثرة المواشي والدواب وكل ما يشتهون، قالوا: وأرسل إليهم ثلاثة عشر نبياً، فكانوا مؤمنين مسلمين موحّدين، فحفظ الله عليهم دنياهم وخصوبة بلادهم وما فيها من رفاهية ومن حضارة.

قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ أي: علامة على قدرة الله فيما يريده.

قال تعالى: جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ (كلوا) أمر بمعنى الخبر، أي: يخبر الله بأنهم كانوا يأكلون من رزق ربهم مما رزقهم من المياه، والمياه ليسوا هم الذين خلقوها، وإنما استفادوا من خلق الله، وما خلق الماء إلا الله جل جلاله.

قال تعالى: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ أي: الذي كان نتيجة الأمطار والمياه والغيث، وهكذا أصبحت بلادهم جديرة باسم الأرض السعيدة التي سعد أهلها بما يريدونه ويرجونه ويسعون فيه من هناء وحضارة وأرزاق دارة.

قال تعالى: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ وبالشكر تدوم النعم، فكلوا مما رزقكم الله واشكروا الله تعالى على هذه النعم، اشكروه بالأركان وباللسان، وكما قال ربنا في كتابه المنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] فبالشكر تزيد النعم، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].

وجحود النعمة وكفرانها تجرّد المنعم عليه من النعمة، والعذاب على كفر النعمة زوالها، نعوذ بالله من الخذلان ومن السلب بعد العطاء.

قال تعالى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15] أي: بلدة طيبة بخيراتها وبمياهها وبفواكهها وبأرزاقها وبأنواع لحومها وبكل ما يشتهيه الإنسان في الأرض، وكأنها قطعة من جنان الآخرة، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15] أي: إن شكرتموه وأطعتموه وعبدتموه، وماذا يريد الإنسان أكثر من حسنة الدنيا والآخرة؟ وقد علمنا الله جل جلاله وعلمنا نبيه عليه الصلاة والسلام أن نُعيد هذه الآية ونكررها ونحن نطوف بالبيت المقدّس بين الركن اليماني والحجر الأسود: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، وقد قال هذا لسبأ: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ أي: البلاد طيبة، وفي الآخرة لهم غفران الله لذنوبهم، ومحو سيئاتهم، وقبول حسناتهم، ثم النهاية لهم بالجنان ورحمة الله دائماً.

فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16].

وهكذا الله جل جلاله يقص علينا قصص الأمم السابقة وما أكرمهم به وتفضّل عليهم به من أرزاق دارة وهم موحدون مؤمنون، فإذا كفروا النعمة: وكفرانها الشرك بالله وترك الطاعات ومعصية رسل الله فـ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، فإذا غيروا ما بأنفسهم من طاعة وتوحيد غير الله رحمته ومغفرته ورزقه إلى الغضب وإلى الجوع وإلى الخوف وإلى البلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة.

قال تعالى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16]، فأعرضوا عن الله وعن شكره وعن طاعته وعن امتثال أوامر أنبيائهم، فعندما أعرضوا أعرض الله عنهم، وعندما نسوا الله نسيهم، وعندما أبوا إلا الجحود والكفران سلبهم الله النعمة، قال تعالى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وسيل العرم السيل المعروف، والعرم: الشديد القوي، والسيل: المياه الجارية التي لا يكاد يقف في طريقها شيء، وقد أغرق الله تعالى قوم نوح بهذا، وأغرق هؤلاء فقال: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ [سبأ:16]، والعرِم هو من باب إضافة الشيء إلى صفته، أي: الماء العارم، يُقال: شاب عارم، أي: شاب سيئ الخلق، والعرامة: الشدة.

و سَيْلَ الْعَرِمِ أي: السيل العارم الشديد القوة والضغط وجريان المياه، قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ [سبأ:16]، ومعنى ذلك أن هذا السد الذي كان مرتفعاً عشرات القامات ولعله كانت تجري فيه السفن، سلطه الله عز وجل عليهم.

وهذه البلدة كانت طيبة الهواء وطيبة الروائح من الزهور والورود ومن أنواع الفواكه والثمرات، بحيث إن البعوض والبط والحشرات لا تعيش فيها، وقد كان الآتي من الخارج يأتي وفيه قمل، فلا يكاد يدخل هذه الأرض حتى يموت ما عليه من قمل وحشرات، وكانت الجرذان في كبر القطة الصغيرة، فأخذت تنازع القطط التي تريد أكلها، حتى خافت القطط وفرّت فتكاثرت الجرذان وتوحشت وأخذت تحفر السد من تحته، ومن عادة الجرذ أن يحفر في الأرض ومع مرور الأيام إذا بالمياه تنفجر من تحت، وإذا بشدة المياه تحيط بالسد وتخرج وتغرق الدور والبساتين، وتقلع الأشجار، وتصبح الأرض بعد أيام خراباً وكأنها لم تكن يوماً ذات جنان عن اليمين والشمال يأكلون منها أكلاً طيباً، وكانت فيها حياة طيبة رغيدة، ثم غار الماء فإذا بالبلاد يصيبها القحط والجدب والجوع والخوف، ولشدة الجوع أصبح القوي يأكل الضعيف، فلا أمن ولا شبع ولا راحة ولا أشجار، وسيقص الله علينا كيف كانت اليمن ومأرب بهذه المياه وهذا السد.

قال تعالى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ أي: أبدل الله ما كان عن اليمين من الجنان المتصلة يميناً والجنان المتصلة يساراً في جميع البلاد دوراً وبساتين وحدائق وقصوراً وساحات وشوارع وأزقة، وحيثما ذهبت كانت الأشجار عن اليمين والشمال، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ أي: أبدل الله جنتيهم الكريمتين الطيبتين الكثيرتي الثمار بجنتين من غير ذلك، جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ ، أبدلهم بجنتين عكس تلك الجنتين السابقتين بالمرة، ووصف الله هاتين الجنتين بقوله: ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ أي: ذواتي مأكول خمط مر تعافه النفس ولا تستطيع ابتلاعه، ( وَأَثْلٍ ) وهي الطرفاء التي لا يصلح ثمرها ولا يصلح أكلها، فبدلت بالطرفاء التي لا تصلح لشيء مما كان من أشجار وكروم ونخيل وأنواع من الفواكه لا تمل ولا تنتهي.

وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ السدر: هو شجر النبق، ومنه البري ومنه المزروع باليد، وهو معتنى به، وهذا البري نبت بفيضان المياه من السد، ومع ذلك هو شيء قليل وليست شجراً كثيرة فيه، وإنما الكثير ما لا يكاد يؤكل ولا تستسيغه الأفواه؛ وهكذا عندما كفروا النعمة ذهب الله بطيب البلدة وبأشجارها وبنعيمها وبثمارها، فأعرضوا وغيّروا وبدّلوا فغيّر الله ما عنده، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].

قال تعالى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ ، أي: مر لا يكاد يؤكل ولا يسيغه حلق إنسان، وَأَثْلٍ الطرفاء، وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ أي: شيء قليل من السدر البري الذي فيه النبق، والثمر كذلك مر لا يكاد يسيغه الإنسان، وهو بري يأكله الإنسان كما يأكل التبن، لا ماء فيه ولا غذاء.

قال تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ:17] .

ذَلِكَ أي: فعلنا بهم ما مضى من تغيير النعمة عليهم بسبب كفرهم بالله، فالجنتان اللتان كانتا ذواتا ثمار يانعة وأشجار باسقة، والأرض التي كانت ذات مواش ودواب وطيور ولحم طير ولحم مواش ومن كل ما يشتهون، وكما وصفها الله بلدة طيبة، كل ذلك صار كأن لم يكن، وهكذا إذا رأيت قوماً أصابهم الله بالذل بعد العز، وبالجوع بعد الشبع، وبالفقر بعد الغنى، فما ذاك إلا لمعصيتهم، وما ذاك إلا لخروجهم عن أمر الله، ولا يكون ذلك إلا عقوبة من الله، فعندما يجحد المؤمن بدين ربه ويكفر بنعمته ويخرج عن أمره ويبدل الطاعة معصية والتقوى فجوراً يسلّط الله عقوبته، كما سلط على المسلمين منذ أزمان وإلى اليوم، ولم نعد إلى ربنا بعد ونتب من ذنوبنا ونستغفره مما نحن فيه، فعلى الإنسان أن يستغفر ويندم على ما فرط منه ويعزم على أن لا يعود لذلك، فإذا لم يفعل فإنها توبة باللسان ولا يكاد يكون لها أثر، ويكون التائب كالمتلاعب.

قال تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ، الباء باء السببية، أي: كانت عقوبتنا لهم من استبدال جنتيهم الطيبتين بالجنتين ذواتي الأكل المر الذي تعافه النفس وذات الطرفاء والسدر البري بسبب كفرهم وجحودهم بتلك النعم الفائضة التي أغدقها الله عليهم، قال تعالى: وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ يقول ربنا: وهل نجازي؟ وهو استفهام تقريري، أي: ولا نجازي ولا نعاقب إلا الكفور، أي: الجاحد الكافر الشديد الجحود والكفر، الذي يصمم ويصر على جحوده وكفره، والكفور صيغة مبالغة من شدة الجحود وشدة الكفر، فالله لا يجازي إلا الكافر، وأما المؤمن فقد يعاقبه وقد يغفر له، والله يغفر كل الذنوب إلا الكفر والجحود، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

قال تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ [سبأ:18] يصف الله هذه البلاد بأنها كانت ذوات قرى متصلة بارزة ظاهرة من أرض اليمن من صنعاء إلى بقية جزيرة العرب وإلى أرض الشام، وهي البلاد التي بارك حواليها بخصبها وبثمارها وبالنعم الدافقة على أهلها، أي: قد كان هذا يوم ذاك، ثم كل من جحد النعمة ولم يشكرها وكفر بالله ولم يتق ويخف الدار الآخرة وعذاب الله يُصاب بما أُصيب به هؤلاء أهل اليمن وأهل سد مأرب الذين أعطاهم الله من الخيرات ما يكاد يشبه بعض ما ذكر الله لنا من جنان الآخرة، ومع ذلك كفروا النعمة وجحدوها بعد أن أكرمهم الله بثلاثة عشر نبياً متواليين، هذا خلف هذا، ليذكروا الجيل بعد الجيل قال تعالى: وَجَعَلْنَا أي: بين أهل سد مأرب وقوم سبأ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً أي: بارزة متصلة واضحة ومعروفة، أي: جعل الله من أرض مأرب وسد مأرب وأرض سبأ من أرض اليمن التي كانت تسمى الأرض السعيدة جعل قراها متصلة بارزة وظاهرة بحيث اتصلت من أرض اليمن إلى القرى التي بارك الله فيها، والقرى التي بارك الله فيها هي قرى أهل الشام، وهم أهل فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، فكل هذه أرض الشام، وكلها كانت ذات خصب ونعم دافقة وأشجار وثمار متنوعة، قالوا: وكانت الأشجار ما بين القرية والقرية من القرب بحيث لا يكاد يمر الإنسان قريباً إلا ويرى القرية التي بعدها، قالوا: وكانت المرأة تخرج من القرية إلى القرى المجاورة وعلى رأسها قفة وتمشي تحت أشجار ظليلة في ظلها، فتمشي والفواكه تقع بطبيعتها كما تقع عندما تنضج، فلا تكاد تصل من قرية إلى قرية حتى تكون القفة قد امتلأت بتلك الثمار من كل نوع، ولا تحتاج إلى زاد ولا إلى تمويل بل ولا إلى ركوب، وتقطع القرى بأرجلها من مكان إلى مكان، فالنعم باسطة خيراتها لكل إنسان، وجعل هذه القرى من أرض مأرب ظاهرة بارزة بيّنة، لا يظل فيها الإنسان، تظهر من أول قرية، فكلما ذهب الإنسان رأى القرية الآتية ويرى ما بعدها، وهكذا منذ يخرج من صنعاء إلى أن يصل إلى قرى ومدائن الشام، فكانت أرض الشام كلها وأرض اليمن كلها قرى متصلة، قالوا: وقد كانت آلافاً، وكلها بهذه الخيرات والأرزاق، أشجار متصلة عن اليمين والشمال، ليست من نوع السدر ولا الأثل ولا من تلك الأشجار التي لا ثمر فيها، ولكن كلها أشجار ثمار وفواكه تلذ للآكل، منوعة مشكلة.

قال تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً أي: بارزة بيّنة واضحة يرى الإنسان القرية خلف القرية، بحيث لا يحتاج إلى دليل، فهي تظهر من قريب، وهذا معناه: أنهم كانوا ذوي حضارة كبيرة وعلم بالزرع وبالسدود وباستنباط المياه وبرصف الشوارع والطرق، ومما لا يزال الناس يحلمون به ولم يصلوا إليه حتى في هذا العصر، عصر اليهود والتبرّج والفساد والكفر بكل أنواعه والفواحش والمنكرات والظلم وإراقة الدماء، والذي يسمونه عصر النور والعلم والحضارة، ومن يسميه بذلك ليس إلا جاهلاً لا يعلم ماذا كان عليه العالم الإسلامي من حضارة ومن أمن ومن خيرات دافقة ومن علوم مندثرة بين الكبار والصغار وبين الرجال والنساء.

قال تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ أي: جعل بين كل قرية وقرية قدراً معلوماً معروفاً من الزمن، أي: ليس بين القرية والقرية إلا مسافة قريبة لا يكاد يمضي عليها أكثر من ساعة أو ساعتين على الأرجل، فبين كل ساعة وساعتين وثلاثة قرية، وكلها من هذا النمط، فكلها أشجار وثمار وخيرات دافقة وما تشتهيه النفس من لحم ماشية أو طير أو حيتان أو ما تريد.

قال تعالى: وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ أي: جعل له قدراً ليس بعيداً ولا متعباً ولا مجهداً.

قال تعالى: سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ، وهذا أمر بالصيغة، وهو خبر بمعنى الأمر، أي: يقول الله كانوا يسيرون في هذه القرى المتواصلة المتصلة بعضها ببعض، وقد قدر السفر والمشي من قرية إلى قرية بمدة يسيرة لمن يأت من الشام إلى صنعاء من أرض اليمن، أو من يذهب من أرض اليمن إلى أرض الشام، فكانت جزيرة العرب إلى أرض الشام كلها قرى متصلة والسير فيها مقدّر، وكانوا يسيرون الليالي والأيام ذوات العدد، آمِنِينَ ، وماذا يريد الإنسان أكثر من الأمن والشبع وأنواع الطعام والشراب والفواكه؟ فقد كانوا يعيشون في جنة على الأرض، إلا أن جنة الآخرة دائمة وجنة الدنيا زائلة، وقد زالت بكفرهم، ولا كفران في جنان الآخرة، فالكافر يكون في السعير وفي جهنم.

وقد كان يقول بعضهم لبعض: سيروا ما شئتم واقطعوا السفر ليالي متتابعة، أي: سواء كان السفر ليلاً أو نهاراً فالطريق عامرة وليست مخوفة، والأمن ضارب أطنابه، فلا يخاف طفل ولا مولى ولا رجل ولا امرأة؛ لأن الخوف لا يكون إلا من جوع جائع أو فقر الفقير أو كفر الكافر، وهم كانوا مؤمنين، كما قال لهم ربهم: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ:15] وكان الرب يغفر لهم بطاعتهم لأنبيائهم وطاعتهم لربهم وعبادتهم له آناء الليل والنهار، كما يأمرهم أنبياؤهم بذلك مع النعم الدافقة، فإذاً لا داعي للخوف، سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ [سبأ:18].

قال تعالى: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سبأ:19].

فهؤلاء أرادوا أن يفعلوا ما فعله اليهود عندما هربوا من مصر واستعباد وقهر فرعون وهامان ومن إليهما من جندهم، واتبعوا موسى وهارون، وخرجوا وابتعدوا، وغرق فرعون ، ثم تاهوا في صحاري سيناء أربعين سنة؛ لعودتهم إلى جحود النعمة، ومع ذلك كانوا يرزقون بالمن وهو العسل، كان ينزل على الشجرة فيأكله الإنسان دون أن يصنعه، والسلوى: نوع من الطائر كألذ ما يأكله الآكل، مع المياه اثنتا عشرة عيناً متدفقة، فملوا الشبع والأكل وتمنوا الفوم والبصل والقثاء، وأخذوا يسألون الأدنى دون ما هو أعلى، وهكذا هؤلاء: فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ:19]، وذلك عندما جحدوا النعمة، وأعرضوا عن الطاعة، وعادوا إلى الكفر.