نساء عدن إلى الله


الحلقة مفرغة

الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته، فيقول الله جل وعلا: أيا ملائكتي! انظروا إلى عبدي! ثار عن فراشه ووطائه ومن بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي. ورجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه، وعلم ما عليه في الانهزام، وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه، فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي! رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه).

هذا الحديث قال عنه المنذري في الترغيب والترهيب: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه من رواية ابن مسعود ، والحديث حسنه الألباني ، وقال الشيخ شاكر في تحقيق المسند: إسناده صحيح.

قوله: (عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه) (ثار) أي: نهض ووثب بعلو همته، كما قال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، والوطاء هو الفراش، واللحاف هو ما يتغطى به (من بين حبه) أي: حبيبه (إلى صلاته) أي: ينهض إلى الصلاة والتنفل والقيام لله تبارك وتعالى، (فيقول الله جل وعلا: أيا ملائكتي! انظروا إلى عبدي! ثار عن فراشه) أي: نهض وقام عن فراشه (ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقه مما عندي) أي: رغبة فيما عندي من الجنة (وشفقة مما عندي) أي: خوفاً من عذابه تبارك وتعالى.

والثاني يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (ورجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه، وعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع) أي: علم ماذا ستكون عقوبته عند الله عز وجل إن هو فر من الأعداء، وعلم -أيضاً- ما له من الثواب الجزيل إذا رجع يقاتل ويجاهد هؤلاء الأعداء، (فرجع حتى أهريق دمه) أي: فرجع يحتسب نفسه عند الله، وقاتلهم منفرداً حتى أهريق دمه، (فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي! رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه).

وهناك أحاديث أخرى في نفس معنى هذا الحديث، منها: حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم، -وذكر أولهم- رجل إذا انكشفت فئة قاتل وراءها، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا، كيف صبّر لي نفسه؟!) أي: حبس لي نفسه، فقوله: (انكشفت فئة) يعني: انهزمت في أثناء القتال، وقوله: (قاتل وراءها) أي: قاتل بنفسه منفرداً حتى يردها ابتغاء وجه الله عز وجل، (فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول -أي: يقول الله عز وجل-: (انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي نفسه؟!).

ثم قال: -(ورجل له امرأة حسنة، وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول)- أي: فيقول الله تبارك وتعالى: (يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد! ورجل كان في سفر، وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء) يعني: يذكر الله تبارك وتعالى، ويثني عليه، ويصلي له في ضراء وسراء.

هذا الحديث رواه الطبراني في الكبير وقال: إسناده حسن، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله ثقات، وحسنه الألباني .

هؤلاء الثلاثة يضحك الله إليهم، اثنان منهم قاما الليل، أحدهما قامه وسط أهله وترك زوجته الحسناء وفراشه الوثير، والآخر قامه في سفر بعد أن كابد السفر وهوله، ومن ضحك الله إليه لا يمكن أن يدعه من الإنعام والإكرام. ( فهؤلاء ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم: أحدهم الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول الله تعالى: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي نفسه! والذي له امرأة حسناء وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول الله تعالى: يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد! والذي كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء).

ومن هذا الباب -أيضاً- قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي ذر رضي الله عنه: (ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يشنؤهم الله) أي: يبغضهم الله تبارك وتعالى (الرجل يلقى العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم) والسرى هو المشي ليلاً حتى يحبوا أن يمسّوا الأرض. أي: يحبون أن يناموا على الأرض من شدة الإرهاق في السفر، قال: (فينزلون، فيتنحى أحدهم) أي أنه يشاركهم في الإرهاق والتعب وعذاب السفر، ومع ذلك إذا هجعوا وناموا فإنه يتنحى ولا ينام طمعاً فيما عند الله (فيتنحى أحدهم، فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم، والرجل يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن) والظعن هو الانتقال أو السفر ( والذين يشنؤهم: التاجر الحلاف، والفقير المختال، والبخيل المنان).

هذا الحديث عزاه السيوطي في (الجامع) للإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر ، ورواه الموطئي -أيضاً- بلفظ آخر بإسناد جيد، وقال الألباني : رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وابن المبارك وابن نصر وابن أبي شيبة والطحاوي ، وصححه الألباني .

قوله: (والذين يشنؤهم: التاجر الحلاف، والفقير المختال، والبخيل المنان) (يشنؤهم) أي: يبغضهم الله تبارك وتعالى (التاجر الحلاف) أي: الذي ينفق سلعته ويروجها بالحلف الكاذب، فيصدق الناس قوله بسبب حلفه بالله تبارك وتعالى، ويغفل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة) فالحلف قد ينفق السلعة، لكنه يمحق بركة هذا المال الذي جاء بالحلف.

وقوله في الحديث: (التاجر الحلاف) فيه ذم للشخص الذي يكثر الحلف حتى ولو كان صادقاً، وأما من يحلف أحياناً وهو صادق، وأحياناً لا يحلف فإنه لا يكون كثير الحلف، فالتاجر الذي يبالغ في الحلف ويكثر منه يبغضه الله تبارك وتعالى ولو كان صادقاً، أما إذا كان كاذباً فهو حلف يهلكه ويغمسه في النار، ومن كان صادقاً لا يخلو من الذم؛ لأنه ينبغي للإنسان أن لا يكثر من الحلف، وإنما يجعل الحلف لعظائم الأمور، أو يقلل منه بشرط أن يكون صادقاً.

وهناك أيضاً رواية ثالثة قريبة من هذه الروايات، وهي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو ذر في رواية أخرى: (ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، فأما الذين يحبهم الله: فرجل أتى قوماً فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم) أي: سألهم بالله أن يتصدقوا عليه، ومعلوم أن الإنسان إذا سئل بالله وجب عليه أن يعطي السائل، يقول عليه الصلاة والسلام: (من سألكم بالله فأعطوه)، ويقول الله سبحانه: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1] فالسائلون والناس لو عرفوا هذا لانتفعوا كثيراً، فمن سألك بالله وجب عليك أن تعطيه أيَّ شيء، ولا ترده على الإطلاق.

فهذا الرجل أتى هؤلاء القوم، وسألهم بالله ولم يسألهم لقرابة بينه وبينهم (فمنعوه) أي: فمنعوه الصدقة ولم يجيبوه (فتخلف رجل بأعقابهم) أي: تخلف في نهاية القافلة أو القوم، وكان رجلاً صادقاً في طاعته لله تبارك وتعالى، فأراد أن لا يُرى أنه تصدق (فتخلف رجل بأعقابهم، فأعطاه سراً لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه) فهذا يحبه الله (وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به وضعوا رءوسهم، فقام أحدهم يتملقني ويتلو آياتي)، فهذه فضيلة ظاهرة لقيام الليل خاصة في السفر ومع شدة المشقة (ورجل كان في سرية فلقي العدو فهزموا،فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له، والثلاثة الذين يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم).

فهذه بعض الأحاديث التي فيها الحث على طاعة الله تبارك وتعالى، والاجتهاد في ذلك مع إخلاص النية.

حث الرجل أهله ومن يعول على طاعة الله تعالى

هناك أحاديث أخرى فيها الترغيب على أن يحث الرجل أهله ومن يلوذ به على طاعة الله عز وجل، وتُعلي همته في ذلك، منها:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته) فهذا فيه أنّ من فعل ذلك دخل في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (رحم الله رجلاً! قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه على شرط مسلم ، وصححه -أيضاً- النووي وغيره.

قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أبت) أي: إن أبت زوجته (نضح في وجهها الماء)، وأيضاً (فإن أبى) أي: أبى زوجها (نضحت في وجهه الماء) والمقصود الماء أو ما يقوم مقامه، فإذا كان سينفعل ويثور إذا نضحت في وجهه الماء البارد فيمكن أن تستبدله بأي عطر أو طيب أو أي شيء له رائحة طيبة، بحيث لا يستفزه ذلك وتعين الشيطان عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: (من استيقظ من الليل، وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً، كتبا ليلتئذٍ من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).

وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بإيقاظ نسائه ويقول: (أيقظوا صواحب الحجرات، رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة).

وجاء في الحديث الآخر أنّه صلى الله عليه وسلم مرّ على ابنته فاطمة وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، فأمرهما بقيام الليل، فأجابه علي رضي الله عنه قائلاً: (يا رسول الله! أرواحنا بيد الله، يبعثها متى شاء) فانصرف صلى الله عليه وسلم وهو يضرب فخذيه ويقول: (وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف:54]).

الحث على طاعة الله تعالى في المواسم المباركة

إنّ هذه الأحاديث هي مقدمة هذا الموضوع الذي سنتكلم فيه إن شاء الله تعالى، وهو موضوع الحث على طاعة الله تبارك وتعالى والاجتهاد فيها، خاصة في هذا الموسم العظيم، وهو موسم يغفل عنه أكثر الناس مع أنه لا يقل أهمية عن رمضان أو عن العشر الأواخر من رمضان.

وهذا الموسم هو عشر ذي الحجة، والناس في هذا الموسم على قسمين: فمنهم من ييسر الله له الرحيل إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، ومنهم من يعذر ولا يستطيع الذهاب، فربما رحل بقلبه، وهذا الفريق الثاني الذي لم ييسر الله له السفر إلى بيت الله الحرم قد أقام الله عز وجل له موسماً للطاعات فيه ثواب جزيل جداً إذا اغتنمه، فعلى الإنسان أن يعمره بالصلاة والصيام والصدقة وذكْر الله عز وجل، وقراءة القرآن، وسائر أنواع الخير، وأن يجتهد في ذلك، وينبغي الاستعداد لهذا الموسم قبل مجيئه، وأن يفرغ الإنسان نفسه لطاعة الله عز وجل حتى لا يكون من الخاسرين في هذا السوق العظيم.

يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من أيام العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه يجاهد في سبيل الله عز وجل فلم يرجع من ذلك بشيء).

لقد أقسم الله تعالى بليالي عشر ذي الحجة فقال: وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2] وهي ليالي العشر من ذي الحجة، والعمل في أيام العشر ثوابه العظيم، فهذه فرصة من الفرص النادرة التي يكون فيها الفضل العظيم من الله تبارك وتعالى، فنحتاج إلى إيقاظ الهمم حتى تسمو نفوسنا إلى طاعة السابقين واجتهادهم، فإن العلماء يذكرون أن أعظم طريقة في إصلاح القلوب وتزكية النفوس هي أن يعايش الإنسان إنساناً أو شيخاً أو قدوة يقتدي به في أحواله، ويعرف السنن من سلوكياته، فإذا عَزَّ هذا -كما في هذا الزمان الذي نعيشه- فإن البديل هو أن يكثر الإنسان من مطالعة أحوال الصالحين، خاصة في القرون الخيِّرة الأولى وما تلاها من حياة من تبعوهم بإحسان، فيطالع أخبارهم حتى يستثير همته، ويكون له فيهم أسوة، فهذا الذي يخرج الأمة المجاهدة، والأمة العابدة، والأمة العاملة لدينها، والتي تحقق العبودية لله وتعرف ما هو هدفها من هذه الحياة، وكيف تستثمره، لا الأمة التي جعلت هدفها هي الأهداف التي يحققها لاعبو الكرة، ولا الأمة التي هدفها أن تصير الأولى في العالم في اللعب واللهو وتنسى الجهاد في سبيل الله.

هناك أحاديث أخرى فيها الترغيب على أن يحث الرجل أهله ومن يلوذ به على طاعة الله عز وجل، وتُعلي همته في ذلك، منها:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته) فهذا فيه أنّ من فعل ذلك دخل في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (رحم الله رجلاً! قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه على شرط مسلم ، وصححه -أيضاً- النووي وغيره.

قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أبت) أي: إن أبت زوجته (نضح في وجهها الماء)، وأيضاً (فإن أبى) أي: أبى زوجها (نضحت في وجهه الماء) والمقصود الماء أو ما يقوم مقامه، فإذا كان سينفعل ويثور إذا نضحت في وجهه الماء البارد فيمكن أن تستبدله بأي عطر أو طيب أو أي شيء له رائحة طيبة، بحيث لا يستفزه ذلك وتعين الشيطان عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: (من استيقظ من الليل، وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً، كتبا ليلتئذٍ من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).

وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بإيقاظ نسائه ويقول: (أيقظوا صواحب الحجرات، رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة).

وجاء في الحديث الآخر أنّه صلى الله عليه وسلم مرّ على ابنته فاطمة وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، فأمرهما بقيام الليل، فأجابه علي رضي الله عنه قائلاً: (يا رسول الله! أرواحنا بيد الله، يبعثها متى شاء) فانصرف صلى الله عليه وسلم وهو يضرب فخذيه ويقول: (وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف:54]).

إنّ هذه الأحاديث هي مقدمة هذا الموضوع الذي سنتكلم فيه إن شاء الله تعالى، وهو موضوع الحث على طاعة الله تبارك وتعالى والاجتهاد فيها، خاصة في هذا الموسم العظيم، وهو موسم يغفل عنه أكثر الناس مع أنه لا يقل أهمية عن رمضان أو عن العشر الأواخر من رمضان.

وهذا الموسم هو عشر ذي الحجة، والناس في هذا الموسم على قسمين: فمنهم من ييسر الله له الرحيل إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، ومنهم من يعذر ولا يستطيع الذهاب، فربما رحل بقلبه، وهذا الفريق الثاني الذي لم ييسر الله له السفر إلى بيت الله الحرم قد أقام الله عز وجل له موسماً للطاعات فيه ثواب جزيل جداً إذا اغتنمه، فعلى الإنسان أن يعمره بالصلاة والصيام والصدقة وذكْر الله عز وجل، وقراءة القرآن، وسائر أنواع الخير، وأن يجتهد في ذلك، وينبغي الاستعداد لهذا الموسم قبل مجيئه، وأن يفرغ الإنسان نفسه لطاعة الله عز وجل حتى لا يكون من الخاسرين في هذا السوق العظيم.

يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من أيام العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه يجاهد في سبيل الله عز وجل فلم يرجع من ذلك بشيء).

لقد أقسم الله تعالى بليالي عشر ذي الحجة فقال: وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2] وهي ليالي العشر من ذي الحجة، والعمل في أيام العشر ثوابه العظيم، فهذه فرصة من الفرص النادرة التي يكون فيها الفضل العظيم من الله تبارك وتعالى، فنحتاج إلى إيقاظ الهمم حتى تسمو نفوسنا إلى طاعة السابقين واجتهادهم، فإن العلماء يذكرون أن أعظم طريقة في إصلاح القلوب وتزكية النفوس هي أن يعايش الإنسان إنساناً أو شيخاً أو قدوة يقتدي به في أحواله، ويعرف السنن من سلوكياته، فإذا عَزَّ هذا -كما في هذا الزمان الذي نعيشه- فإن البديل هو أن يكثر الإنسان من مطالعة أحوال الصالحين، خاصة في القرون الخيِّرة الأولى وما تلاها من حياة من تبعوهم بإحسان، فيطالع أخبارهم حتى يستثير همته، ويكون له فيهم أسوة، فهذا الذي يخرج الأمة المجاهدة، والأمة العابدة، والأمة العاملة لدينها، والتي تحقق العبودية لله وتعرف ما هو هدفها من هذه الحياة، وكيف تستثمره، لا الأمة التي جعلت هدفها هي الأهداف التي يحققها لاعبو الكرة، ولا الأمة التي هدفها أن تصير الأولى في العالم في اللعب واللهو وتنسى الجهاد في سبيل الله.

مما يؤسف له أنّه حصل موقف يتحسر فيه المرء على حال المسلمين، فقد قال مراسل الـ(b.b.c) يصف القاهرة: القاهرة من أكثر عواصم العالم ازدحاماً، سواء أكان ذلك في ليل أم في نهار. ويقول: أنا مع طول مكثي في القاهرة ما رأيت العاصمة قبل ذلك على هذه الهيئة، فقد ظهرت عاصمة مصر على حالين متناقضين تماماً: الأولى: أثناء إذاعة المباراة باتت الشوارع وكأن المدينة قد فرض عليها نظام حظر التجول.

والصورة الأخرى التي تضادها تماماً هي ما كان من الناس بعدما حصل الفوز العظيم والنصر المبين، وكأن القدس قد استعيدت، وفلسطين قد رجعت، وكأن أفغانستان قد عادت، وكأن شرع الله قد طبق، وكأن كل الأهداف التي تعيش لها هذه الأمة الغافلة اللاهية التي صارت أضحوكة الأمم قد حققت، فترى أفرادها أوائل في اللعب واللهو، أما الجهاد والعيش للهدف الذي خلقنا الله من أجله وقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فيسمى تطرفاً.

وفي نفس هذا اليوم -أعني يوم الفوز العظيم الذي حققه المجاهدون في ميدان الكرة- أعلن نائب رئيس الأركان الإسرائيلي أن إسرائيل تعتقد حتمية قيام حرب رابعة أو حرب جديدة مع عدة دول عربية، ذكر منها مصر وسوريا والأردن والعراق.

وهل ذكر السعودية؟ إنني غير متأكد من ذكر السعودية، ولو ذكرها لكانت المصيبة أكبر؛ لأنهم يطمعون في المدينة المنورة، وفي نفس هذا اليوم الذي صدر فيه هذا التصريح يخرج المحدث المصري يرتعد من الخوف ويقول: كيف هذا؟! هذا يتعارض مع السلام الذي نحن عليه وكذا وكذا، وفي نفس هذا اليوم -أيضاً- خنق ستون طفلاً فلسطينياً في مستشفى الأطفال في محاضنهم من تأثير الغازات المسيلة للدموع التي ألقاها اليهود -لعنهم الله- عليهم، أفنحب أن يكون في كل بيت مأتم؟! فما الفرق بين أن يكون هؤلاء الأطفال إخوانك أو أبناؤك؟!

كيف يحصل هذا الانتصار الشعوري، فنحن في نشوة وانتصار كأن فلسطين قد فتحت، وكأن القدس قد عادت، ومثل هذا من التفاهات واللهو واللعب يحصل.

يا أمة ضحكت من جهلها الأمم، وكم في مصر من المضحكات! ولكنه ضحك كالبكاء.

ترى الناس يبكون وكأنهم يبكون من خشية الله، إنّا نعيش مأساة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فالمقصود أن التربية هي التي تنشئ هذه الأمة المجاهدة، وأنا أريد أن أسأل الإخوة المجاهدين الذين يمكثون أمام التلفزيون الساعات الطوال، وربما تخلفوا عن صلاة الجماعة ببسب هؤلاء الشياطين المجرمين فأقول: لو كان بينكم الآن أبو بكر أو عمر بن الخطاب أو خالد بن الوليد أو سعد بن أبي وقاص أو عبد الرحمن بن عوف أو ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب أو صلاح الدين الأيوبي هل كانوا سيمكثون أمام اللعب واللهو وينظرون إلى هذا الجهاز الجديد؟! إنّ هذه صورة جديدة من الجهاد تحشد لها أمة بكاملها، وتحشد لها الملايين وتنفق عليها. فهل تسأل -يا من تسأل وتكثر السؤال-: هل النظر إلى المباريات حلال أو حرام؟ هل عرضت على قلبك هذا السؤال؟! هل كان عمر سيمكث هذه الساعات أمام هذا الباطل وأمام هذا اللغو؟! الله المستعان!

إننا نوبخ أنفسنا بمقارنة أحوالنا وأحوال السابقين، فلن نقارن بين رجالنا ورجالهم، بل سنقارن بين رجالنا ونسائهم، ونردد قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

أحب الصالحين ولست منهم علي أن أنال بهم شفاعة

وأبغض من تجارته المعاصي إن كنا سواء في البضاعة

ونقول:

أما لك في الرجال أسوة؟! أتسبقك وأنت رجل النسوة؟!

وبين أيدينا نماذج من نساء السلف اجتهدن في طاعة الله تبارك وتعالى.

فنقول: إن المرأة المسلمة التي رباها القرآن والسنة قد فقهت عن الله تبارك وتعالى أمره، وتدبرت في حقيقة الدنيا ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشت من حشمتها، وتجافى جنبها عن مضجعها، وتناءى قلبها عن المطامع، وارتفعت همتها عن السفاسف، فلا تراها إلا صائمة قائمة باكية نائحة، وقد حفل التاريخ الإسلامي بالخيرات الصالحات اللواتي نهجن طريق الجد عن علم ورسوخ عقيدة، لا عن حماقة وجهالة، كما تجد في كثير ممن وصفن بالنسك والتصوف، تجد في دواوين الإسلام أخباراً كثيرة عن النساء العابدات، بدءاً من صدر العهد النبوي إلى ما تلاه من القرون.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى النساء بعد صلاة العيد فكلمهن في الصدقة، فأخذن ينزعن الفتخ والقرط والعقود والأطواق والخواتيم والخلاخيل ويلقينها في ثوب بلال رضي الله عنه، وكان بلال قد بسط ثوبه ليضع فيه النساء صدقاتهن)، وبذلك رقأت عبرة اليتيم، وبردت لوعة المسكين، وكذلك فعل النساء حين نزلت آية الصدقة: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:18].

لقد كان كثير من الإحسان في الجاهلية مما تثيره المنافسة وحسن الأحدوثة، فأصبح بالإسلام مما تفيض منه الرحمة، ويبعثه ابتغاء مرضات الله عز وجل.

أم المؤمنين الصديقة عائشة رضي الله تعالى عنها

وفي قمة هؤلاء العابدات نساء الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهن، ويتصدر نساء الصحابة أمهات المؤمنين وآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى رأس هؤلاء جميعاً أم المؤمنين أم عبد الله الصديقة بنت الصديق ، المبرأة من فوق سبع سموات، حبيبة خليل الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء ، وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء على الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمته، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغد.

وقال القاسم : كانت عائشة تصوم الدهر. ويحمل هذا على أنها كانت تصوم ما سوى الأيام المنهي عن صيامها، كأيام الحيض، وأيام التشريق، ويوم العيد.

وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها كانت تسرد الصوم. وعن القاسم أنها كانت تصوم الدهر لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر.

وقال عروة : كنت إذا غدوت -يعني: خرجت في الصباح- أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها، فأسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تسبح -أي: تصلي النافلة، ولعلها كانت تصلي الضحى والله أعلم- وتقرأ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] فتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام -أي: وقف ينتظرها حتى مل القيام والوقوف- فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي.

وعن عروة قال: كانت عائشة رضي الله عنها لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله تعالى إلا تصدقت به، فقال عروة : بعث معاوية رضي الله عنه مرة إلى عائشة رضي الله عنها بمائة ألف درهم، فقسمتها ولم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة : أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً؟ قالت: لو ذكرتيني لفعلت.

وعنه أيضاً قال: إن عائشة تصدقت بسبعين ألف درهم، وإنها لترقع جانب درعها.

وعن محمد بن المنكدر عن أم ذرة -وكانت تغشى عائشة وتتردد عليها- قالت: بعث إلى عائشة ابن الزبير بمال في غرارتين -قالت: أراه ثمانين ومائة ألف-، فبعث بطبق -وهي صائمة يومئذ- فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: يا جارية! هلمي فطوري -أي: أحضري فطوري-، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة : أما استطعت -مما قسمت اليوم- أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه؟! قالت: لا تعنتيني، لو كنت أذكرتيني لفعلت.

وعن عبد الواحد بن أيمن الحبشي قال: حدثني أبي قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها درع قطر ثمنه خمسة دراهم، وقالت: ارفع بصرك إلى جاريتي فانظر إليها، فإنها تزهى أن تلبسه في البيت -أي: أنّ الجارية كانت تستنكف أن تلبس مثل هذا الثوب الذي على عائشة وهي في البيت- وقد كان لي منهن درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تقين في المدينة إلا أرسلت إلي تستعيره. أي: يستعرنه في المناسبات كي يلبسنه.

وعن عبد الله بن أبي مليكة أنه جاء إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن .

وذلك حينما كانت تحتضر رضي الله عنها. ولا يخفى على مسلم مكانة عائشة رضي الله عنها ومقامها عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا يحبها إلا من كانت أمه فهي أم المؤمنين، ومن أبغضها فليس من المؤمنين.

وفضائل عائشة رضي الله عنها كثيرة جداً تحتاج لدروس كثيرة مستقلة، ويكفي في فضلها وشرفها رضي الله تبارك وتعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان على وشك أن يفارق الدنيا اختار حبيبه لخلافته في الصلاة وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، واختار المكان الذي يقبض فيه وهو بيت عائشة رضي الله عنها، وهي ابنة أبي بكر رضي الله عنه، فتباً وسحقاً للرافضة الذين يلعنونهما ويتقربون إلى الله ببغضهما، فهم المطرودون المبعدون.

فحينما كانت أم المؤمنين رضي الله عنها في وقت احتضارها وهي تشرف على الموت قال لها عبد الله بن أبي مليكة : هذا ابن عباس يستأذن -يعني: يستأذن على أم المؤمنين- فقالت: دعني من ابن عباس . تعني: لا تدخلوا ابن عباس ؛ لأنّها كانت تعلم شدة حب ابن عباس لها، ولعله إذا دخل عليها جعل يمدحها ويرجيها، كما هي السنة أنك إذا حضرت رجلاً يحتضر فلا يناسب أن تكثر من ذكر الخوف؛ لأنّ ذكر الخوف قد يخرج به إلى القنوط، فذكر الخوف ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو باعث ومحرك حتى تعمل، وحتى تسعى إلى العمل، أما إذا انقضت المهلة ولم يبقَ وقت تعمل فيه فإن الخوف مع عدم إمكان العمل قد يؤدي إلى القنوط، والله تعالى يقول: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] لذا فإنّ المستحب إذا حضرت شخصاً مسلماً يحتضر أن تذكره بما فعل من الأعمال الصالحة، وأن تذكره بأعماله الطيبة، مثل أن تقول: لقد كنت تصلي جماعة، وكنت تكثر من ذكر الله، وكنت تتقي الحرام، ويذكره بالأعمال الصالحة حتى يدخل في الرجاء ويقبل على الله تبارك وتعالى وهو يحسن الظن به.

فالمقصود أن أم المؤمنين قالت: دعني من ابن عباس . فقال لها: يا أماه! إن ابن عباس من صالحي بنيك، يسلم عليك ويودعك! فقالت: ائذن له إن شئت. فأدخلته، فلما جلس قال: أبشري أبشري! فما بينك وبين أن تلقي محمداً صلى الله عليه وسلم والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد -لأنه كان يؤمن أنها زوجته في الجنة رضي الله عنها- كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها في المنزل.

وهذه القصة هي أنه حينما سقطت قلادتها أوقف الرسول عليه الصلاة والسلام جميع الجيش الذين معه ليبحثوا عن قلادة عائشة رضي الله عنها ليلة كاملة، فغضب منها أبو بكر رضي الله عنه لما علم أنهم أنما حبسوا بسببها، فأتاها ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم على فخذها، فجعل أبو بكر يطعن في خاصرتها ويقول: حبستينا. فكانت تتألم جداً من هذا الضرب، ولكنها لم تتحرك حتى لا يستيقظ رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكانت تثبت في مكانها رغم شدة هذا الطعن الذي كان يطعنها به أبو بكر رضي الله عنه في خاصرتها، ويوبخها بأنها تسببت في حبس المسلمين، فأصبح الناس وليس معهم ماء يتوضئون به، فأنزل الله عز وجل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43].

فحينئذ تيمموا، وأرادوا أن يرحلوا فإذا بالقلادة تحت جملها الذي كان باركاً.

فالشاهد أن ابن عباس قال لها في ضمن مناقبها رضي الله عنها: وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها في المنزل، فأصبح الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله عز وجل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، وكان ذلك بسببك.

ولذلك قال أسيد بن حضير لها: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر . أي: ليست هي أول بركتكم على الأمة، فإن لكم بركات كثيرة.

قال ابن عباس : وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات جاء بها الروح الأمين، فأصبح وليس مسجد من مساجد الله يذكر الله فيه إلا تتلى فيه آناء الليل وآناء النهار.

فردت أم المؤمنين رضي الله عنها: يا ابن عباس ! دعني منك ومن تزكيتك، فو الله لوددت أني كنت نسياً منسياً.

أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها

وكانت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم امرأة صناعاً، وكانت تعمل بيدها، وتجمع المال من هذه الصنعة التي كانت تعملها، ولعلها كانت تغزل أو تفعل شيئاً من هذا القبيل، فكانت تجمع المال ثم تتصدق به كله في سبيل الله تبارك وتعالى، وكانت صالحة صوامة قوامه بارة، وكان يقال لها: أم المساكين. وفيها قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين توفيت: لقد ذهبت حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل. كانت زينب مفزع اليتامى والأرامل، يفزعون إليها حتى تفرج كرباتهم رضي الله عنها.

وعن أنس رضي الله عنه قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: حبل لـزينب) أي أنها تصلي فإذا فترت تعلقت به حتى تواصل الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد) وفي رواية قالوا: (زينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد).

وعن عبد الله بن رافع عن برة بنت رافع قالت: لما جاء العطاء -وهو المال الذي كان يوزعه الخليفة على المسلمين في كل سنة- بعث عمر إلى زينب رضي الله عنهما بالذي لها -أي: بنصيبها من المال- فلما دخل عليها قالت: غفر الله لـعمر ! لغيري من أخواتي كان أقوى على قسم -أي: توزيع- هذا مني. قالوا: هذا كله لك -وهي ظنت أن عمر أرسله إليها حتى توزعه- فقالت: سبحان الله! واستترت دونه بثوب -أي أنها خافت من هذا المال وابتعدت عنه واستترت بثوب- فقالت: صبُّوه، واطرحوا عليه ثوباً، فصبوه وطرحوا عليه ثوباً، فقالت لي: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي به إلى آل فلان وآل فلان من أيتامها وذوي رحمها، فقسمته حتى بقيت منه بقية، فقالت لها برة : غفر الله لك! والله لقد كان لنا من هذا حظ -أي: كان الأصل أن تبقي لنا حظاً من هذا المال- قالت: فلكم ما تحت الثوب، فرفعنا الثوب فوجدنا بضعة وثمانين درهماً، ثم رفعت يدها وقالت: اللهم! لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا، قال: فماتت رضي الله عنها.

وعن محمد بن سعد قال: كان عطاء زينب اثني عشر ألف درهم -هكذا كانت تُعطى في كل سنة- فحُمل إليها فقسمته في أهل رحمها وفي أهل الحاجة حتى أتت عليه، فبلغ عمر فقال: هذه امرأة يراد بها خير، فوقف على بابها وأرسل بالسلام، وقال: قد بلغني ما فرقت، فأرسل إليها بألف درهم لتنفقها على نفسها، فسلكت بها طريق ذلك المال.

وروي عنها أنها حين حضرتها الوفاة قالت: إني قد أعددت كفني، ولعل عمر سيبعث إلي بكفن، فإن بعث بكفن فتصدقوا بأحدهما، فإن استطعتم -إذا أبليتموني- أن تصدقوا بحقوتي فافعلوا.

وزينب رضي الله عنها هي التي كان يقول فيها عليه الصلاة والسلام: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) يعني أن أول أمهات المؤمنين ستموت بعده صلى الله عليه وسلم أطولهن يداً، ففهمنها على ظاهرها، فكانت أمهات المؤمنين يقسن أيديهن على جدار، فترفع كل واحدة منهن يديها حتى يقسنَ وينظرن من منهن أطول يداً؟ فبعد ذلك حينما توفيت زينب فهمن أن مقصود الرسول عليه الصلاة والسلام كان طول يدها في المعروف وأسرعهن صدقة.

قالت عائشة رضي الله عنها: فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً، وكانت زينب تعمل وتتصدق بما يأتيها من المال.

وقالت عائشة رضي الله عنها: كانت زينب بنت جحش رضي الله عنها تساويني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب ، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تتقرب به إلى الله تعالى، ماعدا سورة من حدة كانت فيها تسرع منها الفيئة. فانظر إلى هذا المدح والوصف من ضرتها؟!

أم المؤمنين زينب بنت خزيمة رضي الله تعالى عنها

وأم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله الهلالية كانت -أيضاً- تدعى أم المساكين، وهي غير زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت كثيرة المعروف، ولذلك كانت تلقب بأم المساكين.

أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنها

أما أم المؤمنين حفصة بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فقد كانت أيضاً تسامي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في منزلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عابدة خاشعة قانتة لله تبارك وتعالى، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، ثم راجعها بأمر الله تعالى له بذلك، فقد أتاه جبريل عليه السلام فقال له: (إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة) فجعل كثرة صيامها وقيامها سبباً في أمر نبيه أن يراجعها ولا يطلقها، وفي أنّها تكون زوجته في الجنة إذا ماتت وهي زوج لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي شهادة وتزكية لـحفصة رضي الله عنها بعد شهادة وتزكية الله تبارك وتعالى لها من فوق سبع سموات؟!

أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها

أما أسماء بنت أبي بكر بن عبد الله بن أبي قحافة عثمان رضي الله عنهم أجمعين فهي أم عبد الله القرشية التيمية والدة الخليفة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وأخت أم المؤمنين عائشة ، وهي المعروفة بـذات النطاقين ، وقد كانت خاتمة المهاجرين والمهاجرات، قال ابن أبي مليكة : كانت أسماء تصدع -أي: يصيبها الصدع- فتضع يدها على رأسها وتقول: بذنبي، وما يغفره الله أكثر.

وعن فاطمة بنت المنذر قالت: إن أسماء كانت تمرض المرضة فتعتق كل مملوك لها. وعن محمد بن المنكدر قال: كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما سخية النفس. وعن الركين بن الربيع قال: دخلت على أسماء بنت أبي بكر وقد كبرت وهي تصلي وامرأة تقول لها: قومي، اقعدي، افعلي، من الكبر. أي: من شدة طعنها في السن.

وأما أم الدرداء الصغرى : فهي السيدة العالمة الفقيهة هجيمة بنت حيي الأوصابية زوجة أبي الدرداء رضي الله عنه، عرضت القرآن -وهي صغيرة- على أبي الدرداء رضي الله عنه، وطال عمرها، واشتهرت بالعلم والعمل والزهد.

قال عون بن عبد الله : كنا نأتي أم الدرداء فنذكر الله عندها. وقال يونس بن ميسرة : كن النساء يتعبدن مع أم الدرداء ، وإذا ضعفن عن القيام تعلقن بالحبال. وعنه أيضاً قال: كنا نحضر أم الدرداء فتحضرها نساء عابدات يقمن الليل كله، حتى إن أقدامهن قد انتفخت من طول القيام.

أما السيدة الشريفة العفيفة التقية النقية سكينة بنت الحسين الشهيد ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فكانت شهمة سخية كريمة، وكانت تجود بكل ما لديها من مال، فإن لم يكن مال فبحلي تنزعه أو ثواب، شيء من الحلي الذي تلبسه.

أما السيدة المكرمة الصالحة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن السيد سبط النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي العلوية الحسنية رضي الله عنها، وهي السيدة نفيسة المدفونة في القاهرة، وللأسف! يفعل بقبرها من الشرك ما الله ورسوله والمؤمنون منه براء، وهي أيضاً بريئة منه، كانت رحمها الله وأكرمها من الصالحات العابدات، زاهدة تقية نقية، تقوم الليل وتصوم النهار، وتكثر البكاء من خشية الله عز وجل، حتى قيل لها: ترفقي بنفسك؛ لكثرة ما رأوا منها، فقالت: كيف أرفق بنفسي، وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون؟! وقد حجت ثلاثين حجة، وكانت تحفظ القرآن وتفسيره.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن حكى أنها دخلت مصر مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر الصادق فأقامت بها، يقول ابن كثير : لما دخلت مع زوجها أقامت بها، وكانت ذات مال، فأحسنت إلى الناس والجذمى والزمنى والمرضى وعموم الناس، وكانت عابدة زاهدة كثيرة الخير، ولما ورد الشافعي مصر أحسنت إليه، وكان ربما صلى بها في شهر رمضان، وحين مات أمرت أن تُدخل جنازته إليها، فأُدخل جثمانه رضي الله عنه عليها، فصلت عليه.

ولها أخبار طيبة منها: أنها لما قدمت إلى مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق ، وقيل: مع أبيها الحسن الذي عين والياً على مصر من قبل أبي جعفر المنصور ، هرع إليها أهل مصر يشكون من ظلم أحمد بن طولون -يبدو أن أهل مصر في الغالب مظلومون من حكامهم- ويجأرون إليها من ظلم أحمد بن طولون ، فقالت: متى يركب؟ تعني: موكبه، متى يكون موعده؟ قالوا: في غد، فكتبت رقعة ووقفت في طريقه في الموكب، وقالت: يا أحمد بن طولون ! فلما رآها عرفها، فترجل عن فرسه، أي: نزل في الحال عن الفرس، ومشى على رجليه، وأخذ منها الرقعة، وقرأها فإذا فيها: ملكتم فأسرتم- من الأسر- وقدرتم فقهرتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم؛ هذا وقد علمتم أن سهام القدر نافذة غير مخطئة، لاسيما من قلوب أفزعتموها، وأكباد روعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]؛ فعدل لوقته، يعني: رجع عن الظلم في الحال.

وقد قيل: إن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى سمع عليها الحديث من وراء حجاب، وطلب منها أن تدعو له.

وحضرتها الوفاة رحمها الله تعالى وهي صائمة، فألزموها أن تفطر، فقالت: واعجباه! أنا منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه صائماً، أأفطر الآن؟!! هذا لا يكون، وخرجت من الدنيا، وهي تقرأ القرآن، وكانت آخر آية تقرأها قبل أن تقبض روحها: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12] رحمها الله ورضي عنها.

انظر كيف كان حال الأقارب؟! لما تنظر القرابات بين نساء السلف ورجال السلف، تجد هذه زوجة فلان، وعمها فلان، وخالها فلان، وابنها فلان، وزوجها فلان، فكانت القرابات التي تجمعهم هي الأعمال الصالحة، ولم تكن المحسوبيات والمناصب وظلم الناس، وإنما تجد الوسائل والروابط بين الأسر والأقارب مسخرة لطاعة الله سبحانه وتعالى، فهذه أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز ، ماذا تتوقع من شقيقة عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمهم الله تعالى؟!

كانت مضرب المثل في الكرم والجود، كانت تقول: لكل قوم لهنة في العطاء اللهنة: الشهوة أو الرغبة في شيء، ولهنة في الإعطاء أي: وشهوة في الإعطاء والنفقة في سبيل الله، كانت تعتق كل يوم جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عز وجل، تشتري فرساً ليجاهد عليه في سبيل الله، وتقول: أف للبخل، لو كان قميصاً لم ألبسه، ولو كان طريقاً لم أسلكه.

وأما عجردة العمية فهي من المعدودات المشهورات من نساء السلف، فعن آمنة بنت يعلى بن طرير قالت: كانت عجردة العمية تغشانا، فتظل عندنا اليوم واليومين، فكانت إذا جاء الليل لبست ثيابها وتقنعت، ثم قامت إلى المحراب فلا تزال تصلي إلى السحر، ثم تجلس فتدعو حتى يطلع الفجر، فقلت لها أو قال لها بعض أهل الدار: لو نمت من الليل شيئاً، فبكت وقالت: ذكر الموت لا يدعني أنام، وكانت تحيي الليل، وكانت مكفوفة البصر، فإذا كان السحر نادت بصوت لها محزون: إليك قطع العابدون دجى الليالي؛ يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك، فبك يا إلهي! أسألك لا بغيرك أن تجعلني في أول زمرة السابقين، وأن ترفعني إليك في عليين في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أرحم الرحماء، وأعظم العظماء، وأكرم الكرماء يا كريم! ثم تخر ساجدة، فيسمع لها شهيق، ثم لا تزال تدعو وتبكي إلى الفجر.

وعن عبد الله المكي أبي محمد قال: كانت حبيبة العدوية إذا صلت العتمة قامت على سطح لها، وشدت عليها درعها وخمارها، ثم قالت: إلهي! قد غارت النجوم، ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك، ثم تقبل على صلاتها، فإذا طلع الفجر قالت: إلهي! هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ أم رددتها علي فأعزى، وعزتك! لهذا دأبي ودأبك ما أبقيتني، وعزتك! لو انتهرتني عن بابك ما برحت -أي: لو تركتني ما غادرت الباب- لما وقع في نفسي من جودك وكرمك.

وكان الحسن بن صالح يقوم الليل هو وجاريته، فباعها لقوم، فلما صلت العشاء افتتحت الصلاة فما زالت تصلي إلى الفجر، وكانت تقول لأهل الدار كل ساعة تمضي من الليل: يا أهل الدار! قوموا، يا أهل الدار! صلوا، فقالوا لها: نحن لا نقوم حتى نصلي الفجر.

فجاءت إلى الحسن بن صالح وقالت: بعتني لقوم ينامون الليل كله، وأخاف أن أكسل من شهود ليلهم -أي: خشيت على أخلاقها أن تتغير بمعاشرتهم- فردها الحسن إليه رحمة بها، ووفاء بحقها.

وهذه عابدة من بني عبد القيس: كانت إذا جاء الليل توضأت، ثم قامت إلى المحراب، وكانت تقول: المحب لا يسأم من خدمة حبيبه، وكانت تقول: عاملوا الله على قدر نعمه عليكم وإحسانه إليكم، فإن لم تطيقوا فعلى قدر شكره، فإن لم تطيقوا فعلى الحياء منه، فإن لم تطيقوا فعلى الرجاء بثوابه، فإن لم تطيقوا فعلى خوف عقابه.

أما الهيثم بن جماز فيقول: كانت لي امرأة لا تنام الليل، وكنت لا أصبر معها على السهر، فكنت إذا نعست ترش علي الماء في أثقل ما أكون من النوم، وتنبهني برجلها، وتقول: ألا تستحي من الله! إلى كم هذا الغفوف- تعني: الشخير-، قال زوجها: فو الله! إن كنت لأستحيي مما تصنع.

أما لك في الرجل أسوة أتسبقك وأنت رجل النسوة

وقال يحيى بن بسطام : كنت أشهد مجلس شعوانة -وهي إحدى العابدات- فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء، فقلت لصاحب لها: لو أتيناها إذا خلت فأمرناها بالرفق بنفسها، فقال: أنت وذاك، قال: فأتيناها فقلت لها: لو رفقت بنفسك وأقصرت عن هذا البكاء شيئاً، فكان لك أقوى على ما تريدين، قال: فبكت، ثم قالت: والله! لوددت أنى أبكي حتى تنفد دموعي، ثم أبكي دماً حتى لا تبقى قطرة من دم في جارحة من جوارحي، وأنى لي بالبكاء؟ وأنى لي بالبكاء؟! فلم تزل تردد: وأنى لي بالبكاء؟ حتى غشي عليها.

وكانت تقول في دعائها: إلهي! ما أشوقني إلى لقائك، وأعظم رجائي في جزائك، فأنت الكريم الذي لا يخيب إليك أمل الآملين، ولا يبطل عندك شوق المشتاقين، إلهي! إن كان دنا أجلي ولم يقربني منك عملي، فقد جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللي، فإن عفوت فمن أولى منك بذلك، وإن عدلت فمن أعدل منك هنالك، إلهي! قد جرت على نفسي في النظر لها، وبقي لها حسن نظرك، فالويل لها إن لم تسعدها، إلهي! إنك لم تزل بي براً أيام حياتي، فلا تقطع عني برك بعد مماتي، ولقد رجوت ممن تولاني في حياتي بإحسانه أن يسعفني عند مماتي بغفرانه، إلهي! كيف أيئس من حسن نظرك بعد مماتي، ولم تولني إلا الجميل في حياتي؟! إلهي! إن كانت ذنوبي قد أخافتني فإن محبتي لك قد أجارتني، فتول من أمري ما أنت أهله، وعد بفضلك على من غره جهله، إلهي! لو أردت إهانتي لما هديتني، ولو أردت فضيحتي لم تسترني، فمتعني بما له هديتني، وأدم لي ما به سترتني.

وعن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: كانت شعوانة قد كمدت -أي: أصابها الحزن الشديد، فكانت لا تتنفل من شدة الحزن والذهول- حتى انقطعت عن الصلاة والعبادة، فأتاها آتٍ في منامها فقال:

أذري جفونك إما كنت شاجية إن النياحة قد تشفي الحزينينا

جدي وقومي وصومي الدهر دائبة فإنما الدأب من فعل المطيعينا

فأصبحت وأخذت في الترنم والبكاء، وراجعت العمل.

وعن الحسن بن يحيى قال: كانت شعوانة تردد هذا البيت فتبكي وتُبكي النساك معها تقول:

لقد أمن المغرور دار مقامه ويوشك يوماً أن يخاف كما أمن

وعن روح بن سلمة قال: قال لي مضر : ما رأيت أحداً أقوى على كثرة البكاء من شعوانة ، ولا سمعت صوتاً قط أحرق لقلوب الخائفين من صوتها إذا هي نشدت ثم نادت: يا موتى! وبني الموتى! وإخوة الموتى!

وقال أبو عمر الضرير : من استطاع منكم أن يبكي فليبك، وإلا فليرحم الباكي؛ فإن الباكي إنما يبكي لمعرفته بما أتى إلى نفسه.

وعن