خطب ومحاضرات
تفسير سورة الحج [42-47]
الحلقة مفرغة
قال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الحج:42-44].
يسلي الله جل جلاله ويعزي نبينا عليه الصلاة والسلام، ويدعوه إلى الصبر، فإن العاقبة للصابرين، وإن النصر في العاقبة للمؤمنين ولرسل الله، يقول له: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ أي: إن كذبك قومك، وأنكروا رسالتك، وأنكروا كون القرآن منزلاً عليك من ربك، وأنه كلام الله، فلست مفرداً بذلك، ولم تكن بدعاً من بين الرسل، فقوله: فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي: كُذِّب قبل قومك، وقبل أن يرسل إليك أقوام من الأمم السابقة؛ ابتداء من قوم نوح.
قال تعالى: قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ فكذب قوم نوح، وكذب عاد نبيهم هوداً، وكذب ثمود نبيهم صالحاً، وكذب قوم إبراهيم إبراهيم، وكذب قوم لوط لوطاً، وكذب أصحاب مدين شعيباً، وكذب فرعون وقومه موسى عليه السلام.
قال تعالى: وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فالله يقول: إني أملي لقوم وأؤخرهم، وأعطيهم فرصة؛ لعلهم يرجعون ويئوبون ويقولون: ربنا الله، أو لعلهم يعيشون فيخرج الله من أصلابهم مؤمنين مصدقين موحدين لا كآبائهم مشركين، فهؤلاء أمليت لهم، وقد كذبوا أنبياءهم قبلك؛ كذبوا نوحاً وهوداً وصالحاً، وكذبوا إبراهيم وموسى، فهؤلاء الأقوام كذبوا الرسل الكرام قبلك، وصنعوا صنيع قومك حيث كذبوك.
فقوله تعالى: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ أي: أخرتهم وأمليت لهم زمناً وأعطيتهم مهلة؛ لتقوم الحجة البالغة عليهم، ولعلهم يوماً يتدبرون بعقولهم، ويسمعون الحق بآذانهم، ويعون الصحيح من الباطل بقلوبهم، ولعلهم يقولون: ربنا الله.
قال تعالى: ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي: أخذهم أخذ عزيز مقتدر، أرسل الطوفان على قوم نوح، وأرسل الصواعق والرياح والعواصف على أقوام آخرين، بل وأرسل عليهم أضعف الحشرات؛ إذ أرسل البعوض على قوم نمرود الذين عذبوا إبراهيم وحرقوه والله لم يرد إحراقه، وأرسل على قوم لوط الصواعق من السماء، وجعل الأرض عاليها سافلها؛ لفعلتهم الشنيعة، مع تكذيبهم لرسولهم، وأغرق آل فرعون، فقد كذبوا موسى وأخاه هارون، ولم يؤمنوا بما جاءا به من معجزات وآيات، وأصروا على الكفران والجحود، فأخذهم الله إليه أخذ عزيز مقتدر، وكذلك يا محمد! اصبر وتمهل حتى تكون العاقبة لك كما كانت العاقبة للأنبياء قبلك، فسنعذب من يبقى من قومك، ممن أرسلت إليهم رسولاً وستكون العاقبة عليهم بتعذيبهم والمكر بهم وسحقهم وتدميرهم، وقد فعل ربنا جل جلاله؛ إذ نصر محمداً على قومه صلوات الله وسلامه عليه، ونصره على جزيرة العرب، ونصر أتباعه على فارس والروم والبربر، ونشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها؛ وخلال خمسين عاماً انتشر دين الإسلام شرقاً إلى أرض الصين، وغرباً إلى بلاد فرنسا وأسبانيا في عمق أوروبا وما بينهما.
ولذلك يعزي الله جل جلاله نبيه ليصبر ويتمهل، ويخبره أن النصر له في النهاية، وأن العاقبة بالسوء والتدمير على من كذبوه، وقد فعل جل جلاله وصدق وعده، وهنا قال عليه الصلاة والسلام وهو يدخل مكة منتصراً مظفراً: (الحمد الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) دخل مكة وهو على راحلة، ولم يركب جواداً ولا فرساً ليتراقص به تراقص العزيز المنصور المظفر، بل دخل يركب ناقة في مشيها الهون، وهو مطأطئ رأسه تواضعاً لله، وخنوعاً لعزه وجلاله، ولم ينسب لنفسه شيئاً، وقال عن ربه: (وهزم الأحزاب وحده)، فالله وحده جل جلاله هو الذي نصر عبده محمداً ودينه الإسلام وأتباعه المؤمنين، وأذل الكافرين وسحقهم ودمرهم، وأنجز ما كان قد وعد به نبينا عليه الصلاة والسلام في غير آية من آيات كتاب الله، وغير سورة من سور القرآن الكريم، وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] لا أحد جل جلاله وعلا مقامه.
قال تعالى: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ [الحج:44].
أي: أخذهم أخذ عزيز مقتدر، وجعلهم عبرة للمعتبر وجعلهم قصصاً تتلى لمن يأتي بعدهم؛ لتدبر آيات الله ووعده الحق، فيبادر بالعمل الصالح في حياته قبل مماته، فيؤمن ويقول: ربي الله، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الحج:44] يسأل موبخاً ومقرعاً لهؤلاء الكفار، وداعياً للاعتبار للمؤمنين المذبذبين، وسائلاً للمؤمنين الثابتين ثبوتاً ورسوخاً، فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أي: كيف كان إنكاري على هؤلاء الذين طالما كذبوا وكفروا وآذوا رسل الله وأتباع رسل الله من الموحدين.
فكيف كان نكيري؟ كان بالتدمير وبالتخريب، وكان بالموت صعقة ودهدهة وغرقاً، وبرفع الأرض وجعل عاليها سافلها، ومع هذا غضب الله ولعنته والخلود في النار أبد الآبدين.
قال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45].
لم يذكر في هذه الآية أنبياء الله جميعاً، ولم يذكر أتباعهم وأممهم الذين كذبوهم جميعاً، ولكنه عمم فقال: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ أي: كم من أهل قرية أهلكناهم ودمرناهم وجعلناهم في الأمس الدابر، وجعلناهم أحاديث تقص في السمر، ويعتبر به المؤمن عند إيمانه ومدارسة الأديان، ومدارسة المؤمنين السابقين واللاحقين.
فقوله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ أي: في حال ظلمها، أي: لم تكف عن الظلم ولم تتب عن الظلم بكل أنواعه، فأظلم الظلم وأشده كبيرة الشرك بالله، فقد ظلموا أنفسهم، وظلموا صاحب الحق حقه جل جلاله، إذ لم يوحدوا الله ويشكروه على ما رزقهم من حواس ونعم وصحة وأرزاق، وأبوا إلا الشرك والجحود إلى أن لقوا الله ظالمين مشركين.
قال تعالى: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا العروش هنا: السقوف، فهذه القرية فارغة من سقوفها إلى الأرض، فقد خربت ودمرت وزلزلت، ولم يبق فيها ساكن ولا حي، فقد باد أهلها وأهلكوا وذهب نعيمهم وكفرهم، وذهبت رفاهيتهم من نساء وبنين وطيور وزينة، فجاءوا من التراب وعادوا للتراب، ودمروا تدميراً هم ومساكنهم، ولم يبق هناك قصر مرتفع أو مزخرف مطلي بأنواع الدهون، محفور بأنواع الزينة، مرتفع إلى أعلى الطبقات.
ذهبت القصور وخربت، ولم تبق لها سقوف ولا حيطان ولا جدران، خلت من سكانها ونعيمها، وخلت من شبابها وشيوخها، وخلت من نسائها وفتياتها، وخلت من النعيم الذي كانوا يعيشون فيه مترفين مع شركهم وكفرهم، لم يقولوا يوماً عن هذه النعم المتوالية: نشكر الله ونحمد الله.
قوله: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ أي: كم من بئر جفت مياهها وخلت عن السواقي وعمن يجتلب منها بالدلاء، فقد عطلت وغار ماؤها كما عطلت القرية بقصورها المشيدة وبمصانعها القائمة على حضارتهم، وكأنه لم يكن فيها يوماً أنيس، ذهبوا بشركهم وكفرهم، ولعذاب الله يوم القيامة أشد.
ومعنى ذلك: أيها الكافرون بمحمد خاتم الأنبياء خذوا العبرة والعظة ممن سبقكم من المشركين، ما الذي صنعناه بهم؟ وكيف دمرناهم؟ فهذه قراهم خالية، وآبارهم معطلة، وقصورهم خاوية على عروشها من سقوفها إلى جدرانها، كأن لم يكن فيها يوماً أنيس، أو حي يتكلم ويأخذ ويعطي.
وهنا الله جل جلاله يخاطب الكافرين والمؤمنين، وإن كان الخطاب يشير إلى الكافرين، فإنه يخاطب الكافرين لعلهم يأخذون من ذلك العبرة والعظة، فيخشون الله يوماً ويعودون إلى الله وإلى رسله، ويخاطب المؤمنين ليزدادوا إيماناً ورسوخاً في يقينهم وإيمانهم بالله ورسوله.
قال تعالى عن الكافرين: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].
يقول تعالى لهؤلاء المكذبين: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ أي: ألم يسيحوا ويسافروا وينتقلوا فيروا هذه القرى المدمرة، وهذه الديار المخربة والآبار الجافة القاحلة، وهذه الأشجار التي كأنها قد أحرقت، ألم يقولوا يوماً من الذي دمر هذا؟ ومن الذي خرب هذا؟ ومن الذي عطل هذه القصور المشيدة المنحوتة في الجبال، والمنحوتة في الأرض، وعطل قصوراً شاهقة في أجواء السماء تكاد تناطح السحاب، أفلا يخافون يوماً أن تدمر قراهم وتخرب دورهم ويذهبون كما ذهب هؤلاء في الأمس الدابر؟! وأرض ثمود في الحدود بيننا وبين الأردن وبين أرض الشام، وآثار الأمم السابقة في كل مكان في الأرض، فهذه أهرامات مصر، وهذه القصور المشيدة في العراق من أرض فارس قديماً، وهذه الحفريات التي تحفر كثيراً في أسوان، وفي الأرض كلها في أراضي المسلمين وغيرهم، فتجد هناك الآثار المدمرة والمخربة، وستجد الآثار التي بلغت من الحضارة والصناعة والرفاهية ما لم تبلغها حضارة أوروبا اليوم وأمريكا، هذه الحضارة التي تسمى حضارة عصر النور، فنقول لهؤلاء الذين يكذبون: هذه أهرامات مصر كيف بنيت ومن أشادها؟ هذه قصور بغداد والعراق كيف بنيت وقد مر عليها الآلاف من السنين كما مر على أهرامات مصر؟ وكيف جاءت هذه الصخرة التي على الكعبة؟ وكيف قطعت من الجبل؟ وكيف نحتت؟ وكيف حملت إلى أن وضعت؟ وكيف جعلت صخرة على صخرة؟ لم ذلك؟ ومن كان يسكن؟ وما هي أسرار ذلك؟ وقل مثل ذلك على كل الحفريات في الأرض، ألا ينبغي ويجب على هؤلاء الذين يسيحون في الأرض أن يعتبروا؟ فقد كان لقريش رحلتان: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وكانوا يمرون على الكثير من هذه الآثار، ألم يفكروا يوماً أين ساكنوها؟ وأين ملوكها وحكامها الأقوياء؟ وبم دمروا وبم خربوا؟ ومن الذي دمرهم، ومن الذين خربهم؟ وكل هذه المنظورات والمرئيات مما تؤكد ما أتى به كتاب الله ونطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يزيد المؤمن إيماناً، ويعظ الكافر لعله يوماً يقول: آمنت بالله، وقد صدق الله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء به حق، وما جاء به واقع قد رأيناه رأي العين، وسمعناه سماع الأذن عن آبائنا وأجدادنا إلى اليوم الذي حدث ذلك، سمعناه في القرآن، وسمعناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعناه عن علمائنا.
فقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ أي: ألم يقطعوا الأرض يوماً سواحاً أو تجاراً؟ ولا شك أنهم قد فعلوا ذلك، قال تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [قريش:1-2]، فكانت لهم رحلتان في السنة: رحلة شتوية ورحلة صيفية، وكانوا يمرون على هذه الآثار ويقولون: ومن الذي دمر؟ من الذي خرب؟ أليس هذا الذي جاء في القرآن الكريم ونطق به محمد صلى الله عليه وسلم؟ بلى.
ولذلك قال الله لهم: هذه ذكرى لهم ولكل دعي للإيمان بالله وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ورسالته خوطب بها كل الناس لا العرب وحدهم، ولا العجم وحدهم، ولا أهل المشرق وحدهم، بل كل العالمين منذ البعثة المحمدية، ومنذ أن وقف محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض المقدسة وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الحج:49]، ولذلك فكل ما خوطب به الكفار هو خطاب للناس كلهم، وكل ما خوطب به المؤمنين فللناس كلهم.
قال تعالى: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أي: أليست لهم عقول يعقلون بها ويعون ويفهمون ويدركون ويعلمون؟ وإذا لم يسمعوا منك وعما أنزل إليك من القرآن الكريم، ألم يمروا على هذه الآثار وعلى هذه القرى والمدائن ويروا فيها ما قصصناه عليك من التدمير والتخريب لهؤلاء؟ أليست لهم عقول تعقل؟ أليست لهم قلوب تدرك؟
قال تعالى: أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا أليست لهم آذان يسمعون بها عن هذا، عندما يقفون في مشارف القرية ويبهر زوارها والساكنون حواليها متى حدث هذا؟ وما هي أسبابه؟ وتسمعون الكثير عن آبائهم وأجدادهم إلى العصر الذي حدث فيه ذلك.
وأنتم إذا سمعتم ألا تعون وتستفيدون بالسمع؟ وإذا عقلتم ورأيتم ألا تستفيدون بالنظر والوعي؟
قال الله عنهم: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ، وليس البصر في عماه ضاراً بالمؤمن، ومع ذلك نسأل الله السلامة والعافية، فيمكن أن يعي ويعقل ويدرك، ولكن البلاء من عميت بصيرته وقلبه، فتجده ينظر إليك ولكنه لا يرى، ويسمع منك ولكنه لا يسمع، أي: لا يستفيد برؤيا ولا يستفيد بسمع ولا يستفيد بوعي ولا يستفيد بإدراك.
فلهم آذان لا يسمعون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم قلوب لا يفقهون بها، فهم كالأنعام بل هم أضل؛ لأن الأنعام لها كلمات تفهمها عنك، فإن أردت للحمار أن يمشي، أو أردت أن يقف، أو أردت أن يأكل، أو أردت أن يشرب وهكذا، فإنه يفهم عنك ذلك.
وأما هؤلاء فهم أضل من الأنعام وأقبح؛ لأن الأنعام يستفاد من بطونها ومن ظهورها، ومن أوبارها وأشعارها، أما هؤلاء فيكونون على الأرض ضياعاً وثقلاً، ضررهم أقرب من نفعهم ولا فائدة منهم لأحد، بل هم للشر وللفساد ولإضلال الصالحين ولإضلال الهادين المهديين.
والذي عمي قلبه وعميت بصيرته هذا الذي يكون قد عمي العمى الحق، إذ لا يستفيد من بصر ولا سمع ولا قلب، ولا يستفيد في دنياه ولا في آخرته، قال تعالى: وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [الأعراف:198] فهو عمى مسترسل قلبي، ومن كان كذلك فهو ميئوس منه ومن فائدته ومن مستقبله ومن خيره.
قال الله تعالى:
مع بلادة هؤلاء وسخافة عقولهم، وعدم الاستفادة من حواسهم أسماعاً وأبصاراً عقولاً وقلوباً يستعجلون بالعذاب، قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ [الحج:47]، فتجد قائلهم يقول: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]، فبلغ من حمقهم وعمى بصائرهم قبل الأبصار أن دعوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب، وقد أنذرهم الله وتهددهم وتوعدهم في كتابه، وأنذرهم رسوله صلى الله عليه وسلم بسنته وببيان كتاب الله المنزل عليه، وإذا بهم يتحدون مكذبين: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنبياء:38].
قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [الحج:47] فالعذاب آت، ولكن متى ما يريد سبحانه لا متى يريدون هم، فالله أرحم من أنفسهم لأنفسهم، وأرحم بهم من نفوسهم، فهو قد أمهلهم وأعطاهم فرصة لعلهم يوماً يتوبون، وإلى الله يئوبون، لعل الله أن يخرج من أصلابهم مؤمنين موحدين يقولون يوماً: لا إله إلا الله.
قال تعالى: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ، فالله وعده لا يخلفه، بل لابد منه وهو آت، والوعد هنا يراد به الوعيد، فالوعد لا يخلف، والوعيد قد يخلف؛ لأنه قد يهدي الله من توعده وأنذره، فيتوب ويئوب فيغفر له، وقد يكون موحداً فيعود إلى الله ويغفر له كذلك، وفي لغة العرب وفي سجاياها: أن الوعد للخير لا يخلف، وإخلافه قلة مروءة، وأن الوعيد بالشر يخلف، وإخلاف الوعيد مكرمة ونبل وإحسان، ولذلك يقول شاعر العرب:
وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
أي: إذا أوعدت إنساناً بالشر أو وعدته بالخير فإني مخلف إيعادي له بتهديده والشر له، أخلفه نبلاً وكرماً.
وموف بموعدي، أي: وعدي له بالخير، والقرآن نزل بلغة العرب، وهنا قال الله: وعد ولم يقل: وعيده، وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أي: لن يخلف الله وعده بنصرة المؤمنين، ولن يخلف الله وعده بالمغفرة والرحمة لهم، ولن يخلف الله وعده برحمته للكافرين بأن يمهلهم ويملي لهم؛ علهم يعودون ويتوبون، وإن لم يفعلوا فإنه يخرج من أصلابهم مؤمنين.
وهكذا قال ربنا عن نبينا عندما أرسله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] وفي الحديث القدسي: (غلبت رحمتي غضبي) وهي أول ما كتب في اللوح المحفوظ، ومن رحمته حتى بالكافرين أنه يملي لهم ويمهلهم؛ ليعطيهم فرصة للتوبة وللأوبة، أو فرصة بأن يلدوا فيكون من أصلابهم المؤمنون.
قال تعالى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].
أي: يوم القيامة، فيوم من أيام يوم القيامة كألف سنة من عدد سنوات الأرض، فاليوم يطول والأيام تختلف بحسب الشروق والغروب، ويوم القيامة لا شمس فيه ولا زمهرير، ولا حر ولا قر.
قال تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119].
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة الحج [1-4] | 2558 استماع |
تفسير سورة الحج [8-16] | 2152 استماع |
تفسير سورة الحج [23-25] | 1990 استماع |
تفسير سورة الحج [58-60] | 1889 استماع |
تفسير سورة الحج [27-28] | 1865 استماع |
تفسير سورة الحج [61-63] | 1849 استماع |
تفسير سورة الحج [32-35] | 1646 استماع |
تفسير سورة الحج [26-28] | 1626 استماع |
تفسير سورة الحج [66-72] | 1565 استماع |
تفسير سورة الحج [73-78] | 1523 استماع |