خطب ومحاضرات
الإيمان والكفر [20]
الحلقة مفرغة
نخوض الآن في قضية الحكم بما أنزل الله أو قضية الحاكمية، وسبق أن ذكرنا أن لقضية الحاكمية صلة وثيقة بالتوحيد بنوعيه: العلمي الخبري، والعملي التشريعي العبادي، وسوّى الله تبارك وتعالى بين الشرك في العبادة والشرك في الحاكمية، فقال عز وجل: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26]، (لا) هنا النافية، وفي قراءة ابن عامر من القراء السبعة: ((ولا تشرك في حكمه أحداً))، على أنها (لا) الناهية، أي: لا تشرك يا نبي الله، أو لا تشرك يا أيها المخاطب في حكم الله تبارك وتعالى أحداً، هذا في الحكم، كذلك قال في العبادة: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، فالأمران كلاهما سواء؛ شرك بالله العظيم في قضية الحاكمية والعبادة.
الفرق بين كفر العين وكفر النوع
وكما أشرنا من قبل نحن نفرق في قضية التكفير بين النوع وبين العين. أما كفر النوع: فهو الحكم على الفعل في ذاته، وما ينبغي أن يعتقده كل مسلم في هذا الموضوع الذي نتناوله. أما الحكم على الشخص الذي قام بهذا الفعل، هل هو كافر أم غير كافر؟ فهذه إلى حد بعيد قضية تتعلق بإجراءات من المفروض أن يتخذها القضاء الشرعي إن وجد، أما إن لم يوجد قضاء الشرعي فيكل الإنسان الأمر إلى أهل العلم ليقولوا فيه قولتهم، ولا يجترئ على الكلام من عند نفسه حتى لا يقع تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، فإذا دفع الرجل الحكم في الكفر عمن يعتقد هو في نفسه أنه مسلم، وأنه مبرأ من الكفر، ولو أخطأ في هذا الأمر الذي فعله ذاباً عن عرض أخيه المسلم، فإنه يثاب في ذلك حتى ولو لم يصادف الحق، ولم يوافق الصدق في هذه الجزئية، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -وكما سننقله عنه إن شاء الله فيما بعد بالتفصيل- فمن اجتهد في دفع الحكم بالكفر على من يحسن به الظن من المسلمين؛ فإنه يثاب على ذلك ولا يؤثم فضلاً عن أن يكفر، تطبيقاً للقاعدة التي يساء فهمها، وبالتالي يساء تطبيقها: من لم يكفر الكافر فهو الكافر. من لم يكفر الكافر: إذا كان رضاً بكفره، أو من لم يكفر الكافر الذي قام دليل قطعي على كفره مثل فرعون أو أبا لهب، أو اليهود والنصارى وهكذا.
أما من اختلف العلماء في كفره مثلاً كتارك الصلاة، هل العلماء الذين لا يكفرون تارك الصلاة يعتبرون في نظر العلماء الذين يكفرون تارك الصلاة كسلاً.. هل يقولون لهم: من لم يكفر تارك الصلاة فهو كافر؟ هل الإمام أحمد يكفر الشافعي وأبا حنيفة ومالك وغيرهم من الأئمة الذين لا يكفرون تارك الصلاة كسلاً؟ إن هذا فتح لباب عظيم من الفوضى، والاعتداء على حرمات الله تبارك وتعالى، ففي موارد الاجتهاد، أو في المواضيع الإجرائية هذه الخلاف فيها أمر له شأن آخر سنتكلم عليه بالتفصيل في قضية العذر بالجهل إن شاء الله.
علاقة الحاكمية بالتوحيد
الأدلة على قضية الحاكمية
وجه اقتران صفة إفراد الله بالحاكمية بصفات الرب تبارك وتعالى
وجوب الكفر بالطاغوت
قال الله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة:37]، ورأس الطاغوت هو الشيطان؛ لأن كل معصية تقع في الوجود إنما تكون بتحريض هذا الشيطان وباتباع أوامره وأوليائه، فهو شرط في صحة الإيمان، كما يقول عز وجل: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256]، العروة الوثقى هي: لا إله إلا الله، والطاغوت مشتقة من مادة طغى من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11]، فالطغيان فيه مجاوزة الحد، لأن من أطاعه في هذا الشرك وهذا الكفر قد طغى، وجاوز به حده بصفته مخلوقاً مربوباً لله إلى أن اتخذه إلهاً من دون الله، فهذا هو معنى الطاغوت.
فيفهم من هذه الآية: كفر من لم يكفر بالطاغوت، فينبغي أن يعتقد كل مسلم بقلبه بطلان هذه القوانين، وفي أن هذا كفر ومعاندة ومضادة لتشريع الله تبارك وتعالى.
ويقول عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:60]، يقول أيضاً عز وجل: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
أيضاً أوضح الله تبارك وتعالى في آيات كثيرة حال الذين يكرهون ما أنزل الله عز وجل، فقال تبارك وتعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ [الشورى:13]، وهذا واضح من حال العلمانيين أعداء الشريعة في كل بلاد الدنيا، فهم يكبر عليهم ويشق عليهم ما تدعوهم إليه من تحكيم شريعة الله عز وجل.
ويقول تبارك وتعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ [يونس:71]، وقال أيضاً: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [نوح:7]، فانظر إلى شدة بغض الكفار لما كان يدعوهم إليه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام (( وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ ))، وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25]، أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27]، فنوح عليه السلام يدعوهم ليغفر لهم وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [نوح:7].
أيضاً يقول تبارك وتعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [الحج:72]، وقال عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، شوشوا عليه والغوا فيه، لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78]، وقال عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9]، وقال تبارك وتعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:6])) * وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية:7] * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الجاثية:8]، وقال تبارك وتعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت:5]، وقال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد:25] * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:26]، فعلى كل مسلم أن يتدبر هذه الآيات، وأن يحذر حذراً كاملاً مما تضمنته من الوعيد الشديد؛ لأن كثيراً من الناس في هذا الزمان بلا شك وأولهم العلمانيون أعداء دين الله وأعداء رسل الله، وأعداء شريعة الله في كل البلاد داخلون في هذا الوعيد؛ لأنهم يكرهون ما أنزل الله، وهذا حالهم مع شريعة الله تبارك وتعالى، فكل من قال لمن يشرعون تشريعاً مخالفاً لدين الله: سنطيعكم في بعض الأمر، فهو داخل في هذه الآيات، فأولى ثم أولى من يقول: سنطيعكم في كل الأمر، كالذين يتعبون القوانين الوضعية مطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزل الله، فهؤلاء يبشرون -والعياذ بالله- بسوء الخاتمة، وأنهم إذا أتتهم الملائكة عند خروج أرواحهم يضربون، فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [محمد:27]؛ لأنهم اتبعوا ما أسخط الله، وكرهوا رضوانه، فأحبط الله تبارك وتعالى أعمالهم.
جواز اتخاذ القوانين الإدارية التنظيمية التي لا تخالف الشريعة
ينبغي أن نفرق هنا بين أمرين: فالنظام والتشريع قسمان: قسم إداري وآخر شرعي، أما النظام الإداري فهو الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع، مثل نظم العمل ونظم المرور، والقوانين التي أولاً: لا تصطدم مع الشرع في شيء. ثانياً: تحقق مناط الشريعة الإسلامية، وتتلائم مع المصالح التي شرعتها وثالثاً: تعين على ضبط الأمور وإتقانها، فهذا لا يعد من التشريع أو الحكم بغير ما أنزل الله، كما فعل أمير المؤمنين عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه فقد استحدث نظماً إدارية كثيرة في خلافته لم تكن موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذا تأملنا ما حصل في غزوة تبوك لما تخلف كعب بن مالك وصاحبيه، فلم يكن عندهم قوائم تضبط أسماء الجنود حتى يعلم من حضر ومن غاب، فما علم بتخلف كعب بن مالك إلا بعد أن وصل تبوك، لكن في عهد عمر وجد ديوان الجند، وفيه ضبط وإثبات للجنود.. إلى آخره.
أيضاً اشترى عمر رضي الله عنه دار صفوان بن أمية وجعلها سجناً في مكة المكرمة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجناً ولا أبو بكر رضي الله عنه.
أي أن الأمور الإدارية التي تفعل من أجل أن تتقن الأمور ولا تخالف الشريعة، فلا بأس بتنظيم شئون الموظفين، وإدارة الأعمال على وجوه لا تخالف الشريعة، وتقع تحت قواعد الشريعة التي تراعي المصالح العامة للمسلمين، أما النظام الشرعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بالله عز وجل فهو النظام المخالف لتشريع خالق السموات والأرض، فهذا تحكيمه كفر بخالق السموات والأرض؛ كدعوى: أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف. هذا كفر بواح يخرج من الملة تماماً، فمن يصف حكم الله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] بأنه غير عدل، وأنه لا يناسب العصر، أو أن هذا فيه هضم لحقوق المرأة، أو إلى آخر هذه الدعاوى الشيطانية، فهذا لا شك في كفر القائل به.
أيضاً دعوى أن تعدد الزوجات ظلم، أو انتقاد حكم الله تبارك وتعالى في إباحة تعدد الزوجات، فهذا أيضاً كفر بالله العظيم. دعوى أن الطلاق ظلم للمرأة، أو أن الرجم -للزاني المحصن- وقطع يد السارق، هذه أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان، فمن هذه هي نظرته إلى شريعة الله في نفوس الناس وأموالهم، وأعراضهم وأنسابهم وعصورهم وأديانهم، هذا كفر بخالق السموات والأرض، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها، وهو أعلم بما يصلحها سبحانه وتعالى أن يكون من دونه مشرع آخر، فهذه بعض المقدمات فيما يتعلق بقضية الحكم بما أنزل الله تبارك وتعالى.
وكما أشرنا من قبل نحن نفرق في قضية التكفير بين النوع وبين العين. أما كفر النوع: فهو الحكم على الفعل في ذاته، وما ينبغي أن يعتقده كل مسلم في هذا الموضوع الذي نتناوله. أما الحكم على الشخص الذي قام بهذا الفعل، هل هو كافر أم غير كافر؟ فهذه إلى حد بعيد قضية تتعلق بإجراءات من المفروض أن يتخذها القضاء الشرعي إن وجد، أما إن لم يوجد قضاء الشرعي فيكل الإنسان الأمر إلى أهل العلم ليقولوا فيه قولتهم، ولا يجترئ على الكلام من عند نفسه حتى لا يقع تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، فإذا دفع الرجل الحكم في الكفر عمن يعتقد هو في نفسه أنه مسلم، وأنه مبرأ من الكفر، ولو أخطأ في هذا الأمر الذي فعله ذاباً عن عرض أخيه المسلم، فإنه يثاب في ذلك حتى ولو لم يصادف الحق، ولم يوافق الصدق في هذه الجزئية، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -وكما سننقله عنه إن شاء الله فيما بعد بالتفصيل- فمن اجتهد في دفع الحكم بالكفر على من يحسن به الظن من المسلمين؛ فإنه يثاب على ذلك ولا يؤثم فضلاً عن أن يكفر، تطبيقاً للقاعدة التي يساء فهمها، وبالتالي يساء تطبيقها: من لم يكفر الكافر فهو الكافر. من لم يكفر الكافر: إذا كان رضاً بكفره، أو من لم يكفر الكافر الذي قام دليل قطعي على كفره مثل فرعون أو أبا لهب، أو اليهود والنصارى وهكذا.
أما من اختلف العلماء في كفره مثلاً كتارك الصلاة، هل العلماء الذين لا يكفرون تارك الصلاة يعتبرون في نظر العلماء الذين يكفرون تارك الصلاة كسلاً.. هل يقولون لهم: من لم يكفر تارك الصلاة فهو كافر؟ هل الإمام أحمد يكفر الشافعي وأبا حنيفة ومالك وغيرهم من الأئمة الذين لا يكفرون تارك الصلاة كسلاً؟ إن هذا فتح لباب عظيم من الفوضى، والاعتداء على حرمات الله تبارك وتعالى، ففي موارد الاجتهاد، أو في المواضيع الإجرائية هذه الخلاف فيها أمر له شأن آخر سنتكلم عليه بالتفصيل في قضية العذر بالجهل إن شاء الله.
إن الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده فهو أن ينكر هذه المنكرات، وأن يصحح عقيدته في هذه القضايا، ويعلم الحق فيها من الباطل، فقضية الحكم بما أنزل الله من القضايا التي تمس العقيدة من حيث إنها ركن من أركان قضية التوحيد، ولا نقول: إنها كل قضية التوحيد، بحيث نحصر معنى العبادة في قضية الحاكمية كما يحصل من كثير من الاتجاهات الإسلامية، خاصة ممن تأثروا بكتابات بعض الأفراد من المتأخرين الذين وضعوا على أعينهم منظاراً اسمه الحاكمية، ونظروا من خلال الحاكمية إلى كل نصوص القرآن وكل قضايا الإسلام، وبالتالي أهملوا كثيراً من القضايا الحيوية التي تمس العقيدة، وكثيراً جداً من قضايا التوحيد المهمة في بنية المسلم. إن منهج النظر من خلال منظار الحاكمية له اتجاهات شتى بين الجماعات الإسلامية، وبالذات عند الشيخ سيد قطب رحمه الله، وعند المودودي اللذين كان لبعض كتابتهما أثر كبير في أن أساء كثير من الشباب فهم كلامهما، فبالتالي وضعوا من هذه المواضع التي فيها نظر أسساً وأصلوا أصولاً وقواعد قد يكون فيه شيء من النظر. فنحن نركز على بيان قضية الحاكمية كاعتقاد وتصور يجب أن يحتفظ به كل مسلم في قلبه، ويعقد عليه قلبه حتى يصحح هفوته كما يصححها في كل قضايا التوحيد، فإن الله تبارك وتعالى وصف من أشرك به في العبادة بالشرك، وكذلك من أشرك بالله في الحكم أيضاً وصفه بأنه مشرك، قال عز وجل: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26]، فالحلال حلال الله والحرام حرام الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غير الله باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه كفر بواح لا نزاع فيه، فمن قدم القوانين الوضعية أو أي تشريع يخالف شرع الله تبارك وتعالى على شرع الله، سواء اعتقد أنه مثل شرع الله أو أنهما سواء، فضلاً عن أن يعتقد أنه أفضل من شرع الله، فهذا لا نزاع في كفره وخروجه من الملة، وكل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله فقد أشرك به مع الله، وإن كان أعطاه حق التشريع فهو يقع تحت قوله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [الأنعام:137]، فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد، وقال عز وجل: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، فقد سمى الله تعالى الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله شركاء، أيضاً الشيطان سيقول للذين كانوا يشركون به في الدنيا: إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22]، وبين في نفس الآيات في سورة إبراهيم أن هذا الإشراك لم يكن زائداً على مجرد أنه أمرهم فأطاعوه: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي [إبراهيم:22].
أما الأدلة على أن لا حكم إلا لله سبحانه تعالى فهي أكثر من أن تحصر يقول تبارك وتعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [يوسف:40]، وقال عز وجل: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى:10].. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وقال أيضاً: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88]، وقال عز وجل: لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70] ، وقال عز وجل: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر:12]، وقال عز وجل: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:49-50]، وقال عز وجل: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام:114]، فبهذه النصوص يظهر غاية الظهور أن كل من يتبع القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله عز وجل على ألسنة رسله، فهذا كفر عظيم بواح ناقل عن ملة الإسلام، ولا يخالف في هذا إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي من أمثال هؤلاء. يقول الله عز وجل: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ [النحل:116] الحرام هو الذي حرمه الله، والحلال هو ما أحله الله، اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ [الأعراف:3]، ويقول عز وجل:إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105] يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26].
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الإيمان والكفر [14] | 2440 استماع |
الإيمان والكفر [27] | 2428 استماع |
الإيمان والكفر [23] | 2231 استماع |
الإيمان والكفر [5] | 2183 استماع |
الإيمان والكفر [22] | 1947 استماع |
الإيمان والكفر [16] | 1907 استماع |
الإيمان والكفر [7] | 1853 استماع |
الإيمان والكفر [10] | 1843 استماع |
الإيمان والكفر [21] | 1838 استماع |
الإيمان والكفر [1] | 1833 استماع |