خطب ومحاضرات
ما هي البدعة؟
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الأخ الكريم! إن العبارة التي نرددها دائماً في خطبة الحاجة: وهي قولنا: (أصدق الحديث -أو أحسن الكلام- كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم؛ هي عبارة مقصودة، وليس عبثاً أن يجعلها النبي صلى الله عليه وسلم في خطب الأمور والحاجات المهمة.
فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ويجب أن يكون هذا شعار كل مسلم، وعليه أن يرفع هذا الشعار: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) وينبغي أن يشاع الاستدلال بهذا الشعار، ويدرأ به في نحر كل من يتجاسر على مخالفة هديه أو استحسان البدع التي تخالف هديه صلى الله عليه وسلم.
من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى جعل كلمة النجاة مكونة من شقين: (لا إله إلا الله) (محمد رسول الله) ولا ينجو إنسان إلا إذا حقق هاتين الكلمتين، فالأولى تشمل توحيد الله سبحانه وتعالى -توحيد المعبود- والثانية تشمل توحيد الطريق الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى.
ومعنى كلمة (لا إله إلا الله) لا يستحق أن يعبد إلا الله سبحانه وتعالى وحده، ولا إله حق إلا الله.
فإذا قال إنسان: أنا أريد أن أعبد الله وحده، لكن كيف أعبده؟ وكيف أعرف الذي يرضيه حتى أعمله والذي يسخطه حتى أتجنبه؟ فهاتِ لي بيان كيفية هذه العبادة فلا ينبغي أن ننظر فقط إلى قوله تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] حتى نضيف إليه قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، وقوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، وغير ذلك من الآيات التي تحتم على المسلم أن لا يعبد الله إلا من خلال ما شرعه، ولا يعبده بالبدع، فهما توحيدان لا نجاة إلا بهما: توحيد المعبود، وتوحيد المتبوع صلى الله عليه وسلم، أي: توحيد الطريق الموصلة إلى الله، فمنذ أن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سدت جميع الطرق المؤدية إلى الجنة إلا طريقاً واحداً على رأسه رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أفتى العلماء بكفر من زعم أن هناك طريقاً إلى الجنة مخالفاً لطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته الشريفة، فمن ادعى أن هناك طريقاً إلى النجاة وإلى الجنة يخالف طريق النبي عليه الصلاة والسلام فقد أخرجه العلماء من ملة الإسلام، وكما يقدح الشرك في توحيد العبادة كذلك يقدح الابتداع في توحيد الاتباع، فكما ينافي التوحيدَ أعمال الشركُ -وهي عبادة غير الله، أو صرف شيء من العبادة لغير الله- كذلك ينافي ويضاد شهادة أن محمداً رسول الله الأخذ بالبدع وتقديمها على السنن.
ونحن في هذا البحث -إن شاء الله تعالى- سوف نناقش موضوعين:
الموضوع الأول: بعض المقدمات البسيطة التي تتعلق بالبدع؛ لأنه لا بد منها قبل تمهيداً للموضوع الأساسي.
أما الموضوع الأساسي فهو ضوابط التبديع؛ لأنه يحصل خلط في هذا الباب تماماً، كما يحصل خلط نتيجة عدم إحكام ضوابط التكفير في قضايا التكفير، فهناك ضوابط للتكفير، وكذلك التبديع له ضوابط لابد من أن نلم بها حتى لا يحصل شطط وخروج عن القصد.
فنبدأ أولاً بتعريف البدعة.
البدعة من الناحية اللغوية أصل مادتها: بدع، و(بدع) يعبر بها عن الاختراع على غير مثال سابق، اختراع أي شيء بحيث لم يكن قد سبق له نظير، أي: ليس محاكاة لشيء وجد قبله، لكنه شيء يوجد لأول مرة، فيسمى بدعة، فمادة (بدع) تدل على اختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تبارك وتعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:117] يعني: خالقهما على غير مثال سابق لهما. ومنه قوله تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9] أي: لست أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل، فلست بدعاً من الرسل.
ويقال: ابتدع فلان بدعة أي: اخترع طريقة لم يسبقه إليها أحد. وتقول: هذا شيء بديع أو: هذا أمر بديع إذا كنت تستحسنه وتريد أن تقول: إنه لا مثال له في الحسن. فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله أو ما يشبهه.
أما البدعة بالمعنى الشرعي فهي: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.
أحياناً تطلق البدعة بالمعنى اللغوي، فلابد من التفريق بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، فالبدعة بالمعنى اللغوي لا تذم على الإطلاق؛ لأنها تشمل كل ما يخترع على غير مثال سابق في غير الدين، مثل اختراع أي جهاز، فهذه بدعة، لكن ليست هي البدعة المذمومة شرعاً، بل قد تكون واجبة في بعض الأحيان حسب كونها وسيلة تؤدي إلى مقصود، فإذا كان المقصود مباحاً فهي مباحة، وإن كان واجباً فالبدعة واجبة، وهكذا.
فهذا فيما يتعلق بالبدعة اللغوية، أما البدع الشرعية فكلها مذمومة، والبدعة المذمومة شرعاً هي هذه التي نناقشها، وليس كلامنا في البدعة من حيث المعنى اللغوي، وإنما من حيث المعنى الشرعي، فهي كما عرفها الشاطبي في (الاعتصام): طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.
والطريقة والطريق والسُنن أو السَنن كلها بمعنى واحد، وهو ما رسم للسلوك عليه.
وطريقة الدين هي ما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من العقائد والعبادات والمعاملات.
الطرائق في الدين نوعان: طريقة لها أصل في الدين، وطريقة ليس لها أصل في الدين.
فالطريقة التي لها أصل هي طريقة في الدين؛ لأن لها أصلاً في الدين، أي: ليست مخترعة. مثل العلوم الخادمة للعلوم الشرعية كعلم النحو، والصرف، ومفردات اللغة، وأصول الفقه، ومصطلح الحديث، فكل هذه طرق جديدة في الدين، والسلف لم يدرسوا هذه العلوم بهذه الطريقة التي ندرسها الآن، والتي وجدت بعدهم، فهي طريقة في الدين، لكن ليست مخترعة؛ لأن لها أصلاً في الدين، فهذه العلوم تحفظ علم الدين، وتسهله على طالبه، فأصل هذه العلوم موجود في الشرع، وإن لم توجد في الصدر الأول بنفس الكيفية؛ لأن الصحابة كانوا فصحاء بلغاء، ولا يمكن أن يلحن الواحد منهم في نحو أو صرف أو غير ذلك، وإنما وضعت هذه العلوم بعدهم، فهي طريقة في الدين لكنها ليست مخترعة، وإنما هي مسألة تيسير لطلبة العلم.
فأما النوع الثاني من الطرائق في الدين فهو طريقة في الدين لا أصل لها، أي: مخترعة. وهي البدعة.
وقوله: (طريقة في الدين مخترعة) تمييز بين هذه الطريقة المخترعة والطريقة التي تكون طريقة في الدين لكنها ليست مخترعة، فقولنا: (مخترعة) احتراز من الطريقة التي لها أصل في الدين.
وقوله: (تضاهي الشرعية) يعني: تشبه الطريقة الشرعية. ومن المعلوم أن الباطل لا ينفق إلا إذا كان فيه شيء من الحق، فلو أن المبتدع أو المضل أبرز الباطل صافياً محضاً لا يخالطه حق فإنه سيسهل كشفه، ولا ينخدع به أحد، لكن لا بد للمبطل من أن يخلط الباطل بشيء من الحق حتى تروج بضاعته على الناس، فلذلك نقول: إن البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية بمعنى أنها تشبه الطريقة الشرعية، لكنها في الحقيقة ليست شرعية، وإنما هي مجرد مشابهة، لكن الحقيقة أنها ليست طريقة شرعية، بل هي في الحقيقة تتضارب وتتصادم مع الطريقة الشرعية من أوجه شتىً.
فالبدعة فيها وضع حدود خاصة للتعبدات، مثل رجل يريد أن يعبد الله فينذر أن يصوم، ويظل مع صومه قائماً ضاحياً للشمس لا يستظل، فوضعُ كل هذه الكيفيات المخترعة للتعبد بدعة في الدين.
ومثل إنسان يتعبد بالاقتصار على نوع معين من الملبس أو من المأكل، فهذا أيضاً طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، من غير أن تكون في الحقيقة كذلك.
ومثل التزام كيفية معينة، أو عدد معين، أو صفة معينة والمحافظة عليها، فهذا أيضاً طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، وهكذا.
فالمبتدع دائماً يخلط البدعة بشيء من الحق حتى يموه على الناس فيعملوا بها.
وهناك طرائق تضاهي الشرعية، كما حصل من كفار قريش حينما كانوا يبتدعون في الدين أشياء يجدونها على ملة إبراهيم عليه السلام ينطبق عليها معنى البدعة، فمثلاً: حينما عبدوا مع الله سبحانه وتعالى الآلهة الباطلة كانوا يسوغون هذه العبادة بقولهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
وأيضاً كانوا يطوفون بالبيت عراة، وهذا الفعل سماه الله تعالى فاحشة بقوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28] فكانوا يسوغون هذا الباطل، ويقولون: لا نطوف بثياب عصينا الله بها.
وكذلك الحمس -وهم المتطرفون أو المتشددون من قريش في الجاهلية- كانوا لا يخرجون إلى عرفات، ويسوغون عدم خروجهم إلى عرفات بأنهم يقفون بالحرم تعظيماً للحرم؛ لأن منى من الحرم، فيقولون: نحن لا نخرج من الحرم تعظيماً للحرم. ويرفضون الخروج إلى عرفات، فهذا أيضاً من بدعهم.
ومن هذه الطرق المبتدعة في الدين ما يدعيه الصوفية من أنهم يعبدون الله لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن حباً فيه، فهذه أيضاً من الطرق المبتدعة في الدين يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى، فهذه هي أيضاً من أركان تعريف البدعة، فيجب على المبتدع أن ينظر إلى قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وسيرى أن المقصود هو العبادة.
لكن قد يغفل الإنسان عن حقيقة أخرى لازمة، وهي كحقيقة استحقاق الله وحده العبادة، وهي أنه كما نوحد الله بالعبادة كذلك يجب أن نوحد رسوله بالاتباع والاقتداء، فلا نقتدي بغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنعبد الله بما شرع، ولا نعبده بالبدع؛ لأننا إذا تقربنا إلى الله بغير ما شرعه على لسان رسول الله عليه الصلاة والسلام فمعنى ذلك أننا نتهم الشرع بالنقص، وأن الرسول ما استوفى وسعه في نصيحتنا، وأنه كانت هناك أشياء تقربنا إلى الجنة وتباعدنا من النار وهو عليه الصلاة والسلام -وحاشاه- قد كتم هذه الأشياء ولم يدلنا عليها، وهذا اتهام للشرع بالنقصان.
وقوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى) معنى ذلك أن البدع لا تدخل في العادات؛ لأن الفارق بين العادة والعبادة هو النية، فإذا ما انضاف إليها نية التقرب إلى الله صارت بدعة.
أما إذا كان إنسان لا يأكل اللحم -مثلاً- لأنه لا يعجبه أو يؤذيه من الناحية الصحية، أو لا يحبه بطبعه فليس عليه حرج ما دام في نطاق الأمور العادية، أما إذا امتنع رجل من أكل اللحم تعبداً، كأن يقول: أتقرب إلى الله بترك اللحم فهذا يدخل في حد البدعة، والفارق بينهما هو النية، ولذلك قال الشاطبي في الحد: يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى.
وقد أثر عن السلف في ذم البدع والتحذير منها أقوال كثيرة، والأدلة على ذم البدعة والتحذير منها أدلة كثيرة متواترة، سواء في القرآن أو في سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أما القرآن فما أكثر الأدلة الآمرة فيه بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وقرن ذلك بطاعة الله سبحانه وتعالى.
أما في السنة فالأحاديث مشهورة، ويكفي قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وقوله: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، فلا يقبل أبداً من أي أحد أن يأتي ببدعة وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، و(كل) صيغة عموم، وكذلك جاء أيضاً في الحديث الآخر: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، و(من) -أيضاً- صيغة عموم.
فهذا يعم كل البدع أنها باطلة مردودة على صاحبها، فلا يليق أن يأتي من يدعي الإسلام ويسمع قول النبي صلى عليه الصلاة والسلام: (كل محدثة بدعة) ثم يقول: ليست كل محدثة بدعة، ولا كل بدعة ضلالة، بل منها ما هو حسن.
ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: من ابتدع بدعة وزعم أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة).
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة عبادة).
وقال الأوزاعي : اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم.
وعن أيوب السختياني قال: إني لأخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي.
وعنه أيضاً قال: إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله تعالى لعالم من أهل السنة. أي: لأن الإنسان يتعصب لأول شيخ علمه ولأول كتاب قرأه، فمن علامة السعادة والتوفيق للحدث -وهو الشاب الصغير- إذا تاب وأناب وتمسك أن يختصر على نفسه الطريق باقتدائه بهذا العالم، ولا يضيع عمره في التجول بين الطرائق المختلفة، وإنما من علامات السعادة أنه منذ اللحظة يضع قدمه على الطريق الصحيح، ولا يضيع بضاعة العمر في التجول في الفرق الضالة، فإن من سعادة الحدث والأعجمي إذا أسلم أن يوفقهما الله تعالى لعالم من أهل السنة.
وقال ابن شوذب : إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يوافي صاحب سنة يحمله عليها.
وقال الجنيد بن محمد رحمه الله تعالى: الطريق إلى الله عز وجل مسدودة على خلق الله تعالى، إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لسنته، كما قال عز وجل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
وعن معمر قال: كان طاوس جالساً وعنده ابنه، فجاء رجل من المعتزلة فتكلم في شيء وبدأ يتكلم في بدعته، فأدخل طاوس أصبعيه في أذنيه وقال: يا بني! أدخل أصبعيك في أذنيك حتى لا تسمع من قوله شيئاً؛ فإن هذا القلب ضعيف.
فلا ينبغي أبداً للإنسان أن يعرض نفسه للبلاء الذي لا يطيقه، فإن كنت غير راسخ في العلم فلا تسمح لمبتدع أن يحدثك أو يعرض عليك بضاعته؛ لأنه يمكن أن يشوش عليك ولا تملك دفعاً لها، وإذا ملكت لسانك فلن تملك قلبك أن يتأثر بهذه البدع وهذه الضلالة، خاصة إذا كان لسناً ذا جدل، فليس من البطولة أن تصغي إلى المبتدع الضال، بل البطولة أن لا تعرض نفسك أصلاً لهذه الفتنة، فهذا طاوس يقول: أي بني! اسدد إن هذا القلب ضعيف، فما زال يقول: أي بني! اسدد، أي بني! اسدد، حتى قام الرجل المعتزلي.
وعن صالح المري قال: دخل رجل على ابن سيرين وأنا شاهد، ففتح باباً من أبواب القدر فتكلم فيه، فقال ابن سيرين : إما أن تقوم وإما أن أقوم.
وعن سلام بن أبي مطيع قال: قال رجل من أهل الأهواء -هكذا كانوا يسمون أهل البدع، وما كانوا يقولون: العقلانيون ولا غير ذلك من الأسماء الموجودة الآن- قال الرجل لـأيوب السختياني : أكلمك بكلمة؟ قال: لا، ولا نصف كلمة.
وعن أيوب السختياني قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً.
وقال أبو قلابة : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تحادثوهم؛ فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون.
وعن سفيان الثوري قال: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. يعني: لا يرجع منها.
وعن مؤمل بن إسماعيل قال: مات عبد العزيز بن أبي راود وكنت في جنازته حتى وضع عند باب الصفا، فصف الناس، وجاء الثوري ، فقال الناس: جاء الثوري. فجاء حتى خرق الصفوف والناس ينظرون إليه، فجاوز الجنازة ولم يصل عليها؛ لأنه كان يرمى بالإرجاء. أي: عبد العزيز بن أبي راود.
وعن سفيان بن عيينة قال: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه -أي: من لابد أن المبتدع يشعر بنوع من المذلة- قال: وهي في كتاب الله -يعني: الدليل على هذا في كتاب الله- فقالوا: وأين هي في كتاب الله؟ فقال: أما سمعتم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الأعراف:152]؟! قالوا: يا أبا محمد ! هذه لأصحاب العجل خاصة! فقال: كلا، اتلوا ما بعدها وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف:152]. أي: الكذابين المبتدعين. فهي لكل مفترٍ ومبتدع إلى يوم القيامة.
وعن حسان قال: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة.
وعن سفيان الثوري قال: من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة.
وعن سعيد قال: مرض سليمان التيمي فبكى في مرضه بكاء شديداً، فقيل له: ما يبكيك؟ أتجزع من الموت؟! قال: لا، ولكني مررت على قدري فسلمت عليه، فأخاف أن يحاسبني ربي عليه.
وعن الفضيل بن عياض قال: من جلس إلى صاحب بدعة فاحذروه.
وعنه قال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه.
وعنه قال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق فخذ في طريق آخر، ولا يرفع لصاحب البدعة إلى الله عز وجل عمل، ومن أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام.
وعن بشر بن الحارث قال: جاء موت هذا الذي يقال له: المريسي -أي: المبتدع الضال بشر المريسي - وأنا في السوق، فلولا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكراً، فالحمد لله الذي أماته.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم) يعني: أتاكم من الدين ما يكفيكم. كما قال عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3].
وقال أيضاً: (تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله، ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع، وعليكم بالعتيق) يعني القديم.
وعنه قال: (أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول).
وعن عمر قال: (يهدم الإسلام زلة عالم، وجدال المنافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين).
وعنه قال: (سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله تبارك وتعالى).
وعن محمد بن مسلم قال: (من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة).
وقال إبراهيم النخعي: ما أعطاكم الله خيراً أُخِْبئَ عنهم، وهم أصحاب رسوله وخيرته من خلقه.
يعني: لا يمكن أن يصطفيكم الله بخير يكون قد حجبه عن الصحابة، فكل خير هم كانوا أولى به، فلا تحسنوا الظن بأنفسكم أنكم أفضل من الصحابة، فهم أصحاب النبي وخيرة الله من خلقه، وأفضل أولياء الله، فلا يمكن أن يكون هناك خير منعوا منه وحزتموه أنتم بما ابتدعتم في الدين.
وروى أن رجلاً قال لـمالك بن أنس : من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل؛ فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وأي فتنة في ازدياد الخير؟ قال مالك : فإن الله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63]، وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خصصت بفضل لم يخص به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
وقال الأوزاعي : بلغني أن من ابتدع بدعة خلاّه الشيطان والعبادة، وألقى عليه الخشوع والبكاء لكي يصطاد به.
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال: قف حيث وقف القوم- السلف- فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل -لو كان فيها- أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم فما أحدثه إلا من خالف هديهم ورغب عن سنتهم، لقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسر وما دونهم مقصر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
وقال محمد بن عبد الرحمن لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها: هل علمها رسول الله؟ أي: هذه التي تدعو إليها هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعلموها؟
قال: لم يعلموها. قال: فشيء لا يعلمه هؤلاء علمته أنت؟! قال الرجل: فإني أقول: قد علموها. قال: فوسعهم أن لا يتكلموا بها ولا يدعو الناس إليها أم لم يسعهم؟ قال: بلى، وسعهم. قال: فشيء وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لا يسعك أنت؟! فانقطع الرجل، فقال الخليفة -وكان حاضراً-: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم.
وعن حذيفة أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله ! ما نرى بينهما من نور إلا قليلاً. قال: والذي نفسي بيده لتظهرن البدعة حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين الحجرين من النور، والله لتفشون البدعة حتى إذا ترك منها شيء قال الناس: تركت السنة).
وقال الحسن : لا تجالس صاحب بدعة؛ فإنه يمرض قلبك.
وقال أبو الجوزاء : لأن أجالس الخنازير أحب إلي من أن أجالس أحداً من أهل الأهواء.
لأن الخنزير لو جالسه لن يضره في دينه، نعم قد يتأذى منه، لكن لن يضله عن هدي النبي عليه الصلاة والسلام، أما أهل الأهواء والبدع فإنهم ينحرفون به عن ذلك.
وعن سفيان قال: من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه؛ لا يلقها في قلوبهم.
والأدلة والآثار على ذلك كثيرة جداً، لكن نكتفي بهذا القدر في ذم البدع، والنصوص التي تنفر من البدع والمبتدعين نصوص عامة.
الناحية التطبيقية تحتاج لنوع من الضوابط، وهذا ما نحتاج إليه، فنحن كثيراً ما تكلمنا في حد البدعة وفي التنفير منها، وفي النصوص بذمها، لكننا قل أن نتكلم بالتفصيل في الضوابط التي تحكم مسألة الحكم على أحد بالبدعة، وكيفية معاملته، وغير ذلك.
وأحد ضوابط البدعة أن نعرف -أولاً- أقسام البدعة؛ لأن البدع ليست كلها على مرتبة واحدة، بل البدع تتفاوت، وبالتالي الموقف من فاعلها يتفاوت.
فالبدعة تنقسم باعتبارات إلى أقسام، فالبدعة تنقسم إلى بدعة فعليه وبدعة تركية، وبدعة كلية وبدعة جزئية، وبدعة عادية وبدعة عبادية، وبدعة حقيقية وبدعة إضافية، فباعتبارات مختلفة تنقسم البدع إلى أقسام.
البدعة باعتبار الفعل والترك
مثلاً: الصوفية يقولون: من وصل إلى رتبة اليقين فلا تطلب منه الصلاة والصيام ولا يحرم عليه شيء؛ لأنه وصل، فلا يحتاج لصلاة ولا لزكاة. وربما استهزءوا بمن يصلي ويصوم ويزكي ويفعل العبادات، فهم يغيرون تفسير قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] ويقولون: المقصود الوصول إلى مرتبة اليقين. وليس كذلك، بل المقصود باليقين هنا الموت، كما في الآية الأخرى: حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:47] أي: الموت. فاليقين هنا المقصود به الموت، فالله سبحانه وتعالى لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، ولهذا قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] أي: إلى آخر لحظة من حياتك. وقال عيسى عليه السلام: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]، فهذا هو معنى قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، أما هؤلاء فيتركون الواجبات الشرعية تديناً بذلك، وهذه أيضاً من البدع التركية؛ لأن فيها ترك المطلوبات الشرعية.
أقسام البدعة باعتبار الاعتقاد والعمل
والبدعة العملية قد تكون متعلقة بالنية، كمن يصلي ركعتين بنية طول العمر، أو صلاة يسمونها مونس القبر، أو صلاة بر الوالدين، وغير ذلك من الصلوات المخترعة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهكذا صلاة الأيام، صلاة يوم السبت، وصلاة يوم الأحد، وهذه كلها موجودة في كتاب (الإحياء)، وهذه أيضاً من البدع العملية.
أما البدعة الاعتقادية فتكون باعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه من المعروف من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا على سبيل المعاندة، ولكن بسبب شبهة، كما يمسح الشيعة على الرجلين، فلو رأيت الشيعي يتوضأ ستجده إذا وصل إلى القدمين فإنه لا يغسلهما بالماء مع أنه لا يلبس جورباً، بل يمسح على القدم ولا يغسلها، فهذه بدعة اعتقادية؛ لأنه يعتقد أن هذا هو هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وعنده شبهة في ذلك، وهم ينكرون بشدةٍ المسح على الخفين، ولذلك تجد علماء أهل السنة ينصون على هذه المسألة في متون العقيدة؛ لأنها متواترة ومقطوع بصحتها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فلذلك ضبطوها وأصلوها في مسائل العقيدة، كما في متن العقيدة الطحاوية: (ونرى المسح على الخفين في الحضر والسفر).
وكذلك -أيضاً- من البدع الاعتقادية بدعة المشبهة والمجسمة والقدرية، وغيرهم من فرق الضلال، وهناك بدع متنوعة باعتبار الأزمنة والأمكنة والأحوال، كالموالد والأعياد والمواسم، والجنائز والأضرحة، والضيافة والعبادة، والمعاشرة والعادات.
البدعة من حيث الحقيقة والإضافة
فالبدعة الحقيقة هي ما كان الابتداع فيها من جميع وجوهها، فإذا نظرت إلى العمل من أي زاوية ولم تر له أصلاً في الشرع فهو بدعة حقيقية؛ لأن الابتداع من جميع وجوهها، فهي بدعة محضة، وليس فيها جهة تندرج بها في السنة، وهي التي لم يدل عليها دليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع أو استدلال، ولذلك سميت بدعة حقيقة؛ لأنها مخترعة على غير مثال سابق، وهي بعيدة عن الشرع خارجة عنه من كل وجه.
ومن أمثلة البدعة الحقيقة بدعة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالرهبانية وترك التزوج مع وجود الداعي إليه وفقد المانع الشرعي تماماً، كرهبانية النصارى، والله عز وجل يقول: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27] وهذا استثناء منقطع، أي: لكن كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله.
ومن هذه البدع تعذيب النفس بألوان العذاب الشنيع والتنكيل الفضيع، كما يحصل من الهنود في الإحراق بالنار وغير ذلك، ومثل ذلك ما يفعله الشيعة الروافض يوم عاشوراء من تعذيب أنفسهم، وإدخال أسياخ الحديد وشق وجوههم وصدورهم حتى تنزف منها الدماء، فهذه أيضاً من البدع الحقيقية، وهل هذه يمكن أن تدخل في الدين؟ الجواب: لا، فالدين لا يمكن أبداً أن يبيح للإنسان أن يعذب نفسه بهذه الطريقة، فهذه بدعة حقيقية، مثل ما يفعله الشيعة يوم عاشوراء من خدش الرءوس والوجوه، ولطم الخدود، والنواح لكون الحسين رضي الله تعالى عنه قتل في ذلك اليوم، فيقيمون هذه المآتم زاعمين أن ذلك يقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، وأنهم يتعبدون بهذا.
ومن البدع الحقيقية تحكيم العقل في أخبار النقل -في أخبار القرآن والسنة- كما هو معروف في التيارات المعتزلية.
ومن البدع الحقيقية: الطواف حول الأضرحة، والوقوف في غير عرفة بدل عرفة، وإقامة الهياكل على القبور، وتعليق الشموع والمصابيح حول الأضرحة، فهذه كلها لا يمكن أبداً من أي زاوية إذا نظرنا إليها أن نجدها تدخل في الشرع، أو تكون لها شبهة أدلة الشرع، بل هي بدعة محضة لا يمكن أن يكون لها أصل في الدين، فهذه هي البدعة الحقيقية.
أما البدعة الإضافية فهي على خلاف ذلك، والبدعة الإضافية لها جهتان: إحداهما: لها من الأدلة متعلق، فلا تكون من هذه الجهة بدعة، والأخرى ليس لها متعلق في الأدلة إلا مثل ما للبدعة الحقيقية، فهذا العمل هو البدعة الإضافية، فهو باعتبار من الاعتبارات سنة وباعتبار آخر بدعة، أي أنه غير خالص لأحد الطرفين، ولذلك نسمي البدعة الإضافية بدعة نسبية أو إضافية حسب ما تضاف إليه، فهي سنة بالنسبة لأحدى الجهتين وبدعة بالنسبة للجهة الأخرى، سنة لأنها من زاوية مستندة إلى دليل، وبدعة لأنها من الزاوية الأخرى ليست مستندة إلى دليل شرعي ولا إلى شبهة، بل غير مستندة إلى دليل أصلاً.
وهذا النوع هو مسار النزاع بين أغلب المتكلمين في السنن والبدع.
وأنواعه كثيرة، منها: صلاة الرغائب، وصلاة ليلة النصف من شعبان، وصلاة حفظ الإيمان، وصلاة بر الوالدين، وصلاة مونس القبر، وصلاة ليلة ويوم عاشوراء، وهذا كله لم يثبت أبداً في السنة بوجه من الوجوه.
فإن قيل: لماذا نقول: هو بدعة إضافية؟
فالجواب: هو بدعة إضافية لأنه تشوبه شائبتان: الأولى: لأن الصلاة من حيث التقرب إلى الله سبحانه وتعالى والتنفل بصلوات ثابتة في الشرع، وهناك تحريض عليها، يقول عليه الصلاة والسلام: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر) وهم من هذه الناحية قالوا: نحن نصلي لا نعبث.
الثانية: أن هذا إن لم يكن ثابتاً في السنة من جميع الوجوه ففيه سنة من بعض الجهات.
فمثلاً: بدعة التلحين في الأذان -الذي هو التطريب والتغني في الأذان- بدعة إضافية؛ لأن الأذان في حد ذاته سنة مشروعة معروفة، أما باعتبار ما عرض له من تمطيط الكلمات وتلحينها وتصريفها وإخراجها عن أوضاعها العربية من أجل المحافظة على توقيع الألحان فهو بدعة قبيحة، وهذا لا يحل في الأذان ولا في قراءة القرآن، فالأذان من حيث كونه أذاناً هو ليس بدعة، وأما من حيث ما أضيف إليه من كيفية فهذه بدعة إضافية.
وكذلك قراءة سورة الإخلاص مائة ألف مرة، فيقرءون: (قل هو الله أحد) مائة ألف مرة، ويسمونها (العتاقة الكبرى) أي: من قرأها لنفسه أو لغيره فإنه يعتق من النار. وهذا من عندهم، فهذه بدعة إضافية؛ لأن قراءة (قل هو الله أحد) ذكر مشروع معروف، كما قال صلى الله عليه وسلم ((قل هو الله أحد) ثلث القرآن)، وقال: (ومن قرأ: (قل هو الله أحد) عشر مرات بنى له الله بيتاً في الجنة) لكن من حيث تسميتها عتاقاً أو ترتيب الثواب عليها والمواظبة عليها وتشريعها للناس هذه بدعة ليس لها أصل في الدين.
ومن البدع الإضافية الأذان لصلاة العيدين أو لصلاة الكسوف؛ فإنه لم يثبت في سنة النبي صلى الله عليه أذان لصلاة العيدين وصلاة الكسوف، فالأذان من حيث هو أذان سنة ومشروع، لكن من حيث الوقت والوظيفة -وهو ربطه بالعيدين أو بصلاة الكسوف- بدعة من هذه الناحية.
وهكذا ختم الصلاة بالطريقة الموجودة الآن، فيؤم بعض الناس المصلين ويختم الصلاة بطريقة معينة، كما هو معروف في بعض المساجد، فهذه الأذكار التي تقال في هذا الموطن في حد ذاتها هي سنة، لكن البدعة طرأت عليها من حيث الكيفية والألفاظ المبتدعة التي يخترعونها، فهذا فيما يتعلق بالبدعة الحقيقية والبدعة الإضافية.
البدعة من حيث الكلية والجزئية
وكذلك بدعة عدم الأخذ بأخبار الآحاد بدعة كلية، حيث يترتب عليها مئات المخالفات الشرعية، وإنكار الأحاديث النبوية.
وكذلك بدعة إنكار القسم الثالث من السنة، وهو القسم الذي يستقل بتشريع غير موجود في القرآن، فهذه بدعة كلية وليست جزئية، ووجه كون هذه البدعة كلية أنها تشمل ما لا حصر له من فروع الشريعة، ولأن عامة التكاليف مبنية عليها، فالأمر يجب على المكلف إما من الكتاب وإما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان وارداً في السنة فأكثر السنة آحاد، والمتواتر قليل جداً، وكذلك أحكام السنة التي لم ترد في القرآن، فإن لم تزد على ما في القرآن فلا تنقص عنه بحال، فهذا هو الابتداع بعينه، أن يتخذ الشخص مثل هذه القواعد الكلية، ويبطل بها مئات الأحكام الشرعية.
وكذلك من البدع الكلية بدعة الخوارج في قولهم: (لا حكم إلا لله)، وهذه -أيضاً- كانت حجتهم في رد التحكيم، بناءً على أن اللفظ عام لم يدخله التخصيص، وهم قد أعرضوا عن قوله تعالى: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا [النساء:35]، وقوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة:95]، فلم يأخذوا بالخصوص، ولم يراعوا أن العام هنا مخصوص.
أما البدعة الجزئية فهي البدعة التي يكون ضررها جزئياً، كأن يأتي في بعض الفروع دون بعض ولا تتعدى محلها، ولا تنتظم غيرها حتى تكون أصلاً لها، فمثلاً: بدعة التغني بالقرآن بدعة جزئية، والتلحين في الأذان بدعة جزئية؛ لأن ضررها جزئي فقط في موضوع الأذان، ويأتي في بعض الأشياء دون بعض، ولا تتعدى محلها، فلا تدخل في الصلاة أو غير ذلك، ولا تنتظم غيرها حتى تكون أصلاً لها، فمن هنا كانت جزئية.
وكذلك الامتناع عن تناول ما أحل الله من الطعام أو الشراب بدعة جزئية.
وأيضاً هناك بدع في العادات، فالبدع قد تدخل في الأمور العادية مثل اللبس والأكل والشرب والمشي والنوم، فهذه الأمور عادية، ولا يدخلها الاتباع من جهة كونها عادية، إنما يدخلها الابتداع من الجهة التعبدية، كأن يخالف الوجه المشروع فيها، أو يتقرب إلى الله تبارك وتعالى بذلك، كأن يتقرب إنسان إلى الله بترك نوع معين من الملابس -مثلاً- أو الطعام أو غير ذلك من الأشياء.
القسم الأول: الفعلية والتركية، وهذا على أساس الفعل والترك، فالإنسان يمكن أن يترك بعض الأشياء المباحة التي أباحها الله له، فإن كانت علة الترك معتبرة شرعاً فلا حرج في ذلك، فمثلاً: يترك طعاماً معيناً لأنه يضر بصحته، أو إنسان يقلل الطعام حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العبث، أو: إنسان يترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس، كنوع من التورع عن الوقوع في الشبهات استبراءً لدينه وعرضه، كل هذه الأنواع من الترك الذي لا حرج فيه؛ لأن العلة في الترك معتبرة في الشرع، أما شخص يترك شيئاً مباحاً جائزاً فعله باعتقاد أنه قربة إلى الله سبحانه وتعالى فهذا هو الابتداع في الدين؛ لأن الترك هنا بهذا القصد يصيره معارضة للشرع في التحليل الذي أحله الله سبحانه وتعالى.
مثلاً: الصوفية يقولون: من وصل إلى رتبة اليقين فلا تطلب منه الصلاة والصيام ولا يحرم عليه شيء؛ لأنه وصل، فلا يحتاج لصلاة ولا لزكاة. وربما استهزءوا بمن يصلي ويصوم ويزكي ويفعل العبادات، فهم يغيرون تفسير قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] ويقولون: المقصود الوصول إلى مرتبة اليقين. وليس كذلك، بل المقصود باليقين هنا الموت، كما في الآية الأخرى: حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:47] أي: الموت. فاليقين هنا المقصود به الموت، فالله سبحانه وتعالى لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، ولهذا قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] أي: إلى آخر لحظة من حياتك. وقال عيسى عليه السلام: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]، فهذا هو معنى قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، أما هؤلاء فيتركون الواجبات الشرعية تديناً بذلك، وهذه أيضاً من البدع التركية؛ لأن فيها ترك المطلوبات الشرعية.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
قصتنا مع اليهود | 2627 استماع |
دعوى الجاهلية | 2562 استماع |
شروط الحجاب الشرعي | 2560 استماع |
التجديد في الإسلام | 2514 استماع |
تكفير المعين وتكفير الجنس | 2505 استماع |
محنة فلسطين [2] | 2466 استماع |
انتحار أم استشهاد | 2438 استماع |
تفسير آية الكرسي | 2404 استماع |
وإن عدتم عدنا | 2395 استماع |
الموت خاتمتك أيها الإنسان | 2394 استماع |