العوائق في طريق التغيير


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الإخوة! عندما نلقي نظرة فيها شيء من العموم على ديار المسلمين وبلاد المسلمين نرى حالاً لا يسر.

منذ عهد ليس بالقريب ونحن نعاني من أمراض خطيرة، كان من نتائجها أن ضعف عالمنا الإسلامي وتمزق وتجزأ، وأصبحنا كما نرى في أيامنا هذه بلا راعٍ، وأمماً شتى مجزأة، حتى طمع فينا كلاب الأرض الذين جعل الله منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، وكان لابد من مسيرة أخرى، تعيد الحق إلى نصابه والرمح إلى باريها، وتجعل المسلمين في القيادة مرة أخرى، كما جعلت من أوائل هذه الأمة ورعيلها الأول خير أمة أخرجت للناس، وقد بلغت بعض المسيرات في العالم العربي والإسلامي إلى مستوى جيد، وبعضها تعثر في أول الطريق، ولم تبلغ المسيرة كمالها وغايتها بعد، وكان لذلك أسباب، هذه الأسباب قد تكون مزالق، وقد تكون عوائق، وقد تكون عثرات، وأنا لست في موقف أريد به تجريح جماعة أو وضع اللوم على جماعة دون غيرها، إنما هي أخطاء تراءت لي من خلال النظر في مسيرتنا الإسلامية، أردت تبيينها، وإلقاء الضوء عليها، لعلنا نستطيع تجنب هذه المزالق وهذه الأخطاء، ونحن نجدد في المسيرة دائماً، ونريد بها أن تبلغ غايتها، وأن تبلغ القمة إن شاء الله.

المزلق الأول: التعصب الأعمى للجماعات

فمن هذه الأخطاء أو هذه المزالق والعثرات التي في التغيير سواء كان في الفرد أو في الأسرة أو في الجماعة أو في الحكم والتطور، كل ذلك بنوع من الشمول.

هناك خطأ في بداية التغيير يقع فيه بعض الذين ينصبون أنفسهم دعاة إلى الله سبحانه وتعالى، فإنهم لا يحسنون نقطة البداية، فيكون بناء نفس المدعو بناء خاطئاً، فعندما ندعو جماعة أو فرداً في جماعة إلى الإسلام، ينبغي أن ندعوهم من منطلق إسلامي يربط الفرد بخالقه سبحانه وتعالى.

فالإنسان عبد لله سبحانه وتعالى ينبغي له أن يسير إلى الله عز وجل، وأن يخضع حياته ونفسه له سبحانه وتعالى وفق منهج وضعه الله سبحانه وتعالى.

فالله الذي خلقه وأوجده وهو الذي أعطاه هذه النعم، هذه هي البداية التي تربطه بالله سبحانه وتعالى، فلا يعبد فرداً أو جماعة من البشر، وإن وصل إلى درجة أن يرتبط فيها بجماعة ما عند ذلك يكون قد عمل عملاً طيباً، وإن لم يرتبط بجماعة أو لم يوفق بها، فسيبقى عبداً لله سبحانه وتعالى، ولن يخرج عن دائرة الإسلام.

إن البداية التي تبدؤها بعض الجماعات بقولها: واقع الأمة واقع سيئ حقاً، والواقع السيئ يحتاج إلى تغيير، والتغيير لابد له من جماعة، والجماعة التي تستطيع التغيير هي الجماعة الفلانية، إذاً لابد أن تكون فرداً في هذه الجماعة، فهم من البداية يعبَّدون للجماعة.

فالبداية لا تكون بهذا الشكل، ولا بارتباط الإنسان بشيء آخر إلا بدعوة الرسل كلهم قال تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].

وبعض الناس قد يستسهل هذا الأمر، ولكنه في حقيقته فيه نوع من الخطورة، فالذين ينتمون إلى تجمعات لا يحسنون نقطة البداية، يتناسون عند الصدمات وعند المصائب، ولا تفقدهم تجمعاتهم بل يفقدهم الإسلام.

المزلق الثاني: الاعتزال عن الناس

وهناك نوع آخر أشد بعداً من النوع الأول، وهو أنَّ بعض الناس يرون أنه لا يجوز أن ينتظم الناس في جماعة.

فيقولون: انتهى عصر الخلافة والإمامة، وليس للناس الآن إلا أن يعتزلوا في الكهوف وفي الغابات وتحت الأشجار، وعلى رءوس الجبال حتى يبعث الله المهدي ، وعند ذلك يعود للمسلمين أمرهم وشأنهم.

فيجعلون الانتماء إلى أي جماعة ما جريمة من الجرائم، ويوردون الأدلة على أن هذا خراب، ويحتجون بحديث حذيفة رضي الله عنه: (كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير) إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليه قذفوه فيها. قلت: فما تأمرني -يا رسول الله- إن أدركتهم؟ قال: إن كان للمسلمين جماعة وإمام فأنت معهم، وإلا اعتزل تلك الفرق كلها) فيقولون: كل هذه التجمعات الموجودة في الساحة التي تدعو إلى الله هي الفرق التي ينبغي أن يعتزلها المسلمون؛ لأنهم دعاة على أبواب جهنم.

وبعض الناس اعتزل الآخرين هرباً من حياته أو من وظيفته أو من تدريسه أو من تعيينه، وذهب إلى الكهوف بعيداً عن الناس، ليكف عنهم خيره وشره، ويأكل مما تخرجه الأرض، ويشرب من مائها.

فهذا مزلق من المزالق الخطيرة سببه سوء الفهم لما تضمنته نصوص الآيات والأحاديث، فالله سبحانه وتعالى لم يرد منا أن نعتزل الناس إلا عندما يكون أمامنا دعاة على أبواب جهنم، أما إذا كنا لا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي بعض، ونتعاون على البر والتقوى، ونعيد المسيرة الإسلامية مرة أخرى كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما بدأ الإسلام غريباً فتجمع عليه أهله، ثم تصارعوا مع الباطل فصرعوه، فذلك واجب لابد منه.

المزلق الثالث: التغيير بمنهج منحرف

التغيير لابد أن يكون بمنهج الإسلام، أما إذا كان بمنهج غير إسلامي فهو عبارة عن نقل الناس من باطل إلى باطل، ومن شر إلى شر، فنحن نريد المنهج الذي يريده الله سبحانه وتعالى، فإذا كان منهجاً لا يريده الله سبحانه وتعالى، فليس فيه فائدة.

وقد وقع تغيير في عالمنا الإسلامي في هذا القرن قبل سنوات في إيران، فهل هذا هو منهج التغيير الإسلامي الذي يرضى عنه الله؟ فلو بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ورأوا هذا التغيير فإنهم سيقولون: ليس هذا هو المنهج الذي نريد أن نغير به.

فالمنهج الذي يرفع البشر إلى مصاف الآلهة، والذي يمتلئ بالأحقاد على تاريخ هذه الأمة ويلعن أولها، والذي يفضل الطوائف المنحرفة على الطوائف الطيبة الخيرة، لا يمكن أن يكون هو المنهج المطلوب والسبيل.

إن التغيير بمنهج محرف وبعيد عن كتاب الله وسنة رسوله وعن الضوابط السليمة للإسلام، لا يمكن أن يكون تغييراً صواباً حقاً.

المزلق الرابع: المناقشة في المسلَّمات

ومن المزالق أيضاً المناقشة في المُسَلَّمَات: بأن تظهر جماعة وتناقش في مسلمة أصلية أو فرعية كانت مسلمة عبر التاريخ الإسلامي.

فالجماعة التي تقول لأفرادها: إن تقبيل المرأة الأجنبية ليس به بأس، تصبح بهذا الحكم مخالفة للأمة بأكملها من قبل ومن بعد.

إن وضع المرأة في المجتمع الإسلامي ألا تصل إلى مراكز الدولة، فلا تكون حاكمة للمسلمين خليفة أو نائبة عنه، ولا في مجلس الشورى، فهذه قضية مسلمة.

فمن يتبنى أن للمرأة أن تصل إلى أي مستوى في الدولة الإسلامية، فهذا طعن في المسلمات عبر القرون، وهذا مما لا نقاش فيه، ولا يحتاج إلى دليل؛ لأن الأمة الإسلامية كلها من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الآن كانت متفقة على هذه الأمور ولم تناقش فيها، والمناقشة في هذه المسألة تجهيل للأمة، وفتح لباب مغلق لم يفتح من قبل، ومعنى ذلك أننا نحن الذين نفهم، ونحن على خير وبقية الأمة كانت جاهلة عبر تاريخها الطويل.

المزلق الخامس: تقديم كلام القائد أو الجماعة على النص الشرعي

إن جعل كلام الجماعة أو قائدها في درجة أعلى من النص الشرعي يعتبر قضية خطيرة ومزلقاً خطير.

فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً، والجماعة صدر عنها قول مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الناس لا يعلمون كل شيء، ولا يبينون ما جاء من عند الله من الذي جاء من عند البشر، فيكون قانوناً عندهم أنه كلما تبنته الجماعة ينبغي أن يؤخذ به ولا يترك منه شيء، فإذا ترك فرد من الأفراد منه جزئية فإنه يخرج عن الجماعة، ولا يصبح فرداً منها، فهذا أمر خطير.

مثال ذلك حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر فيه أن كل مال أديت زكاته لا يسمى كنزاً، لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التوبة:34] فمن تبنى العقل دون النص، فقال: المال الذي أديت زكاته يسمى كنزاً، فيواجه الأفراد بهذا، فلا يمكن أن تتغير آراؤهم وأقوالهم أبداً، لأنهم ملزمون بأن يتبعوا جميع ما قالته الجماعة، وما صدر عنها، والله سبحانه وتعالى ذم أقواماً قال في حقهم: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] أي: لم يسجدوا لهم، وإنما اتبعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال.

وفسر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لـعدي بن حاتم عندما قال له: (يا رسول الله! ما عبدناهم. قال: ألم يكونوا يحللون الحرام فتتبعوهم؟ ويحرمون الحلال فتتبعوهم؟ قال: نعم. قال: فتلك عبادتهم).

فإذا كان الفرد أو القائد أو الرائد بشراً لا يحيط بالشريعة الإسلامية، ولا يتعمد مخالفتها، بل قد يخطئ أو ينسى، ثم نتبعه ونسير وراءه، ونعلم أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف قوله فالمسألة خطيرة، وعندما يجعل كلامه مبدأ عاماً، وأنه لا يجوز الخروج عن الجماعة في جزئية من الجزئيات، يصبح الناس كلهم قالباً واحداً أو قوالب متشابهة.

المزلق السادس: جعل القضايا الجزئية بمثابة الكلية والعكس

ومن المزالق أيضاً ما يسمى بالقضايا الجزئية والكلية، وهذا له جانبان:

فبعض الناس يجعل القضايا الجزئية كأنها قضايا كلية، يشغل ليله ونهاره بها، ولا يفهم كليات الإسلام وهي: الأهم والمهم والأقل أهمية إنما يهتم بقضايا جزئية ويثيرها بين الأمة فتصبح هي مشكلات الحياة.

وبعض الناس في الجانب المقابل يعلم الجزئيات التي ينبغي أن يلتزم بها في حياته كمسلم في الصلاة والصوم وغيرهما، ثم يقول هذه أمور تافهة، فهذان خطآن في آن واحد.

والفصل في ذلك أن المسلم لابد أن يلتزم بهذه الأمور في خاصة نفسه، وفي صلاته وصومه وحجه وكذلك في سلوكه ومظهره، وما الإسلام إلا جزئيات، أما في واقع المسلمين فيقدم الأهم على المهم، فعندما يتحدث للناس ويبين لهم فإنه أولاً يهتم بالأصول فإذا ما استقرت في واقع الحياة، فعند ذلك يمكن أن يبني عليها في الفروع.

فإذا وجد إنسان لا يفهم العقيدة، فأنكر عليه لبس خاتم ذهب، وهو مشرك بالله سبحانه وتعالى.

أو وجد إنسان لا يصلي فأنكر عليه قضية اللحية، فهذان خطآن في طريقة التعامل مع القضايا الكلية.

ومن الأمور التي ينبغي أن يشار إليها أيضاً: العناية بالأفراد، أو ما نسميه بالعمل الفردي والعمل الجماعي، وللناس في ذلك اتجاهان:

الاتجاه الأول: من الناس من يقول: لا فائدة من العمل الفردي، أي: تربية الناس فرداً فرداً، فلابد أولاً أن نسعى لإقامة الدولة الإسلامية بكل ما أوتينا من قوة، والأمور الأخرى كدعوة الناس، والعناية بهم، وتربية الأولاد الصغار وما أشبه ذلك، فهذه أمور سهلة ميسورة، عندما تتغير هذه الدنيا وتأتي الدولة الإسلامية.

والاتجاه الثاني: آخرون لا يفهم أصحابه إلا أفراداً يدعونهم إلى الله سبحانه وتعالى، ولا ينظرون إلى ما وراء ذلك، والإسلام وسط بين هذين الأمرين، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143].

فالرسول صلى الله عليه وسلم بدأ فرداً ودعا أفراداً، والأفراد كونوا جماعة، والجماعة اعتنت بالأفراد على الرغم من كونها جماعة، في دعوته وفي تربيته؛ لأنه هو الذي سيشكل في جسم الأمة لبنة جديدة، وفي جسم الجماعة لبنة جديدة أخرى، فهذا هو الأمر الوسط بين هذا وبين ذاك، ولابد منهما في آن واحد.

المزلق السابع: مداهنة الحكام الظلمة في الدعوة

ومن الأمور التي تعد أيضاً من المزالق: تطويع دعوة الله سبحانه وتعالى للظلمة والطغاة باسم الإسلام، وباسم اللين في الدعوة وإحسان الدعوة، فلا يطوع العمل الإسلامي ولا الجماعات الإسلامية للطغاة والظلمة، فهذا مزلق خطير وقع فيه أناس يزعمون إحسان الدعوة، وأنهم يفهمونها حق فهمها.

إن دعوة الله تقوم على العبودية لله، ونبذ الطغاة والظالمين، وكثير من الناس أو بعضهم لا يريد أن تكون الدعوة شديدة صعبة، إنما يريدونها أن تكون لينة، فمواجهة الظالمين والطغاة أمر ليس بالسهل؛ لأنهم يملكون المال، والحكم، والرجال، ويقطعون الأعناق.

ثم يبرزون لهذا في أشكال مختلفة، منها: أننا نريد أن نصلح الحاكم فيصلح الناس، وأن الحكام قريبون من هذه الدعوة، فهذا وساوس الشيطان.

وقد أحسن بعض الناس الظن بالحكام في ديارهم، أنهم أخيار أبرار صالحون، ثم اكتشفوا بعد ذلك أنهم ضيعوا فترة ذهبية من تاريخ الدعوة إذ مدوا أيديهم إلى الحكام، وأن هؤلاء الحكام يتلاعبون بهم مرة بعد مرة، ومع ذلك فإن الدعوة هذه مستمرة.

فينبغي أن ييئس الناس من شيء اسمه حاكم في هذه الأيام، وأي وقت يقضيه الدعاة في إقناع غيرهم في أن هؤلاء الحكام يمكن أن يكون الإصلاح من طريقهم، فهم يؤخرون مسيرة الدعوة إلى الخلف.

فما رأينا في تاريخنا الحديث حاكماً يبشر بالخير في عالمنا الإسلامي والعربي أبداً، فكلهم وقفوا في وجه الدعوة الحقيقية، وعندما نقبل بأنصاف الحلول نرضى مسجداً من الحاكم، أو أن يطيل في إذاعة القرآن الكريم بعض البرامج الإسلامية، أو أن ينفق على بعض المشروعات الإسلامية، ثم نقول: هذه هي الدعوة، وهذا هو الإسلام بيننا وبين الحاكم.

وعندما نقول نريد حاكماً بالإسلام ولا نرضى إلا أن يحكم بالقرآن، عند ذلك يكشر لنا عن أنيابه، ويشهر سيوفه في وجوهنا.

وليس هناك من سبيل إلا أن يكون عمل وبناء، ثم مواجهة شئنا أم أبينا، قريباً أم بعيداً، لابد أن نفهم أن هذا هو الطريق، وأن حكامنا يمسكون بالكرسي، بل يقيدون أنفسهم به ولا يخرجون عنه إلا موتى، ولا ينتقل أحدهم منه إلا إلى القبر، لا يرضى أن يتركه فارغاً لغيره أبداً، مسلماً كان أو غير مسلم.

وقريب من هذا المزلق أن نصفهم بأنهم مسلمون ومؤمنون وحكام الإسلام، وبالتالي نصبغ عليهم ما كان يطلق على الحاكم المسلم من قبل، وبالتالي ليس هناك من فائدة للعمل الإسلامي والجماعي، فالناس بخير ما دام هؤلاء الحكام مسلمين، والمسألة إنما هي مسألة تغيير لشيء من الباطل.

إن قوماً نبذوا الشريعة الإسلامية، وألقوها وراء ظهورهم، وجاءوا بشريعة أخرى غير الإسلام تحكم الحياة، وحكموها في رقاب المسلمين وفي أعراضهم، ثم بعد ذلك يقال: إنهم مسلمون، ونتناسى كتاب ربنا الذي يحكم في هؤلاء الحكام فهذه قضية تحتاج إلى تفكير.

فلو قال قائل: أنا مسلم أصلِّي وأصوم، لكن التشريع الذي سأطبقه هو القانون الروماني، أو الشريعة اليهودية، فيعتبر كافراً، فلا تنفعه صلاته ولا صومه؛ لأنه طبق الشريعة اليهودية أو القانون الروماني، وكذلك الذي عزل الإسلام عن الحياة وجاء بشريعة مخلوطة من القوانين الرومانية والفرنسية القديمة والحديثة، ومن الإسلام وجزئياته فالقضية بينهما واحدة، لا تختلف إلا أن الأول كان صريحاً والآخر كان خبيثاً ماكراً.

فهذا مزلق ينبغي للمسلمين أن يتبينوا أمرهم فيه، ويعلموا حقيقة هؤلاء الحكام وموقفهم من الإسلام؛ لأن مواقفهم ستبنى على هذا الأساس.

فمن هذه الأخطاء أو هذه المزالق والعثرات التي في التغيير سواء كان في الفرد أو في الأسرة أو في الجماعة أو في الحكم والتطور، كل ذلك بنوع من الشمول.

هناك خطأ في بداية التغيير يقع فيه بعض الذين ينصبون أنفسهم دعاة إلى الله سبحانه وتعالى، فإنهم لا يحسنون نقطة البداية، فيكون بناء نفس المدعو بناء خاطئاً، فعندما ندعو جماعة أو فرداً في جماعة إلى الإسلام، ينبغي أن ندعوهم من منطلق إسلامي يربط الفرد بخالقه سبحانه وتعالى.

فالإنسان عبد لله سبحانه وتعالى ينبغي له أن يسير إلى الله عز وجل، وأن يخضع حياته ونفسه له سبحانه وتعالى وفق منهج وضعه الله سبحانه وتعالى.

فالله الذي خلقه وأوجده وهو الذي أعطاه هذه النعم، هذه هي البداية التي تربطه بالله سبحانه وتعالى، فلا يعبد فرداً أو جماعة من البشر، وإن وصل إلى درجة أن يرتبط فيها بجماعة ما عند ذلك يكون قد عمل عملاً طيباً، وإن لم يرتبط بجماعة أو لم يوفق بها، فسيبقى عبداً لله سبحانه وتعالى، ولن يخرج عن دائرة الإسلام.

إن البداية التي تبدؤها بعض الجماعات بقولها: واقع الأمة واقع سيئ حقاً، والواقع السيئ يحتاج إلى تغيير، والتغيير لابد له من جماعة، والجماعة التي تستطيع التغيير هي الجماعة الفلانية، إذاً لابد أن تكون فرداً في هذه الجماعة، فهم من البداية يعبَّدون للجماعة.

فالبداية لا تكون بهذا الشكل، ولا بارتباط الإنسان بشيء آخر إلا بدعوة الرسل كلهم قال تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].

وبعض الناس قد يستسهل هذا الأمر، ولكنه في حقيقته فيه نوع من الخطورة، فالذين ينتمون إلى تجمعات لا يحسنون نقطة البداية، يتناسون عند الصدمات وعند المصائب، ولا تفقدهم تجمعاتهم بل يفقدهم الإسلام.

وهناك نوع آخر أشد بعداً من النوع الأول، وهو أنَّ بعض الناس يرون أنه لا يجوز أن ينتظم الناس في جماعة.

فيقولون: انتهى عصر الخلافة والإمامة، وليس للناس الآن إلا أن يعتزلوا في الكهوف وفي الغابات وتحت الأشجار، وعلى رءوس الجبال حتى يبعث الله المهدي ، وعند ذلك يعود للمسلمين أمرهم وشأنهم.

فيجعلون الانتماء إلى أي جماعة ما جريمة من الجرائم، ويوردون الأدلة على أن هذا خراب، ويحتجون بحديث حذيفة رضي الله عنه: (كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير) إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليه قذفوه فيها. قلت: فما تأمرني -يا رسول الله- إن أدركتهم؟ قال: إن كان للمسلمين جماعة وإمام فأنت معهم، وإلا اعتزل تلك الفرق كلها) فيقولون: كل هذه التجمعات الموجودة في الساحة التي تدعو إلى الله هي الفرق التي ينبغي أن يعتزلها المسلمون؛ لأنهم دعاة على أبواب جهنم.

وبعض الناس اعتزل الآخرين هرباً من حياته أو من وظيفته أو من تدريسه أو من تعيينه، وذهب إلى الكهوف بعيداً عن الناس، ليكف عنهم خيره وشره، ويأكل مما تخرجه الأرض، ويشرب من مائها.

فهذا مزلق من المزالق الخطيرة سببه سوء الفهم لما تضمنته نصوص الآيات والأحاديث، فالله سبحانه وتعالى لم يرد منا أن نعتزل الناس إلا عندما يكون أمامنا دعاة على أبواب جهنم، أما إذا كنا لا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي بعض، ونتعاون على البر والتقوى، ونعيد المسيرة الإسلامية مرة أخرى كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما بدأ الإسلام غريباً فتجمع عليه أهله، ثم تصارعوا مع الباطل فصرعوه، فذلك واجب لابد منه.