تفسير سورة طه [15-22]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:15].

لا نزال مع ربنا جل جلاله وهو يكلم موسى عند جانب الطور الأيمن، ووصلنا إلى قوله: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه:15] فنقول: مما أتى به الأنبياء جميعاً ولم يختلفوا فيه، بل كان دينهم في ذلك واحداً: عبوديتهم لله وحده ووحدانيته وألوهيته والصلاة، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ولاشك.

وقوله: أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه:15].

أكاد: من أفعال المقاربة، أي: يكاد يخفيها جل جلاله حتى لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهكذا حدث؛ (ثقلت في السموات والأرض لا يعلمها إلا هو) وكان هذا ما أنزل إلى موسى وما أنزل إلى من قبله، وهو كذلك ما حدث مع نبينا عليه الصلاة والسلام عندما جاءه جبريل في صورة رجل فسأله: (متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: لست أعلمها كما أنك لا تعلمها، ولا جديد عندي عليها كما لا جديد لك عنها إلا معرفة أماراتها.

يقول هنا جل جلاله في مكالمته لموسى : إَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ [طه:15] أي: مقبلة لاشك فيها ولا ريب.

أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه:15].

أي: تكاد أن تخفى على القريب والبعيد، ولا يعرفها أحد قبل ولا بعد.

وقرأ سعيد بن جبير : (أكاد أَخْفيها) أي: أظهرها، أي: آن أوانها وقرب زمانها بالنسبة لما مضى قبل، وقد جاء نبينا عليه الصلاة والسلام وكان من علامات الساعة فقال: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، فكان أقرب إلى الساعة وقيامها من السبابة إلى الوسطى، ولكن ما بقي من السنين لا يعلمه إلا الله، وسيبقى ذلك غيباً على كل الخلق.

إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:15].

فالله جل جلاله قضى بقيام الساعة وبالبعث بعد الموت؛ لتجزى كل نفس بما صنعت، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فيوم القيامة هو يوم الحكومة الكبرى والعرض على الله لأجل الحساب على كل ما صنعت يد الإنسان من خير أو شر، وذلك هو يوم العدل الأكبر، يوم معرفة الحق الأكبر، يوم مجازاة كل إنسان على عمله، إن خيراً فله الجنة، وإن شراً فله النار.

ثم قال تعالى: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:16].

الخطاب للنبي موسى عليه السلام وهو خطاب للمؤمنين من أشياعه وأنصاره.

قوله: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا [طه:16].

أي: فإياك يا هذا المؤمن أن يصدك عنها صاد، وأن يردعك عنها رادع، أو يبعدك عنها مبعد كي لا تؤمن بوقوعها، ولا بإتيانها، بل آمن بها وبمجيئها، وإياك أن تفعل كما يفعل الكفرة الجاحدون.

وقوله: مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا [طه:16]:

أي: من لا يؤمن بيوم القيامة، ولا يؤمن بالبعث بعد الموت.

وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:16].

أي: اتبع أهواءه، واتبع وساوسه، واتبع فساده، فلم يؤمن بالأنبياء ولا بالكتب المنزلة عليهم، فصدوا عن الحق، وابتعدوا عنه، فإن أنت فعلت ترد فتهلك وتخسر وتكون من أصحاب النار.

قال تعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17].

المكالمة بين الله وبين عبده ورسوله موسى كانت طويلة، وفيها ذكر الأحكام والتوحيد والعبادة والحض على الطاعة وغيرها من علم يوم القيامة وأنه آت لا محالة، وفيها هذه الفقرة: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17].

وهي مؤانسة من الله لنبيه موسى، ثم هي من المعجزات التي سيبعث بها إلى فرعون وهامان وقارون وبني إسرائيل، فابتدأ يسأله ويستفهمه استفهاماً تقريرياً: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17].

أي: ما التي تحمل يدك اليمنى؟ وكان يعلم أن موسى يعلم أنه يحمل عصا، ولكنه يريد منه أن يتأكد بأن هذه عصاً وبأنها جماد لا يتحرك، ولكنها بتلك الحالة ستنقلب إلى حية تسعى معجزة كبرى له مع فرعون، ولذا قال: قَالَ هِيَ عَصَايَ [طه:18].

والله يريد منه أن يقر بأنها عصاً وأنها ليست حية، وبأنها ليست شيئاً زائداً عن كونها جماداً لا يتحرك ولا روح فيه، ليعلم موسى أنها معجزته، وأنها الخارقة للعادة، وأنه بها سيرسل إلى فرعون.

قال تعالى: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:18].

كان السؤال: ما هي هذه؟ وكان يكفي أن يقول: هي عصاي. أي: هي عصا أملكها وليست عارية، ولكن موسى كان حريصاً على إطالة مكالمة ربه والبسط معه فلم يكتف بقوله: إنها عصاً، بل أخذ يقص على ربه جل جلاله فوائدها وما يصنع بها فقال: هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:18].

ومن هنا نعلم أن المسئول إذا أجاب أحياناً عن أكثر مما سئل عنه سواء كان تلميذاً، أو معلماً متبوعاً، وأن ذلك إن كان لحكمة ولسبب وعلة، فلا مانع منه.

قوله: أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا [طه:18].

الاتكاء: الاعتماد، بمعنى: أنه يعتمد عليها في سفره، وفي سيره، وفي أعماله، ويتخذها رجلاً ثالثة يستعين بها على السير، ويستعين بها على الإسراع، ويستعين بها على الحركة.

أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي [طه:18].

ومن المعلوم أن موسى آجره شعيب على مصاهرته بأن يرعى له شياهاً ثمان سنوات، وإن أتم عشراً فبفضل منه، فكان يهش بها على الغنم، والهش على الغنم أن يأتي إلى الأشجار عندما تيبس أوراقها فيضرب الغصن ضرباً خفيفاً لتتحات تلك الأوراق وتسقط للغنم فترعاها في وقت القحط والجدب.

وهذه العصا كانت ذات لسانين وكان لها تعكيف يعتمد عليها، وكانت تصلح له حيث قال بعد ذلك: وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:18].

مآرب: جمع مأرب، أي: أشغال وأعمال أخرى، ومنها: أنه يحملها على عاتقه، ويضع القفة عند تعكيفها ولسانيها كما يفعل الناس ذلك عادة، ويضربها في الأرض ويضرب عليها خيمة من هنا ومن هنا، فيستظل بها من حر الشمس ووهجها، ويستعين بها على الدفاع والكفاح إن خرج له عدو إنسي أو حيواني، فيضربه بها، فينتصر بها عليه.

والمآرب لا تقف ولا تنتهي، وهناك روايات إسرائيلية أنها كانت تضيء، وكانت تكلمه، وكانت وكانت، وهذه أشياء لم يأت وقتها بعد، وموسى لم يرسل بعد، ولم ير معجزة بعد، ولو كان معتاداً ذلك من عصاه لما خاف منها عندما انقلبت حية، ولما ولى هارباً.

قال تعالى: قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى [طه:19].

قال الله له ذلك ليريه المعجزة، وليريه هذه العصا وما يمكن أن تصنع.

فَأَلْقَاهَا [طه:20].

يظهر هنا أنها كانت في يده، فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [طه:20] أي: ما كاد يلقيها حتى انقلبت حية ساعية، تلتقم الحجارة وتلتقم ما تجده في طريقها، وفي بعض الآيات أنها انقلبت ثعباناً، والثعبان أعظم ما يكون، فهي ابتدأت صغيرة وتمت كبيرة، وإذا بموسى يخاف ويفر، فناداه ربه: قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى [طه:21].

أي: خذها يا موسى من غير خوف، وستعود عصاً كما كانت، وهكذا مد يده عليها وهي ثعبان يكاد يفترس كل ما يجد في طريقه، فما كاد يضع يده على خياشيمه حتى عاد المعقف الذي كان يعتمد عليه كما هو عصاً، فالله يصنع ما يشاء، وهو القادر على كل شيء.

وسيرتها الأولى كونها كانت عصاً، فانقلبت حية، فعادت عصاً.

ثم قال تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى [طه:22].

وجناحا الإنسان ما تحت إبطه إلى جانبه الأيمن كله وإلى الجانب الأيسر، فالجناحان هما الجانبان، أي: مكان الجناحين من الطائر.

(واضمم يدك) أي: مد يدك إلى جناحك، وقال في آية أخرى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل:12] أي: في شق ثوبك من الجناح إلى الجانب.

فوضع يده وسحبها وإذا هي كالشمس في رابعة النهار ضياءً ونوراً تأخذ بالأبصار، وقد قال الله له: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [طه:22] أي: من غير برص ولا مرض، ولكنها معجزة من المعجزات.

فخرجت كأنها الكوكب الدري يضيء في الظلام الحالك، وينير في الظلمات من غير سوء ولا مرض ولا عيب.

قوله: آيَةً أُخْرَى [طه:22].

أي: معجزة وعلامة أخرى على صدقك مع فرعون، وكانت العلامة الأولى هي العصا التي تنقلب حية، وكانت العلامة الثانية والآية الثانية يده نفسها عندما يضمها إلى جانبه وإلى جناحه فتخرج بيضاء من غير سوء ولا علة، ولا مرض ولا عيب.