تفسير سورة الفرقان [9-16]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان:9].

والأمثال التي ضربوها هي قولهم: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الفرقان:7-8].

أي: ضربوا له الأمثال والأشباه والنظائر، فقالوا: ليس هذا الرسول إلا رجلاً مثلنا ليس بمَلِك ولا مَلَك، وليس بكبير بيننا ولا ميزة له، فهو يأكل كما نأكل، ويشرب كما نشرب، ويدخل الأسواق كما ندخل، فيتكسب ويبيع ويشتري ويتبذل، ويظهر في الأسواق والشوارع والأزقة كما يظهر أحدنا، وقد تصور المشركون في النبي أن يكون ملكاً لا تبصره عين، ويستغني عن الطعام، وبالتالي لا يدخل الأسواق كما يدخل من يأكل ويشرب، ويتصورون منه أن ينزل معه ملك من السماء فيصدقه ويقول للناس: صدقوه، فإنه رسول من ربكم.

ويقولون عنه: لو كان كذلك لاستغنى عن الأسواق والكسب والبيع والشراء والتجارة، ولأنزل إليه كنز من السماء يستغني به عن البيع والشراء والتكسب.

وقالوا: لو كان رسولاً لأنزل الله إليه جنة، أو صنعها له في الأرض فيأكل منها ويستغني بها عن البيع والشراء، أو أنزل معه ملكاً يصدقه فيكون معه نذيراً، مهدداً وموعداً ومبشراً للناس أن يتبعوه، فإن لم يفعلوا عذبوا وعوقبوا بغضب الله ولعنته، وعلى ذلك أخذوا جواباً لأنفسهم، قال تعالى عنهم: وقال الظالمون أي: وقال الكافرون، والظلم هنا: الكفر.

قالوا: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [الفرقان:8] أي: رجلاً صرف عن العقل والفهم وغر في نفسه، وزعم ما ليس له، وهكذا أوحت إليهم شياطينهم من الهراء والغث من القول ومما لا دليل عليه، فالمشركون لهم عقول سخيفة لم ينرها نور الإسلام، ولم يهدها علمه، ولم يشرق عليها التوحيد يوماً.

ومتى قال لهم النبي: أنا ملك، أو قال لهم: أنا مستغن عن الطعام والشراب؟ لم يقل هذا قط، فهم يعلمون أنه نشأ بينهم كما ينشأ الناس من أم وأب، وعاش بينهم أربعين سنة يفعل ما يفعله عموم الناس، ولم يقل يوماً: أنا نبي ولا رسول، ولا ادعى دعوى.

وما كان يعرف بينهم إلا بالصديق والأمين، وقد وصل إلى الأربعين وهو لم يكذب مدة حياته، وحاشاه من ذلك على الناس، أبعد الأربعين سيكذب على الله؟! حاشا الله ومعاذ الله.

هذا وقد أتاهم بالمعجزات فعجزوا أن يصنعوا مثلها، وأعظمها ما رأوه وعرفوه أنه منذ كان صغيراً وشاباً إلى أن بلغ الأربعين وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يخطب ولا يقول شعراً.

وكما قال العارف:

كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم

فكفى معجزة بعد نزول القرآن بأن هذا الأمي لم يقرأ ولم يكتب، ولم يجلس يوماً لشيخ، ولم يسمع من شيخ، ولم يكن في عصره من يمكن أن يجلس إليه، فكلهم كانوا أمة أمية، وقد قال عليه الصلاة والسلام عن العرب: (نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب).

فهذا الأمي بعد الأربعين عاماً أتى بعلوم الأولين والآخرين، وأتى بما أعجز الآخرين واللاحقين، وما لم يكد يعرفه المعاصرون، ولم يأت بنظيره من سبقه حتى من الأنبياء والمرسلين، فضلاً عن الفلاسفة والعلماء والمثقفين ومن إليهم.

قد رأوا كل هذا رأي العين، وسمعوه سماع الأذن، وعاشروه عشرة القرابة والعمومة والسكن، ومع ذلك أبى كفرهم وأبى ضلالهم إلا أن يضربوا له النظائر والأشباه والأمثال.

فقوله: انظُرْ [الفرقان:9] أي: انظر يا محمد!

قوله: انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا [الفرقان:9] أي: كيف زاغوا وضلوا عن الحق والهدى، وكيف زادت البصائر منهم عمىً وضلالاً وظلماً، وكيف أخذوا يشبهونك بغيرهم وبأنفسهم، لم؟ لأنك تأكل وتشرب وتتكسب وتستغني عنهم وعما عندهم، فتعيش كما يعيش الإنسان الشريف الفاضل بعرق جبينه، وتعيش بالأخذ والعطاء وكسب الحلال حتى في السنوات التي كانت قبل النبوءة.

فهم يعيرونك بشيء عاره ظاهر عليهم، كيف وقد قالوا: إن الله ما أرسل من المرسلين أحداً إلا وهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.

قال تعالى: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:20] أي: لم تكن يا محمد! بدعاً من الرسل، ولم يُقَل لك إلا ما قد قيل لهم، ولكن هؤلاء شياطينهم توحي إليهم ما لا يقبله عقل سليم ولا نفس منيرة، ولا رجل اهتدى يوماً بكلمة حق وكلمة نور وكلمة هداية وتوحيد.

فقوله: الأَمْثَالَ [الفرقان:9] أي: النظائر والأشباه، فشبهوك بعموم الناس بأنك تأكل وتشرب مثلهم.

ثم أخذوا يزعمون أنك بعملك هذا مسحور وساحر، وأنك مفتر وكاذب، وأنك وأنك، وحاشا الله ومعاذ الله.

ذكر رفض النبي عرض قريش عليه، وتحقيق الله له النصر والتمكين

لقد عجز المشركون أن يوقفوا دعوته وأن يسكتوا لسانه، وأن يرعبوه ويخيفوه عن تتمة عمله وما أرسله الله به من بلاغ، فقد اجتمعوا إلى عمه أبي طالب وهو على دينهم وقالوا: يا أبا طالب ! إن ابن أخيك قد أكثر علينا، وشتم آلهتنا، وسفه عقولنا، وذم الآباء والأجداد، ونسبنا إلى كل باطل، ونحن نريد أن تدعوه لنعرض عليه كل ما يمكن أن يريده ويسعى إليه، فحضر صلى الله عليه وسلم ووجد أبا جهل وشيبة وعتبة وعقبة بن أبي معيط ، وصناديد من طغاة مكة وجبابرتها وكفارها وأعداء الله ورسوله.

وإذا بهم يقولون له بمحضر أبي طالب : يا محمد! لقد جاوزت الحد معنا، سفهت أحلامنا، وشتمت آباءنا، وجعلت الآلهة إلهاً واحداً، ولم يصبر أحد على ما صبرنا نحن عليه، ونحن نعرض عليك ما تسمع، إن كنت تريد بهذا أن تكون ملكاً علينا ملكناك، وإن كنت تريد المال جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد النساء زوجناك ببناتنا وبنسائنا، إن شئت طلقناهن لك فتزوج منهن من شئت.

وإن كنت مريضاً جئناك بالأطباء من مختلف أصقاع الأرض ليعالجوك، وكان أبو طالب لا يزال ينظر نظرتهم ويدين دينهم، فقال له -وهذا ما أثار النبي عليه الصلاة والسلام-: يا ابن أخي! لقد أنصفوك، لقد أعطوك ما لم يعطوه لأحد.

وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).

وإذا بهم يقومون وهم يحيصون حمر الوجوه ويقولون: ماذا يريد محمد؟ قد أعطيناه كل ما يمكن أن نعطيه، ملكناه وأغنيناه وأعطيناه نساءنا فماذا يريد؟! وهذا الذي لم يهتدوا إليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يريد ملكاً فهو أعظم من الملوك، وللملوك الشرف في أن يكون أتباعه.

فإن المال قد استغنى عنه ولا حاجة له به، فقد عرض عليه أن تكون جبال مكة ذهباً وفضة، فأبى إلا أن يعيش نبياً عبداً.

وأما النساء فقد تزوج بعد ذلك تسع نساء، ولم يكن إذ ذاك متزوجاً إلا خديجة ، فقد قنع بها ولم يتزوج عليها قط حتى ماتت، وقد تجاوزت الستين من عمرها، وكانت قبله أرملة من زوجين آخرين، ولدت من كل واحد منهما.

وتزوجها صلى الله عليه وسلم وهي تزيد عليه في السن خمسة عشر عاماً، إذ كان عمره إذ ذاك خمسة وعشرين عاماً، ولو كان يريد النساء فمن ذلك الوقت لأخذ منهن من شاء ولكنه لم يفعل.

فأخذ خديجة لعقلها وفهمها، وأخذ خديجة لأن الله قضى أنها ستكون أول مؤمن به في الأرض، وأنها ستكون المؤازرة المؤيدة والمساعدة والمصدقة، وهكذا لم يتزوج عليها قط إلا بعد أن ماتت.

تزوج وقد كان عمره بعد موتها قد تجاوز الخمسين حيث يرغب الناس عن النساء، ولم يكن متفرغاً لذلك، لم يكن متفرغاً إلا لرسالة ربه وللدين الذي أرسل به، ولكنه تزوج كما يقال بلغة السياسة اليوم: زواجاً سياسياً.

فقد كان الزواج عند العرب يقرب الأرحام ويقوي الصلة بين العشائر والقبائل، والزواج بالنسبة للقبيلة يكون لحمة وحلفاً، ويكون سنداً وقوة.

وهكذا عندما تزوج بنت أبي سفيان عدوه الألد الذي قاد الجيوش في مكة في داخلها وخرج بها إلى المدينة حيث هاجر صلى الله عليه وسلم، وفعل معه الأفاعيل، وقاسى منه النبي عليه الصلاة والسلام الشدائد والبلايا والفتن، ومع ذلك فإن أم حبيبة ابنته كانت صالحة وكانت من الرعيل الأول الذي أسلم، فأسلمت قبل أبيها وإخوتها، وهاجرت الهجرة الأولى للحبشة، وارتد زوجها عبيد الله بن جحش في الحبشة، وبقيت ثابتة راسخة مؤمنة بالله وبرسوله على العداوة التي بينه وبين أبيها.

وعندما علم بذلك صلى الله عليه وسلم وكان النجاشي أصحمة ملك الحبشة قد أسلم وآمن، فخطبها منه فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم.

وعندما بلغ الخبر أباها أبا سفيان ارتاحت نفسه وقرت عينه، وكاد يترك من العداوة والحرب، بل وقال للملأ من الناس عندما قيل له: محمد تزوج ابنتك، قال: ذلك الفحل الذي لا يجدع أنفه.

ومن تلك الساعة ضعفت المقاومة في نفس أبي سفيان ، وأصبح يحارب كما يقال: بغير موضوع، فكان هذا الزواج وأمثاله مما جعل للنبي صلى الله عليه وسلم حلفاء وأنصاراً، وجميعاً تزوجهن أرامل ليس فيهن بكر عذراء إلا السيدة عائشة رضي الله عنها.

وهكذا النبي عليه الصلاة والسلام عندما أخذوا يضربون له الأمثال ويقولون: ساحر، ويقولون: يريد الملك، فقد كذبهم بذلك وسحقهم سحقاً، وتركهم يعتقدون في أنفسهم على الأقل أنهم يجهلون ماذا يريد.

سمعوه يقول النبوءة فلم يتصوروها، وقد أسر أبو سفيان والنبي زاحف على مكة فاتحاً ومقاتلاً ومجاهداً ومكافحاً، وجيء به إلى النبي عليه الصلاة والسلام فسلمه لشريكه في الجاهلية عمه العباس ، وإذا به يوقفه والجيوش المؤمنة تدخل مكة وهي لا تزال في الضاحية تزحف زحفاً، فيسأل أبو سفيان العباس ويقول: من هؤلاء؟ فيقول العباس : قبيلة فلان، وقبيلة فلان، وقبيلة كذا، فيقول: ما لنا ولها، ما قاتلناها لتقاتلنا، إلى أن جاء القلب، إلى أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمامه الجيوش وخلفه الجيوش وعن يمينه ويساره من الرجال والخيل والسيوف والرماح المشرعة ما لا يحصى، وهم في لامة الحرب الكاملة لا تكاد تظهر منهم إلا أعينهم.

فقال أبو سفيان للعباس : ومن هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله، وإذا بـأبي سفيان يقول للعباس : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، حتى في هذه الساعة لم ير في هذا المظهر كله إلا أنه طلب الملك فوصل إليه، وهو لو كان يريده فإنهم قد عرضوه عليه من قبل.

ولقد وفروا عليه لو شاء زمناً ووقتاً ودماءً وحروباً، وإذا بـالعباس يصيح فيه موبخاً: إنها النبوة يا أبا سفيان ، فيقول أبو سفيان : والله يا أبا الفضل ! لا يزال في نفسي من هذا شيء، ومع ذلك استسلم وخضع، لم؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم من قبل تزوج ابنته.

قال تعالى: فَضَلُّوا [الفرقان:9] أي: لم يهتدوا بل تاهوا عن الحق، وجهلوا الذي حدث، ولم يعلموا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بينهم إلا أنه يتيم أبي طالب ، وحفيد عبد المطلب وابن عبد الله .

أما أنه سيد الخلائق وخاتم الأنبياء، وأنه المرسل إلى الناس كافة لا نبي بعده ولا نبوءة ولا رسول ولا رسالة، فهذا ما عمي القلب عنه، وما عميت البصائر عن معرفته والنظر إليه.

فقوله تعالى: فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان:9] أي: عجزوا عن الطريق القويم الذي يوصلهم لمعرفة من أنت يا محمد !

فبغضهم لك وعداوتهم وحسدهم وفتنتهم مع أنفسهم وكفرهم بالله وباليوم الآخر جعلهم يجهلون من أنت، وماذا تريد، فضلوا في أنفسهم ولم يستطيعوا الطريق السوي الذي يوصلهم لمعرفة من أنت.

لقد عجز المشركون أن يوقفوا دعوته وأن يسكتوا لسانه، وأن يرعبوه ويخيفوه عن تتمة عمله وما أرسله الله به من بلاغ، فقد اجتمعوا إلى عمه أبي طالب وهو على دينهم وقالوا: يا أبا طالب ! إن ابن أخيك قد أكثر علينا، وشتم آلهتنا، وسفه عقولنا، وذم الآباء والأجداد، ونسبنا إلى كل باطل، ونحن نريد أن تدعوه لنعرض عليه كل ما يمكن أن يريده ويسعى إليه، فحضر صلى الله عليه وسلم ووجد أبا جهل وشيبة وعتبة وعقبة بن أبي معيط ، وصناديد من طغاة مكة وجبابرتها وكفارها وأعداء الله ورسوله.

وإذا بهم يقولون له بمحضر أبي طالب : يا محمد! لقد جاوزت الحد معنا، سفهت أحلامنا، وشتمت آباءنا، وجعلت الآلهة إلهاً واحداً، ولم يصبر أحد على ما صبرنا نحن عليه، ونحن نعرض عليك ما تسمع، إن كنت تريد بهذا أن تكون ملكاً علينا ملكناك، وإن كنت تريد المال جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد النساء زوجناك ببناتنا وبنسائنا، إن شئت طلقناهن لك فتزوج منهن من شئت.

وإن كنت مريضاً جئناك بالأطباء من مختلف أصقاع الأرض ليعالجوك، وكان أبو طالب لا يزال ينظر نظرتهم ويدين دينهم، فقال له -وهذا ما أثار النبي عليه الصلاة والسلام-: يا ابن أخي! لقد أنصفوك، لقد أعطوك ما لم يعطوه لأحد.

وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).

وإذا بهم يقومون وهم يحيصون حمر الوجوه ويقولون: ماذا يريد محمد؟ قد أعطيناه كل ما يمكن أن نعطيه، ملكناه وأغنيناه وأعطيناه نساءنا فماذا يريد؟! وهذا الذي لم يهتدوا إليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يريد ملكاً فهو أعظم من الملوك، وللملوك الشرف في أن يكون أتباعه.

فإن المال قد استغنى عنه ولا حاجة له به، فقد عرض عليه أن تكون جبال مكة ذهباً وفضة، فأبى إلا أن يعيش نبياً عبداً.

وأما النساء فقد تزوج بعد ذلك تسع نساء، ولم يكن إذ ذاك متزوجاً إلا خديجة ، فقد قنع بها ولم يتزوج عليها قط حتى ماتت، وقد تجاوزت الستين من عمرها، وكانت قبله أرملة من زوجين آخرين، ولدت من كل واحد منهما.

وتزوجها صلى الله عليه وسلم وهي تزيد عليه في السن خمسة عشر عاماً، إذ كان عمره إذ ذاك خمسة وعشرين عاماً، ولو كان يريد النساء فمن ذلك الوقت لأخذ منهن من شاء ولكنه لم يفعل.

فأخذ خديجة لعقلها وفهمها، وأخذ خديجة لأن الله قضى أنها ستكون أول مؤمن به في الأرض، وأنها ستكون المؤازرة المؤيدة والمساعدة والمصدقة، وهكذا لم يتزوج عليها قط إلا بعد أن ماتت.

تزوج وقد كان عمره بعد موتها قد تجاوز الخمسين حيث يرغب الناس عن النساء، ولم يكن متفرغاً لذلك، لم يكن متفرغاً إلا لرسالة ربه وللدين الذي أرسل به، ولكنه تزوج كما يقال بلغة السياسة اليوم: زواجاً سياسياً.

فقد كان الزواج عند العرب يقرب الأرحام ويقوي الصلة بين العشائر والقبائل، والزواج بالنسبة للقبيلة يكون لحمة وحلفاً، ويكون سنداً وقوة.

وهكذا عندما تزوج بنت أبي سفيان عدوه الألد الذي قاد الجيوش في مكة في داخلها وخرج بها إلى المدينة حيث هاجر صلى الله عليه وسلم، وفعل معه الأفاعيل، وقاسى منه النبي عليه الصلاة والسلام الشدائد والبلايا والفتن، ومع ذلك فإن أم حبيبة ابنته كانت صالحة وكانت من الرعيل الأول الذي أسلم، فأسلمت قبل أبيها وإخوتها، وهاجرت الهجرة الأولى للحبشة، وارتد زوجها عبيد الله بن جحش في الحبشة، وبقيت ثابتة راسخة مؤمنة بالله وبرسوله على العداوة التي بينه وبين أبيها.

وعندما علم بذلك صلى الله عليه وسلم وكان النجاشي أصحمة ملك الحبشة قد أسلم وآمن، فخطبها منه فزوجه إياها، وأصدقها أربعمائة درهم.

وعندما بلغ الخبر أباها أبا سفيان ارتاحت نفسه وقرت عينه، وكاد يترك من العداوة والحرب، بل وقال للملأ من الناس عندما قيل له: محمد تزوج ابنتك، قال: ذلك الفحل الذي لا يجدع أنفه.

ومن تلك الساعة ضعفت المقاومة في نفس أبي سفيان ، وأصبح يحارب كما يقال: بغير موضوع، فكان هذا الزواج وأمثاله مما جعل للنبي صلى الله عليه وسلم حلفاء وأنصاراً، وجميعاً تزوجهن أرامل ليس فيهن بكر عذراء إلا السيدة عائشة رضي الله عنها.

وهكذا النبي عليه الصلاة والسلام عندما أخذوا يضربون له الأمثال ويقولون: ساحر، ويقولون: يريد الملك، فقد كذبهم بذلك وسحقهم سحقاً، وتركهم يعتقدون في أنفسهم على الأقل أنهم يجهلون ماذا يريد.

سمعوه يقول النبوءة فلم يتصوروها، وقد أسر أبو سفيان والنبي زاحف على مكة فاتحاً ومقاتلاً ومجاهداً ومكافحاً، وجيء به إلى النبي عليه الصلاة والسلام فسلمه لشريكه في الجاهلية عمه العباس ، وإذا به يوقفه والجيوش المؤمنة تدخل مكة وهي لا تزال في الضاحية تزحف زحفاً، فيسأل أبو سفيان العباس ويقول: من هؤلاء؟ فيقول العباس : قبيلة فلان، وقبيلة فلان، وقبيلة كذا، فيقول: ما لنا ولها، ما قاتلناها لتقاتلنا، إلى أن جاء القلب، إلى أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمامه الجيوش وخلفه الجيوش وعن يمينه ويساره من الرجال والخيل والسيوف والرماح المشرعة ما لا يحصى، وهم في لامة الحرب الكاملة لا تكاد تظهر منهم إلا أعينهم.

فقال أبو سفيان للعباس : ومن هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله، وإذا بـأبي سفيان يقول للعباس : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، حتى في هذه الساعة لم ير في هذا المظهر كله إلا أنه طلب الملك فوصل إليه، وهو لو كان يريده فإنهم قد عرضوه عليه من قبل.

ولقد وفروا عليه لو شاء زمناً ووقتاً ودماءً وحروباً، وإذا بـالعباس يصيح فيه موبخاً: إنها النبوة يا أبا سفيان ، فيقول أبو سفيان : والله يا أبا الفضل ! لا يزال في نفسي من هذا شيء، ومع ذلك استسلم وخضع، لم؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم من قبل تزوج ابنته.

قال تعالى: فَضَلُّوا [الفرقان:9] أي: لم يهتدوا بل تاهوا عن الحق، وجهلوا الذي حدث، ولم يعلموا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بينهم إلا أنه يتيم أبي طالب ، وحفيد عبد المطلب وابن عبد الله .

أما أنه سيد الخلائق وخاتم الأنبياء، وأنه المرسل إلى الناس كافة لا نبي بعده ولا نبوءة ولا رسول ولا رسالة، فهذا ما عمي القلب عنه، وما عميت البصائر عن معرفته والنظر إليه.

فقوله تعالى: فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان:9] أي: عجزوا عن الطريق القويم الذي يوصلهم لمعرفة من أنت يا محمد !

فبغضهم لك وعداوتهم وحسدهم وفتنتهم مع أنفسهم وكفرهم بالله وباليوم الآخر جعلهم يجهلون من أنت، وماذا تريد، فضلوا في أنفسهم ولم يستطيعوا الطريق السوي الذي يوصلهم لمعرفة من أنت.

قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا [الفرقان:10].

يقول الله لنبيه: إن هذا القول لا يقوله إلا سخيف العقل مظلم القلب، فأنت أعظم من كل ذلك، فلك البلاد ومن عليها بل ولك الدنيا، ولك الآخرة كذلك، وستقف يوم القيامة موقفاً لن يقفه ملك ولا نبي، يوم تشفع في الخلائق كلها، وتكون كما أخبرت عن نفسك: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر).

وإن عرضوا عليك ما عرضوه، وقالوا عنك ما قالوه، فأنت سيد الأرض، والعوالم كلها جعلت لك رعية وأمة، فمن آمن بك اهتدى، ومن كفر بك ضل، وعليه الخزي والدمار إلى يوم القيامة.

فقوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي [الفرقان:10] أي: تقدس الذي، كأول السورة: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1] أي: تقدس الذي إن شاء، والأمر بمشيئة الله فما شاء فعل.

قوله: جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ [الفرقان:10] أي: خيراً منه، فالبستان الذي عرضوه عليك فيه قليل من النخيل والماعز والضأن والبقر، فسيجعل لك خيراً من ذلك الكثير الكثير في الدنيا إن شئت.

قوله: جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الفرقان:10] أي: في الدنيا.

قوله: وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا [الفرقان:10] وليس قصراً واحداً، بل قصور لا يملكها ملك في الأرض، وفعلاً قد جاء ملك إلى النبي عليه الصلاة والسلام وعنده جبريل ولم ينزل إلا تلك الساعة، فقال له: يا محمد! جئتك من ربك يعرض عليك مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدك، يعرض عليك جبال مكة وبطحاءها أن تكون لك ذهباً وفضة، ومكة أنهراً جارية.

وإذا به يقول: (يا رب! أجوع يوماً وأشبع يوماً، أجوع يوماً فأذكر ربي وأتضرع إليه، وأشبع يوماً فأحمد ربي وأشكره).

هذه عبادة النبي صلى الله عليه وسلم يعيش بين صبر وشكر، وكل من الصابر والشاكر له الدرجات العلا عند الله في الدنيا والآخرة.

ومن هنا كان سيد البشر صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة لكل الخلق، ولذلك فإن المتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً وتقريراً فهو الناجي بين البشر، وبين الفرق التي تمزقت من المسلمين وستتمزق، فإن الفرقة الناجية هي ما كان عليه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه الأول من المهاجرين والأنصار.

إن الحياة رحلة قصيرة، كما شبه صلى الله عليه وسلم الحياة كلها كراكب استظل بظل شجرة عند شدة القيظ والحرارة، وإذا بالشمس تزول عن كبد السماء فيأخذ الظل طريقه ويذهب، فهذه هي الدنيا كلها في الأولين والآخرين.

وكذبهم الله بقوله: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [الفرقان:11].

أي: هؤلاء كفرة مشركون، وما أملوه عليك من نظائر وأشباه وأمثال إن هو إلا الكفر والجحود والحقد على الله ورسوله والمؤمنين.

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ [الفرقان:11] أي: كذبوا بيوم الحشر والنشر، وكذبوا بيوم الحساب والعقاب، والجنة والنار.

قال تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [الفرقان:11] أي: هؤلاء الكفرة الذين كذبوا بيوم البعث والنشور أعد الله لهم وهيأ لهم ناراً مسعرة ملتهبة تحرق من بعد مائة عام أو أكثر.

وزاد الله فوصف هذه النار المتسعرة الملتهبة بقوله: إِذَا رَأَتْهُم [الفرقان:12] أي: جهنم، مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان:12] أي: من بعد مائة عام وأكثر كما قال المفسرون.

فعندما يقربون إليها تراهم زبانيتها، وهم الملائكة المكلفون بعذاب أهل النار ممن شاء الله عذابه ونقمته.

وقد ورد في مسند أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من انتسب لغير والديه، أو انتسب لغير مواليه، أو كذب على الله، أو افترى على نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فليتبوأ مقعداً في النار ذات العينين، قالوا: يا رسول الله! وللنار عينان؟ قال: نعم).

فالذي خلق العينين للإنسان وجعل البشرة والحواس كلها تتكلم وتشهد على المذنب بفعل الشر، وتشهد للصالح بفعل الخير، هو قادر على أن يخلق عينين للنار كذلك.

فعندما تراهم النار من بعيد يسمعون لها قبل الوصول إليها بمائة عام تغيظاً وزفيراً، وما تغيظها إلا صوت ما فيها من نار ووقود، فإن النار عندما نشعل بها حطباً في بدايتها نسمع لها زفيراً، ومعناه: أن النار تلتهب التهاباً وتشتعل اشتعالاً، حتى يأكل بعضها بعضاً إن لم تجد الوقود، قال تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24] .

قوله: سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان:12] أي سمعوا لهبها وصوت نارها وحريقها، وسمعوا شوقها لهم لتعذبهم جزاءً وفاقاً لكفرهم بالله، وطعنهم في أنبياء الله.

قال تعالى: وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان:13] أي: وإذا ألقوا في ركن منها ضيق، ووصفوا المكان الذي يدخله المعذب ككوة، فيدخل وعظامه تكاد تتكسر من الضيق الذي يدخل فيه، فمن شدة المحنة يدخل المكان الضيق حتى يسمع لعظامه صوت.

قوله: مُقَرَّنِينَ [الفرقان:13] أي: مصفدين مكتفين، فالأيدي إلى الأعناق والأرجل مع الأيدي، مقرنين بالشياطين، فيد من الشيطان ويد من الإنسان الذي اتخذ الشيطان إلهاً واتبع هواه.

قوله: دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا [الفرقان:13] أي: صاحوا: يا ويلهم! ويا هلاكهم! والثبور: الهلاك وجميع أنواع الفساد والبلاء من كفر وغيظ وويل ومحنة وهلاك، كمن يصيح في حياته يقول: يا ويلاه! يا مصيبتاه! يا غوثاه! لمن يغيثه.

فأخذوا يدعون ثبوراً، أي: يا هلاكهم! يا فسادهم! يا خسرانهم! هكذا يدعون على أنفسهم، فتقول لهم ملائكة النار: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان:14] أي: لا نجاة ولا خروج من النار، فيستمرون في الدعاء يا ويلهم! يا هلاكهم! يا خسارهم! يا مصيبتهم! إلى أن يسمعوا صوتاً: اخسئوا، فيسكتون إذ ذاك، ولا سبيل إلى الكلام والنطق، ولا أمل هناك في خروجهم.