تفسير سورة الروم [28-32]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم:28].

يضرب الله لنا الأمثال والأشباه والنظائر ليقرب لنا المعنى وييسر لنا الفهم، كما أن القرآن نزل بلغة العرب، ولغة العرب من تمام بلاغتها وبيانها وفصاحتها أنها كلها أمثال، وقد نقل عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل).

فقوله: (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم)، أي: ضرب الله لنا شبيهاً ومثيلاً من نوع أنفسنا ومن خلق كخلقنا، وهذا الشبه والمثال فيما ملكت أيمانكم.

والمراد بقوله: (من ما ملكت أيمانكم) أي: العبيد والإماء الذين تملكونهم، فهل تعتبرون عبيدكم شركاء في أرزاقكم وأموالكم، فأنتم في هذا المال سواء تتصرفون منه تصرفاً واحداً، وتملكون ملكاً واحداً؟

وقوله: تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ [الروم:28].

أي: تخافون عبيدكم ومواليكم وإماءكم كما تخافون أنفسكم أيها الأحرار في أن ينازعوكم الشركة في مال، أو تجارة أو زراعة، أو ينازعوكم الشركة في إرث، هل عبيدكم كذلك.

وإذا لم يكن الأمر كذلك فلم تجعلون لله ما تكرهون، فجعلتم لله البنات سبحانه، فقلتم عن الملائكة: بنات الله، في حين أنكم إذا بشر أحدكم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على ظلم وهوان ومذلة، أم يدسه في التراب ويدفنه حياً؟ فأنتم تريدون الأولاد وتنصبون لله البنات، ولكم عبيد لا يملكون معكم شيئاً، بل أنتم تملكونهم وأملاكهم، وإذا رزقتم رزقاً فلو حاول أحدهم أن ينازعكم ملككم أو يشارككم فيه لغضبتم من ذلك، ولو حاولوا أن يجعلوا أنفسهم معكم في الرزق لأغضبكم ذلك ولكرهتموه، فكيف تقبلون وأنتم خلق الله وعبيد الله وإماء الله أن تكونوا شركاء مع الله في ملكه أو في وحدانيته أو في إرادته؟!

وقوله: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم:28].

أي: نبينها ونوضحها، فنذكر مجملها وتفاصيلها، ونبين مفرداتها وجملها؛ لعلكم تعون وتعقلون، فتقولون يوماً: ربنا الله، فتموتون موحدين، فتفوزون بالرضا وبالرحمة والجنان.

قال الله تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الروم:29].

(بل) إضراب، أي: اضربوا عن الكلام الماضي، فمن فهم من ضرب أمثاله واعتبر فقد فاز، ومن وقف أمامها أعمى لا يبصر، أصم لا يسمع، مغمى القلب لا يفقه، كان كالأنعام، بل هو أضل.

بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الروم:29].

فقوله: (الذين ظلموا) الظلم هنا الشرك، والمعنى: بل هؤلاء ظلموا أنفسهم فأشركوا بالله، وتجاوزوا حق الله في أن يوحدوه، فالله غني عن خلقه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ [فاطر:15]، أي: الغني عن العباد وعبادتهم.

قال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37].

فقوله: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الروم:29]، أي: بل هؤلاء الكافرون الظالمون اتبعوا أهواءهم ونزعاتهم ومعتقداتهم التي ليس الدافع لها إلا الهوى والغرور، ولا حامل لهم عليها إلا النزوة والشهوة بلا منطق من عقل، ولا كتاب من الله، ولا رسالة من نبي، وإنما بدا لهم أن يقولوا ما لم يعملوا، فقالوا الظلم والباطل، وقالوا ما لا يقبله عقل سليم؛ اتباعاً لأهوائهم، وامتداداً لظلمهم وشركهم بالله.

وقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ [الروم:29].

أي: لا علم لهم من سماء ولا من أرض، ولا دليل لهم من كتاب ولا سنة ولا عقل.

وقوله: فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [الروم:29].

أي: هؤلاء الذين أبوا إلا الضلالة فضلوا وأضلوا، من الذي يقدر على هدايتهم وقد أضلهم الله؟

يقول الله لنبيه ولأتباعه وللعلماء بالله وبالسنة: إن من أضله الله لن يصلحه ولن يهديه أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا صالح من الصالحين، وليست الهداية على الرسل ولا غيرهم، إنما على الرسل إلا البلاغ، أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [المائدة:92]، وقال سبحانه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، وقال عز وجل: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [البقرة:272]، لكن على الرسل والعلماء أن ينشروا علم الكتاب والسنة، ويبينوا ذلك ويشرحوه ويفسروه للناس، فمن قبل فذاك، ومن لا فقد قاموا بما عليهم، وتبقى الحجة البالغة على هؤلاء الضالين المضلين.

وقوله: وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الروم:29]، أي: لا ناصر لهم غير الله، ولا لهم منقذ من الضلال إلا الله، ولو علم الله في أنفسهم خيراً لآتاهم خيراً، ولكنهم أبوا إلا الضلالة والإصرار عليها، فزادهم الله ضلالاً على ضلال؛ لأنهم أرادوا ذلك، فأصموا آذانهم عن الوحي وأعرضوا عن الإسلام.

قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].

فقوله: (فأقم وجهك للدين حنيفاً)، أي: أقم وجهك يا محمد! فاجعله متفرغاً مسدداً إلى الدين، والحنيف المائل للحق، والمائل عن الباطل، والحنيفية ملة أبيكم إبراهيم، وأتمها الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فرائض وأركاناً، وواجبات وسنناً.

والخطاب للنبي تدخل فيه أمته، والمعنى: ولتقم أمتك معك وجهها ودينها وطاعتها وعبادتها لله، فتتجه للدين الحنيف، دين الإسلام، دين الحنيفية السمحة، هذا الدين الذي خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله فقم عليه أنت مدة حياتك، فاجعل نفسك ووجهك واتجاهك لله وحده مخلصاً له الدين، دون مراءات ولا تسميع، وكما أنه أمر للنبي صلى الله عليه وسلم فهو أمر للناس جميعاً، فمن آمن فقد آمن ونفسه هدى، ومن لم يؤمن فنفسه أضل وما أضل غيرها.

فقوله: لِلدِّينِ حَنِيفًا [الروم:30].

الدين هو ما دان به الإنسان، وخضع له، وتمسك بحقائقه، وجعله معتقداً ينطوي عليه قلبه وجنانه، ولذلك لا يقال عن الأمور الدينية: نظريات أو صور أو دراسات لا يقول ذلك إلا شاك أو مرتاب، ولكن الدين ما أدان الإنسان به قلبه ونفسه، واتجه إليه بكليته ولم يشرك به أحداً، بل كان خالصاً لله وحده بقلبه ظاهراً وباطناً، واستمر على ذلك حياته كلها.

وقوله: فِطْرَةَ اللَّهِ [الروم:30].

أي: هذا الدين فطرة الله، و(فطرة) مفعول مطلق من فطر، ومعناها: أن الله فطر الخلق على الإيمان، فخلقهم بفطرتهم مؤمنين موحدين، يوم خلق آدم وذريته في صلبه، وقال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172].

ثم عندما نفخت الأرواح في الأجسام فمن كان مؤمناً طائعاً آمن جسمه كما آمنت روحه، ومن كان كافراً بقيت روحه على فطرتها وأبى إلا الكفور والجحود والعصيان.

قال تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] أي: فطر الخلق كلهم، وفي الحديث الوارد عن جابر بن عبد الله وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم وغيرهم كما عند أحمد في المسند وفي الصحيحين والسنن الأربع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يوم خلق الخلق خلقهم وفطرهم على الإيمان فاجتالتهم الشياطين).

وفي الحديث القدسي: (خلقت الخلق وفطرتهم على الإيمان فاجتالتهم الشياطين فبدلوا أديانهم)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام ومعنى اجتالتهم: أبعدتهم، فغيرت وبدلت.

ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فطرة الله التي فطر الناس عليها هي الإسلام)، أي: هي الدين، فالله فطر العباد يوم فطرهم على الإيمان.

وقال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء ليس فيها جدعاء)، أي: كما تلد البهيمة فصيلها سالماً من الجدع، وهو: قطع الأذن أو قطع الأنف، كما كان أهل الجاهلية يفعلونه في الحيوانات، ويجعلون لله ما يكرهونه، ويقولون: هذا لله في زعمهم، وهذا لشركائهم، والله خلقها يوم خلقها سالمة ليست جدعاء.

وهكذا خلق الخلق جميعاً موحدين ليس فيهم يهودي ولا نصراني ولا مجوسي، فإذا كبر الوليد فأبواه ينصرانه أو يكفرانه أو يهودانه أو يمجسانه، وكان عمر رضي الله عنه أيام خلافته يكتب لسفرائه وأمرائه وقواد جيوشه بألا يدعوا النصارى ينصرون أولادهم، وألا يدعوا اليهود يهودون أولادهم، وألا يدعوا المجوس يمجسون أولادهم، فكل مولود يولد على الفطرة -والفطرة: الإسلام- ولكن الوالدة والبيئة والنشأة هي التي تغيره، فتجد أن الولد يولد مؤمناً، ويعيش معك في البيت مؤمناً، فإذا أرسلته إلى أمريكا أو أوروبا أو إلى اليهود أو النصارى أو الشيوعيين أو الاشتراكيين إذا بهم يغيرون دينه من إيمان بالله إلى إيمان بشياطين الدنيا والآلهة الكذبة والمتنبئين الكذبة مثل: ماركس ولينين وأمثالهما من الطواغيت أعداء الله والرسل الكرام وأعداء الأديان كلها وخاصة دين الإسلام.

فالإسلام هو فطرة الله التي فطر الله الناس عليها جميعاً مؤمنهم وكافرهم، ولكن الكافر أضله أبواه، والمؤمن بقي على إيمانه، فإن وجد أباً وأماً صالحين فذلك من حسن حظه وسعادته، وإن كان غير ذلك فمن شقاوته ومما قدر الله عليه في سابق أجله في اللوح المحفوظ.

وقوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]، (لا تبديل) خبر بمعنى الأمر، أي: لا تبدلوا خلق الله، ولا تغيروا التوحيد إلى الشرك، ولا تغيروا الإسلام إلى النصرانية أو اليهودية أو المجوسية أو الشيوعية التي تعبد ماركس ولينين .

وجميع هذه الأديان المستوردة باطلة، وهي مجوسية جديدة وفساد وباطل جديدين، فقد كانوا يعبدون النار والظلمة، وما زالوا كذلك، ولكن في كل عصر يجعلون لذلك مظهراً، فجعلوا في هذا العصر مظهر الظلم والكفر والشرك وتبرج المرأة والبعد عن الله، حتى أصبح هذا العصر عصر الذين يخرجون من دين الله أفواجاً وعصر المجوسية الجديدة في الشرك بالله وعبادة أناس جمعوا الأقذار والأوساخ والظلمات، مثل: ظلمة الشرك والعقل والحياة وظلمة الإنسانية والكرامة والشرف، وهؤلاء هم آلهتهم الجديدة التي عكفوا على عبادتها من دون الله.

قال تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]، أي: لا تغيروا خلق الله من الإيمان والتوحيد الذي خلقكم عليه، ومن يفعل ذلك فلا يلومن إلا نفسه، وما هي إلا أعمالكم يجمعها الله لكم يوم القيامة، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

وقال ابن عباس في قوله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]: بقيت دهراً لا أفهم هذه الكلمة (فطرة)، إلى أن سمعت بدوياً يقول لآخر مثله: أنا الذي فطرتها، يعني بذلك: هو الذي زرعها، وهو الذي وقف على قيامها إلى أن أينعت وأثمرت وأنتجت، قال: ففهمت المقصود بقوله: (فطرة الله)، أي: الذي ابتدأ خلقها من غير مثال سابق، فهو الذي أنشأها أول نشوئها، فهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده.

قال تعالى: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم:30].

أي: ذلك دين الحنيفية والفطرة التي فطر الله الناس عليها يوم خلقهم وفطرهم وأنشأهم، وهو الدين الذي يجب أن يدين به كل إنسان.

و(القيم): ذو القيمة والسداد والحق والصواب، قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].

فالإسلام هو الدين الذي نسخ الأديان السابقة وكانت قد غيرت وبدلت دخلتها الوثنية وعبد فيها عيسى ومريم والعجل، وقال اليهود عن أنفسهم: إنهم أبناء الله، فأصبحت اليهودية والنصرانية وثنيتين كبقية الأوثان، ثم صنفت طبقات الكفار إلى وثنيين من أصل كتابي، ووثنيين من أصل أصيل كالمجوسية.

قال تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].

وهم جميع الكفار وهم أكثر الناس، وأكثر الناس لا يعلمون أن الإسلام هو الدين الحق، وأنه الدين القيم الحنيفي، وأنه دين إبراهيم الذي ارتضاه الله للناس عندما أرسل له مجدداً خاتم الأنبياء محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهم لا يعلمون ذلك، بل قال تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وقال: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].

فأكثر الناس لا يعلمون، وأكثرهم كافرون ومترددون وشاكون ومرتابون في الإسلام، والشك في الإسلام كفر؛ لأنه يشك بأن الإسلام ليس ديناً صحيحاً، فهو يعيش ضالاً وإن بقي كذلك فسيموت ضالاً.

قال تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32].

يأمر تعالى خلقه وعباده بالتعلق بهذا الدين القيم الحنيفي دين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فقال تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الروم:31]، أي: راجعين إلى الله.

فهؤلاء الذين آمنوا بالدين القيم وبالحنيفية السمحة وبالفطرة التي خلق الله الناس عليها يوم فطرهم وخلقهم وأنشأهم هم منيبون إليه راجعون تائبون خارجون عما عندهم من شكوك وأوهام، ومن باب أولى عما عندهم من شرك وكفر، فهم راجعون إلى الله، وإلى دينه الحق، تائبون مما كانوا عليه من وثنية وشرك.

وقوله: (منيبين إليه) من الإنابة، وهي: العودة والرجوع، أي: العود إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي الإسلام، فهو خلقهم يوم خلقهم مؤمنين مسلمين، ثم بدلها الآباء والأمهات والبيئات فأفسدت دين الإسلام والإيمان في نفوس الكافرين ممن رضوا الكفر، وأما الدين في نفسه فهيهات هيهات، لقد صانه الله عن كفر الكافرين ونفاق المنافقين، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

فحفظه الله في الصدور والكتب، وحفظه قرآناً وسنة وشريعة ولغة، ونحن نجده اليوم وبعد مضي ألف وأربعمائة عام وكأنه لا يزال غضاً طرياً، فالقرآن الذي كان يتهجد به صلى الله عليه وسلم ويدعو قومه إليه نتهجد به نحن، وندعو إليه، والسنة التي كان بها يأمر صلى الله عليه وسلم الخلق كذلك نحن ندعو إليها اليوم، فما بدل شيء ولا غير، وحتى اللغة هي هي لغة القرآن الكريم، ولغة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: (واتقوه) أي: اتقوا الله من الكفر به، أو من الكفر بكتابه أو بنبيه، واجعلوا بينكم وبينه وقاية من الطاعة تقون بها أنفسكم من النار ومن عذاب الله ومن المخالفة والمعصية، كما قال تعالى: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].

ثم قال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الروم:31].

أي: بعد التقوى التي هي التزام باللسان، يأتي الالتزام بالعمل بعد الشهادتين، وهو إقامة الصلاة والمحافظة عليها في أوقاتها بأركانها وبشرائطها وبواجباتها وبسننها وبتلاوتها وبأذكارها وبقيامها وبركوعها وبجلوسها وبسجودها وبتكبيراتها وبالسلام منها، فحافظوا عليها دواماً وأبداً إلى لقاء الله، فلا عذر في تركها إلا للمجنون أو الصغير غير البالغ، وغير البالغ أيضاً يلزم بها من قبل أوليائه إذا بلغ سبع سنين، ويضرب على تركها وهو ابن عشر.

وهذه الصلاة إن استطاع صلاها قائماً، فإن لم يستطع فجالساً، فإن لم يستطع فعلى جنب، وإن لم يستطع بالماء فبالتراب، فإن لم يستطع ماء ولا تراباً فبلا ماء ولا تراب ولا تترك.

ولو سمح الله بترك الصلاة لأحد لسمح بتركها للمجاهدين وهم مقبلون على الموت، وعلى بذل أرواحهم رخيصة لله، ومع ذلك أمروا بأن يصلوا صلاة الخوف، بأن تقوم جماعة ثم تتلوها جماعة، فيقاتل هؤلاء ويصلي هؤلاء، فتؤدى الصلاة ولو بتكبيرة أو بتسبيحة أو بالعين كما يصلي المريض والمشلول الذي لا يستطيع حركة، فإنه يحرك عينه ويصلي بقلبه ولا تترك الصلاة بحال من الأحوال، فلا يتركها إلا كافر أو معتوه أو صغير غير بالغ.

ثم قال تعالى: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم:31].

أي: ولا تكونوا يا أيها الناس! ممن أشركوا بالله في وحدانيته وفي ألوهيته وفي ربوبيته وعبوديته، بل وحدوا عبادته.

قال تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ [الروم:32].

فالدين واحد كما أن النبي واحد، وكما أن الرب واحد، فمن حاول أن يجعل من الدين دينين فقد أشرك بالله، فلا تتفرقوا في الدين، ولا تكونوا كالنصارى واليهود والمجوس وبقية ملل الكفر، ولا تفرقوا دينكم الإسلامي فتنقسمون إلى سنة وشيعة وخوارج ومعتزلة وقاديانية وبهائية، وإلى كل تلك الفرق الضالة، بل كونوا على ما كان عليه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت النصارى على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت اليهود على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: يا رسول الله! ومن هي؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي).

ومن هنا كانت دراسة السيرة النبوية هي الحل للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في المنام واليقظة وفي الجهاد والسلم، منذ خرج صلى الله عليه وسلم من هذه البطاح المقدسة وهو يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فمنذ ذلك الوقت فما دعا إليه صلى الله عليه وسلم وكان عليه أصحابه من المهاجرين والأنصار فهو الدين الحق، فيجب دراسة سيرته النبوية، ليعلم الإنسان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم ودراسة تراجم الصحابة الكرام، ليعلم الإنسان كيف يهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، ويعلم هدي الصحابة؛ ليكون على طريقتهم ومنهجهم، وهذا هو من أطلق عليه منذ العصور الأولى أهل السنة والجماعة ونحن منهم، ونرجو الله أن يجعلنا معهم ويحشرنا على دينهم، دين محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه الأول.

فقوله تعالى: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا [الروم:31-32]، أي: كانوا أحزاباً وأنواعاً، مثل قولهم: هذا خارجي، وهذا يهودي، وهذا نصراني، وهذا شيعي، بل وهذا شيوعي، وهذا ناصري، وهذا اشتراكي، وهذا وجودي، وكلها ملل باطلة ومذاهب ضائعة، فهي مذاهب للشيطان ولتفريق الدين، والدين الحق هو القرآن الكريم والسنة المحمدية المطهرة التي طبقها صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين الأولين والأنصار السابقين، والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين.

ثم قال تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32].

فهذه الأحزاب والملل الكافرة المكشوفة والمذاهب التي تدعي الإسلام وهي ضالة مضلة الإسلام؛ بريء منها، وهي كلها فرحة بطرة تائهة ضائعة ضالة، تظن نفسها على شيء، فكل حزب من هؤلاء وكل شيعة منهم وكل طائفة منهم تظن أنها على شيء، فتفرح بطراً وتيهاً وتشتم غيرها وتذمه وتنتقصه؛ في حين أن النقص والضلال هو الذي هي فيه وتعيش على أساسه وأصوله.