خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
تفسير سورة الروم [1-6]
الحلقة مفرغة
قال الله تعالى: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:1-4].
هذه السورة مكية، نزل بها الروح الأمين جبريل على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، وهي مشتملة على ستين آية، وتكاد تكون جميع آيها الأول معجزات، وكأنها أنزلت في عصرنا هذا.
ومعجزاتها: أن الله جل جلاله أخبرنا عما سيكون في عصرنا هذا قبل ألف وأربعمائة عام حتى كأن النبي صلى الله عليه وسلم يرى ذلك رأي العين، فهذا هو الوحي الذي أوحى الله به، فكان الأصل معجزة له، وكان بعد ذلك وإلى عصرنا تظهر معجزاته بأتم وأكمل وأشمل وجه بعد مضي هذه القرون الطوال، قال تعالى: الم[الروم:1].
وقد سبق أن تكلمنا في السور الماضية عن هذه الحروف المقطعة التي افتتحت بها السور، وأن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين طالما اختلفوا في تأويلها وبيانها وتفسيرها، وانتصروا غير مرة لما قاله الزمخشري وأيده معاصرون، فالقرآن هذا معجز بلفظه ومعناه، وقد تحدى الله به الخلق إنسهم وجنهم على أن يأتوا بمثله، وعلى أن يأتوا بسورة من مثله، وعلى أن يأتوا بعشر آيات من مثله، فعجزوا أجمعين أبتعين أبصعين، والتحدي لا يزال قائماً إلى يوم الناس هذا، فهذا القرآن المعجز إنما تركب من هذه الحروف الأبجدية العربية، ومع ذلك يقول لهم: يا هؤلاء الذين لم تؤمنوا بعد بالله إن استطعتم أن تأتوا بمثله، فهذه الحروف بين يديكم تسمعون منها ما يقاربه أو يشابهه، فإن استطعتم فافعلوا، ولن تستطيعوا ولو كان بعضكم لبعض ظهيراً.
الم * غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم:1-2].
هذا كان خبراً ووحياً عن شيء غائب عن العرب، وذلك بأن الروم حاربت الفرس فغُلبت وذلت، وأُخذت أراضيها وأقاليمها، وقد غلبها الفرس الوثنيون عباد النار.
غلبوا الروم الكتابيين الذين يرجعون لكتاب في الأصل وهو الإنجيل المنزل على عيسى من الله، وأهل الكتاب اسم يشمل اليهود والنصارى، فكلاهما أنزل على نبيه كتاب، فالإنجيل على عيسى، والتوراة على موسى عليهما الصلاة والسلام.
فكانوا قد غلبوا وذلوا وقهرهم عباد النار الوثنيون الفرس، والروم هم في الأصل وثنيون، وفي نهاية القرن الثالث الميلادي دانوا بالنصرانية، ولكن يوم دانوا بها كانت محرفة مبدلة مغيرة، وعقدوا أول مؤتمر لهم ويسمى بالمؤتمر المسكوني، أي: العالمي المنسوب إلى المسكونة، أي: إلى الأرض المسكونة، فاجتمعوا واختلفوا اختلافاً طويلاً عريضاً: ما هو دينهم في عيسى أبشر هو أم إله؟ أو هو ابن إله؟ أمات حقاً وقتله اليهود أم لم يمت؟ وإذا لم يمت فأين هو، وكيف كان حاله؟ ومن هي مريم ؟ وكيف ولدته بلا أب؟ وإذا بهم بعد هذا النزاع الطويل العريض يؤمنون بكفر مضاعف، يؤمنون بوثنية مجددة، فاعتقدوا الآلهة ثلاثة، وانفصلوا على ذلك، وهددوا كل من لم يؤمن إيمانهم بالقتل والحرق، فحرقوا كل من لم يؤمن بأن الله ثلاثة، وأن الثلاثة هي: الله وعيسى ومريم حاشا الله وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وأخذوا يعتقدون أن عيسى قتل وصلب كما لعب بهم وهزأ اليهود فاعتقدوا ذلك، ولكن اختلفوا في تفسيره وتأويله تآويل مضحكة وتفاسير تدعو إلى الهزء بهم والسخرية من جديد، فقالوا: عيسى رب، وهو عن طواعية قَبِل أن يصلب، وقَبِل أن يقتل؛ ليفدي قومه وأتباعه من العذاب والآثام، والذنوب والمعاصي، فازداد كفرهم كفراً، ووثنيتهم وثنية.
وهكذا أباحوا الفواحش والمنكرات بأن اصنعوا يا أيها النصارى واليهود ما شئتم فقد تحمل عنكم ربكم عيسى، وحاشا الله من القول هذا، فمهما صنعتم فهو قد تحمل عنكم ذلك، ولكن هؤلاء -وقد اعتقدوا بشعار الصلب والفداء- لم يدينوا دين الحق، ولم يكونوا موحدين، ولم يكونوا من أتباع عيسى الذي هو عبد ابن أمة صديقة، أرسل نبياً ورسولاً إلى الناس، كما أرسل الجد الأعلى آدم بلا أب ولا أم، فأرسل هو بأم بلا أب، وهم قالوا إنهم من أبناء يافث بن نوح، أي: لا نلتقي بهم إلا في نوح، فالعرب والكثير معهم أبناء سام ، فنحن أبناء سام بن نوح ، وهم زعموا أنهم أبناء يافث بن نوح ، والروم هي أرض أوروبا، وما يسكنها من شعوب وملل، وأمريكا لم تكن معروفة في ذلك الزمن ولم تكتشف بعدُ، ولكن الذين رحلوا إليها هم من روميّة وأوروبا وطردوا سكانها الهنود الحمر، وأبعدوهم إلى القفار والصحاري، واستباحوا دماءهم وكادوا يستأصلونهم قتلاً وحرقاً وإبعاداً، فلم تبق منهم إلا شرذمة معدودة يعيشون في هوان واضطهاد منذ أكثر من خمسمائة عام منذ اكتشفت أرض أمريكا، فالروم هم هؤلاء الذين هجروا أوروبا إلى أمريكا.
وإذا قيل الروم عند العرب فالمراد سكان أوروبا جميعاً وإن كان قد تشعبوا فرقاً، ومللاً، ومذاهب وأجناساً ولغات، ولكن هذا الاسم لا يزال جامعاً لهم.
غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ [الروم:2-3] أي: في أقرب الأرض.
أي: في أرض بصرى ودمشق من أرض الشام، وكانت هذه الأراضي للروم منذ قرون قبل فارس، ثم تقاتلوا فغلبت فارس الروم، وأخذت أدنى الأرض إلى أرض العرب وإلى جزيرتهم، وأصبحت أراضي فارسية، هذا الخبر كان وحياً أخبر القرآن به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فسمعته قريش ثم تأكدت منه، فسرها ذلك السرور البالغ؛ لأن الفرس وثنيون وعبدة للنار، فهم على مذهبهم وطريقتهم، فسروا بنصر من يشبههم، وقالوا للمسلمين: هاهم إخواننا الذين يشبهوننا في الدين، والذين لم يؤمنوا بكتاب ولا بنبي ولا ببعث ولا بآخرة قد انتصروا، فذاك دليل على صدق دينهم وصدق طريقتهم، وإخوانكم الذين يشبهونكم وهم أهل كتاب مثلكم يؤمنون بعيسى وبالإنجيل قد غلبوا، فأحزن ذلك المسلمين، وسر قريشاً والكفار من الوثنيين عباد الأصنام.
قوله: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:3-4].
جعل فرحة كفار قريش لم تتم، فقد أخبر الله نبيه والمؤمنين أن هؤلاء الروم الذين غلبوا الآن سيَغلبون بعدَ بضع سنين.
وكان أبو بكر رضي الله عنه قد جاءه أمية بن خلف وغيره من كفار قريش وقالوا: يا أبا فصيل ! يسخرون ويهزءون، والفصيل: ابن الناقة، فهو أبو بكر والبكر هو ابن الناقة وقد اكتمل، فسموه وكنوه بوليد الناقة وهو لا يزال في أيامه الأولى؛ استهزاء.
قالوا: أما ترى هذا الكذب الذي تكذبون، فقد أخبر نبيكم بأن الروم بعد بضع سنين ستغلب الفرس، فقال له أبو بكر : أنت أكذب وأخبث، نعم ستغلب الروم بعد بضع سنين، قال: أتراهنني؟ قال: فعلتُ، قال: كم المدة؟ قال أبو بكر : خمس سنوات، قال: قبلت، وكان ذلك على بضع من الإبل بين العشر والعشرين، وقص أبو بكر قصته على النبي عليه الصلاة والسلام فقال له: (راهنته؟ قال: نعم. وكان الرهان إذ ذاك لم يحرم، قال: على كم من الزمن؟ قال: على خمس سنوات، قال: ألا تعرف لغة قومك، فالبضع من واحد إلى تسع، فكيف راهنتهم على خمس، والقرآن الكريم الذي أوحاه الله يقول: فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:4] اذهب إليه وزده في الرهان وزده في الوقت).
فذهب إليه أبو بكر وقد قال له أمية ما قال فقال: أتريد أن تعيد ونزيد؟ قال: أفعل، قال: أراهنك إلى ثمان سنين، قال: أقبل، قال: وإلى مائة ناقة، قال: أقبل، وإذا به بعد سبع سنوات وقبل تمام الثمان ينتصر الروم على فارس انتصاراً ساحقاً ماحقاً، فحزن كفار الجزيرة وسرّ به المسلمون، لكون المسلمين أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، فاعتُبروا أقرب إليهم من المجوس عباد النار، وحزن كفار الجزيرة لكون الذي انهزم هو أقرب إليهم وإلى دينهم ووثنيتهم، وذاك معنى قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:2-3] أي: من بعد أن غلبوا وقهروا وانتصر عليهم الفرس.
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ [الروم:4] أي: سيغلبون الفرس بعد بضع سنوات، أي: بعد سنوات معدودات على الأصابع، والبضع -كما قلت- لغة: هي من الواحد إلى التسعة، والرهان كان مرة ثانية إلى ثمان، وتم النصر كما أخبر الله قبل تمام البضع في السنة السابعة، فكانت الهزيمة وقت معاهدة الحديبية هزيمة الفرس ونصر الروم، وكانت هزيمة الروم قبل سبع سنين في غزوة بدر، فاجتمع النصر للمسلمين من الداخل والخارج، فمن الداخل انتصروا على قريش والكفار انتصاراً ساحقاً، فقد كانت معركة بدر المعركة الفاصلة التي ذل فيها الكفر وعز بها الإسلام، ولم يرفع الكفر بعد هذه المعركة رأساً، وما ذل المسلمون بعد معركة بدر، بل من نصر إلى نصر إلى فتح مكة إلى انتشار الإسلام خارج الجزيرة.
لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:4].
الأمر لله من قبل نصر الروم وبعد نصرها، ومن قبل نصر فارس وبعد ذلها، فالأمر كله بيد الله، فبه انتصروا وبأمره ذلوا، والله الكريم المتعال الكل منه وإليه، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
إن العزة لله جميعاً، فما من شيء يحدث في الكون إلا وهو بأمر الله، وبإرادة الله، وإن كان عزاً فقد يكون ابتلاءً واختباراً، وقد يكون مكافأة، وقد يكون ثواباً، وقد يكون رفعة كانتصارات المسلمين في جميع عهودهم وأعصارهم.
وقد يكون النصر ابتلاءً واختباراً كانتصار الكفار على المسلمين، فليس ذلك إلا اختباراً وابتلاءً وفتنة، ليزدادوا إثماً على إثم، وتبقى الحجة البالغة لله، وليمحَّص المسلمون ويعودوا إلى الله في أعمالهم، ويعلموا أن ما حدث لم يكن إلا بإذن الله، ولعلة المخالفة، وعلة المعصية، فكان ذلك أدباً من الله لهم، كي لا يعودوا لمثل ذلك الذنب.
قال تعالى: لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ [الروم:4] حين انتصر الفرس، ومن بعد هزيمتهم وذلهم، ومن قبل هزيمة الروم، ومن بعد نصرهم، فالأمر لله دواماً واستمراراً قبل خلق الخلق وبعد خلق الخلق، وما بين ذلك لم يكن في ملكه إلا ما يريد جل جلاله وعلا مقامه.
قال تعالى: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم:4-5].
التنوين في (يومئذ) تنوين عوض عن جملة، أي: يوم نصر الروم على الفرس، والإدالة لهم منهم، يوم ذاك يفرح المؤمنون؛ لأنهم قد حزنوا قبل، فهم فرحوا بنصرة أهل الكتاب على الوثنيين، والوثنيون الذين هم خصومهم أشكال أضراب، فأعدائهم من كفار مكة والجزيرة، وبقية المجوس في مختلف أصقاع الأرض، وقد آمن الكثير من كفار الجزيرة عندما أحق الله ذلك، وانتصر الروم بعد الهزيمة.
فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:4].
فاتخذوا من ذلك دليلاً وبرهاناً على صدق الرسالة المحمدية، وصدق القرآن، وأنه كلام الله الحق الذي نزل به الروح الأمين على قلب نبينا صلى الله عليه وعلى آله.
وفسر قوم قوله: لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:4] أي: قبل النصر وبعده، وقبل الهزيمة وبعدها، فكما ذل الفرس فسيذل الروم، ويوم ذلهم جميعاً يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، أي: سيقهرون ويغلبون الفرس والروم معاً، وقد حدث هذا فعلاً فقد انتصر المسلمون على الروم وعلى الفرس ومحقوهم وأنهوا دولتهم، وكما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم عنهم: (لا كسرى بعد اليوم ولا فارس بعد اليوم)، فانتهت دولة الروم البتة وأصبحت جزءاً من بلاد الإسلام وولاية من ولاياتها، وذهب كسرى إلى جهنم وبئس المصير ولم يجئ بعده كسرى آخر، وكسرى لقب كل ملك فارسي وثني ملك الفرس، وهرقل لقب لملوك الروم، والنجاشي لقب لملوك الحبشة، والمقوقس لقب لملوك مصر، وتبع لقب لملوك اليمن.
فهذا المعنى صحيح ولكن سياق الآية لا يدل عليه، فالآية تتكلم عن الفرس والروم وقتالهم، وكون الفرس انتصروا أولاً على الروم في أدنى الأرض وهي جزيرة العرب، وهي أرض الشام بصرى وأذرعات ودمشق، ثم بعد ذلك أديل للروم من الفرس فانتصروا عليهم خلال بضع سنوات انتصاراً ساحقاً، فأرجعوا هذه الديار كلها، وعندما أخذ النبي عليه الصلاة والسلام يكتب الرسائل إلى ملوك الأرض وأجيالها كتب إلى هرقل وكان في القدس، والقدس كانت من الأراضي التي تغلب فيها الفرس على الروم، ولكن بعد أن أخذ يكتب النبي عليه الصلاة والسلام الرسائل إلى الملوك والأجيال كان الروم قد انتصروا، وكان ذلك بعد غزوة بدر، فكان كتابه إليه وهو في بيت المقدس، فعندما جاءه رسول رسول الله عليه الصلاة والسلام نادى هرقل: هل هنا من هو قريب إلى هذا الذي يزعم أنه نبي من أرض مكة، فأجاب أبو سفيان وكان قرشياً وأقرب العرب هناك نسباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فجاء به وأخذ يسأله عن وصف النبي وأصحابه خلفه وقال لهم: إني سائله فإن كذب فحركوا لي رءوسكم أعلم إذا خفتم منه ولن يراكم، وما دام قد قال الصدق فاثبتوا ولا تتحركوا، فسأله أسئلة فيها: هل كان في أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من ملك؟ هل ادعى هذه الدعوة أحد من أجداد النبي؟ وهل اتبعه الفقراء أو الأغنياء؟ وهل يغدر إذا قاتل؟ وهل كان يكذب وهو صغير؟ وهل كان يعرف بغير الحق مدة حياته بينكم قبل النبوءة؟
والعرب حتى في جاهليتها كانت أشرف من كثير من مسلمي هذا العصر عرباً وعجماً، فكان الجاهلي يستحي أن يكذب، ويجد ذلك مخلاً بمروءته، ومخلاً بشرفه، فمع العداوة والجاهلية التي كان عليها أبو سفيان استحيا أن يكذب، وقال: لم أجد مدخلاً إلى تنقيصه إلا عندما قال لي: أيغدر؟ قلت: بيننا وبينه الآن عهد ولا ندري ما هو فاعل بعدها، يعني: يعرض أنه قد يغدر، وهذه علامة ليس فيها شتيمة، فهو لا يدري الغيب، ولا يدري المستقبل إلا الله، وهكذا عندما أخذ النبي يكتب الرسائل بالدعوة إلى الإسلام كان ملك الروم قد انتصر على كسرى واسترجع دمشق وأذرعات وبصرى والقدس.
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم:4-5].
ونصر الله يؤتيه من يشاء. فيعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزعه عمن يشاء، وفي كل ذلك سواء كان ذلك لمؤمن أو كافر فهو ابتلاء واختبار؛ ليرى -وهو راءٍ وعالم- هل هذا الذي ابتلي بالملك وبالجاه، وبالسلطان، وهل هذه الأمة التي انتصرت وعزت وسادت هل ستحمد الله على ذلك، وهل ستتخذ ذلك نعمة فتكثر الشكر، وتكثر عمل الصالحات؛ ليديم الله نعمه على من أكرمه بذلك، وهكذا ربنا يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
والعذاب الشديد هو سلب النعمة وزوالها، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء.
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ [الروم:4-5].
فالنصر له والعزة له، والأمر له من قبل ومن بعد، فقد نصر المجوس على الكتابيين ابتلاءً للكتابيين لما غيروا وبدلوا لعلهم يتوبون، ونصر المجوس على أهل الكتاب لتزداد النقمة عليهم، ولتبقى الحجة البالغة عليهم على كثرة ما أعطاهم من نعم وعطايا، فما زادهم ذلك إلا كفراً بالله وإصراراً على الجحود.
يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم:5].
فهو العزيز الذي لا يغالب، هو العزيز الذي لا يحارب، فله العز انفرد به، وله الكبرياء، ومن يتألى على الله يكذبه، وهو الرحيم بعباده، فهو يرحم المؤمن من الذل ومن الهزيمة ومن الضعف ومن البلاء عندما يتوب ويئوب إلى الله ويقول: رب اغفر لي خطيئتي.
وهكذا الله جل جلاله يختم آياته في كتابه الكريم بكلمات تكون جوامع لمعنى الآية صغيرة كانت أو كبيرة، مختصرة كانت أو مطولة، وهذا من ذاك.
قال تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:6].
هذا وعد من الله لنبيه وللمؤمنين بعد أن أخبرهم بنصر الفرس على الروم فقال: غُلِبَتِ الرُّومُ * وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:2-4].
ووعد الله هنا منصوب على المفعولية المطلقة، أي: وعد الله وعداً، فهو مفعول مطلق لفعل محذوف وهو وعد، أي: وعد وعداً حقاً لا تأخير فيه ولا تراجع.
فقوله: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [الروم:6].
زاد الله كلامه بياناً، فقد وعد بنصر الروم وقد انتصروا بعد بضع سنين.
وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:6] أي: أكثر الكفار، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
فهؤلاء لا يعلمون لله قدرة ولا إرادة ولا وحدانية، وهؤلاء لا يعلمون لله وعداً ولا وفاءً بوعد، وهؤلاء الضالون المضلون -وهم أكثر الناس- لا يعلمون توحيداً، ولا يعلمون إلهاً، ولا يعلمون وعداً بحق، ولا يصدقون نبياً، ولا كتاباً سماوياً، فهم في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج الرجل يده لم يكد يراها، فقد أصبح القلب مظلماً لا يستنير بنور دين، ولا بنور نبي، ولا بنور كتاب سماوي، بل لا يزدادون عند الأنوار إلا عمىً؛ فتعمي الأنوار أبصارهم، ويصعد الران على قلوبهم، فلا يعلمون عن الحق شيئاً.