تفسير سورة سبأ [39-41]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].

هذا المعنى مضى في آية سابقة، وهذا تأكيد له مع زيادة أن من أنفق نفقة في خير أخلفها الله عليه.

قوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي [سبأ:39] هذا جواب على أولئك الذين عاشوا في رفاهية في الحياة الدنيا وكثرت أموالهم وتعدد أولادهم لكنهم بطروا في ذلك، وجعلوه كفراً بنعم الله وما رزقهم، وعندما جاءتهم الأنبياء كفروا بهم وبما أنزل عليهم، وقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين.

فهؤلاء الذين توهموا أن ما أعطاهم الله من مال وولد في الدنيا إنما هو لخيرهم، وأنهم محبوبون عنده، فنسوا يوم القيامة، وقالوا كما قالت اليهود والنصارى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، فقال الله لمحمد عليه الصلاة والسلام قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة:18]، فالحبيب لا يعذب حبيبه، أي: ليسوا بأحباب الله، ولو كانوا كذلك ما دخلوا النار، وإنما يدخل النار كل مشرك وعاص، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، وحرم الله الجنة على الكافرين، وهؤلاء كذلك، فأكد الله هذا المعنى في آية أخرى، وقال لنبيه: قل يا رسول الله لهؤلاء: إن المال والغنى والرفاهية يعطيها الله لمن أحب ولمن لم يحب، وهو ابتلاء واختبار.

فمن شكر النعمة بالأركان واللسان وبالأعمال والأفعال والأقوال كان من أهل الخير والصلاح، ومن كفر النعمة ولم يشكرها كان ذلك ابتلاء وبلاءً ومحنة يعذب عليها يوم القيامة.

وأما الغنى في نفسه فليس خاصاً بالمؤمنين، كما أنه ليس خاصاً بالكافرين، فهو ابتلاء ومحنة يختبر الله بها من يرزقه ويعطيه حتى يقوم في ماله بما فرض الله عليه من زكوات ونفقات واجبة، ويوزع ماله يميناً وشمالاً لكل من احتاجه، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، وعسى أن يكون هؤلاء كذلك، فإن كانوا كذلك فلهم الجنة، وإن لم يكونوا فقد رسبوا في الامتحان وكان ذلك عليهم بلاءً ومحنة.

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ [سبأ:39] أي: إن الله هو الذي يغني ويفقر، وهو الذي يعطي ويمنع، ويبسط الرزق ويوسع، ويكثره على من يشاء ابتلاءً له، ويفقر ويقدر ذلك بقدر معلوم، وقد يكون ذلك لصالح هذا العبد لكي يقل حسابه فيما أعطي وفيما أنفق.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا) أي: هلك الأغنياء الذين أعطاهم الله المال وفرض أن يعطوه للفقراء والمساكين والسائلين والمحرومين، وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33]، فالمال الذي بين أيدينا هو مال الله، جعله في أيدينا أمانة، وأمرنا بصرفه في وجوه المصارف والعطايا، فأمرنا بالصرف وجوباً للفقير والمسكين والسائل والمحروم.

وأمرنا بالنفقة على الزوجات والأولاد والخدم، وأمرنا أن نزكي من مالنا إذا بلغ النصاب على الفقير والمحتاج والمسكين، وأمرنا إن جاء سائل أن نعطيه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (للسائل حق ولو جاء على فرس)، فللسائل حق إذا صدق، وكذلك من جاءك محروماً فأعطه مما عندك من القليل أو الكثير حسب ما يلهمك الله، ومن لم يعط من القليل لا يعط من الكثير.

فالله الذي يبسط الرزق ويوسعه على عباده ممن شاء، ويقدره ويقلله أيضاً على عباده من يشاء منهم، وليس الفقر والغنى علامة غضب أو علامة رحمة، قد يفقر الصالح رحمة به؛ لكي لا يثقل عواتقه وتكبر عليه المسئوليات، وقد يعطي الكافر فضلاً عن غيره ويكون ذلك محنة ونقمة وعذاباً له يوم القيامة، فإن الله يعطي المال للكافر وللمؤمن، ولا يعطي الإيمان إلا لمن يحب.

ثم قال تعالى حاضاً على العطاء وعلى الكرم وعلى الإنفاق: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39] يخاطب المؤمنين الأغنياء والفقراء، فالغني يعطي من الكثرة، والفقير يعطي من القلة.

فالله يخبر المؤمنين أن من أنفق مما أعطاه الله أخلف الله عليه وعوضه، وقد يكون التعويض في دار الدنيا والآخرة، وقد يكون التعويض في الآخرة فقط كما يقدر الله جل جلاله، وهو العليم بالحكمة لعبده ما ينفعه وما يضره.

وكما جاء في الحديث: (إن لله عباداً لا يصلحهم إلا الفقر ولو أغناهم لأفسدهم، وإن لله عباداً لا يصلحهم إلا الغنى ولو أفقرهم لأفسدهم، ونعم المال الصالح للرجل الصالح).

وقال النبي عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى حاضاً على العطاء والإنفاق في سبيل الله كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: (ينزل للأرض من السماء كل صباح ملكان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) .

فيدعو هذان الملكان الله جل جلاله بأن يخلف على المعطي كل ما أنفق، والحسنة بعشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء ربنا، ويدعوان على الممسك بالضياع والسحق في المال.

وقال عليه الصلاة والسلام: (أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً).

وكان عليه الصلاة والسلام يحض على كثرة النفقات والعطايا، وكان هو في نفسه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، كان لا يريد الغنى بحال من الأحوال، فقد خير بين أن يكون ملكاً نبياً كسليمان وداود أو يكون عبداً نبياً، فاختار العبودية لله، قال: (أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر) .

ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام ينفق كل ما يدخل يده من الغنائم في الحروب وفي الغزوات نفقة من لا يخشى الفقر، يعطي المائة ناقة، ويعطي من الشياه مئات، ويعطي من الأموال عليه الصلاة والسلام عطاء من يملك الدنيا ولا يخشى الفقر.

فقد عرضت عليه الدنيا فأباها وعرضت عليه الجبال ذهباً فأباها، وعرض عليه جبل أحد ذهباً فأباه، وعرض عليه أن يكون نبياً ملكاً فأبى ذلك، وأبى إلا أن يعيش عبداً نبياً، وأن يكون في أخلاق عبيده مسكنة وعبادة وتهجداً ولباساً وعطاءً.

وكان عليه الصلاة والسلام رئيس دولة، وملك أمة، وقائد جيش، فهو عليه الصلاة والسلام قد أقام ديناً بوحي الله، وأسس دولة للإسلام بأمر الله، وفرض نظاماً في ذلك، من تجاوزه وابتعد عنه خرج عن الإسلام.

فالنبي عليه الصلاة والسلام برز في مكة المكرمة وبين العرب ولم يكن عليهم ملك ولا رئيس، فقد كان القوي يأكل الضعيف والغني يأكل الفقير؛ ولذلك عندما سادهم عليه الصلاة والسلام وعندما كانوا صالحين أصبح هو المالك والحاكم والموجه والمسير، فقد كان يولي ويعزل، ويرسل الخبراء والسفراء والقادة، ويصدر الأحكام جلداً ورجماً وقطع أيدٍ وأرجل، وكان يفعل ما يفعله رؤساء الدول.

ومع ذلك كان ملكاً في شكل مسكين، وكانت الأرض كلها له، وتتشرف الملوك والأباطرة أن تمسح على قدميه، وأن تقدم الحذاء لرجليه، فهو إمام الأنبياء وسيد البشر الماضين والحاضرين وإلى يوم القيامة.

قوله: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ:39]:

هذا وعد الله الحق وجرب ذلك فإننا ما رأينا فقيراً يعطي من حاجته إلا والله لم يتخل عنه، وما رأينا غنياً مؤمناً مسلماً يعطي الفقراء والمساكين والسائلين ويؤدي الحقوق إلا والدنيا تكثر عليه وكأنه يحفر الأرض ويخرج الذهب والفضة، ذاك وعد الله الحق، هذا في الدنيا.

أما ما أعد له يوم القيامة في الجنان ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.

وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39] وهو الرزاق الحق.

ومع ذلك قد يكون الرزاق يرزق رزقاً نسبياً، فالوالد يرزقه زوجته وأولاده، والرئيس يرزقه شعبه وأمته، ولكن رزقه من رزق الله وعطاء الله، والله خير هؤلاء الرازقين، رزقه من شيء لا يملكونه، إنما أعطوا عطاء.

قال ربنا: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40].

من المعلوم أنه كان ولا يزال بين البشر من يعبد الملائكة ويقولون عنهم بنات الله، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً.

فيوم القيامة يسأل الله هؤلاء المعبودين ذوي الروح والخلق والحياة والوجود، يسأل الأنبياء ويسأل الملائكة ممن عبدوا تبكيتاً لهؤلاء الذين كانوا يعبدونهم، وذلك حين يجمع العابدين والمعبودين يوم القيامة، فيقول ربنا للملائكة: أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40]، أي: أهؤلاء كانوا في دار الدنيا يعبدونكم ويجعلونكم آلهة تحيون وتميتون وتخلقون وترزقون؟!

كما سأل الله كذلك عيسى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116] أي: أن هذا تكذيب وتبكيت للنصارى الذين اتخذوا عيسى إلهاً، والذين اتخذوه ابن إله، والذين عبدوه مع الله ومن دون الله.

فيقول عيسى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة:117] .

والأنبياء والرسل جميعاً دعوتهم واحدة ورسالتهم واحدة، فكلهم جاء يقول للجن والإنس: قولوا لا إله إلا الله، واعبدوا الله وحده، واكفروا بالأوثان، واكفروا بالأصنام، واكفروا بكل معبود سوى الله جل جلاله.

كذلك سأل الملائكة هاهنا: أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ:40] أي: أهؤلاء الذين اتخذوكم آلهة وعبدوكم من دون الله؟

فأجاب الملائكة كما أجاب عيسى فقالوا: سُبْحَانَكَ [سبأ:41] أي: ننزه ونعظم ونبجل ونخصك بالعبادة وحدك، سبحانك أن يعبد معك أحد، فنحن وهم وكل من خلقت سيأتي لك عبداً، فأنت الموجد له من العدم، وأنت الرازق له، وأنت الذي أحييته ثم أمته ثم أحييته تارة أخرى، سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41].

ومن المعلوم أن طائفة تعبد الجن وطائفة تعبد الملائكة، أي: هؤلاء الذين عبدوا الملائكة عبدوهم لأمر الجن لهم، الجن يوسوسون للإنسان ليضلوه، وقد تعهدوا بذلك؛ ولذلك حذر الله بني آدم من أن يثقوا بالشيطان ووساوسه.

وأضلهم الجن ووسوسوا إليهم بعبادة الملائكة، فهم عبدوا الجن أي أطاعوهم بعبادة الملائكة، قالوا: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي: يطيعون الجن بعبادتنا، فنحن لم نأمرهم ولم نقبل ذلك منهم، ولم يخطر لنا هذا ببال، بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون.

فأكثر هؤلاء الوثنيين المشركين كانوا مؤمنين بالجن، والإيمان بالجن طاعتهم وتحريض الناس على الكفر، تحريض الخلق على الشرك بالله، فتبرأ الملائكة منهم، كما تبرأ عيسى ممن كان يعبده من النصارى.

وحكمة ذلك أن هؤلاء الذين زعموا ما زعموا قد حكم الله بينهم بالعدل وجمعهم جميعاً، فسأل هؤلاء وهؤلاء، فقال الملائكة وقال عيسى وقال المعبودون من البشر: معاذ الله يا ربنا، فإننا نعظمك وننزهك ونجلك عن أن يكون هذا، إنما عبدوا الجن وأطاعوا وساوسهم وإغراءاتهم وخضعوا لهم، ما كان لنا أن نفعل ذلك ولا أن نقوله، ولا أن ندعي لأنفسنا ما ليس لنا بحق.