الأنقياء


الحلقة مفرغة

الله سبحانه وتعالى موصوف بكل كمال منزه عن كل نقص، ولهذا فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون لله عز وجل ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفون عنه سبحانه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك إثبات صفة الحكم والاستفهام لخلقه وهو أعلم بهم، وأنه لا ند له ولا نظير ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى.

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه ليلة الأحد الموافق للرابع من شهر ذي الحجة لعام (1414هـ) وفي هذا المسجد المبارك في مدينة الرس ، وقبل أن أبدأ في موضوعي الذي بين يدي أوجه الشكر الجزيل لجماعة هذا المسجد، وحقيقة أننا نعترف لهم بالعرفان الجميل ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل؛ فإننا نسمع عن نشاطاتهم وأعمالهم الخيرة ومنتدياتهم وملتقياتهم، فنسأل الله جل وعلا أن يبارك فيها وأن يجمع قلوبهم وأن يوفق ويسدد خطاهم، وأتمنى لمساجد أحياء هذه المدينة وغيرها من المساجد أن تحتذي بحذوهم وشكر الله لهم سعيهم.

أيها الأحبة: فعنوان هذا اللقاء وهذا الموضوع هو: (الأنقياء) أو إن شئت فقل: (سلامة الصدر مطلب) وهذا الموضوع هو ثالث ثلاثة، فقد سبقه درس بعنوان: (الأخفياء) وسبقهما درس آخر بعنوان: (الأتقياء).

وإن كان درسا الأتقياء والأخفياء منبعهما هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)، كما تقدم بيانه في الموضوعين السابقين؛ فإن أصل هذا الموضوع -أيضاً- هو حديث أخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب الزهد باب: الورع والتقى، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال صلى الله عليه وسلم: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد).

قال البوصيري في الزوائد : إسناده صحيح ورجاله ثقات.

والحديث أيضاً أخرجه الطبراني في معجمه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب وفيه زيادة، وذكره الألباني في الصحيحة وصحيح الجامع .

ومعنى مخموم: من خممت البيت إذا كنسته، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث أن النقي هو: الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد.

فقلت في نفسي وأنا أتدبر هذا الحديث: ما أحوجنا لمثل هذا النقي في مثل هذا الزمن الذي اتصف بكثرة الخلاف والنزاع والفرقة، فامتلأت النفوس وأوغرت الصدور، فلا تسمع إلا كلمات التنقص، والازدراء، وسوء الظن، والدخول في النيات والمقاصد!

فما هي النتيجة؟!

إن خوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبوا     أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا

على أرائكهم سبحان خالقهم     عاشوا وما شعـروا ماتوا وما قبروا!

فالنتيجة أن أصبح المسلمون أحزاباً كُلُّ حِزْب بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53] وكل حزب من الآخر ينتقصون، فلا نسمع سوى تقسيم الناس وتصنيفهم، ففرح المنافقون وهم لها باذرون وساقون وراعون، وصدق الله عز وجل: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46] .

وأستغفر الله أن أعم، ولكنها فتنة وبلاء طمت وعمت، فأقول: ما أحوجنا لمثل هذا النقي، فأخذت أقلب صفحات السير والتراجم للوقوف على حياة أولئك الأنقياء وتتبع أحوالهم وصفاتهم، فوجدت العجب! ومن العجب الذي وقفت عليه أن من صفاتهم أنهم حرصوا -رضوان الله تعالى عليهم- على تنقية قلوبهم من الحقد والحسد.

فالأنقياء لا يعرفون الانتقام ولا التشفي، ويتجاوزون عن الهفوات والأخطاء .

الأنقياء: يتثبتون ولا يتسرعون .

الأنقياء: سليمة قلوبهم نقية صدورهم.

الأنقياء: يحبون العفو والصفح وإن كان الحق معهم.

الأنقياء: ألسنتهم نظيفة فلا يسبون ولا يشتمون .

الأنقياء .. صفاء في السريرة ونقاء في السيرة، دعاؤهم: اللهم قنا شح أنفسنا، اللهم قنا شح أنفسنا، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] .

وستقرأ كثيراً من المواقف التي تبرهن على ما أقول، ولكن خاطب النفس وقل لها:

ويحك يا نفس احرصي     على ارتياد المخلص

وطاوعي وأخلصي     واستمعي النصح وعي

واعتبري بمن مضى     من القرون وانقضى

واخشي مفاجأة القضا     وحاذري أن تخدعي!

ويحك يا نفس احرصي     على استماع القصص

وطاوعي وأخلصي     للواحد الصمد

لماذا الحديث عن الأنقياء؟ ولماذا الحديث عن سلامة الصدر؟ أيها الأخ المسلم! يا من نلتقي وإياك على لا إله إلا الله! أدعوك وأنت تقرأ هذه الكلمات إلى التجرد من الهوى وترك حظوظ النفس، تجرد من حب التصدر والزعامة، ومن التعالم ومن الكبرياء والغرور، ومن الحقد والحسد، ومن كل الأمراض القلبية، فإنني أريدك أن تقرأ كلماتي بقلب سليم، بقلب ذلك المسلم الطيب التقي النقي، أنسيت أنك خلقت لعبادة الله ومرضاته، وطلباً لجنات الفردوس، أيجوز -يا أخي الحبيب- لمن كان هذا هو هدفه ومقصده من هذه الدنيا أن يغفل عن قلبه؛ فيطلق لهذه المضغة العنان في البغضاء والشحناء، والحمل على الآخرين والانتقام والتشفي؟!

أخي الحبيب: أيها المسلم!

لماذا أصبحنا نسمع كلمات الذم أكثر من سماعنا لكلمات الثناء؟! لماذا أصبحنا نسمع كلمات التنقص أكثر من سماعنا لكلمات التثبت إلا ماشاء الله؟!

كيف غفلت عن هذه المضغة التي (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله)؟!

- كلمات لم تعد تسمع:

سلامة الصدر، طهارة القلب، صفاء النفس، كلمات نادرة الاستعمال وعزيزة الذكر، لا نكاد نسمعها في مجالسنا ومنتدياتنا، موضوعات كثيرة تلك التي نتحدث عنها لكنها لا تخلو من غيبة ملبسة بلباس النصيحة، أو من حديث يشفي الغليل ويرضي الخليل، أو من هم فيه همز ولمز وانتصار للنفس!

فيا من في قلبك خوف من الله جل وعلا، إننا نريد أن نسمع كلمات الحب والإخاء، والصدق والوفاء، والنصح والصفاء، وأن نسمع كلمات الشكر والعرفان، وذكر الفضل والإحسان، وأن نسمع عن جمع القلوب، وعن توحيد الكلمة، وعن الإصلاح بين الناس، وكل ذلك وللأسف في مجالسنا عزيز!

إنني أصغي سمعي لعلي أسمع إلى التماس الأعذار وذكر محاسن الأبرار، فيرتد سمعي خاسئاً وهو حسير إلا ما شاء الله، ولكني كلي أمل فيكم يا من تقرأون كلماتي، وأملي في الله ثم في مشايخي وأساتذتي وإخواني الدعاة وشباب الصحوة خاصةً وجميع المسلمين عامةً، كلي أمل أن نهضم أنفسنا ونعرف قدرها، وأن نحمل على عاتقنا نشر هذا الموضوع -سلامة الصدر- وإكثار الحديث عنه وتكراره في كل مكان وعلى كل لسان، ولا نمل من الحديث عنه أبداً، بل نجعله شعاراً لنا في كل ميدان: في ميدان العلم وميدان البيع والشراء، وبين الرجال والنساء، والعامة والخاصة، في مدارسنا وجامعتنا، وفي أسواقنا ومجالسنا وبيوتنا.

فلنملأ قلوبنا بخوف الله عز وجل، ولتمتلئ قلوبنا بذكر الله عز وجل، فإننا نشعر بقسوة القلب، وامتلاء النفس، وجفاف العين من الدمع.

وليكن هجير كل واحد منا: اللهم إني أسألك قلباً سليماً!

ولنردد كثيراً وفي كل لحظة بل وفي كل ساعة وفي كل سجدة وركعة: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] .

- عناصر هذا الموضوع:

- ثلاثة قبل البداية.

- القرآن يدعوك.

- صور مشرقة في عالم الصفاء والنقاء.

- تكامل الشخصية في حياة السلف.

- نتائج سلامة الصدر ونقاوة القلب وآثاره.

- أسباب امتلاء الصدر وغل القلب.

- السبيل إلى سلامة الصدر وتنقية القلب.

- ثلاثة قبل النهاية.

أما ثلاثة قبل البداية فتنبه لها جيداً، وأرعني قلبك بارك الله فيك.

الأمر الأول: التواضع وهضم النفس

راجع نفسك بعد قراءة هذه الكلمات، واعلم أن الكلام موجه إليك لا لغيرك، وأرجوك ألا تبرر ساحة نفسك من التقصير، واحسب أن الآخرين من المسلمين خير منك عند الله تعالى، (فرب أشعث أغبر ذي طمرين؛ لو أقسم على الله لأبره) .

لا تنظر إلى نفسك بنظرة الزهو والفخر والارتفاع، فكم من مسكين خير منك عند الله، ومن عامي هو خير منك عند ربك، ومن إنسان استجاب الله دعاءه وفتح على قلبه، بينما أنت مازلت تنظر لنفسك في خيلاء وفي كبر والعياذ بالله.

يا أخي الحبيب! أما سمعت لقول بكر بن عبد الله المزني وهو واقف بـعرفة ينظر إلى الناس: -لا إله إلا الله!- [لولا أني فيهم لقلت قد غفر الله لهم!].

يقول الذهبي معلقاً على هذه العبارة في السير: كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها ا.هـ.

الأمر الثاني: سلامة الصدر وتنقية القلب

اعلم أن سلامة الصدر وتنقية القلب مطلب عزيز، والحرص عليه واجب، وبذل الأسباب إليه وسلوك طريقه متعين، ولكن لا تنس أن الناس بشر وأن النفس ضعيفة، فلا بد من الخطأ ولا بد للنفس أن تتأثر، فتنبه لهذا وعامل الآخرين بحسبه.

ولهذا يقول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: [إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله].

سامح أخاك إذا خلط     منه الإصابة والغلط

وتجاف عن تعنيفــه     إن زاغ يوماً أو قسط

واعلم بأنك إن طلبت     مهذباً رمت الشطط

من الذي ما ساء قط     ومن له الحسنى فقط

الأمر الثالث: الحذر من الأعداء

[لست بالخب ولا الخب يخدعني]، لا ينافي سلامة القلب والأخذ بالظاهر، ولكنه يعني الحيطة والحذر، فإن هناك من الناس من يستدرج الناس ويستغفلهم ويلبس عليهم، فعليك أن تكون فطناً متنبهاً، فالله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، ويقول سبحانه وتعالى: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60].

راجع نفسك بعد قراءة هذه الكلمات، واعلم أن الكلام موجه إليك لا لغيرك، وأرجوك ألا تبرر ساحة نفسك من التقصير، واحسب أن الآخرين من المسلمين خير منك عند الله تعالى، (فرب أشعث أغبر ذي طمرين؛ لو أقسم على الله لأبره) .

لا تنظر إلى نفسك بنظرة الزهو والفخر والارتفاع، فكم من مسكين خير منك عند الله، ومن عامي هو خير منك عند ربك، ومن إنسان استجاب الله دعاءه وفتح على قلبه، بينما أنت مازلت تنظر لنفسك في خيلاء وفي كبر والعياذ بالله.

يا أخي الحبيب! أما سمعت لقول بكر بن عبد الله المزني وهو واقف بـعرفة ينظر إلى الناس: -لا إله إلا الله!- [لولا أني فيهم لقلت قد غفر الله لهم!].

يقول الذهبي معلقاً على هذه العبارة في السير: كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها ا.هـ.

اعلم أن سلامة الصدر وتنقية القلب مطلب عزيز، والحرص عليه واجب، وبذل الأسباب إليه وسلوك طريقه متعين، ولكن لا تنس أن الناس بشر وأن النفس ضعيفة، فلا بد من الخطأ ولا بد للنفس أن تتأثر، فتنبه لهذا وعامل الآخرين بحسبه.

ولهذا يقول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: [إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله].

سامح أخاك إذا خلط     منه الإصابة والغلط

وتجاف عن تعنيفــه     إن زاغ يوماً أو قسط

واعلم بأنك إن طلبت     مهذباً رمت الشطط

من الذي ما ساء قط     ومن له الحسنى فقط

[لست بالخب ولا الخب يخدعني]، لا ينافي سلامة القلب والأخذ بالظاهر، ولكنه يعني الحيطة والحذر، فإن هناك من الناس من يستدرج الناس ويستغفلهم ويلبس عليهم، فعليك أن تكون فطناً متنبهاً، فالله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، ويقول سبحانه وتعالى: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60].

بعد هذه الثلاثة والتي أرجو أن تتنبه لها جيداً لتراجعها في نفسك، فكلنا بحاجة لها.

إن القرآن يدعونا جميعاً، وفي أكثر من سورة وأكثر من آية لمثل هذا الموضوع، متى؟ إن تدبرنا القرآن ونظرنا فيه.

إن قرآننا هو كلام ربنا، ودستور حياتنا، ومنبع صفائنا، وميزاننا الذي نحتكم إليه عند خلافنا، بل وفي كل حياتنا وأمورنا.

فالقرآن يدعوك لبراءة القلب من الغل للذين آمنوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10].

والقرآن يدعوك فيقول: خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].

والقرآن يدعوك فيقول: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109].

والقرآن يدعوك فيقول: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:13].

والقرآن يدعوك فيقول: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14].

والقرآن يدعوك فيقول: وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85].

والقرآن يدعوك فيقول: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَة يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة:263].

والقرآن يدعوك فيقول: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].

والقرآن يدعوك فيقول: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْب سَلِيم [الشعراء:88-89].

وأخيراً! القرآن -يا أخي الحبيب- يدعوك فيقول: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] .

أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22]؟

[بلى والله إنا نحب أن يغفر لنا ربنا] قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، مع سخاء نفسه وسلامة صدره ونصحه للأمة، فماذا نقول نحن وهذه حالنا مع قلوبنا؟!

أخي الحبيب: هلا وقفت مع هذه الآيات وتدبرتها جيداً؟!

إن القرآن يدعوك! أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا [محمد:24]؟!

أسمعت جيداً لهذه الآيات؟! تدبرها وقف معها طويلاً!

كم من المشاجرات والخصومات تقع بيننا وبين الناس؟ وإذا رجعنا للقرآن وجدنا هذه الآيات تحدونا إلى العفو والصفح عن المؤمنين وعن الناس فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]!

تدبر قوله: فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]!

فما أعظم هذا الأجر، فهو من مالك الملك جل وعلا، فلم تحرم نفسك هذا الأجر؟!

قلبت صفحات التاريخ، ونظرت في كتب السير والتراجم، فوجدت عجباً!

فيعلم الله أن العين لتدمع والإنسان يقرأ مثل هذه المواقف! يا للعجب! أهؤلاء بشر؟! كيف كانت قلوبهم؟! وأين قلوبنا من هذه القلوب؟!

وقبل أن أبدأ وإياك بذكر هذه الصور، لا ننسى أن من أراد فهم هذه الدرجة من تنقية القلب وسلامة الصدر كما ينبغي، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس؛ يجدها مليئةً بل يجد هذه الدرجة بعينها، ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه صلى الله عليه وسلم.

الصورة الأولى: مثال لسلامة الصدر

الصورة الأولى، وهي التي لا تطاق: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس قال: (كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه وقد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى.

فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو -أي: تبع الرجل- فقال للرجل: إني لاحيت أبي -أي: وقع بيني وبين أبي خصومة- فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت؟ قال الرجل: نعم. قال أنس : فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعار -تقلب على فراشه- ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله! لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال -أي الرجل-: ما هو إلا ما رأيت.

قال عبد الله : فلما وليت دعاني فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله : فهذه التي بلغت بك وهي التي لا تطاق!).

قال ابن كثير : رواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين ، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس ، فالله أعلم.

إن قلب المؤمن المطمئن بذكر الله، النابض بحلاوة الإيمان؛ لا يحتمل أبداً أن يحمل بين جنباته حقداً على أحد من المسلمين.

إن من كان في قلبه إيمان صادق، لا يحتمل أبداً أن يحمل حقداً على أحد من إخوانه.

أرأيت أخي الحبيب! كيف أن تنقية القلب وتنقية الصدر من الغل والأحقاد ومن الحسد والغش للمسلمين؛ كيف كان سبباً لدخول الجنة؟!

هذا الرجل لم يكن يقوم الليل ولم يكن له كبير عمل، ولكن العمل الذي كان سبباً في دخوله الجنة: هو أنه لا يجد في نفسه حسداً لأحد، وليس في قلبه غش على أحد من المسلمين!

الله أكبر! متى تتحقق هذه الصفة في المسلم الذي يركع ليله ونهاره طالباً مرضاة الله وطالباً جنان الفردوس؟! أين العباد؟ أين الزهاد من هذا الفعل؟ كم نجاهد أنفسنا على الصلوات والصدقات والصيام وغيرها من الأعمال والعبادات؟ ولكن الأمر ليس بكثرة صيام ولا صلاة ولا صدقة، إنما بشيء وقر في القلب، فنالوه رحمهم الله تعالى، سلامة الصدر وتنقية هذا القلب من الغل والحقد والغش للمسلمين!

الصورة الثانية: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟

أخرج أبو داود في الأدب باب: في الرجل يحل الرجل قد اغتابه، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق باب: فضل كظم الغيظ، وأخرجه أيضاً ابن السني في عمل اليوم والليلة باب: ماذا يقول إذا أصبح، ثلاثتهم من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أيعجز أحدكم أن يكون كـأبي ضمضم ، قالوا: ومن أبو ضمضم يا رسول الله؟ قال: رجل كان إذا أصبح يقول: اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي، فلا يشتم من شتمه، ولا يظلم من ظلمه، ولا يضرب من ضربه).

هذا لفظ الطبراني وابن السني وهو ضعيف، وأخرجه أبو داود من وجه آخر موقوف على قتادة وأخرجه البخاري أيضاً في التاريخ في ترجمة محمد بن عبد الله العمي .

وقال ابن حجر : وقد أخرجه أبو بكر البزار في مسنده والعقيلي -أي في الضعفاء - وكذلك الساجي والبيهقي في الشعب .

وقال الألباني في الإرواء عن هذا الحديث: والمحفوظ عن قتادة ، وإسناده صحيح إلى قتادة . ثم ذكره في صحيح أبي داود ، وقال: صحيح مقطوع.

أرأيت صفة أبي ضمضم هذا؟! اسمع ماذا قال عنه ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين : والجود عشر مراتب، ثم ذكرها، فقال: والسابعة: الجود بالعرض كجود أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنهم، كان إذا أصبح قال: اللهم لا مال لي أتصدق به على الناس وقد تصدقت عليهم بعرضي فمن شتمني أو قذفني فهو في حل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يستطيع أن يكون منكم كـأبي ضمضم ، وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه اهـ.

الصورة الثالثة: التصدق بالعرض

أخرج البزار في كشف الأستار في كتاب الزكاة باب: فيمن تصدق بعرضه -وانتبه أيضاً للترجمة! باب: فيمن تصدق بعرضه- أخرجه من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث يوماً على الصدقة فقام علبة بن زيد فقال: ما عندي إلا عرضي، فإني أشهدك يا رسول الله أني تصدقت بعرضي على من ظلمني، ثم جلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين علبة بن زيد ؟ قالها مرتين أو ثلاثاً، قال: أنت المتصدق بعرضك؟! قد قبل الله منك) .

قال الهيثمي : رواه البزار وفيه كثير بن عبد الله وهو ضعيف.

وأيضاً رواه البزار من حديث صالح مولى التوأمة عن علبة بن زيد قال: (حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فقام علبة فقال: يا رسول الله! حثثت على الصدقة وما عندي إلا عرضي، فقد تصدقت به على من ظلمني، قال: فأعرض عنه، فلما كان اليوم الثاني قال: أين علبة بن زيد ، أو أين المتصدق بعرضه؟ فإن الله تبارك وتعالى قد قبل ذلك منه)، أو نحو ذلك.

وهذا أيضاً قال عنه الهيثمي : رواه البزار وفيه محمد بن سليمان بن مسمول ، وهو ضعيف،كما في مجمع الزوائد.

إذاً .. انظر لحال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبو ضمضم وهذا علبة بن زيد وغيرهم كثير كانوا يتصدقون بأعراضهم رضوان الله تعالى عليهم، يعفون ويصفحون عمن سبهم أو شتمهم أو ضربهم أو اغتابهم، أو ذكرهم في شيء لا يرضونه، فماذا نقول عن أنفسنا؟

الصورة الرابعة: الذب عن الأعراض

[والله ما نعلم إلا خيراً] هذه المقالة قالها معاذ بن جبل رضي الله عنه دفاعاً عن كعب بن مالك في قصة تخلفه في غزوة تبوك ، قال كعب : (لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم تبوك ذكرني وقال: ما فعل كعب ؟ فقال رجل من قومي: خلفه يا نبي الله برداه والنظر في عطفيه، فقال معاذ بن جبل وكان حاضراً: بئس ما قلت! والله ما نعلم إلا خيراً!).

أسمعت هذا الموقف؟! لقد كان بإمكان معاذ رضي الله تعالى عنه السكوت تأدباً أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يعيب عليه النبي صلى الله عليه وسلم سكوته، ولكنه أعلن الحق الذي امتلأ به قلبه، لم يطق معاذ أن يسمع هذه الكلمات بأخيه كعب ، فأعلن الحق الذي في قلبه انتصاراً لـكعب بن مالك رضي الله عنهما جميعاً.

إنه الدفاع والذب عن عرض أخيه، فمن منا وقف مثل هذا الموقف؟! كم نسمع في مجالسنا وفي منتدياتنا من يذكر فلاناً وعلاناً من إخواننا من المسلمين؛ ممن يصلي ويصوم ويشهد أن لا إله إلا الله؛ نسمع الكلمات التي تذكر في عرضه، فمن منا وقف مثل هذا الموقف؟!

بل ربما أن البعض يتلذذ بالسماع ويأنس بمثل هذه الكلمات عياذاً بالله، ولكن صحابة رسول الله تربوا على هذا المنهج، إنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل المسلم على المسلم حرام: عرضه ودمه وماله)، فعلموا حرمة ذلك.

وعن أبي الدرداء أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)، كما أخرجه الترمذي في سننه في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الذب عن المسلم، وإسناده صحيح.

واسمع لهذا الموقف: قال حنبل بن إسحاق: سمعت ابن معين يقول: رأيت عند مروان بن معاوية لوحاً فيه أسماء شيوخ: فلان رافضي، وفلان كذا،.. ووكيع رافضي! فقلت لـمروان : وكيع خير منك! قال مروان : مني؟! -استفهام وتعجب- قلت: نعم. قال: فسكت، ولو قال لي شيئاً لوثب أصحاب الحديث عليه!.

قال -أي يحيى -: فبلغ ذلك وكيعاً فقال وكيع: يحيى صاحبنا، وكان بعد ذلك يعرف لي ويرحب.

انظر أثر الدفاع عن العرض في قلب وكيع رحمه الله تعالى، أصبح يحيى بن معين حبيباً إلى قلبه، أصبح يرحب به كثيراً!

هكذا يكون جمع القلوب، هكذا إذا أردنا أن نحبب النفوس بعضها ببعض، هكذا إذا أردنا أن نرص الصفوف في وجه أعدائنا، أن يعلم كل فرد منا أنه محام عن أعراض إخوانه المسلمين في كل مكان، وفي أي مجلس كان، وأمام أي كائن من كان، مهما بلغ من المرتبة والشرف، مادام أنه تجرأ على عرض أخ من إخواننا المسلمين يجب أن أقف وأذب عن عرض هذا المسلم، هكذا يكون الإنسان محبوباً عند الناس، لا. بل هكذا يكون محبوباً عند الله قبل كل شيء، ومن أحبه الله أحبه الناس.

الصورة الخامسة: طيب قلب بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم

ذكر الذهبي في السير بسنده إلى عوف بن الحارث أنه قال: سمعت عائشة تقول: [دعتني أم حبيبة -أي: زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم- عند موتها فقالت: قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت -أي: عائشة -: غفر الله لك كله وحللك من ذلك، فقالت أم حبيبة : سررتني سرك الله، تقول عائشة : وأرسلت أم حبيبة إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك].

انظر إلى تصافي القلوب في صفوف النساء! ما أحلى هذه القلوب إذا اجتمعت على المحبة وحرصت على تنقية القلوب من الغل والحقد والحسد.

أقول: كم نسمع نساءنا يتحدثن في المجالس عن فلانة وعلانة ولربما كالت لها كثيراً من السب والشتم عياذاً بالله، وكأنها تتكلم عن كافرة من الكفار، لا تشعر أنها تتكلم عن مسلمة، وعائشة رضي الله عنها لما أشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها فقط عن صفية أنها قصيرة قال: (ألا إنك قلت كلمةً لو مزجت بماء البحر لمزجته)! فقط تعني: أنها قصيرة، فهلا تنبه لهذا الأمر نساؤنا؟! فكم من الحسنات تذهب في مثل هذه الكلمات.

الصورة السادسة: انشغال قلب الحاقد بما لا ينفع

صورة قصيرة لكنها كبيرة المعاني:

قال رجل لـعمرو بن العاص رضي الله عنه: والله لأتفرغن لك! يعني بالكيد والتشفي والانتقام وغير ذلك، فماذا كان رد عمرو ؟! فقال عمرو بن العاص بذكائه وعقله: [إذن تقع في الشغل.. إذن تقع في الشغل!].

نعم. إن الذي يتفرغ لينال من الناس ويشتم الناس لا يكون فارغاً أبداً، إنما تشغله نفسه وحقده بالناس، فيضيع عمره فيما لا ينفع، ولا شك أن قول عمرو هو الصواب وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269] كم نحب أن نسمع مثل هذه الكلمات لمن وقع بينه وبين أحد خصومة أو من هدده وتوعده، (إذن تقع في الشغل)؛ لأن القلب الذي امتلأ بالحسد والانتقام من الناس، وتتبع زلاتهم والتشفي منهم، قلب مشغول دائماً، أما القلب السليم الذي امتلأ بسلامة الصدر وحب الناس وجمع القلوب فهو لا يفكر إلا فيما ينفعه: كطلب علم أو عمل خير ونحوهما، أما أعراض الناس فهو بريء منها؛ لأنه عاهد الله أن يترك مثل ذلك.

الصورة السابعة: تواضع جمّ

أيضاً موقف قصير ولكنه كبير بمعانيه. في سيرة سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم: [أن رجلاً زاحمه في منى -وأنتم تعلمون حال الناس في منى كيف يكون؟ وكيف تبلغ النفوس مبلغها في مثل هذه المواقف نظراً للزحام الشديد؟- فالتفت الرجل إلى سالمسالم هذا علامة التابعين رضي الله عنه، فقال الرجل لـسالم : إنني لأظنك رجل سوء!

فبماذا أجاب سالم رضي الله عنه؟! قال كلمتين:

قال: ما عرفني إلا أنت!].

سبحان الله! هكذا كان إزراؤهم بأنفسهم رضوان الله عليهم؛ مع سعة علمهم وكثرة عبادتهم وجهادهم، وكثرة خوفهم وبكائهم من الله جل وعلا إلا أنهم يحتقرون ذواتهم رضي الله تعالى عنهم، أين العجب والغرور الذي يصيب أنفسنا؟ إذا فعل الإنسان منا فعلاً أو عبادة أو قام بعمل خير أعجبته نفسه وأصبح عند نفسه زاهد الزهاد.

لا إله إ لا الله!

الصورة الثامنة: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله

ذكر الذهبي في السير في ترجمة البخاري محمد بن إسماعيل ، صاحب الصحيح رضي الله عنه، قال: -أي الذهبي -: وكان كثير من أصحابه يقولون له -أي البخاري-: إن بعض الناس يقع فيك!

- لو قيلت هذه الكلمة لأحدنا ماذا سيقول؟ ربما يبادر ويقول مباشرةً: ماذا يقولون؟! ومتى؟! ومن هم؟! أما الإمام البخاري رحمه الله تعالى لما قيلت له هذه الكلمة: إن بعض الناس يقع فيك، قال: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76]، ويتلو أيضاً قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43].

هذا والله هو الفقه، وهذه والله هي البصيرة والحكمة، ولكن من يؤتى هذه البصيرة؟! ومن يؤتى هذه الحكمة؟! ولذلك إذا قلنا للناس تعلموا واقرؤوا في سير الرجال واستفيدوا منها، رأينا كثيراً منهم يعرض عن هذا، وما علم أولئك المساكين أنه في النظر حياة الأولين وتراجمهم حياة للقلوب، فإذا سمعت الناس يغتابونك أو يذكرونك بسوء وأنت أعلم بنفسك وأعلم بما بينك وبين الله جل وعلا، فاعف عنهم واصفح، وسترى أثر ذلك ومن كاد لك، فإن الله تعالى يقول: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43].

فقال عبد المجيد بن إبراهيم للبخاري : كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويبهتونك؟! فقال البخاري : قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اصبروا حتى تلقوني على الحوض)، وقال أيضاً: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دعا على ظالمه فقد انتصر).

إنه رحمه الله لا يفكر بمجرد الدعاء على من ظلمه وبهته، فضلاً عن أن يشغل نفسه أو يضيع وقته في التقصي وتتبع الزلات منهم، فرضي الله عن أولئك الأنقياء ورحمهم الله رحمةً واسعةً.

الصورة التاسعة: هضم النفس وحقوقها

ذكر الذهبي في السير قال: عن أبي يعقوب المدني أنه قال: كان بين حسن بن حسن وبين علي بن الحسين -يعني زين العابدين - بعض الأمر، فجاء حسن بن حسن إلى علي بن الحسين زين العابدين

وهو جالس مع أصحابه في المسجد، فما ترك حسن شيئاً إلا قاله له -يعني ما ترك سباً ولا شتماً إلا قاله لـزين العابدين وهو جالس مع أصحابه-، قال -أي أبي يعقوب المدني -: وعلي ساكت، فانصرف حسن فلما كان من الليل أتاه في منزله -زين العابدين ذهب إلى حسن بن حسن - فقرع عليه بابه فقال له: يا أخي! إن كنت صادقاً فيما قلت لي فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، السلام عليكم!

هذا الموقف! وهل انتهى؟! لا. فانظر لنتيجة الصبر وحسن الخلق! وكيف يكون الإنسان داعية وقدوة لغيره دون أن يشعر:

قال: فإذا بـالحسن يتبعه ويلزمه من الخلف ويبكي بكاءً شديداً، حتى رثى زين العابدين لحاله، فقال الحسن لـزين العابدين: لا جرم لا عدت في أمر تكرهه، فقال زين العابدين: وأنت في حل مما قلت لي.ا.هـ.

وإذا تشاجر في فؤادك مرة     أمران فاعمد للأعف الأجمل

وإذا هممت بأمر سوء فاتئد     وإذا هممت بأمر خير فافعل!

أيها الأحبة: إنه الصبر على أذى الخلق، وهضم النفس حتى ولو كان الحق معها، وهذه صفة الرجال، وهكذا من أراد العلياء وعزة النفس!

طلقت تطليق الثلاث رغائبي     وكتبت للعلياء عقد نكاح

وانظر أيضاً لإنصاف الذهبي رحمه الله تعالى لـابن حزم عندما ترجم له في السير، قال الذهبي عن ابن حزم: قد أخذ المنطق -أبعده الله من علم- عن محمد بن الحسن المذحجي وأمعن فيه، فزلزله في أشياء، ولي أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال، والعلل، والمسائل البشعة، في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفره ولا أضلله وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين، وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه.اهـ.

هكذا يكون المؤمن الذي يأتمر بأمر الله: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام:152] فهل سمع شبابنا مثل هذا الموقف؟! وهل اقتدى شبابنا غفر الله لنا ولهم بسلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم؟!

لا تبخسوا جهود بعضكم بعضاً، ولا تحقروا أعمال بعضكم لبعض، فكل منكم على ثغر، وعلى خير، والميدان يتسع للجميع، بل هو بأمس الحاجة لكل عمل وكلمة طيبة وجهد وافق الكتاب والسنة، مهما كان صاحبه، فهلا سمعنا وعقلنا؟!

وانظر لهذا الموقف أيضاً وتدبره جيداً، فكم نحن بحاجة إليه!

قال الذهبي : قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد : هذا كتبته من حفظي وغاب عن أصلي: أن عبد الله بن عبد العزيز العمري العابد كتب إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك : إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر .اهـ.

فيا شباب الأمة! نحن بحاجة للجميع، فهذا يحفظ القرآن ويعلمه، وهذا يطلب العلم وينشره، وهذا يعظ الناس في المساجد والقرى، وهذا ينكر المنكرات في الأسواق وفي الأماكن العامة، وهذا على منبره وذاك بقلمه والآخر بماله، وهذا بتوزيع الشريط والكتاب، وذلك بتوزيع الطعام واللباس، وهذا بالرحلات والمخيمات، وهذا بالدعوات الصادقات، ولا يخلو الجميع أبداً من خطأ، (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فهذا يصحح لهذا وهذا يوجه هذا، وهذا يعين هذا بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، مع التماس الأعذار والعفو والصفح.

هكذا يجب أن نكون ويجب أن نتعامل، بل يجب أن ننشر في مجالسنا ومنتدياتنا هذه المفاهيم لدى الكبار والصغار، والرجال والنساء، ليشرق أعداء الإسلام بتراص الصفوف، وبجمع القلوب، وبتوحيد الكلمة.

فإن قال قائل: لا! فنقول: على أقل تقدير إن لم تكن من هؤلاء فقل خيراً أو اصمت، واعلم يا أخي الحبيب! أن (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، فكف عن المسلمين لسانك ويدك واتركهم يعملون كل بما يستطيع، فالله جل وعلا مطلع على عباده وهو وحده يعلم ما تكن القلوب.

الصورة الأولى، وهي التي لا تطاق: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس قال: (كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه وقد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى.

فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو -أي: تبع الرجل- فقال للرجل: إني لاحيت أبي -أي: وقع بيني وبين أبي خصومة- فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت؟ قال الرجل: نعم. قال أنس : فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعار -تقلب على فراشه- ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله! لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال -أي الرجل-: ما هو إلا ما رأيت.

قال عبد الله : فلما وليت دعاني فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله : فهذه التي بلغت بك وهي التي لا تطاق!).

قال ابن كثير : رواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين ، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس ، فالله أعلم.

إن قلب المؤمن المطمئن بذكر الله، النابض بحلاوة الإيمان؛ لا يحتمل أبداً أن يحمل بين جنباته حقداً على أحد من المسلمين.

إن من كان في قلبه إيمان صادق، لا يحتمل أبداً أن يحمل حقداً على أحد من إخوانه.

أرأيت أخي الحبيب! كيف أن تنقية القلب وتنقية الصدر من الغل والأحقاد ومن الحسد والغش للمسلمين؛ كيف كان سبباً لدخول الجنة؟!

هذا الرجل لم يكن يقوم الليل ولم يكن له كبير عمل، ولكن العمل الذي كان سبباً في دخوله الجنة: هو أنه لا يجد في نفسه حسداً لأحد، وليس في قلبه غش على أحد من المسلمين!

الله أكبر! متى تتحقق هذه الصفة في المسلم الذي يركع ليله ونهاره طالباً مرضاة الله وطالباً جنان الفردوس؟! أين العباد؟ أين الزهاد من هذا الفعل؟ كم نجاهد أنفسنا على الصلوات والصدقات والصيام وغيرها من الأعمال والعبادات؟ ولكن الأمر ليس بكثرة صيام ولا صلاة ولا صدقة، إنما بشيء وقر في القلب، فنالوه رحمهم الله تعالى، سلامة الصدر وتنقية هذا القلب من الغل والحقد والغش للمسلمين!


استمع المزيد من الشيخ إبراهيم الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
المحرومون 2930 استماع
سهام للصيد 2610 استماع
توبة صايم 2608 استماع
اذهبوا بنا نصلح بينهم 2607 استماع
من كنوز الحج ... 2478 استماع
موعظة السبع البواقى 2465 استماع
بحر الحب 2407 استماع
بشائر ومبشرات 2350 استماع
السحر الحلال 2347 استماع
أهمية أداء الزكاة 2338 استماع