السعادة والشقاء


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، لا إله إلا هو يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله وخيرته من خلقه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.

أما بعــد:

فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ، اتقوه واعبدوه وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، افعلوا الخير، واسجدوا لربكم، واركعوا مع الراكعين.

أيها المسلمون: لا يُعرف مفقود تواطأ الناس على البحث عنه، والإعياء في طِلابه، وهم مع ذلك يسيرون في غير مساره، ويلتمسونه في غير مظانه، مثل السعادة والطمأنينة والبال الرخي.

فَلِلَّهِ... ما أقل عارفيها! وما أقل في أولئك العارفين من يقدرها ويغالي بها، ويعيش لها! بل لو غُلْغِل النظر في بعض عارفيها، لَمَا وُجد إلا حق قليل يكتنفه باطل كثير، حق يُعرف في خفوت، كأنه نجمة توشك أن تنطفئ في أعماء الليل، وما أكثر العواصف التي تَهُبُ علينا، وتملأ آفاقنا بالغيوم المرعدة! وكم يواجَه المرء منا بما يكره، ويُحرم ما يشتهي.

وهنا يجيء دور السعادة التي تطارد الجزع، والرضا الذي ينفس السخط.

السعادة التي تسير مع الإنسان حيث استقلت ركائبه، وتنـزل حيث ينـزل، وتُدفن في قبره.

السعادة التي يعبر عنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أوْج إحساسه بها: ما يفعل أعدائي بي؟! إنَّ سجني خلوة، وإن قتلي شهادة، وإن إخراجي من بلدي سياحة في سبيل الله.

إن الحديث عن السعادة والشقاء سيظل باقياً ما دام في الدنيا حياة وأحياء، وإن كل إنسان على هذه البسيطة ليبحث عنها جاهداً، ويود الوصول إليها، والحصول عليها، ولو كلفه ذلك كل ما يملك.

بطلان القول بأن السعادة لا حقيقة لها

ألا وإن جمعاً من الواهمين يهرفون بأن السعادة لا حقيقة لها، وأنها خيال يبتدعه الوهم، ويكذبه الواقع.

والحق -عباد الله- أن هؤلاء جاهلون أو مخادعون؛ لأنه لا يُعقل البتة أن يخلقنا الله ثم يريد لنا أن نشقى جميعاً!

كيف ذاك؟! والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2]؟!

ويقول: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38].

السعادة عباد الله: هي جنة الأحلام التي ينشدها كل البشر من المثقف المتعلم في قمة تفكيره وتجريده، إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته، ومن السلطان في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الصغير، يعيش على تراب الإملاق.

ولا نحسب أحداً منهم يبحث عمداً عن الشقاء لنفسه، أو يرضى بتعاستها.

فقدان السعادة يعقبه الهم والاضطراب

أيها المسلمون: إن العبد بغير إيمان مخلوق ضعيف، وإن من ضعفه أنه إذا أصابه شر جزِع، وإذا أصابه خير منَع، وهو في كلتا الحالين قلق هلِع إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَـسَّهُ الشَّـرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَـسَّهُ الْخَـيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22].

وإن فقدان السعادة من قلب المرء يعني -بداهة- حلول القلق والاضطراب النفسي في شخصه، فتجتمع عليه السباع الأربعة، التي تهز البدن وتوهنه، فضلاً عن كونها تحلق سعادته، وتقصر اطمئنانه، ألا وهي: الهم، والحزن، والأرق، والسهر.

ولا شك -عباد الله- من وقوع الهم في حياة العبد، إذْ هو جند من جنود الله عزَّ وجلَّ، يسلِّطه على من يشاء من عباده، ممن كان ضعيف الصلة بالله، خَوِي الروح، مرتعاً للمعاصي والذنوب وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الفتح:4].

ولقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه: [[من أشد جند الله؟ قال: الجبال، والجبال يقطعها الحديد؛ فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد؛ فالنار أقوى، والماء يطفئ النار؛ فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء؛ فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب؛ فالريح أقوى، والإنسان يتكفأ الريح بيده وثوبه؛ فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان؛ فالنوم أقوى، والهم يغلب النوم؛ فأقوى جند الله هو: الهم، يسلطه على من يشاء من عباده ]].

فالمفهوم إذاً عباد الله: أن السعادة والطمأنينة عطاء من الله ورحمة، كما أن الهم، والقلق، والضيق، غضب من الله ومحنة، فقد يلتقي الملتقيان ويتواجهان، النفس بالنفس، وبينهما من الفوارق كما بين السماء والأرض، بل وفي أحلك الظروف، وحين تدلهم الخطوب، يظهر البون شاسعاً بين مُوَفَّق سعيد يُغْبَط، وبين هلِع جزِع يُتَعَوَّذُ بالله من حاله.

ولقد ذكر الله تعالى مثل هذا في كتابه الحكيم، عن غزوة أحد ، حينما ألقى النومَ والنعاسَ على المؤمنين، في حين أن القتال قائم بعد سويعات قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَـلَيْكُمْ مِنْ بَعْـدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَـةً مِنْكُمْ [آل عمران:154].

والنعاس في هذه الحال، دليل على الأمن والأمان، لمن كانوا جازمين بأن الله سينصر رسوله، ويُنجز له مأموله، ولهذا قال عن الطائفة الأخرى: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] أي: من القلق والجزَع والخوف، وهذا شأن أهل الريب والشك، يعيشون بين (لَوْ) المتندمة، و(لَيْتَ) المتحسرة.

اختلاف الناس في تفسير السعادة

عباد الله: إن السعادة عبارة يتوه معظم الناس في تفسيرها، ولا يتفقون عليها، يجلبون بخيلهم ورَجِلِهم على ما يتوهمونه، ثم يعودون بخُفي حنين، وكأنهم خَرِفٌ يكلِّم الأشباح، أو يطعن في الرياح، فصاروا كطالب اللؤلؤ في الصحراء، مجهود البدن، كسير النفس، خائب الرجاء.

فظن الغني منهم أن سعادته كامنة في صحته وعمارة قصره.

وتوهمها الفقير في الثروة، والملبس الحسن.

وأكَّد السياسي أنها في تحقق الأهداف، والمهارة في جعل الجور عدلاً، والشر خيراً.

وجزم العاشق على أنها في الوصال، والتيم بمعشوقه.

وعند فلان كذا، وعند علان هي ذا.

ولكن المنصف الملهم -عباد الله- حينما يبرق بعيني بصيرته؛ ليعلم يقيناً سُخْف التخمين، وسُحْق الهُوَّة التي يقع فيها أصحاب الأوهام المعلولة.

فإذا بالغني يرى أن قصره المشيد قد شاطره السعادة الموهومة فيه خدمه وحشمه، بل وكلب حراسته وخيله، فتأكد له جيداً أن السعادة لا تتمثل في بناء الدور، وتشييد القصور.

وإذا بالفقير المرهق ينظر إلى أصحاب الثروة واللباس الفاخر مُلْتاثين بطيف سعادةٍ، وإنما هي رجع ضوء مُنْعَكِس على سحابة عما قريب ستنقشع، فيقول في قرارة نفسه: هذا القطن الذي يلبسونه كان في الغابة على الأشجار، والحرير الذي يضاهون به كان في بطن دودة تعيش في الأوكار، أما الحلي الذي يلبسونه فقد كان وسط أحجار ينقلها بغل أو حمار، فيتيقن حينئذٍ أن السعادة الحقة قد تمثلت في مثل شخص الفاروق رضي الله تعالى عنه، في حين:

يا من يرى عمراً تكسوه بردته     والزيت أدْمٌ له، والكوخ مأواهُ

ومع ذلك كله:

يهتز كسرى على كرسيه فَرَقاً     من خوفه, وملوك الروم تخشاهُ

حقيقة السعادة

فالسعادة إذاً -يرعاكم الله تعالى- ليست في وفرة المال، ولا سطوة الجاه، ولا كثرة الولد، ولا حسن السياسة.

السعادة: أمر لا يُقاس بالكم، ولا يُشترى بالدنانير، لا يملك بشر أن يعطيها، كما أنه لا يملك أن ينتزعها ممن أوتيها.

السعادة: دين يتبعه عمل، ويصحبه حمل النفس على المكاره، وجبلها على تحمل المشاق والمتاعب، وتوطينها لملاقاة البلاء بالصبر، والشدائد بالجلَد.

والسعيد: من آثر الباقي على الفاني: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَـجْعَلُ لَهُـمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96]، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

السعادة -أيها المسلمون- هي الرضا بالله، والقناعة بالمقسوم، والثقة بالله، واستمداد المعونة منه، ومن ذاق طعم الإيمان ذاق طعم السعادة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً } رواه مسلم .

ولذا فإن من أضاع نعمة الرضا؛ أصابه سُعار الحرص والجشع، فهو يطمع ولا يقنع، ويجمع ولا يدفع، يأكل كما تأكل الأنعام، ويشرب كما تشرب الهيم، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: { من سعادة ابن آدم: رضاه بما قضى الله، ومن شقاوة ابن آدم: سخطه بما قضى الله } رواه الترمذي .

ولقد كتب الفاروق إلى أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنهما يقول له: [[أما بعد: فإن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى، وإلا فاصبر ]].

صور من حياة السعداء

إذاً: يا عبد الله! لا تخشَ غماً، ولا تشكُ هماً، ولا يصبك قلقٌ ما دام أمرك متعلقاً بقول الله جل وعلا في الحديث القدسي: {أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منه } رواه البخاري ومسلم .

بهذا الحديث وأمثاله بدت السعادة في وجوه السعداء، والتي يعبر عنها من أحس بنشوتها من أئمة الإسلام والدين فيقول: إننا في سعادة، لو علم بها الملوك وأبناء الملوك؛ لَجَالَدُونا عليها بالسيوف.

السعادة التي يمثلها من يغدو في خمائلها، ويقول: إنه لتمر عليَّ ساعات أقول فيها: لو كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه الآن إنهم -إذاً- لفي عيش طيب.

إن أمثال هؤلاء هم الذين ابتسموا للحياة حينما كشَّرت عن أنيابها، واستقبلوا الآلام بالرضا والتسليم، الذَين يحولانها إلى نعمة تستحق الشكر والحمد، على حين إنها عند غيرهم مصائب تستوجب الصراخ والعويل.

فإذا كانت السعادة شجرة منبتها النفس البشرية، فإن الإيمان بالله، وملائكته، ورسله، واليوم الآخر، وكتبه، والقدر خيره وشره، هو ماؤها، وغذاؤها، وهواؤها، وضياؤها الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:28-29].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.

ألا وإن جمعاً من الواهمين يهرفون بأن السعادة لا حقيقة لها، وأنها خيال يبتدعه الوهم، ويكذبه الواقع.

والحق -عباد الله- أن هؤلاء جاهلون أو مخادعون؛ لأنه لا يُعقل البتة أن يخلقنا الله ثم يريد لنا أن نشقى جميعاً!

كيف ذاك؟! والله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:1-2]؟!

ويقول: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38].

السعادة عباد الله: هي جنة الأحلام التي ينشدها كل البشر من المثقف المتعلم في قمة تفكيره وتجريده، إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته، ومن السلطان في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الصغير، يعيش على تراب الإملاق.

ولا نحسب أحداً منهم يبحث عمداً عن الشقاء لنفسه، أو يرضى بتعاستها.




استمع المزيد من الشيخ سعود الشريم - عنوان الحلقة اسٌتمع
ربما تصح الأجسام بالعلل 2767 استماع
السياحة من منظور إسلامي 2556 استماع
لا أمن إلا في الإيمان!! 2470 استماع
حاسبوا أنفسكم 2426 استماع
العين حق 2383 استماع
كيف نفرح؟ 2349 استماع
مفهوم السياحة ومخاطرها [1] 2297 استماع
رحيل رمضان 2245 استماع
مفاهيم رمضانية 2170 استماع
مخاصمة السنة 2169 استماع