من هو عيسى عبده؟ [2]


الحلقة مفرغة

نظر الطبيب الشاب فيمن حوله باحثاً عن مجتمع يعوضه عن أسرته التي لم تهتد فإذا النصارى يحيطونه بنظرات الحقد والمرارة، وإذا المسلمون يترقبونه في حيطة وحذر، فرغب في البعد عن الناس طلباً للهدوء ولمزيد من الاطلاع، فلم يجد خيراً من أن تكون خدمته الوظيفية في السجون حتى يبتعد عن الناس، فالمسلمون يشكون فيه وينظرون إليه بحذر، والنصارى يؤذونه.

فبدأ حياته الوظيفية سنة (1905م) طبيباً في بعض السجون بمديرية الجيزة، وتهيأ له -بعد ذلك- البعد عن مجتمعه السابق من جهة وقربه من القاهرة من جهة أخرى، فكان يقضي ساعات العمل بمكتبه في مستشفى السجن، وكانت له دار ملحقة بالمبنى ذاته، وحول هذه الدار حديقة صغيرة.

وعاش حياة طيبة بين وعظ السجن وبين السجناء، وكان يتعايش معهم، لكنه كان في وحشة شديدة في دخيلة نفسه، فأشار إلى زميله صدقي أنه يريد أن يستقر في دار وأسرة، فإن رزقه الله بزوجة صالحه فإن حديقة السجن ستكون في تقديره جنة نعيم.

ومن أجل إتمام هذا الأمر وكل أصحابه ليخطبوا له على أساس شروط معينة، فأخلفوا الشروط وظنوا أن الأمر سيمر، فأعلنوا الخطبة، وحدد موعد العقد والزفاف على أن يكون بعد أيام قليلة، فلما دخل الرجل لينظر إلى مخطوبته نفر منها جداً، وغضب وانصرف عنها، فكان هذا الأمر قاسياً على أسرة هذه الخطيبة، وبالتالي بدأت تنتشر الإشاعات الخطيرة جداً حوله كردّة فعل، ومعلوم ما في مجتمعاتنا من سهولة ثوران هذه الشائعات، فأشاعت أسرة الخطيبة أنها قد اكتشفت أن عبده كافر متلاعب!

وهذه من العبر التي ينبغي تأملها، حيث يظهر لنا صدق الإيمان من رجل تحمل الأذى من جميع الأطراف، بما فيها المسلمون، حيث إن بعض المسلمين آذوه أذىً شديداً كما سيأتي.

وانتشر ما أشاعته هذه الأسرة من أن عبده كافر متلاعب، وأن له زوجة وأولاداً من دينه الأصلي، وقد اكتشفوا ذلك وغيره مما لا ينبغي ذكره كما يزعمون، ولذلك رفضوه وطردوه، وتناقلت الأسر فيما بينها هذه القصص والشائعات، وكل من يسمعها يحكيها بأسلوب جديد غريب بعد أن يضيف إليها ما ينسبه إلى نفسه من أنه رأى وعاين وتأكد وكان أول من اكتشف ذلك بذكائه! إلى غير ذلك مما يظن الرواة أنه يزيد القصة عجباً وإثارةً.

فاستفحلت المشكلة، وحصل لـصدقي وعبده إساءة شديدة جداً لسمعتهما في الحي وفي المنطقة من الأهل والجيران، وتناهت الأخبار المشبوهة المزيفة إلى شيوخ الحي وأفاضل سكانهم، وكان من هؤلاء الشيوخ البارزين والرجال المعروفين الشيخ عبد الحميد مصطفى ، وكان قد درس العلم في الأزهر الشريف حتى خيف على بصره من شدة طلب العلم، فتوقف عن الدراسة بأمر الأطباء، واشتغل بمقاولات المباني فلقي في عمله توفيقاً، وقد اشتهر في حياته الخاصة بين أهل الحي بكرمه وكرامته والصدق في معاملته، وحسن عشرته للناس، وقد وصلته الأخبار المشوهة والشائعات السيئة، فاعتبرها عبثاً من شباب غير مسئول، وعدّها استهانةً من صدقي وصاحبه بكرامة أسرة محافظة تعرضت سمعة فتاتها للقيل والقال، وقد حصل الضرر بسببهما على الأطراف كلها، وأنه يجب أن يحاسب هذا المتلاعب وصاحبه على ما اقترفاه في حق الفتاة وفي حق أسرتها.

فأراد الشيخ أن يأخذ موعداً معهما لحل هذه المشكلة، فكان كلما حاول مقابلتهما كانا يمعنان في الهرب من الشيخ، إلى أن تمكن الشيخ من مقابلة صدقي ، فلم يبق له مفر من المواجهة والحساب، فأمسك الشيخ بيد الطبيب صدقي واقتاده إلى مكان معروف جلس فيه معه لتصفية الحساب.

ثم قال له: كيف سمحت لنفسك ولزوجك أن تفعلا ما فعلتما وأنت الآن طبيب مؤتمن على خصائص الناس، بل إنك ربما عرفت -بحكم تخصصك- من أسرار الناس ما لا يعرفه غيرك؟ فأي جناية هذه يا بني؟

وأي خطأ ارتكبته في حق أهلك وجيرانك من أجل صداقتك لهذا الكافر المارق؟!

فما كان من صدقي إلا أن صبر على هذا حيث كان يحترم الشيخ لسنّه ولمكانته وصداقته لأسرته، ثم قال له: عفواً سيدي الشيخ، فهلا سمعت القصة كما وقعت فشهدت لي بالبراءة مما أثاروا حولي وحول زوجتي وحول صاحبي، وحسبي عقاباً لي على وساطتي ما وقع علي من ظلم في شائعاتهم.

قال الشيخ عبد الحميد : أجل أسمع منك، على أن لا تقول غير الحق، ولا تنطق بغير الصدق، وأنا أحذرك يا صدقي من محاولة خداعي، فلست بالخبّ ولا الخبّ يخدعني. قال: بل أصدقك القول يا عم، وكل ما أرجوه منك أن توسع لي صدرك حتى أتم حديثي، فنحن لم نجرب منك إلا العدل. وشرح له القصة بالتفصيل الشديد.

ثم قال له الشيخ: ما اسم صديقك؟ قال: اسمه عبده إبراهيم . قال: وما كان اسمه قبل أن يعلن إسلامه؟ قال: عبده إبراهيم عبد الملك . قال: أفلا يتخذ له اسماً جديداً يدل على فضل الله عليه أن هداه إلى الإسلام؟

حيث إن العادة أن النصراني إذا أسلم يغير اسمه، ويختار اسماً واضحاً في دين الإسلام، وهذه نظرة من نظرات عبده الخاصة، وهو سر سيتضح فيما بعد حيث إنه أصر على اسم عبده ولم يوافق على تغيير هذا الاسم.

قال صدقي : لقد نصحه بعض المحبين له -وأنا منهم- أن يتخذ له اسماً شاهداً على إسلامه، فاعتذر لنا بأن الإيمان الحق إنما يستقر في القلوب وتصدقه الأعمال، فهو لا يرى الإسلام أسماء ولا لافتات أو دعايات.

فقال له الشيخ: أريدك أن تأتيني بصديقك في الغد. فلما أتاه به في موعد اللقاء حصل تعارف رائع أعقبته مقابلات كثيرة، وكان يدور الحوار بين الشيخ عبد الحميد وعبده إبراهيم في كل مرة، وتنوعت الأحاديث والمناقشات والأبحاث العلمية، وكان الشيخ عبد الحميد في كل مرة يكتشف فيه صفات جديدة من الصفات الطيبة.

فزاد التلطف من الشيخ والمحبة الوثيقة والمودة بينه وبينهما، إلى أن كان الشيخ يثني عليه ثناء عطراً أمام صديقه صدقي هذا، وقد لفت نظر صدقي أمر معين، وهو ما يحيطه الشيخ بصديقه من المودة والمحبة، فقال له: إني أراك قادراً على كسب ثقة الشيخ ومحبته كواحد من أولاده، ولئن كنت وصلت إلى هذا الحد من المودة والثقة فإني لأرى لمشكلتك الكبيرة أحسن الحلول.

فضاق عبده بهذه الإشارات البعيدة، وقال لصاحبه: ترى كم من الوقت أضعنا في تأملاتك وفي الفروض والاحتمالات التي تلمح إليها، فأرجوك أن تفصح عما تريد أن تقوله. فقال: إن للشيخ ابنة في سن الزواج، وهي كالتي طلبت في شروطك، ولئن قدر الله لك أن تحافظ على مودته واحترامه لك على نحو ما أرى في لقاءاتنا الأخيرة فإنه لا يرفضك خاطباً فيما أظن. فقال له: ما أراك إلا قد جننت! أي أمل هذا الذي يراودك؟! وعلى أي أساس يجوز لي أن أفاتح رجلاً فاضلاً كهذا في أمر المصاهرة له؟!

فانتهى الأمر إلى أنه تقدم خاطباً، فوافق الشيخ، وبدأت في حياته وحياة الشيخ صعاب ما كان لها حساب عندهما.

حيث أشاع الناس بأن القسيس الذي سحر من أسرة كذا -هي أسرة المخطوبة الأولى- قد أوقع الشيخ عبد الحميد في حبائل سحره هذه المرة، فحصل منه على وعدٍ بالمصاهرة، وكان لرب الأسرة في هذا الوقت هيبة عالية، ولكن زوجة الشيخ ثارت عليه ثورة عارمة، فتركت له البيت وانطلقت إلى أهلها غاضبة، واجتمعت الأسرة بأصولها وفروعها، وألح الجميع على الشيخ أن يراجع نفسه فيما صدر عنه من وعد بالقبول، فبدأت الشائعات تسري من جديد، وتوافد الخاطبون ومعهم الشفعاء لإنقاذ الموقف بتعطيل هذه المصاهرة غير المتكافئة وضاق الشيخ ذرعاً، فعجل بعقد القران والزفاف جميعاً، فتم ذلك في ليلة أحاط بها الغموض والترقب، وساعد على حصول المناسبة أن عبده حضر منفرداً إلا من صاحبيه، ولم يحضر معه إلا صاحباه.

وكانت زوجة الشيخ -أم العروس- قد قاطعت العرس، وجاملها أهلها فلم يحضر منهم أحد، والشيخ حازم فيما قرره، ماضٍ فيما عزم عليه، واتهم الناس الشيخ في عقله، إذ كيف يسقط هذه السقطة وهو من هو في رجحان العقل ونور البصيرة؟! لكن الهدوء المشوب بالقلق ما لبث أن عاد للحي بعدما تبين أن الشيخ قد أنفذ وعده ووفى بعهده وزوج ابنته للطبيب الشاب عبده إبراهيم، بل إن الناس كادوا ينسون ما حدث بعد سفر الزوجين إلى مقر عمل الطبيب حيث مسكنهما، وكاد الناس أن ينسوا موضوع الزواج.

بعد سنة من زواج الطبيب عبده آن أوان الحمل -كما هو معروف- وعادت بنت الشيخ إلى بيت أمها لتقوم بخدمتها في وضع الولادة، فولدت المولود الأول، وما كاد اليوم الثاني ينتصف حتى حضر الطبيب الشاب، وأقبل على زوجته يهنئها بسلامتها، وقد جلب لها من الهدايا كل جميل، وأحضر لمولوده من اللعب والملابس كل نفيس رائع، ومضى ليسجل في سجلات الحكومة واقعة ميلاد ولده الأول، ثم ما لبث أن عاد وفي يده شهادة ميلاد ابنه عيسى ، وأقبل على زوجته يرشدها -كونه طبيباً- إلى ما ينبغي عليها عمله من الاحتياطات، ثم استأذنها بعد أن اطمأن عليها وعلى ولده، وانطلق إلى عمله بسرعة، وجاء الشيخ ليطمئن على ابنته وولدها، فأخبرته بحضور عبده ثم انصرافه بعدما أثبت اسم الوليد بالسجلات، وسألها أبوها في فرحة: فماذا اختار لابنه من الأسماء؟ فأجابته ابنته دون وعي: عيسى. لكنها رأت من أبيها أمراً عجباً، إذ ما لبث حين سمع الاسم أن ضرب كفاً بكف، وقد تغير لونه، وتقطب جبينه، وظهر الغضب الشديد عليه، وهو يقول: عيسى عيسى! واعجباً لهذا الرجل! أو لم يجد في كل الأسماء التي خلقها الله اسماً جديراً بهذا المخلوق إلا هذا الاسم؟! أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم.

وانصرف من عند ابنته وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وأحسّت ابنته أن امراً عظيماً قد حدث، كأن خطأً لا يمكن إصلاحه قد وقع، فما هكذا رأت أباها على طول ما عاشت معه ورأت منه، وباتت فريسة لأفكارها وهواجسها، أما الشيخ فقد اعتكف في داره أياماً لا يرى فيها أحداً.

وأما زوجته فقد كانت تغالب دموعها، فقد تحقق للجميع أخيراً ظنها بهذا الطبيب وألاعيبه، وكانت إذا همت بالدخول على ابنتها كفكفت دموعها حتى لا تفجع ابنتها بما أسلمها أبوها له من مصير، وما جناه عليها بعناده وغفلته وانخداعه بأساليب هذا الطبيب الذي سحره.

وفي اليوم السابع أضيئت الشموع ذراً للرماد في العيون، وتمويهاً على الأم البائسة التي ارتبطت بزوج قيل: إنه أسلم -بل وحسن إسلامه- فإذا به يعلن -في غير حياء ولا مواربة- أنه ما زال مخلصاً لماضيه ولدينه القديم! وإلا فبم يفسر اختياره اسم عيسى لولده؟!

ولم يكد اليوم السابع ينقضي حتى غرقت أسرة الشيخ في موجة من الهم والحزن فوق الذي كان قد تجمع لها من قبل؛ حيث إن أقارب الطبيب عبده لما سمعوا أنه سمى ابنه عيسى أرسلوا وفداً ليهنئوه، وطمعوا بأنه سيعود إلى النصرانية، حيث إن تسميته لولده عيسى علامة على بقائه على دين النصرانية، فجاء أخوه بشير من حي الظاهر ليهنئ زوجة أخيه بمولودها الأول عيسى ، ولم يكن بين أسرة الشيخ وأسرة الطبيب من قبل سابق ودّ ولا تعارف، فكانت لهذه التهنئة منهم معانٍ غير خافية عليه، لكن الشيخ تماسك وتصنع الثبات تصنعاً، حتى كان الغد، فخرج من الفجر ليلحق بالطبيب عبده في داره قبل أن يغادرها إلى العمل، فله معه شأن.

وحين فتح الطبيب باب داره للشيخ فوجئ به يغلق الباب في عنف خلفه وهو يمسك بتلابيبه ويقول له: ما هذا الذي فعلت بابنتي أيها الزنديق؟! والله لا أفلتك من يدي حتى أعلم حقيقتك، لقد سكتنا على التزامك اسمك رغم اعتناقك الإسلام، وكان يجب أن تغيره إلى ما يدل على إسلامك، ولقد أحسنا الظن بك وبما سقته من حجج كانت تبدو لنا صادقة يوم نطقت بها، أما وقد انكشف أمرك الآن بتسمية ولدك عيسى فاعلم أن اختيارك لولدك هذا الاسم له من المعاني ما لا يخفى على أحد، ولقد كنت أعالج نفسي بالتصبر حتى ألقاك، إلى أن جاءنا بشير من عند أبيك يحمل التهاني التي تنطوي على سخرية أبيك بعقولنا وشماتته لمصير ابنتي المسكينة التي جنيتُ عليها حين قبلتُ زواجك بها، فتكلم بالحق وإلا قتلتك شر قتلة.

ورأى الطبيب أن الشيخ يهدر غاضباً، والدماء تندفع من صدره إلى جبينه حمراء قانية، والشرر يتطاير من عينيه، ويشير إلى ما بداخله من غليان براكين الثورة.

فبقي بين يدي الشيخ هادئاً ساكناً حتى يسكن غضبه، لكن حالة الشيخ كانت تنذر بأنه قد أضمر أمراً خطيراً، وأنه قد يرتكب جرماً وحشياً تحت وطأة إحساسه بخيبة الرجاء، إذ كان يبدو عليه أنه استنفد من الجهد ما أضناه، وأنه سيتصرف مع الطبيب تصرف اليائس منه.

فناظره الطبيب قائلاً: يا عم! اقسم لك أن الأمر كما علمته من حسن إسلامي، ولقد أكرمتني بإحسانك إلي إذ ارتضيت مصاهرتي لك، فكيف تصورت في نفسك ما نطق به لسانك الآن؟! وهل تظن أن ما جرى لي بسبب إسلامي وملاحقة أهلي لي بالتهديد والويلات والأذى وطردهم لي من دار أبي وهجري لأهلي ولجوئي إلى الحق والهدى كان كله تمثيلاً وعبثاً؟! وهل قدمت لي منذ عرفتك إلا الخير والعون والحب؟! فكيف تظنني أسيء إليك أو أجني على ابنتك؟! وإذا كان ذلك مما كان يجوز لي وأنا على غير الحق فكيف أستجيزه لنفسي وقد عرفت الله ورسوله والقرآن؟!

يا عم! إن كنت أردت بعدما قلته لك -والله على ما أقول شهيد- أن تبيدني فهأنذا بين يديك، ما تغيرت عن الإسلام ولا استبدلت، فأنت صهري وعمي وأبي وأهلي، وليس لي الآن من الناس بعد ولدي من هو أقرب إلي منك، ستجدني طوع أمرك فيما تظنه صواباً، وسأقبل حكمك أياً كان.

فهلا منحتني بعض ما قد يكون بقي عندك من صبر لعلي أحدثك بما عندي من حكمة اختيار اسم عيسى لولدي؟

وكانت لهجة الطبيب هادئة رغم ما صبّه عليه صهره من لوم وتقريع، ورغم شناعة الصورة التي رسمها صهره من فزع أحاط الأسرة، وأحداث جسام توشك أن تعصف بالجميع.

قال له: تكلم وقل ما عندك، ولا تخف عني شيئاً، ولتعلم أنك قد ألقيتني في الجحيم جزاء صنيع المعروف معك. فابتسم الطبيب وهو يقول: كأنك لا تريدني -يا عم- أن أتكلم. قال: بل هأنذا مصغٍ إليك واعٍ لما ستقول، والله وحده يعينني على ما أنا فيه.

قال الطبيب الناشئ: إن بيني وبين ربي عهداً لا يعلمه إلا هو، وإني أسير على الدرب لا أحيد، وما وجدت من ربي إلا الفضل يتلوه الفضل، وفي ظني -والعلم عند الله جل شأنه- أن هذا الحادث الذي أفزعكم حتى آذيتموني هو أكبر نعمة منّ بها الله علي بعد نعمة الإسلام.

فتمتم الشيخ في صوت حزين: تقول: أكبر نعمة؟! اللهم! إنك أنت السلام، ومنك السلام، اللهم! أفرغ علينا صبراً من عندك، فلا حول ولا قوة إلا بك.

عاد الطبيب يقول: نعم. قد يكون هذا التتابع في الأحداث بشيراً لي بأن الله قد استجاب دعائي، فله الحمد في الأولى والآخرة.

ثم استطرد يقول: إنني حين تمسكت لنفسي بعد إسلامي باسمي الذي كان قد اختاره لي أبي -فهو كما تعلم- عبده- تعلق رجائي بأن يمتد بي الأجل حتى أكون كفؤاً لزوجة صالحة من بيت طيب، وأن أرزق منها مولوداً يكون أول أبنائي، وأن أدعوه عيسى ، وها قد تحقق الرجاء بفضل من الله ونعمة.

فقاطعه الشيخ محتداً: وأي فضل تريدني أن أراه فيما ذكرت؟!

فارتفع صوت الطبيب الشاب في نبرة من الغضب وقال: يا سيدي! صبراً، فما أتممت كلامي بعد. واستطرد يقول: إلى هنا وأنت ترى أن الأمور التي وقعت لا تستوقف نظرك، ولا تثير فيك عجباً، أما أنا فقد رأيت هذه الأمور قبل أن تقع آمالاً ترتفع يداي في كل لحظة بسببها إلى السماء بالدعاء، آمالاً سهرت من أجلها الليالي الحالكة التي أحاطت بي لبضع سنوات مضت، وإن الله الذي أنعم علي بهذا كله لأكرم من أن يرد ما بقي لي من رجاء عنده.

قال الشيخ: وما هذا الرجاء؟

قال الطبيب: إنه -إن شئت- رجاء، وإنه -إن شئت- عهد وميثاق إذا نحن أمعنا النظر، فلقد كنت عاهدت ربي إن هو رزقني بصبي لأحرصن على تنشئته تنشئة صالحة، ولأدعون له بطول العمر، وبالتوفيق لما فيه رضاء الله، بأن يكون له في حياته -ومن بعد مماته- أحسن الذكر على ألسنة العباد.

وهذا ما وقع، فإن فضيلة الدكتور عيسى عبده رحمه الله كان من الناس العظماء في الاقتصاد الإسلامي كما هو معلوم، وكان من الناس الذين غذوا الصحوة ورووا جذورها في بدايتها.

فضاق الشيخ ذرعاً باستطراد هذا الطبيب الحدث في سرد أحلامه، فقاطعه قائلاً: وأي والد لا يرجو لولده مثل ما رجوت لولدك؟! وأية صلة بين هذا الرجاء وذلك الميثاق وبين اختيار اسم المسيح عيسى ابن مريم ليكون علماً على ولدك الذي تريد له الخير فيما تقول؟!

قال: يا عم! إني لا أحصي ثناءً على ربي، ولا أقدر على حمده جزاء ما أنعم به علي، ولذلك جعلت من وجود هذا الولد شهادة تنبض بالحياة -ما بقيت له الحياة- بأن عيسى عبده يعني: عيسى ليس هو الله، وإنما عيسى عبده، فكلما ذُكر اسمه يقال: عيسى عبده ، أي: ليس عيسى هو الله، لكنه عبد الله، وما هو بولده، ولا هو الإله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-، فكل ما ذكره الناس غائباً أو حاضراً، حياً أو ميتاً كان ذكرهم هذا شهادة مني بين يدي الله عز وجل بأن عيسى عبده!

ولقد استجاب ربي لأول الدعاء، وها هو المخلوق الصغير حقيقة ماثلةً بين يدي، وشهادة مني بما آمنت به، وإن الذي أسبغ علي هذه النعمة الكبرى لقادر على أن يمد في أجله، وأن يهديه سواء السبيل حتى يكون أهلاً لحمل هذه الشهادة التي فرقت في حياتي الخاصة بين ضلال كنت فيه وهداية أرجو أن تزيد.

ثم قال: يا عم! لا ندري أيكون هذا الصبي صالحاً أم غير صالح؟ ولا ندري هل كتب له من طول العمر أم لا؟ ولكني أعلم من الله أنه ما خذلني ولا أسلمني لأمر لا أحبه منذ سَرَت في أطرافي قطرات الماء عند الوضوء أول مرة، وأنا بعد صبي لا أميز بين عقيدة وأخرى، وقد دعوت الله سبحانه وتعالى أن يرزقني ولداً ثانياً يكون اسمه محمداً حتى يحمل اسم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فذهب الغضب عن الشيخ، وتبدل القلق إلى رجاء واطمئنان، ثم قال له: يا عم! إذا فرغت من الشهادة التي أرجو أن تكون شفيعة لي عند الواحد الأحد -وهو يقصد بالشهادة عيسى عبده - وفيها توحيد العبادة لربي فهل هناك من اسم يذكر بعد شهادة أن لا إله إلا الله سوى محمد رسول الله؟! فلذلك أرجو الله العلي القدير أن يكون حفيدك الثاني اسمه محمد عبده . ثم ضحك قائلاً: إن زوجتي ودودٌ ولود -والحمد لله- وإن غداً لناظره لقريب.

فقال له الشيخ: قم لعملك يرعاك الله.

وانصرف الشيخ وقال له: يا بني! إني عائد إلى حي السيدة زينب، والله يعلم ما أنا فيه، إنك تعيش في جو من الصفاء لا يعيش فيه أكثر الناس، وإن أعمالك وأقوالك لا يفهمها إلا من أنار الله بصيرته، وأحاط بدين الله من كل جوانبه، ومع أن هؤلاء في زماننا ولكنك يا عبده قد أتعبتني منذ عرفتك، ولا أخال الأمر إلا هكذا ما حييت، عفا الله عنك يا بني.

ثم شد الشيخ على يد صهره مودعاً وهو يقول: على أني لا أضيق بيوم التقينا فيه، ولا أتمنى الآن غير الذي جرت به المقادير. ثم انصرف.

عاد الشيخ إلى داره وأقبل على ابنته وحفيده، وطفق يبالغ في الإكرام والتدليل، ثم إن الطبيب أتى بخادمة لزوجته، وبعدها بفترة رزق بولده الثاني محمد عبده ، فكان الخواجه إبراهيم عبد الملك يخبر أنه ما رأى في حياته يوماً أشد هولاً عليه من يوم الأحد الذي أعلن فيه رجال الكنيسة طرد ولده الأكبر من رحمة يسوع، وبقيت صورته حاضرة أمام ناظريه وهو يهرول مسرعاً إلى خارج الدار، والهيئة المقدسة تعلن أنه مفقود، والجميع يلاحقونه باللعنات والتهديدات والتوعدات، يقول: حتى جاءني الخبر بأن ولدي عبده قد سمى ولده الثاني محمداً ، فكان في هذه التسمية القضاء على ما كان باقياً عندي من أمل ورجاء.

في يوم من أيام سنة (1909م) والأسرة الصغيرة في حياتها الوادعة على مقربة من السجن، والوقت بعد الظهيرة، والحر قائض، والطبيب قد أنهى عمله وعاد إلى داره إذا بأحد مساعديه يصعد الدرج مسرعاً ويقترب منه، ويهمس في أذنه كلاماً هاماً، وبدا على وجه الطبيب أنه لا يصدق ما سمع، ورفع الطبيب صوته متسائلاً: وأين هو الآن؟ قال: إنه يقف بباب الدار.

ونزل الطبيب الشاب مسرعاً من فوره، وعاد ومعه ضيف من القاهرة، كان هذا الضيف هو الخواجه إبراهيم والد الطبيب، وقد وصل فجأة بعد قطيعة تامة ومتصلة، منذ كان ولده في مرحلة الامتياز بالقصر العيني، فدخلت الزوجة والمربية والطفلان إلى داخل الدار، وبقي الطبيب ووالده لا يجدان عندهما ما يقال بعد أن كانا قد تبادلا التحية والمجاملة في اقتضاب.

قال الطبيب: كيف أنت يا أبي؟ وكيف حال أمي وإخوتي؟

ولما هم الوالد بالجواب احتبست الألفاظ في صدره، واحتمل رأسه بين يديه لحظة، ثم انهارت بقية المقاومة التي كان يعانيها منذ وقت طويل مضى، فانفجر ينتحب كالثكلى، ولم يحاول ابنه أن يمنعه، بل تركه برهة وأخلى له المكان حتى يفرج عن نفسه وهمومه، وأقبل عليه حينما عاوده الهدوء وقال: ماذا بك يا أبي؟ وكيف أمي وإخوتي؟ قال: إنهم بخير نحمد الرب، ولكن أباك هو الذي على حافة الهاوية! قال: هون عليك، وأشركني فيما يئودك حمله لعلي أكون في عونك. قال: لهذا جئت إليك، ولا أخفي عنك أنني ما سعيت إليك إلا بعد أن انسدت الدنيا كلها في وجهي، وكادت الفضيحة أن تحطم حياتي.

ثم سكت لحظة عاد بعدها يقول -وقد تهدج صوته من جديد-: يا عبده ! إن البيت الذي ولدت فيه ونشأت حتى أتممت معظم دراسة الطب هذا البيت الذي يأوينا ويتسع لأسرتنا كلها سيباع في غدٍ بأبخس الأثمان أمام دائرة البيوع بالمحكمة وفاءً لدين استحق للبنك، وكان الدين صغيراً، ولكن الفوائد ومصاريف التقاضي ضاعفته، وأختك -يا عبده- ابنتي الكبرى سيكون زفافها بعد أسبوع واحد، ولا أعلم كيف أواري فضيحتي المالية وطردي من بيتي عن أصهاري الذين يحسنون بي الظن، ومن أجل ذلك جاءوا للمصاهرة! وأي مصير سيواجه شقيقاتك الأخريات إذا ما خاب زواج الأولى بسبب إعلان إفلاسي؟! فأظلمت الدنيا في وجهي. وخانته قواه فعاد يبكي وينتحب في مرارة شديدة.

وسأله ابنه: كم تبلغ القيمة؟ قال: ثمانمائة جنيه والبيت -كما تعلم- يساوي أضعاف هذه القيمة، ولكن جلسات البيع يسودها جو من المناورات والاحتكار البشع، وإن موظفي البنك أنفسهم يحيطون مثل هذه البيوع بإجراءات جهنمية، تكفل لهم توجيه البيوع على هواهم.

قال الطبيب: إن هذا لعجيب! أوليست المحاكم تقوم من أجل الحق والعدل؟! فبكى الوالد ثم نظر وقال: بني! إنك تعيش في برجك العاجي بعيداً عما يدور في الأسواق من ظلم وفساد، إن الدَّين الصغير -يا بني- يكفي للإطاحة بثروة كبيرة، خاصة إذا وصل الأمر إلى دائرة البيوع، ومن حول الجلسة زبانية يتسمعون الأخبار ويتعارفون على كل وافد للمزاد.

قال الطبيب: لماذا لا ندفع جانباً من الدين ثم نتدبر في أمر الباقي؟ فكأنه شعر أنه لا يريد أن يمد له يد المساعدة فقال: يا بني! يا عبده ! قلت لك: إن هذا كله قد فات أوانه، وإني أواجه حكماً بنزع الملكية وفاءً لدين مقداره كذا.

وظل يشكو له ما حدث بالتفصيل، وكيف أنه الآن على الهاوية، ثم قال: عفواً يا بني، لقد أفسدت عليك وقت الراحة، والجو شديد الحرارة، ولكن العذر واضح لك، ولي معك كلمة أخيرة أقوله وأنا واثق من أن جميع إخوتك يؤيدونها راضين بها، وأنت يا عبده أولى من الغريب، فتعال معي في جلسة البيوع لتشتري أنت البيت قبل جلسة المزاد لقاء دفع قيمة الحكم كاملة، فلا يضع الغريب يده على دارنا ويسيء إلى أبيك وسائر أفراد أسرتك.

ثم قال له والده: ما قصدت شيئاً من ذلك أبداً. وإنما أقول: أنت أولى من الغريب، ثم إنك لن تلقي بأهلك إلى الطريق العام إن قصروا في دفع الإيجار، ثم إن لك أسرة خاصة الآن، ولأولادك حق على مالك، وهذا ما قصدته حين قلت لك: أنت أولى من الغريب، فلا تزدني ألماً، وحسبي ما أنا فيه.

قال الطبيب: لا عليك، اصبر يا والدي، وائذن لي بتركك برهة صغيرة. ودخل إلى حجرته الخاصة، ثم عاد يحمل كيساً في يده، ودفعه إلى أبيه وقال: هذه ثمانمائة جنيه ذهباً هي لك يا أبي، فتصرف فيها كيف تشاء.

فدهش الوالد من هذا التحول من الجدال إلى الفعل الناجز، وسأل في تكرار: والدار متى تحضر لاتخاذ اجراءات نقل ملكيتها إليك؟

قال: لا حاجة لي بها، بل تبقى داراً لك أنت، فأنت والد الجميع، ومن مركزك في الظاهر وفي الجمالية تستمد الأسرة كلها تقدير الناس، وإني ليسرني أن تبقى محل ثقة الناس واحترامهم.

وضع الوالد كيس المال بجواره على الأريكة، وأطرق وهو يقلب عصاه بين يديه، ثم قال في صوت خافت تتجاوب فيه أصداء من الشعور بالخجل والصغار: ماذا صنعت بك وأنا قادر عليك؟! وماذا صنعت معي وأنت قادر علي؟! وتساقط الدمع من عينيه في صمت ذليل حتى رق له قلب ولده فبكى لبكائه، وانصرف الخواجه إبراهيم ، ونجا من ضائقة كادت تعصف به، وعاد الطبيب إلى داره بعد فترة قصيرة قضاها في وداع أبيه إلى أن تحرك القطار.

كان الطبيب منهكاً وهو يعود إلى بيته، وفي الطريق كان يمني نفسه بساعة من النوم العميق، ولكنه أخطأ الحساب وأسرف في الأمل، فما إن دخل داره التي تركها من برهة قصيرة وغادرها وهي هادئة ساكنة حتى صارت مسرحاً لأحداث غريبة تجري سراعاً، فهاهو يرى سيده -المربية- عاكفة على صرة ضخمة من لوازم الدار، وملابس الصغار والكبار، تنسق شيئاً من فوق أشياء، وإلى جوارها صرة أخرى فرغت من شد وثاقها، والصغيران قد وضعا في ثياب الزينة والزيارات، وزوجته تذهب وتجيء في ركن من الدار إلى درج يؤدي للسطح.

وكانت الخادمة تأخذ الصرر وتضع فيها المتاع.

فظل الطبيب يراقب الحركة في صمت كأنما صام عن الكلام، ولا أحد منهم يتكلم، إلى أن وصل الأمر إلى النهاية، ورفعت الزوجة ابنها الصغير على ذراعها الأيسر وأسندته إلى كتفها، وأمسكت بيد الولد الأكبر، وحملت المربية صرة بعد أخرى -ولم تكن حقائب السفر انتشرت في ذلك الوقت- واستعد الركب للرحيل، وتقدمت الزوجة نحو الباب وهي ثابتة على صمتها، وفي عينيها أثر واضح لدمع تغالبه، وجاءت المربية من خلف سيدتها، والطبيب الذي أجهده عمله طول اليوم ومن بعده لقاؤه المثير بأبيه ساكن في ضيق وصبر، فإن الوقت لم يكن مناسباً لإعلان الغضب.

فتقدم إلى مدخل الدار، واعترض سبيل زوجته وهي توشك أن تنصرف، فتوقف وقال: إلى أين؟ ولا جواب! والصغير على كتفها، والمربية تحمل الصرات، والزوج لا يتحول عن مدخل الدار ولا يسمح لزوجته بالخروج، وهذه حال لا يطول الصبر عليها، فسقطت الأحمال التي على رأس سيده المربية إلى أرض الصالة.

وتقدمت الزوجة من زوجها قائلةً: ابتعد ولا تعترض طريقي! قال: حتى أعرف إلى أين؟ قالت: كنت واهمةً كما أنت واهم الآن تماماً. قال: كيف؟ قالت: إنما بيننا قد انتهى. قال: وما الأسباب؟! قالت: ما من سبب ولا غضب، يكفي أن تعلم أنك مجنون، وأنا لا أعاشر المجانين. ولم يكن الطبيب قد سمع من زوجته الوديعة المهذبة كلاماً كهذا في أشد الأيام التي مرت بهما، وبدا له أنها في حالة من الثورة النفسية التي لا يؤمل معها نقاش ولا حوار، ولذلك لجأ إلى الحكمة وخلى بينها وبين مدخل الدار، وقبع في زاوية من الأريكة يراقب التطورات، فانفجرت براكين الغضب الكامن في أعماق الزوجة، وأغراها سكون الطبيب فسألته في حدّة: أعرّفك لماذا أنت مجنون؟ إنك تصبح وتمسي ولا تذكر إلا الموت، ولا حديث لك إلا عنه وأنه قريب من الآدمي، وكلما خلوت بي أوصيتني بولديك خيراً إذا سبقت المنية إليك، فكيف -يا ترى- تحقق وصيتك فيهم إن كنت تتلف المال بهذه الطريقة؟ أما علمت أن هذا المال هو حصاد تدبيري طوال سنوات انقضت من عمرك في الوظيفة والمهنة جميعاً؟!

ثم سكتت تغالب دمعها حتى ملكها الغضب من جديد فقالت: وإلى من دفعت المال؟ إلى من يحترم أصهارك ويحب ولديك؟! إلى من يؤتمن على تربيتهما من بعدك إذا وافاك الأجل صغيراً كما تقول؟!

والطبيب كان دائماً يتوقع أن يموت وهو صغير السن، وقد كان الأمر كذلك، فقد مات عن خمس وثلاثين سنة رحمه الله.

ثم أقبلت على زوجها وجلست في مواجهته وعلا صوتها وهي تقول: لقد نظرت في خزانتنا فما وجدت إلا حفنة من الدراهم، وكل ما عندنا من مال للزمن ذهب به أبوك، فمن أبوك هذا؟! لماذا لم يتذكرك إلا حين أظلمت في عينيه الدنيا وسدّت في وجهه أبواب الخلاص؟! أوليس أبوك هذا هو الذي طردك من الدار ليلاً كما تقول؟! أوليس هو الذي أغرى بك الأهل والكنيسة ليطاردوك ويلاحقوك بالأذى وسوء السمعة؟! أوليس هو الذي قاطعك خمس سنوات أو تزيد، ولا يعنيه شيء من أمرك إلا أن يكون شامتاً فيك أو ساخراً منك أو من أبي الذي آواك وزوجك من ابنته!

واستمرت الزوجة تكيل له شديد التقريع والتأنيب في غضبة جامحة، والطبيب يتذرع بالصبر، ويلوذ بالصمت، وعلى حين كانت الزوجة لا تزال ترميه بحمم الغضب كان هو يتفكر في اللقاء الذي تم بينه وبين أبيه، وقد شعر بأن حق الوالد كان مرعياً في هذا اللقاء، ولكن ترى ما حال الحقوق الأخرى التي لزوجته وأولاده عليه؟! وتأمل الطبيب الموقف من جديد وهو يسائل نفسه: ترى هل أصبت في هذا التصرف أم أنني قد أصبت في شيء واحد على حين غابت عني أشياء؟ ثم أسلمته الزوجة للتفكير، وذهبت إلى بيت أبيها وتركته بمفرده.

وبعد ثلاثة أيام دخل عليه صهره -الشيخ عبد الحميد - ومعه الأسرة الصغيرة، وسيده تحمل في العودة أضعاف ما حملته عند مغادرة الدار من الصرر، وأقبلت الزوجة وهي تحمل ولدها الصغير وتمسك بيد الكبير إلى حجرة النوم في صمت وخجل، وهي تتجنب النظر إليه، وتختصر في رد المقال عليه، وانسحب النساء والصغار بعد ذلك إلى الداخل، وبقي الشيخ والطبيب يتحادثان.

قال الشيخ: ما عرفت على ابنتي أنها كاذبة أبداً، وإني لأحمد الله على ذلك حمداً كثيراً، ولقد قصّت علي كل ما دار بينكما في الأيام الأخيرة، وذكرت لي ما وجهته إليك من أقوال وأفعال ونعوت، وكذا تصرفك معها، ورأت بعد أن سكت عنها الغضب أنها أخطأت من الألف إلى الياء!

قال الطبيب: ما أظنها جرأت -يا عم- على أن تنقل إليك ما ألقت به في وجهي من قصائد المديح والثناء.

قال الشيخ: إنني لا أستبعد -رغم صدقها- أن تكون قد أخفت أشياء من هذا الأمر حياءً مني حين حست بخطئها، ولكن على أية حال فلقد كان القدر الذي ذكرته لي كافياً لإدانتها والحكم ببراءتك، وما بك الآن حاجة إلى إحصاء المزيد من الحيثيات. وأخذ يذكره بالحقوق والواجبات الأسرية وغير ذلك من الواجبات.

ثم قال له الشيخ -بعد هذه المقدمة-: وفي حالتك -يا دكتور عبده- فأنت أدرى الناس بما حدث، ثم إن والدك هذا قاطعك سنوات طويلة ولم يظهر فجأة في حياتك وحياة أولادك إلا ليستدر عطفك عليه وهو في محنة تمس البيت كله، فبأي حق يطلب منك النجدة؟! ولماذا جاء الآن فقط يرجوك أن تنقذ بيته ومستقبل ابنته وهو يعلم أن الدين قد فرق بينه وبينك وأنك لا ترثه هو ولا أمك ولا أحداً من سائر قرابتك، كما أنهم ليس لهم حق الإرث في مالك؟!

كان الطبيب مطرقاً برأسه وهو يستمع، ثم رفع رأسه وهو يجيب على هذا التساؤل قائلاً: لقد أحسنتُ إلى أبي -يا عم- بحق الوصية التي فرضها له الملك الديان، وبحق القرآن الذي آمنت به وجعلته سبيلي إلى طاعة خالقي الذي هداني، أوليس قد جاء في القرآن قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:14-15]؟! قال الشيخ: بلى، وصدق الله العظيم.

قال الطبيب: أوليس قد جاء في كتاب الله الكريم المحكم قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:8]؟! قال الشيخ: بلى، وصدق الله العظيم.

وساد الصمت بينهما برهة تدبر كل من الرجلين خلالها معاني الآيات الكريمة وأهدافها النبيلة، ثم ما لبث الطبيب أن قال: إن هذه الآيات يتلوها كل مسلم ويؤمن بها كل مهتد، وما في ذلك من ريب، ولكن حدثني بربك -يا عم-، فأنت رجل علم وتجربة، ألست ترى معي أن هذه الآيات تأخذ بناصيتي وبناصية كل عبد هداه الله من بين فئة كبيرة على الضلال.

وتذكر الطبيب العناء الذي لاقاه منذ بداية المرحلة الثانوية، ثم قال: لقد جاهداني، وأشهد الله على ذلك، ولعل أبي كان أشد قسوة، لكن أمي كانت تراقبني وتمهد من يراقبني، وتغري بي أبي وإخواني وأخواتي ظناً منها بأن في هذه الملاحقة الخير لي.

ويتابع قائلاً: ثم ضربت الأيام بيننا حجاباً من مشاغل الحياة ومن ضيق النفوس بالقيل والقال، وما أظنني على صواب فيما كان من قطيعة؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، فأي معروف هذا وأنا لم أصاحبهما؟! بل كانوا يصرون على قطع ما بيني وبينهما، وأي صنيع سيئ أكون قد صنعت لو أنني تركت أبي يعود من زيارتي ولم أنقذه على حين ظل المال راكداً في خزانتي؟!

أتظن -يا عم- أن المال هو الذي يصلح من شأن العيال بعد فقد عائلهم؟ أعتقد أنك تعلم أن الأمر على خلاف ذلك، أما الحق فهو ما أنبأنا به القرآن، حيث يقول سبحانه في سورة الكهف: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82].

ثم قال: أولا ترى معي -يا عم- أن مجيء أبي إلى داري -خاصة بعدما سمع بمولد محمد - قد كان من جانبه كركوب أشد الأهوال وأقساها؟ أولا ترى أن مجيئه إلى بيت ولده الذي عرف حقيقة أمره هو نصر لي من عند الله؟! إنني لا أنكر أن التصرف الذي صدر مني قد مس حقوق ولدي وزوجتي، ولكن المبادرة كانت قضاءً لا فكاك منه، ومع ذلك -يا عم- فإننا -إن يكتب الله لنا عمراً- سننظر فيما تأتي به المقادير إن شاء تعالى. قال الطبيب ذلك وقد اعتزم في نفسه أمراً.

نهض الشيخ يريد الانصراف بعدما سمع دفاع صهره الطبيب الشاب عن والده، وإذا بابنته تعترضه وتتشبث به لتطيل بقاءه، ورفع الشيخ عصاه في وجه ابنته، لكن الزوج كان قد أسرع إليه وقال: ما هكذا -يا عم- علمتنا أن يكون الإقناع!

قال الشيخ لابنته: اسمعي يا هذه: إنك هوجاء لا تعقلين، إنك لا تعرفين قدر هذا الرجل الذي معه تعيشين، فاحمدي الله أن رزقك بمثله، ولتحذري بعد اليوم أي إساءة له أو سوء فهم لراشد تصرفاته، وكان هذا الموقف فاصلاً معي بين عهد لا يخلو من قلق وارتياب وعهد جديد ساده اطمئنان إلى حسن إسلام الطبيب وصدق إيمانه.

زاد الطبيب اقتراباً من الأسرة ومن الناس، واتجه إلى الخروج من عزلته التي كان قد ضربها على نفسه وارتاح لها في خدمة السجون، فالتحق بوزارة الصحة، وأنجب ولدين آخرين هما محمود وإبراهيم ، حين كان طبيب مركز السابلوين نحو أربعة أعوام.

ثم حملت زوجته من جديد، فقال هو: علي أو علية. فكانت علية التي توفي عنها أبوها وهي طفلة عمرها شهران، حين كان طبيباً لمركز من المراكز، وكانت جيوش الحلفاء الكبرى تنتقل في بعض مواقع محافظة الشرقية، وكان قد انتشر بين الجنود وباء التيفود، فانتقلت العدوى إليه أثناء عمله في المخيمات التي يعزل فيها المرضى، وأحس الطبيب الشاب بدنو الأجل، فقد كان -رحمه الله- صالحاً شفاف البصيرة، وكأنما خاف على زوجته وأولاده مما سيلاقونه لو وافته المنية بعيداً عن الأهل.

فحزم حقائبه، وأغلق داره وعيادته، واصطحب زوجته وخادمته وأولاده، وشغل ديواناً مستقلاً بالقطار حتى لا تنتقل العدوى منه إلى غيره من الركاب حتى وصل إلى منزل صهره الفاضل الشيخ عبد الحميد مصطفى رحمه الله، لكن إخلاص صهره وسهر زوجته وصغر سن أولاده ومهارة معالجيه من الأطباء لم تفلح جميعها في تأخير لحظة النهاية، فوافاه أجله المحتوم بعد ستة أيام فقط من مرضه، وكان ذلك بعد مغرب شمس يوم الثامن عشر من يوليو سنة (1918م)، بعد أن ضرب للبشر مثلاً عالياً في إصراره وشجاعته، وحسن إسلامه وصدق إيمانه.

وقد منح رحمه الله للبشرية أبناءً نافعين مؤمنين، عاش منهم حتى خلد اسمه وذكره الدكتور عيسى عبده العالم الاقتصادي الإسلامي المعروف، والدكتور المهندس محمد عبده أستاذ الهندسة بجامعات سويسرا، ومن بعدهما أولادهما، نفع الله بهم أمة المسلمين، ورحم الله صاحب هذه القصة ومن أحبه وآواه ونصره، ومن خلف من نسله ونسل أبنائه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
قصتنا مع اليهود 2627 استماع
دعوى الجاهلية 2562 استماع
شروط الحجاب الشرعي 2560 استماع
التجديد في الإسلام 2514 استماع
تكفير المعين وتكفير الجنس 2505 استماع
محنة فلسطين [2] 2466 استماع
انتحار أم استشهاد 2438 استماع
تفسير آية الكرسي 2404 استماع
وإن عدتم عدنا 2395 استماع
الموت خاتمتك أيها الإنسان 2394 استماع