تفسير سورة النور ]21-23[


الحلقة مفرغة

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21].

هذه هي العبرة والنتيجة، وهذا هو الدرس الذي يستفاد من قصة الإفك، وهو أن كل ذلك كان نتيجة اتباع الشيطان وتهاويل الشيطان، ولذلك أمر الله المؤمنين جميعاً ألا يتبعوه.

ومنذ أن قام صلى الله عليه وسلم في هذه البطاح المقدسة وهو يدعو الناس جميعاً ويقول لهم: إني رسول الله إليكم جميعاً، ومنذ كانت قصة الإفك، وما نزل فيها من توبيخ وتقريع وتأديب، فكان رمزها وكان نتيجتها أن الإنسان لا يتخذ الشيطان صديقاً ولا حبيباً، فهو عدو لنا، فيجب أن نتخذه عدواً.

يقول الله جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النور:21].

كان الخطاب لمن أدب وعوقب نتيجة قذفه ونتيجة استسهاله للعرض الذي قذفه وقال عنه الباطل، فأمر هؤلاء وقد تاب عليهم، ونبه المؤمنين جميعاً من مضى ومن يأتي بعد ذلك فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21].

الخطوات جمع خطوة، والخطوة السبيل والطريق، أي: لا تتبعوا الشيطان في معاصيه، وفي وساوسه فيما ينزغ به بينكم وبين ربكم، ومع كتابكم، وبين المؤمنين عامة.

يا أيها الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، إياكم والشيطان، فلا تتبعوه، ولا تتخذوه إماما، فإن إمامكم القرآن ودينكم الإسلام، ولا يليق بمسلم أن يتخذ الشيطان ولياً وإماماً ومتبوعاً وقائداً.

والخطوة تعني: أن تذهب معه خطوة بخطوة، هو يسبقك فتتبع خطواته، أي تتبع سيرته وعمله، كمن يتبع خطوات من سبقه خطوة خطوة، وقدماً قدماً، وطريقاً طريقاً.

والمعنى: لا تتخذوا الشيطان إماماً فسيقودكم إلى النار وإلى الكفر والنفاق، وإلى الذل والمهانة، فهو الذي أخرج أبويكم من الجنة، فاتخذوه عدواً، ولا تتخذوه مولىً، فلو فعلتم لأخرجكم عن دينكم، ولأذلكم في الدنيا والآخرة.

ولا تتبعوا طريقه وسننه وأخلاقه ودينه، ودين الشيطان كل أنواع الفواحش والمعاصي والمخالفات لله، والمخالفة لرسول الله، والمخالفة لكتاب الله، واكتساب الحرام، وترك الطاعات بكل أنواعها.

وهكذا فاتباع خطوات الشيطان لا تقود إلا للعنة وللردة وللكفر.

قوله: وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21].

الذي يفعل ذلك ويتبع خطوات الشيطان ويجعله قدوته، ويجعله القائد له في مسيرته، فإن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر، فيأمر بالزنا وتوابعه، ويأمر بكل ما لا يحبه الله، وبكل ما نهى الله عنه ورسوله، وبكل ما حرمه الإسلام، تلك طريقته، وذاك دينه، وتلك خطواته، وكيف يليق بالمؤمن اتباعه والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النور:21].

فالمؤمن المفروض فيه أن يكون تابعاً ومؤتسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون مؤمناً بربه، تابعاً لكتابه، ممتثلاً لأمره، تاركاً لما نهى عنه، فأنتم عندما تتبعون خطوات الشيطان فالشيطان لا يأمر بمعروف قط، بل يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويأمر بالفواحش على كل أشكالها، وأي مؤمن لا يرضى ذلك ولا يقبله.

وكيف يليق ذلك بكم وهاأنتم هؤلاء عندما اتبعتم نزغات الشيطان، ووساوس الشيطان، قمتم وأنتم مؤمنون صالحون مجاهدون فقذفتم أم المؤمنين، وارتكبتم ما كانت نتيجته ذُلكم وجلدكم ومهانتكم، ولولا الرحمة والفضل من الله فقد قبل توبتكم، واكتفى بجلدكم، واكتفى بهذا الحد، ولولا ذلك لنكل الله بكم في الدنيا والآخرة، ولما قبل توبة، ولما اكتفى بالجلدات فقط، لذلك فهو لم يكتف من المنافقين بذلك، فقد جلدوا في الدنيا وحدوا، ولعذاب الآخرة أنكى وأشد.

قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [النور:21].

لولا الرحمة الإلهية، ولولا الفضل والجود والكرم الإلهي، مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [النور:21] أي: ما آمن ولا أسلم، والمعنى: أن الذين لم يخوضوا في الإفك، ولم يخوضوا في الباطل، ولم يكرروا ما قاله المنافقون في قذف أم المؤمنين، وقذف عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله هو الذي طهرهم من ذلك، وزكاهم بذلك، وأكرمهم بذلك ولولا فضل الله في ذلك لم يزكوا ولم يتطهر منهم أحد أبداً، ولكن فضل الله كبير.

قال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [النور:21] أي: ولكن الله يزكي من يشاء فضلاً منه ورحمة وكرماً، وقد زكّى الكثيرين، وطهر الكثيرين، فلم يدخلوا في هذه الوساخة، وهذه القذارة، وهذا القذف للأعراض الطاهرة الشريفة، فكانوا بذلك مطهرين، وكانوا بذلك صالحين قد زكاهم الله فطهرهم، وحفظ ألسنتهم، من قول السوء، ومن تكرار ما قاله المغفلون والمنافقون.

وَاللَّهُ سَمِيعٌ [النور:21] سميع لأقوالكم، ناظر لأعمالكم، حكيم في أوامره ونواهيه، يسمع منكم ما تقولون، (عليم) يعلم الصادق منكم من الكاذب، عليم بأحوالكم، عليم بالمؤمن الصادق، وبالمؤمن المذبذب الضعيف، عليم بالمؤمن المخلص كما هو عليم بالمنافق، فلا تظنوا يوماً ولا لحظة ولا ساعة أنكم يمكن أن تعملوا عملاً لا يعلمه الله.

قال تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22].

هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، والعشر الآيات السابقة نزلت في ابنته أم المؤمنين عائشة.

وذلك أنه كان لـأبي بكر ابن خالة اسمه مسطح بن أثاثة ، وكان مسطح من المهاجرين الأول، وممن شارك في معركة بدر، والمشاركون في معركة بدر لهم فضل كبير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اصنعوا ما شئتم).

وكان مسطح قد تكلم في هذا القذف، وجلد مع من جلد، والذين جلدوا أربعة: ثلاثة رجال وامرأة، هم مسطح وحسان بن ثابت ، وعبد الله بن أبي ابن سلول ، وحمنة بن جحش .

وكان مسطح فقيراً، وكان الذي ينفق عليه أبو بكر ، فلما خاض في حديث الإفك وبلغ ذلك أبا بكر أقسم بالله ألا ينفعه، وأن يوقف النفقة عليه، ولكن الله جل جلاله أكرم من عباده، وأرحم بعباده منهم بأنفسهم، والله جل جلاله جعل لكل شيء حداً، والعقوبة لها حد لا ينبغي تجاوزه.

والله رأى في الجلد كفاية، لكن أبا بكر بقي معاقباً له وهو فقير مدقع، فاجتمع على مسطح الفقر والبؤس مع الجلد والمهانة، وأصبح لا يجد قوت يومه، ونفر منه الناس كما نفروا ممن قذفوا أم المؤمنين، وعندما رأوا أبا بكر قد نفر منه، وفعل ما فعل، قالوا: هذا لا خير فيه، فقد غدر بفضل أبي بكر عليه، وغدر برسول الله في عرضه، ولم يعرف لقيمة الإحسان والإفضال فائدة، وإذا بالله الكريم ينهى أبا بكر رحمة منه وفضلاً، فقال: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى [النور:22].

وأولو الفضل: هم أصحاب الفضل والإحسان.

(لا يأتل): من الإيلاء، وهو اليمين والحلف، أي: لا يقسم أحدكم ممن تفضل بالإحسان وبالصدقة وبالعطاء ممن أوسع الله عليهم وكانوا ذوي غنىً وذوي سعة في الحياة، لا يأتل ولا يحلف على ألا يفعل خيراً، وألا ينفق على المحاويج وعلى الأقارب، وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ [النور:22].

قوله: وَالسَّعَةِ [النور:22] أي: ممن وسع الله عليهم، وإذا أوسع الله فأوسعوا.

أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى [النور:22] أن يعطوهم من إفضالهم وسعتهم وخيرهم، ومما رزقهم الله به ووسع عليهم، وكان مسطح من ذوي القربى له، فقد كان ابن خالة له، ولذا قال: أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ [النور:22]، وكان مسطح مسكيناً.

وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النور:22]، وكان مسطح مهاجراً في سبيل الله، بمعنى أنه لم يهاجر لمال، ولا لجاه، ولا ليخدمه أو ينفق عليه قريبه وابن خالته أبو بكر ، ولكنه هاجر في سيبل الله، فترك الأهل في مكة، وترك المال، وترك السعة، وجاء للمدينة بنفسه، مهاجراً لله ولرسوله، فاراً بدينه ممن اضطهده من كفار مكة، فقال الله لـأبي بكر : وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا [النور:22].

فهم قد أذنبوا حقيقة، ولكن أين مزية العفو؟

وَلْيَصْفَحُوا [النور:22] أي: ليصفحوا عنهم ويتجاوزوا عن سيئاتهم.

أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] كان يتحدث بضمير الغيبة، وإذا بالكريم عندما أراد أن يتفضل على أبي بكر بالمغفرة أصبح الخطاب خطاب مواجهة: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22].

وإذا بـأبي بكر يتلو عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات ساعة نزولها عليه، فكان جوابه: بلى يا رب! أحب أن تغفر لي، ومن اليوم وإلى لقاء الله سأنفق على مسطح ، وسأعود عليه بإحساني ونفقتي، والله إني أحب أن تغفر لي.

وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، فالله يغفر الذنوب جميعاً، ويغفر الشرك والكفر، فالإسلام يجب ما قبله، ألا تغفرون أنتم كلمة قد قيلت كانت في الأصل فساداً وكانت نتيجتها إفضالاً كبيراً، فقد كانت إشادة بـآل أبي بكر وبيت أبي بكر وبنت أبي بكر ، إلا يكفي أبو بكر ما نزل في حق ابنته من تبرئة ومن تطهير وتزكية أصبحت وحياً يتلى إلى يوم القيامة، وفيم إذاً إيقاف النفقة وإيقاف الإحسان؟!

سئلت السيدة عائشة : ماذا كان خلق رسول الله؟ قالت: القرآن. فالله غفور فكان محمد غفوراً، والله رحيم فكان نبينا رحيماً، فكان يرحم أعداءه، ويعفو عن أعدائه، وحسان مع ما صدر عنه كان ينصب له رسول الله منبراً في المسجد، ويقول له: اهج الكفار فداك أبي وأمي.

وكان يقول له: (اهجهم وروح القدس معك) أي: جبريل، وكان يقول: (والله لكلامك أشد عليهم من وقع النبال) مع كون حسان صنع ما صنع، وكان جباناً لا يستطيع القتال، فقد كانت المعركة شديدة في غزوة الخندق، فكان حسان مع الضعاف من الشيوخ والأطفال والنساء فوق حصن، وإذا بيهودي أخذ يحيط بالحصن عله يجد غرة فيدخل الحصن، ويأسر ويقتل ويسرق، وإذا بـصفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم تراه فقالت: يا حسان! هذا يهودي يطوف بالحصن وما أراه إلا يريد أن يجد غرة، أو يجد منفذاً ليدخل، قم على السطح وارمه بهذه الصخرة، فقال لها: لو كنت أصلح لذلك لما بقيت معكم!

وإذا بها تقف على السطح وتأخذ الصخرة وترميها على اليهودي، فقتل، فقالت له: يا حسان اذهب فخذ سلبه، فالنبي يقول (من قتل قتيلاً فله سلبه).

قال لها: أتعلمين حالي، أنا لا أستطيع أن أمد يدي إليه وهو ميت، قالت: أنا لم أتركه إلا لأني امرأة وهو رجل، قال: لا أريد سلبه!

لكن مع ذلك كان لسانه -رضي الله عنه وعفا عنه- كما قال صلى الله عليه وسلم عنه: (أشد عليهم من النبال)، وله ديوان شعر مطبوع منتشر كله من غرر الشعر وفصيحه وبليغه.

هذه الآية الكريمة تزيدنا طمعاً في الله وطمعاً في رحمته وفي مغفرته، وتدل على العناية الإلهية بعباده الموحدين المؤمنين، فإنه مع شدته ومع قوارعه لهؤلاء الذين قذفوا وقالوا ما قالوا، عاد فرحمهم، ودعا عباده لرحمتهم، وبقي قابلاً ومعترفاً لـمسطح بجهاده وسماه مجاهداً في سبيل الله، وحض أبا بكر على الإحسان إليه، وعلى العفو عنه، وعلى الصفح عن ذنوبه، وهكذا ينبغي، فهذا أدب لنا، ونحن كثيراً ما نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

فكان سبب نزول الآية أبا بكر ، أما بعد ذلك فهي خطاب لكل المسلمين، وكثيراً ما يسيء إلينا أقارب وأباعد، وبعضهم يبالغ في الأذية، ولكن مهما تكن الأذية فليس هناك أبلغ من أذية مسطح لـأبي بكر ، وطعنه في شرف ابنته وعرضها، فينبغي الاقتداء بـأبي بكر في العفو والصفح.

وقد كان غفرانه وصفحه عن مسطح سبب مغفرة الله له، ووعد الله بالمغفرة، ومن أوفى بعهده من الله، فبهذه الآية وصريحها أن الله قد وعد أبا بكر بالمغفرة.

والرسول قد بشر أبا بكر بالجنة، وهو في طليعة العشرة المبشرين بالجنة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله، ومعنى ذلك أن الله يدعو كل المؤمنين ممن قطعوا رفداً، أو أوقفوا إحساناً، أو ظلوا على حقد وعداوة لشخص ما، في أي ذنب ما، أنه إذا أدب وإذا عذب، وإذا لقي جزاءه من السماء أو الأرض، أن يعفى عنه.

فلنكن أيضاً غفورين رحيمين بأعدائنا، ولكن لكل شيء حد، فإذا تجاوز في الأمر خرج عن معناه، فالمغفرة للتائبين، والرحمة للنادمين، والصفح عن المسلمين، وأما أن تأتي إلى كافر أو منافق استذلك، وأخذ بلدك وقتلك، وهتك عرضك، وحرص على أن يأخذ بلادك، فتأتي أنت وتقف على قبره وتحني رأسك، وتقبل خده، وتقبل يده، وترفع رايته في بلدك، وتجري حول الاستسلام له، وتقول: هذا صفح، فإننا نقول: حاش الله، ليس بذاك، ولا صله له بهذا البتة.

ولكن الصفح عن المؤمنين، والعفو عن التائبين، وعن النادمين كما حصل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه لـمسطح .

وأيضاً هذا قد علم من القرآن والسنة، يقول صلى الله عليه وسلم: (من حلف يميناً ورأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير).

أي: من أقسم على خير ألا يفعله، أو على قطع رحم، فهذه اليمين في الأصل لا تجوز، فهذا يجب عليه أن يحنث في يمينه، ويكفر عنها بصيام ثلاثة أيام أو إطعام عشرة مساكين، ويأتي الذي هو خير، فيأتي صلة رحمه، وينفق على من أقسم ألا يحسن إليه.

فـأبو بكر كان قد أقسم، والله تعالى أمره أن يعود عن يمينه، وأن يعود عن قسمه، وأن يغفر لـمسطح ، وأن يصفح عن مسطح ويعود للإنفاق عليه، فحنث أبو بكر في يمينه وكفر عنها، وأتى الذي هو خير بأمر الله، بل وبتحريض الله له، وتشجيعه له ووعده بالمغفرة: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22]،

أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، وعاد للنفقة على مسطح وللإحسان إلى مسطح، وما كان سيئاً من القذف والبهتان والإفك جعل الله ذلك سبباً لرفعتهم، وعلو شأنهم، وتبرئتهم، حتى إنه أجمع المسلمون على أن من قذف عائشة بعد ذلك يعتبر مكذباً للقرآن، ومن كذب القرآن يعتبر كافراً، فيقتل ردة.

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23].

كانت هذه أيضاً مغزى القصة ونتيجتها، فالله عمم: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ[النور:23] أي: يقذفون، وجعل القذف بالفاحشة كالقذف بالرصاص والنبال؛ فعبر بالرماية: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ[النور:23]، وهن العفيفات الطاهرات المتزوجات المسلمات.

الْغَافِلاتِ[النور:23] أي: غافلات عن ذلك لا يخطر لهن ببال، فتجدها من العفة بالمقام الأعلى، ومن الطهارة في الذروة العليا، فلا يخطر لها ببال يوماً أن تفعل هذا أو تتكلم فيه، وإذا بها فجأة تتهم، كما اتهمت السيدة عائشة رضي الله عنها ولم يكن هذا يخطر لها ببال، ولم تفكر فيه، وهي بعيدة عنه، ونبي الله أكرم من أن يكون هذا في زوجته، وفي عرضه، وفي أم من أمهات المؤمنين.

وقد جعله الله قاعدة عامة: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ[النور:23].