تفسير سورة النبأ


الحلقة مفرغة

سورة النبأ السورة الثامنة والسبعون من سور القرآن الكريم، وتسمى: سورة عم يتساءلون، وهي مكية بالإجماع، وآيها أربعون. يقول ابن عطية : ليس فيها نسخ ولا حكم، إلا ما قاله بعض الناس في قوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً [النبأ:23] إنها منسوخة. يقول مقاتل بن حيان : الحقب: سبعة عشر ألف سنة، وهي منسوخة بقوله تعالى فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً [النبأ:30] ونحن نقول: قوله تعالى: (( لابثين فيها أحقاباً )) خبر، والخبر لا يقبل النسخ؛ لأن خبر الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يخلف، ولا يكون غير مطابق للحقيقة حتى ينسخ، فالأخبار لا يدخلها النسخ، فهذا القول إنما يحكى تنبيهاً على أنه خلاف غير معتبر، فيحكى لينبه على فساده، فهذا قول لا يصح بحال؛ لأن الأخبار لا تنسخ. قوله: (( عم )) أصلها: عن ما، ثم أدغمت النون في الميم فصارت ((عما)) في الخبر والاستفهام، ثم حذف الألف في الاستفهام فرقاً بينه وبين الخبر، وقرئ ((عم))، وقرئ (عمه) بالهاء، وهذا إنما يكون عند الوقف على ((عم))، ثم يبتدئ بقوله: ((يتساءلون)) عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النبأ:2] وجمع يتساءلون لأن ما بعده جملة صلة. وقوله تعالى: ((عم يتساءلون)) أي: هؤلاء المشركون عن أي شيء يتساءلون؟ لأن بعضهم كذب، وبعضهم قال: سحر وكهانة وجنون وغير ذلك، فكثر تساؤلهم عن حقيقة هذا القرآن. قال ابن جرير : وذلك أن قريشاً جعلت فيما ذكر عنها تختصم وتتجادل في الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار بنبوته، والتصديق بما جاء به من عند الله تعالى، والإيمان بالبعث، فقال الله سبحانه وتعالى لنبيه: ((عم يتساءلون)) أي: فيم يتساءل هؤلاء القوم ويختصمون؟ و(في) و(عن) في هذا الموضع بمعنى واحد. والتفاعل في قوله: (يتساءلون) إما على بابه أي: يسأل بعضهم بعضاً، أو أنه بمعنى: فعل يعني: سأل، وعلى الأول فالمعنى: يتساءلون فيما بينهم، وعلى الثاني فالمعنى أنهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم.

عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ [النبأ:2-5]. قوله تعالى: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ، ((عن)) هنا أيضاً بمعنى (في) أي: في النبأ العظيم يختصمون. الاستفهام هنا لتفسير الخبر عن هذا النبأ. قال ابن عباس وقتادة هو الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد وقتادة : هو القرآن خاصة بدليل قوله تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ [ص:67] أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص:68]. وعن قتادة : هو البعث من القبور، كما قال تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً [النبأ:17]. وكلها متلازمة؛ لأن من كذب بواحد منها كذب بها كلها، ومن صدق بواحد منها صدق بها كلها. قوله: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ رجح بعض المفسرين القول بأن النبأ العظيم هو البعث؛ لأنه أتى بعده بدلائل وبراهين البعث، وعقبها بيوم الفصل: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا . قوله: كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ هذا ردع للمتسائلين، والمفعول محذوف، والتكرار هنا للمبالغة في عظمته. والتقدير: سيعلمون حقيقة الحال، أو سيعلمون ما يحل بهم من العقوبات والنكال. وفي (ثم) إشعار بأن الوعيد الثاني أشد؛ أشد من الوعيد في الآية الرابعة؛ لأنها تأتي للبعد والتفاوت النسبي، ففيها ردع وزجر شديد بل أشد وأشد، فبهذا الانتظار صار كأنه مغاير لما قبله.

أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً [النبأ:6-9]. ذكرهم تعالى بدلائل قدرته وآيات رحمته فقال عز وجل: أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَاداً ، أي: فراشاً وموطئاً تفترشونها فالمهاد هو الفراش الممهد كالمهد للصبي، وكذلك الأرض، وقرئ: (مهداً). وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا أي: أرسينا الأرض بالجبال كما يرسى البيت بالأوتاد، حتى لا تميد بأهلها، وتكون الأرض مهاداً بسبب ذلك، فإنما كانت الجبال أوتاداً؛ لأن جذورها في الأرض مغروسة، ولأنها تمنع الأرض من الاضطراب كالأوتاد التي تربط بها السفن لتثبيتها. وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً أي: ذكوراً وإناثاً. أو: (وخلقناكم أزواجاً) أي: أنواعاً في ألوانكم وصوركم وألسنتكم، فيدخل في هذا كل زوج من قبيح وحسن، وطويل وقصير لتختلف الأحوال، فيقع الاعتبار فيشكر الفاضل، ويصبر المفضول. قوله تعالى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً أي: وصيرنا نومكم راحة ودعة، ليريح القوى من تعبها ويعيد إليها ما فقد منها؛ إطلاقاً للملزوم وهو السبات (الموت)، وإرادة اللازم وهو الاستراحة. وقيل: السبات هو الليل الممتد الطويل السكون، ولهذا يقال فيمن وصف بسكرة الموت: إنه مسبوت أو به سبات، فوجه الامتنان بذلك ظاهر لما فيه من المنفعة والراحة؛ لأن النوم يكسب شيئاً من الراحة.

قال تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً [النبأ:10-13]. وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً أي: كاللباس لإحاطة ظلمته بكل أحد وستره لهم، ووجه النعمة في ذلك أن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هرباً من عدو أو بياتاً له، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان اطلاع غيره عليه. قال المتنبي : وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب فالسياق في قوله الله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً سياق امتنان على الناس بهذه النعمة. ووجه النعمة هنا أن ظلام الليل ليس شراً كله كما تزعم المانوية، الذين يجعلون الظلام إله الشر، والنور إله الخير. فمن فوائد الليل أيضاً: راحة العين والبدن واستعادة القوى وغير ذلك. فقول المتنبي : (وكم لظلام الليل عندي من يد) أي: من نعمة وفضل ومنة (تخبر أن المانوية تكذب) أي: حين ينسبون كل شر إلى الليل، فهو يقول: كم لظلام الليل عندي من يد وإحسان، وهذه اليد وهذا الإحسان تخبران أن المانوية تكذب في نسبة الشر المطلق إلى الظلام. وأيضاً فكما أن الإنسان بسبب اللباس يزداد جماله، وتتكامل قوته، ويندفع عنه أذى الحر والبرد، فكذلك لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم الذي يزيد في جمال الإنسان، وفي طراوة أعضائه، وفي تكامل قواه الحسية والحركية، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني، وأذى الأفكار. وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً أي: وقت معاش إذ فيه يتقلب الخلق في حوائجهم ومشاكلهم. وقوله: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً هي على حذف مضاف، أي: وقت معاش. والمقصود بقوله: (معاشاً) أي: متصرفاً لطلب ما يعاش به من المطعم والمشرب، وغير ذلك. وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً أي: سبع سماوات (شداداً) جمع شديدة، أي: أن السماء عظيمة الخلق لا يؤثر فيها مرور الزمان. وقال بعض المفسرين: السبع الشداد الطرائق السبع، وهي ما فيها من الكواكب السبعة السيارة. وهذا الكلام فيه نظر، الكواكب السبعة تحت السماوات السبع، والله أعلم أين تنتهي السماء الدنيا. وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً أي متلألئاً وقاداً، يعني به الشمس.

قال تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً [النبأ:14-16]. وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً المعصرات هي السحائب شارفت أن تعصر بالمطر. وقيل: المعصرات هي الرياح التي تأتي بالمطر. وقيل: المراد بالمعصرات السماء. فكلمة (المعصرات) تطلق على الرياح، وعلى السحب، وعلى السماء، لكن أقربها هنا أن المراد بالمعصرات السحاب. ((مَاءً ثَجَّاجاً)) أي: منصباً متتابعاً، والثجاج: هو السريع الاندفاع كما يندفع الدم من عروق الذبيحة، وفي الحديث: (أفضل الحج العج والثج) العج: رفع الأصوات بالتلبية، والثج: هو إراقة الدماء تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى. قوله تعالى: لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً قال ابن جرير : الحب كل ما تضمنه كمام الزرع التي تحصد، والنبات الكلأ الذي يرعى من الحشيش والزروع. يقول الزمخشري : يريد ما يتقوت من نحو الحنطة والشعير، وما يعتلف من التبن والحشيش كما قال تعالى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ [طه:54]. وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً أي: حدائق ملتفة الشجر مجتمعة الأغصان. قال الرازي : قدم الحب؛ لأنه الأصل في الغذاء، وثنى بالنبات لاحتياج الحيوانات إليه، وأخر الجنات؛ لأن الحاجة إلى الفواكه ليست بضرورية. ثم قال: وكان الكعبي من القائلين بالطبائع، فاحتج بقوله تعالى: (لنخرج به حباً ونباتاً) على بطلان قول من قال: إنه تعالى لا يفعل شيئاً بواسطة شيء آخر، أي أن ارتباط المسببات بالأسباب مما بنى عليه سبحانه بحكمته الباهرة نظام العمران. على أي الأحوال هذا منهج الرازي المفسر المعروف حينما يذكر الشبهات، وهذه من عيوبه الساذجة في تفسيره أنه يذكر استدلال أهل البدع بشتى مذاهبهم وفرقهم في القرآن الكريم، حتى إذا ما بدأ يرد عليها يكون قد أنهكت قواه. إننا نحذر من القراءة في تفسير الرازي بسبب انحرافه في العقيدة، إلا لمن عنده علم ويستطيع أن يمحص هذا الفهم. عموماً الرازي من آفات تفسيره كثرة حكاية الشبهات وأقوال المنحرفين في عقائدهم وأهل البدع، وضعف الردود عليهم أحياناً.

قال تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً [النبأ:17-18]. إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (ميقاتاً) مفعالاً من الوقت، وميعاداً من الوعد. (( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ )) أي: يوم يفصل بين الناس وتميز السعداء من الأشقياء باعتبار تفاوت الأعمال، وهو يوم القيامة. (كان) أي: عند الله وفي علمه وحكمه. (ميقاتاً) أي: حداً معيناً ووقتاً مؤقتاً ينتهي الخلق إليه ليرى كل جزاء عمله. يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ (يوم) هذا بدل من يوم الفصل، أو عطف بيان، كناية عن اتصال الأرواح بالأجساد، ورجوعها إلى الحياة والحشر في الآخرة. وقال الإمام محمد عبده : النفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور، وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والصحيح أن المقصود بالصور هو القرن الذي ينفخ فيه لبعث الناس، وهو قول الجمهور. وزعم بعضهم أن الصور جمع صورة، أي يوم يرد الله فيه الأرواح إلى الأبدان، والأول أشهر وبه تظاهرت الآثار، وهو ظاهر قول الله تبارك وتعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]. (فتأتون أفواجا) الأفواج: الجماعات يتلو بعضها بعضاً، واحدها فوج، أي: فرقاً مختلفة كل فرقة مع إمامهم على حسب تباين عقائدهم وأعمالهم وتوافقها.

قال تعالى: وَفُتِحَتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً * وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً [النبأ:19-20]. وقرئ (وفتِّحت السماء) بتشديد التاء على المبالغة. قال ابن جرير : أي: وشققت السماء وصدعت فكانت طرقاً، بعد أن كانت شداداً لا فطور فيها ولا صدوع، أما في يوم القيامة فإنها تتشقق ويحصل فيها هذه الفطور كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً [الفرقان:25] فهذا الفتح هو المذكور في قوله: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1]، إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1]، بالفتح والتشقق والتفطر، وهذا كما قال ابن جرير : مثل للغاية. وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا أي: نزعت بكاملها في الهواء، وذلك إنما يكون بعد تفتيتها وجعلها أجزاء مفرقة كالهباء، وفي الآية تشبيه بليغ، والجامع أن كلاً منهما يرى على شكل شيء وليس هو به، فالسراب يرى كأنه بحر وليس كذلك، والجبال إذا فتت وارتفعت في الهواء ترى كأنها جبال وليست بجبال، بل غبار غليظ متراكم يرى من بعيد كأنه جبل، وقال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً [طه:105] *فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه:106-107] فقال تعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88].

قال تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلْطَّاغِينَ مَآباً * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً [النبأ:21-26]. قوله تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً أي: موضع رصد، ومنه قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14] أي: إن جهنم معدة مترصدة تتطلع لمن يأتي، منتظرة الجزاء والحساب، يقال: أرصده إذا تتبعه وترقبه، فكذلك جهنم فهي معدة مترقبة تتطلع لمن يأتي. و(مرصاداً) صيغة مبالغة كما تقول: معصار، أي كثير العصر. قوله: (إن جهنم كانت مرصاداً) أي: يكثر منها انتظار الكفار. وقيل: يرصد خزنتها من كان يكفر بها وبالمعاد، وهذا على أن (مرصاداً) اسم مكان، أي: الموضع الذي يرصد خزنة جهنم ويترقبون من كان يكذب بها وباليعاد. لِلْطَّاغِينَ مَآباً أي للذين طغوا في الدنيا بالظلم، أو في دينه بالكفر، فتجاوزوا حدود الله استكباراً على ربهم. فمعنى: (لِلْطَّاغِينَ مَآباً) أي: منزلاً ومرجعاً يصيرون إليه. لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا جمع حقب، والحقب هي الدهور المتتابعة إلى ما لا نهاية لها كقوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [النساء:57] وكقول متمم بن نويرة وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا ((لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً)) أي: غوثاً وراحة. وبرداً قيل: هو النوم لأنه يبرد العصب، ومن كلامهم منع البرد البرد، يعني: منع الهواء البارد النوم. قال الله تعالى: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر:36] والنوم أخو الموت، فهم أيضاً لا ينامون لأن النوم مصدر راحة فهم يمنعون من ذلك، وقيل البرد هو الهواء البارد وهو القر، وعن ابن عباس : (البرد الشراب المستلذ) يطلق عليه الشراب كما قال الشاعر: أماني من ليلى حسان كأنها سقتني بها ليلى على ظمأ بردا يعني: شراباً. منى إن تكُن حقاً تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا إِلاَّ حَمِيماً أي: إلا ماء حاراً في منتهى غليانه. وَغَسَّاقاً أي: صديداً، وهو ما يخرج من جلودهم يجتمع في حياض فيسقونه والعياذ بالله. جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26] أي: جوزوا بذلك جزاء موافقاً لما اكتسبوه من الأعمال، وقدموه من العقائد والأقوال.

قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً [النبأ:27-30]. إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً أي: يعذبون ذلك العذاب لأنهم كانوا موصوفين بهذه الرذائل، من عدم توقع المكافآت والتكذيب بالآيات، فلم يعملوا صالحاً رجاء الجزاء ولم يعلموا علماً فيصدقوا بالآيات. فقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً أي: لا يتوقعون حساباً. وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً أي: كل شيء من أعمالهم ضبطناه بالكتاب عليهم في صحائفهم وكتبهم. فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً أي: يقال لهم: ذوقوا؛ تقريعاً وتأنيباً لهم من تكثيف العذاب، وإعلاماً بمضاعفته، قال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56] وقال تعالى: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء:97] والعياذ بالله.

قال تعالى: (( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ))[النبأ:31] (( حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً ))[النبأ:32] (( وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً ))[النبأ:33] (( وَكَأْساً دِهَاقاً ))[النبأ:34] (( لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً ))[النبأ:35] (( جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً ))[النبأ:31-36]. لما ذكر عز وجل وعيد الكفار أعقبه بوعد الأبرار فقال عز وجل: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً أي: فوزاً بالنعيم، ونجاة من النار التي هي مآل الطاغين والمفاز هو موضع الفوز؛ لأنه يحجب عن النار ويدخل الجنة، وقيل للفلاة إذا قل ماؤها مفازة؛ تفاؤلاً بالخلاص منها. حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً والحدائق جمع حديقة، وهي البستان الذي فيه أنواع الشجر المثمر المحوط بالحيطان المحدقة به، والأعناب معروفة. قال ابن جرير : (وأعناباً) أي: وكروماً وأعناباً، فاستغنى بالأعناب عنها. وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً أي: نواهد لم تتدل ثديهن. (أتراباً) أي: متساويات في السن، يعني: إذا ولد مولودان في وقت واحد ومسّا التراب في وقت واحد فهنا يقال: هذا ترب فلان. وَكَأْساً دِهَاقاً أي: ملئ من خمر لذة للشاربين، والكأس الدهاق هي المترعة المتتابعة الصافية. لا يَسْمَعُونَ فِيهَا أي: في الجنة لَغْواً أي: باطلاً من القول. وَلا كِذَّاباً أي: مكاذبة يعني: لا يكذب بعضهم بعضاً. وقيل: لا يسمعون كذبا. واللغو هو فسق الكلام؛ لأن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم ولم يلغوا، بخلاف أهل الدنيا. وخمر الجنة ليس فيها غول ولا فيها ذهاب العقول كخمر الدنيا، ولذلك لا يلهون ولا يسمعون لغواً بعد ما يشربون من هذه الكئوس؛ لأنها ليست كخمر الدنيا في إذهابها العقول، فلذلك أتبع قوله عز وجل: وَكَأْساً دِهَاقاً بتنزيههم عن آثار خمر الدنيا وقال: (لا يسمعون فيها لغواً ولاكذاباً) واللغو والتكذيب من أشد الأذى لقلوب المؤمنين الصادقين، فأراد الله إزاحة ذلك عنهم. جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا أي: جزاء لهم على صالح أعمالهم تفضلاً منه تعالى بذلك الجزاء. (عطاء حساباً) بمعنى: كافياً، من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي، يقول الشاعر: ونكفي وليد الحي إن كان جائعاً ونحسبه إن كان ليس بجائع قوله: (نحسبه) أي: إن كان ليس بجائع نظل نعطيه ونعطيه حتى يقول: حسبي لا أريد المزيد. وقيل: على حسب أعمالهم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2819 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2584 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2504 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2439 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2412 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2403 استماع