خطب ومحاضرات
تفسير سورة الأنبياء [1-2]
الحلقة مفرغة
سورة الأنبياء عدد آياتها 112 آية، وهي من أوائل السور التي نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام.
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: الإسراء والكهف ومريم وطه والأنبياء هي من قدامى السور وأوائلها، يعني: من قدامى السور التي نزلت في أول الإسلام وصدره في مكة المكرمة.
وكل هذه السور قد مضت مفسرة مبينة موضحة، وكلها مما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض المطهرة المقدسة، وفي هذه البقعة التي هي أشرف بقاع الأرض على الإطلاق والشمول والاستغراق.
ثم قال شاكراً لربه، متفاخراً بذلك، معدداً نعم الله عليه فقال: وهي من تلادي.
أي: من السور القديمة التي حفظتها وعلمت معانيها وأحكامها عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وأخذت منه تأويلها وتفسيرها.
قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1].
تكلمنا عن البسملة كثيراً في أوائل السور، وندخل الآن للموضوع رأساً فنقول: قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1].
استضاف سعد بن أبي وقاص استضاف رجلاً من العرب فأكرمه، ثم عرفه برسول الله عليه الصلاة والسلام ليؤمن به، واستقطع رسول الله أرضاً ووادياً، فجاء هذا الضيف إلى سعد ، وقال: لقد أقطعني رسول الله أرضاً من وصفها ونعتها كذا وكذا، أريد أن أقطعك منها قطعة، قال: لا تفعل، ولا حاجة لي بها، فقد نزلت اليوم سورة ذهلت لها عقولنا، وكرهنا لها الحياة، وقد انتهت وقربت الساعة، قال: ما هي؟ قال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1].
هذه السورة ابتدأت بالكلام عن الساعة، وانتهت بالكلام عن قصص الأنبياء وما فيها من عبر وعظات تنذر الكافر وتبشر المؤمن.
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1] أي: اقتربت الساعة وقرب وقتها وزمنها، (اقترب للناس) أي: اقترب من الناس، فاللام هنا بمعنى: من.
والمعنى آن الأوان، وأصبحت الساعة قريبة، لأن الحساب لا يكون إلا يوم القيامة.
وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، هذه الواو يقال لها: واو الحال، أي: حال كونهم معرضين عنها وعن أهوالها وعن عذابها وعن اليوم الذي هو كألف سنة مما تعدون، الناجي من المعروضين على الله لا يكاد ينجو حتى يصل إلى ما لا تطيقه نفس بشرية، ولو كانت الدنيا لا تزال لمات موتات قبل أن يعلم النتيجة، وأنه من الذين رضي الله عنهم وسيدخلون الجنة.
في هذا اليوم يشيب الرضيع، ويشتد البلاء على الناس، ويشتد العرق حتى يغرقوا في عرقهم، والبعض للركبة، والبعض للسرة، والبعض للثديين.
ومن هنا كانت مزية في هذا اليوم للمؤذنين، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون يوم القيامة أطول الناس أعناقاً)، ومن لم يفهم ذلك لا يفهم الحديث، وما الجَمال في طول العنق أكثر من اللازم؟! فهنا يوم العرض على الله، يوم الشدة والكرب، من كان طويل العنق كما ذكره الله على المؤذنين، مهما غمر في العرق وفي المحنة والعذاب تبقى حواسه في منجاة من ذلك؛ العينان والأذنان والمنخران والفم.
وقيامة كل إنسان موته، فهو بموته تكون قد انطوت صحيفته في الدنيا، ويبتدئ حسابه في القبر، يسأله الملكان: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فإن أجاب بما نجح به وفاز يريه عن يمينه ويقول له: هذا مكانك من الجنة، فيرى بعينه ما لا يحده البصر من أنواع النعيم بما تقر به عينه، وتلذ به نفسه، ويعيش بهذا النعيم ممتع الروح والنفس إلى البعث، ثم يقول له: انظر يسارك، هذا مكانك من النار فيما لو لم تكن جئت مؤمناً موحداً تائباً، فيزداد حمداً لله على أن أنجاه من النار، وأنقذه منها، والعكس بالعكس، يُرى ما على يساره للكافر وللعاصي فيزاد عذاباً في نفسه وروحه، ويزداد حسرة عندما يقال له: انظر على يمينك، لو أحسنت الجواب وعشت مؤمناً في دنياك أين كان سيكون مكانك ومقامك.
والرسالة المحمدية نفسها هي العلامة الأولى على قرب الساعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (بعثت والساعة كهاتين: وأشار بالسبابة والوسطى) أي: ما بين القيامة وبين ما مضى كقدر ما بين السبابة والوسطى، ولكننا لا نعلم كم مضى لنعلم ما يأتي.
ومن هنا بقي يوم القيامة مجهولاً عند الخلق، فلا يعرفه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وفي حديث جبريل الذي جاء فيه نبي الله عليه الصلاة والسلام يسأله، كان فيما سأله: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، ثم أخذ يذكر علاماتها.
ولها علامات صغرى وكبرى، وتكاد العلامات الصغرى كلها تكون قد مضت، ونحن ننتظر العلامات الكبرى، وهي من الهول بمكان، ومن الفتنة والبلاء بمكان، أنقذنا الله من فتنها وبلائها.
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1] أي: حال كونهم معرضين غافلين عما يجب أن يكون عليهم من تقى، ومن تجديد توبة، ومن إيمان بالله وبرسله، ومن عمل بما جاء في كتب الله، وعن رسول الله بياناً وتفسيراً وشرحاً، فالله ينزل هذا على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، ثم هو تنبيه لأتباعه من المؤمنين ليتعظوا ويبتعدوا عن الإعراض والغفلة، وقليل من يفعل ذلك.
قال تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2] الذكر هنا قد يكون القرآن، وقد يكون محمداً عليه الصلاة والسلام.
وعلى أي اعتبار إذا كان الذكر هو القرآن فالقرآن الذي نزل عليه ونطق به هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وإن كان الذكر نبينا عليه الصلاة والسلام فالمعنى واحد.
فهو الذي ذكّرنا وذكّر الأمم معنا والخلائق إلى يوم القيامة، فوعظهم، وأنذرهم، وبشرهم، وبين لهم ما ينفعهم مما يضرهم، ولم يذهب إلى الرفيق الأعلى حتى لم يترك شاذة ولا فاذة إلا بينها لأصحابه ليبينوها لمن يأتي بعدهم، كما في الحديث: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم)، وفي الحديث الآخر: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها).
فالإسلام بلغه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى أمته من الصحابة المهاجرين والأنصار، وهم بلغوا من بعدهم من التابعين، والتابعون بلغوا تابعي التابعين، وهكذا حدث في مشارق الأرض ومغاربها، الآباء والأجداد نقلوا إلينا هذا الكتاب الذي حفظ في الصدور.
وليس هناك كتاب في الأرض -بما فيها التوراة والإنجيل- نقل هذا النقل المتواتر المستفيض المطبق عليه إلا القرآن، وليقرأ اليهودي من التوراة ويمكن أن يحرف زيادة على التحريف الماضي، ولا يجد من يقول له من قومه وجماعته وأحباره: أخطأت، قدمت أو أخرت! وقل مثل ذلك على النصراني في إنجيله.
أما القرآن فرغم تقصير الناس اليوم في حفظه ووعيه لا يكاد يتلو تال، أو يقرأ قارئ آية من كتاب الله فيغلط في حركة إلا ويجد الناس منبهين له، مرشدين له، داليه على أنه أخطأ، ومن هنا كان تمام الحفظ للقرآن: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء:2].
إن كان وصف الحدوث للنبي صلى الله عليه وسلم فالأمر واضح، فهو قد حدث ولم يكن صلى الله عليه وعلى آله موجوداً، وإن كان وصف الحدوث للذكر -أي: القرآن- فليس معناه الخلق، ولكن معناه التجديد، فالقرآن ليس بحادث ولا مخلوق؛ لأن القرآن كلام الله، ولا يليق أن يوصف القديم بحادث، فيكون ذلك شركاً، ويكون ذلك فساداً في العقيدة والتوحيد، وإن كنت أميل أن الذكر هو النبي عليه الصلاة والسلام كما سيأتي في الآيتين بعد.
( وما يأتيهم ) أي: العباد: مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ [الأنبياء:2] والنبي صلى الله عليه وسلم جاء عن الله متكلماً، لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فالسنة المبينة المفسرة الشارحة لكتاب الله هي أيضاً وحي من وحي الله.
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء:2]، أي: جديد، والقرآن كان ينزل منجماً، وقد نزل دفعه واحدة في ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا، ثم كان ينزل به جبريل على قلب النبي عليه الصلاة والسلام منجماً، وقتاً بعد وقت، وزمناً بعد زمن، حسب الحاجة إلى ذلك، وكانت أول آية في غار حراء، عندما جاءه وقال له: اقرأ.. إلى أن قال له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] إلى آخر الآيات.
ثم أنزل قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام بشهرين أو ثلاثة في حجة الوداع قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] وكانت المسافة بين أول آية من القرآن وآخر آية من القرآن ما يزيد على عشرين عاماً، فهذا الذي ينزل آية بعد آية ما جاء منه متأخراً يكون جديداً بالنسبة لما جاء متقدماً، وكان أشد الآي في النزول هذه الآية المتممة، الخاتمة المنهية، وكان أقدمها في النزول: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، فمحدث هنا بمعنى: الجديد، لا بمعنى الحدوث والخلق، والمعنى: ما يأتي العباد من ذكر من ربهم جديد إلا استمعوه وهم يلعبون.
وهكذا قيلت هذه وقت النزول على نبينا عليه الصلاة والسلام، وأعرضت قريش، ثم أعرض العرب، وبعد ذلك أخذ الله يكرم من أكرمه بهدايته فآمن، ومن كفر منهم: إما ذهب في حال كفره، أو أصر وشرد وعذب، وإلى اليوم ولا يزال الكفار أكثر سكان الأرض، بل ولا يزال كثير من المؤمنين معرضاً، يستمع كتاب الله وسنة نبيه وهو يتلاعب، تقول له: قال الله، فيقول لك: وماذا أيضاً؟ تقول: قال رسول الله، فيقول لك: قال فلان.. قال فلان.. فيذكر أسماء قذرة نصرانية ويهودية ومنافقة، تقول له: أقول لك: قال الله وتأتيني بهذه الأسماء؟ فيهز كتفه، وكأن الأمر لا يعنيه وهو متلاعب!
وهذه هي الردة الجديدة التي قال عنها بعض العلماء المعاصرين: ردة ولا أبا بكر لها، الردة الأولى وجدت في عهد أبي بكر فزجر وأدب وسل سيفه إلى أن ردع أهلها وأصحابها، فأعاد للحق من أعاد، ودفن في التراب من سبقت عليه الضلالة في علم الله.
ونحن اليوم نعيش في ردة جديدة، تحتاج إلى أبي بكر جديد، والله آت به، فنحن على رأس القرن الذي يقول عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) فبيننا وبين أصل القرن عامان، مع تمام هذا العام وهذه السنة.
قال تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:2] أنصتوا إليه غير موقنين ولا عازمين على العمل، ولا مشمرين الأيدي للعبادة والطاعة، ولتحليل الحلال وتحريم الحرام، والتزام ما أمر الله بفعله، وترك ما نهى الله عنه.
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة الأنبياء [89-97] | 2305 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [76-79] | 2137 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [57-64] | 2051 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [48-56] | 1993 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [81-85] | 1684 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [30-35] | 1612 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [70-75] | 1608 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [5-9] | 1588 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [96-104] | 1558 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [78-80] | 1546 استماع |