شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

يقول البخاري رحمه الله: (باب: كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان)، ما زلنا في أبواب المساجد وما يجوز فيها من العمل وما يطلب، وقد عقد البخاري رحمه الله تعالى هذا الباب لذكر بعض حقوق المسجد العملية، فالمسجد شرفه الله سبحانه وتعالى وفضله، ومن تشريفه وتفضيله أنه أمر برفعه، والمقصود بالرفع: التوقير والإجلال، مما يقتضي إزالة الأذى والأوساخ عنه مطلقًا، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى نخامة أو نخاعة في جدار المسجد، فقام إليها، فما زال يحتها بيده حتى أزالها، ثم دعا بطيب فجعله مكانها)، وكنس المساجد هو من رفعها الذي أمر الله به، وقد قال الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ[النور:36]، ومعنى (أذن) في هذا السياق: أمر، فالإذن إذا أتى من الله سبحانه وتعالى في قبيل سياق الرضا، فمعناه: الطلب، وكما في قول الله تعالى: تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ[القدر:4-5]، فمعنى (بإذن ربهم)؛ أي: بأمره؛ لقوله تعالى في الآية الأخرى التي في سورة مريم: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا[مريم:64]، فعُلم أن الإذن هنا بمعنى الأمر.

و(الكنس)، معناه: إزالة الكناسة، وهي ما يجتمع في البيت من الأوساخ، (والتقاط الخرق) هذا من عطف الخاص على العام، فالخرق هي ما يتناثر من الثياب ويتساقط منها، وهي مما يكنس من المسجد ويزال منه، وعطفها هنا على الكنس هو من عطف الخاص على العام الذي يفيد مزية في الخاص، ومعنى ذلك أن كل ما هو مستقذر أو يؤدي إلى تقزز الناس من المسجد يزال عنه، وهذا يشمل العينيات والمعنويات، فالعينيات كالخرق، والمعنويات كالروائح الكريهة، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول المسجد بالرائحة الكريهة، وقال: (من أكل من هذه الشجرة الخبيثة، فلا يقرب مسجدنا، يؤذينا بريح الثوم)، وسنبين ذلك إن شاء الله في وقته.

(والقذى) هو: ما لو وقع في العين آذاها؛ أي: الأشياء الصغيرة جدًّا التي تؤذي العين إذا وقعت فيها، وتحملها الرياح في المسجد، فهذه تؤذي المصلين عندما تحملها الرياح، وأيضًا لونها ووقوعها في المسجد ليس محمودًا، والمسجد لم يكن إذ ذاك مبلطًا وإنما كان محصبًا؛ أي: وضعت فيه الحصباء، وهي التراب، (والعيدان)، وهي جمع عود، وهو ما يتساقط من السقف، أو يدخل المسجد بفعل الرياح من النبات، فكل ذلك أيضًا مما يندب كنسه من المسجد وإزالته منه.

شرح حديث أن رجلًا أسود أو امرأة سوداء كان يقم المسجد

فقال عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلًا أسود أو امرأة سوداء كان يقم المسجد فمات، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: مات، فقال: أفلا كنتم آذنتموني به، دلوني على قبره)، أو قال: (قبرها)، (فأتى قبرها فصلى عليه)، هذا الحديث جاء من حديث أبي هريرة، ومن حديث بريدة، وغيرهما، وجاء من حديث أبي هريرة أيضًا عن عدد من أصحابه، ففي هذه الرواية هو من حديث ثابت البناني، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، وجاء فيه الشك، فقيل: الشك من ثابت، وقيل: الشك من أبي رافع، وقد رواه عدد من أصحاب ثابت بالشك عنه، ولكن روي أيضًا من غير طريق ثابت عن أبي رافع بالشك، ولكنه ثبت عن أبي هريرة في غير هذا الموضع كما يأتي، فجاء بغير شك، وأنها امرأة سوداء، وفي حديث بريدة أن اسم المرأة: أم محجن، وفيه عدم الشك، والتصريح بأنها امرأة سوداء.

(أن رجلًا أسود أو امرأة سوداء كان يقم المسجد)؛ أي: كان من عمله ذلك، وهذا يقتضي فضل ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب له من يقوم به، وتقتضي رواية الشك أنه من الأعمال المشتركة التي يقوم بها الرجال، ويقوم بها النساء، وكذلك رواية الإثبات أيضًا بإثبات كونها امرأة فإنها أيضًا تدل على أنه يجوز أن يعمل ذلك الرجال والنساء؛ لأنه إذا أُذن للنساء بقم المسجد بعد خروج الرجال منه، فالرجال أولى بذلك، وعمومًا هذا عمل شريف ويكلف به من يقوم به، فإذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، والمرتب له أولى به من غيره، فإذا رتب النبي صلى الله عليه وسلم إنسانًا لمهمة فهو أولى بها.

وأم محجن هذه كانت امرأة سوداء، وكانت تسكن بقرب المسجد، فكانت تقمه وتنظفه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لها، والرواية الأخرى أنه كان غلامًا أسود أو رجلًا أسود، أنه كان يقم المسجد، فبعض أهل العلم حملوا ذلك على التعدد، وقالوا: قد كان مرة عهد به إلى امرأة ومرة عهد به إلى رجل، ولكن الحديث هنا ظاهر في أن المقصود المرأة السوداء؛ لرواية عدم الشك، وللتصريح باسمها وأنها أم محجن رضي الله عنها.

(كان يقم المسجد) (يقمه) معناه: يزيل قمامته، والقمامة هي: الأوساخ التي تجتمع في المسجد، فهي تشمل الخرق والقذى والعيدان وغير ذلك من أنواع الأوساخ.

والمقصود بـ(المسجد) هنا: المسجد النبوي فـ(أل) فيه عهدية؛ أي: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فمات)؛ أي: الذي كان يفعل ذلك، وقد ورد أنها ماتت في الليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، فصلوا عليها، (فلما استيقظ سأل عنها، فقيل: ماتت، فقال: هلا آذنتموني..)؛ أي: لولا أخبرتموني بموتها أو أعلمتموني بموتها حتى أصلي عليها، وفي رواية أخرى: أنه سأل أبا بكر رضي الله عنه وهو الذي صلى عليها، فدله على قبرها فذهب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى على القبر، (فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: مات، قال: أفلا كنتم آذنتموني)؛ أي: هلا أخبرتموني عند موتها لأصلي عليها، (دلوني على قبره)، أو قال: (على قبرها)؛ أي: على قبر هذه المرأة، (فأتى قبرها)؛ أي: دلوه عليه فأتاه، (فصلى عليه)؛ أي: على القبر.

الأحكام المستفادة من الحديث

وهذا الحديث يؤخذ منه عدد من الأحكام، منها:

فضل قم المسجد، وأن من يقوم بذلك يستحق على المؤمنين الإكبار والإجلال؛ ولذلك خصه النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة على قبره بعد الدفن مع أنه قد صلي عليه من قبل؛ تشريفًا لمن يقوم بهذا العمل الجليل، وكذلك يدل على أن بعض الأعمال مما هو مشترك بين الرجال والنساء، فيمكن أن يقوم به الرجال ويمكن أن يقوم به النساء، ويبقى بعد إذ من يعين له فيتعين عليه.

ويدل هذا أيضًا على أن تنظيف المساجد والقيام بشئونها من فروض الكفايات؛ لأنه إنما كان يفعل ذلك شخص واحد، والمسجد كبير جدًّا.

ويدل الحديث أيضًا على جواز الدفن في الليل؛ لأن هذه المرأة ماتت في الليل فصلوا عليها فدفنوها، وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فرأى بعضهم كراهته، وقد ورد حديث في النهي عنه، والحديث معلل فعلته ألا تعرف جهة القبلة بالضبط (بالتمام)، أو ألا يتقن الكفن، فلم يكن لديهم من الأنوار إذ ذاك ما يبين إتقان العمل وإحسانه، وإتقان العمل مطلوب في الدفن، وقد أخرج أحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرأً ولي قبر أخيه فجمله وحسنه)، وفي رواية: (من ولي قبر أخيه فجمله وحسنه بنى الله له بيتًا في الجنة)، فيطلب تجميل القبور وتحسينها وذلك من اللطف بالميت والرفق به، فإذا كان ذلك في الظلام فقد لا يتقن الإنسان هذه الصنعة ولا يجملها، أما إذا كان في النهار وتحت أنوار الشمس فيستطيع الإنسان إتقان ذلك.

فإذا عللنا ذلك بقضية القبلة، فالقبلة بالليل آكد؛ لأن النجوم تدل على جهة القبلة، وهي واضحة المطالع والمنازل بخلاف النهار فالقبلة فيه أقل تأكدًا، إنما يعرفها أهل الاختصاص ومن يرى الشمس وقت طلوعها ووقت غروبها... إلى آخره، وإذا كان النهي- كما ذكرنا- معللًا بعدم وجود الأنوار فمعنى ذلك أن العلة انتفت الآن بوجود الأنوار الكافية الكاشفة.

ويدل كذلك على أن الأولى بالصلاة على الميت أفضل الناس؛ لأنه يرجى بركة دعائه للميت وقبول الدعاء، والإمام ينبغي أن يكون أفضل الناس؛ لأنه شافع لهم، وهو ضامن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإمام ضامن)، وقد ورد في حديث: (أئمتكم شفعاؤكم فاختاروا من تستشفعون به)؛ ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم من ينبغي أن يكون إمامًا كما في حديث عمران بن حصين وغيره، وحديث أبي مسعود البدري، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم سلمًا)، وفي رواية: (فأقدمهم سنًّا)، وفي رواية: (فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًّا)، فيقدم للإمامة الأفضل، وهو الأعلم والأتقى لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك تقدم أبو بكر فصلى على هذه المرأة، وهو أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضلهم، وقد ورد في حديث أخرجه الخلال وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه في آخر الزمان يقدم القوم الرجل ليس بأفقههم ولا بأفضلهم، ما قدموه إلا ليغني لهم)، ومعنى ذلك أنه في آخر الزمان يفتن الناس بالأصوات الحسنة، فيحبون سماع هذه الأصوات، فيختارون للإمامة من يطربهم صوته ويعجبهم، ليس على أساس الفضل والتقوى والعلم، وإنما على أساس حسن الصوت فقط، فيكون المعيار الوحيد لاختيار الأئمة هو حسن الصوت، وهذا من أشراط الساعة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم له في هذا المقام تحذير منه وتنبيه على خطره.

والحديث يدل كذلك على جواز تكرير الصلاة على الجنازة، وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب الجمهور إلى أن الصلاة على الجنازة صلاة، فإذا أُدِّيَت لم تطلب مرة أخرى، وذهب الحنفية إلى أن الصلاة على الجنازة دعاء فيجوز تكرارها؛ لأن الدعاء مطلوب على كل حال، وهذا الخلاف يترتب عليه مسائل، منها:

هل تصلى صلاة الجنازة في غير وقت الإباحة؟ فعند الحنفية يمكن أن تصلى في غير وقت الإباحة؛ لأنها ليست بصلاة، وهل يشترط لها ما يشترط للصلاة من استقبال القبلة والطهرين والستر؟ فمذهب الجمهور أنه يشترط لها ما يشترط للصلاة، ومذهب الحنفية أنها لا يشترط لها ذلك؛ لأنها دعاء فقط، وهذا الحديث يدل على جواز تكرارها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على هذه المرأة بعد أن صُلي عليها ودفنت.

كذلك يدل الحديث على جواز الصلاة على الميت بعد دفنه، فيصلى على القبر، وقد بين وصف ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فجاء إلى المدينة فسأل عن امرأة من الأنصار، فقيل: (قد توفيت، وكان ذلك بعد شهر من موتها، فجاء إلى قبرها فصف أصحابه وصلى على القبر)، وبهذا الحديث أخذ الحنابلة فقالوا: تجوز الصلاة على القبر إلى شهر، وأخذوا ذلك من تحديد هذا الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم بعد موت هذه المرأة بشهر، ولكن الحديث لا يدل على الحصر، فقد حصل ذلك، جاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد شهر، لكن تصوروا لو جاء بعد شهرين أو ثلاثة فإنه سيفعل ذلك أيضًا، فلا دلالة في الحديث على حصر الوقت.

وأيضًا يدل الحديث على جواز أن يصلي الإنسان وبين يديه قبر إذا كان ذلك لمصلحة، فالأصل مخالفة أهل الجاهلية، وقد كان أهل الجاهلية يعظمون القبور ويرفعونها ويصلون إليها؛ أي: يتعبدون بعباداتهم التي يفعلونها، وإن كانت لا تسمى صلاة شرعًا، لكنها تسمى صلاة في عرفهم، كما قال الله تعالى: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً[الأنفال:35]، فهي ليست صلاة بالمعنى الشرعي، ولكنها صلاة في عرفهم؛ فلذلك سماها صلاة، وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً[الأنفال:35]، فكانوا يصفقون ويصفرون، وهذا هو المكاء والتصدية.

وقد أمرنا بمخالفة المشركين وبمخالفة عمل الجاهلية؛ فلذلك نهينا عن رفع القبور والصلاة إليها والجلوس عليها، وكل ذلك نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى أيضًا عن البناء عليها، لكن إذا كان ذلك لمصلحة، كما إذا دفن الميت وكان سيصلى عليه، فالميت صورة الصلاة عليه أن يجعل بين الإمام وبين القبلة سواء كان ذلك قبل الدفن أو بعد الدفن؛ فلذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم على القبر فكان وراءه، وفي صلاة الجنازة في موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الميت جاء حديث أنس أنه إذا صلى على الرجل كان مقابل منكبيه أو مقابل رأسه، وإذا صلى على المرأة كان مقابل عجيزتها أو وسطها، وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب الجمهور إلى الأخذ بحديث أنس مطلقًا، وذهب المالكية إلى أن ذلك كان في حق امرأة في بطنها حمل فصلى عليهما معًا، على الحمل وعلى المرأة، فتأخر إلى مقابل الحمل، وقد ثبت التصريح بذلك في حديث أنس، وأن موقف الإمام من الصلاة على المرأة يكون مقابل المنكبين أيضًا.

وكذلك يدل الحديث على أن الإنسان إذا صلى وبين يديه قبور أو في المقبرة فصلاته صحيحة، لكن يكره للإنسان تعمد المقبرة للصلاة فيها؛ لما ذكرنا من مخالفة أمر الجاهلية، وأيضًا فإن المقابر إذا كانت قديمة لا يؤمن أن يخرج شيء من العظام وأجزاء الأموات، وتلك الأجزاء مختلف في طهارتها إذا كانت للمؤمنين، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الميتة؛ أي: كل من مات سواء كان عاقلًا أو غيره فإنه يتنجس بالموت، وعلى هذا تكون أجزاؤه منافية للصلاة لنجاستها، وذهب آخرون إلى أن المؤمن لا ينجس استدلالًا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه في ذلك، وأما غيره فينجس؛ لأن الله يقول: إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ[التوبة:28]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنبش قبور المشركين من المسجد لما أراد أن يبني مسجده وقد كان جدارًا أو حائطًا ليتامى من بني النجار، فقال: (ثامنوني حائطكم هذا، فقالوا: والله لا نأخذ عليه ثمنًا، فأمر بالقبور فنبشت وأمر بالنخل فقطع)؛ أي: النخل الذي فيه، فقطع وبنى فيه المسجد، فنبش النبي صلى الله عليه وسلم لقبور المشركين من المسجد دليل على منافاتها للصلاة.

والصلاة في المسجد الذي فيه قبر أو يكون بين يدي المصلي فيه قبر مكروهة، إلا إذا علم أن الإنسان يقصد بها تعظيم القبر فيكون ذلك ممنوعًا منعًا باتًا، ولا يدخل في هذا قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه في المسجد النبوي، فإن الثلاثة لم يدفنوا في المسجد وإنما دفنوا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وبيته وقف عليه، وهو استثناء لا يدخل في المسجد أبدًا، فالقدر الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر هو بيت عائشة باق على ملكية النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدخل في المسجد؛ ولذلك لا يستدل بهذا على الدفن في المساجد، فالدفن في المساجد من البدع المنكرة، وهو مخالف لما بنيت له، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المساجد لم تبن لهذا، إنما بنيت لذكر الله وإقامة الصلاة).

وهذا يدل أيضًا على فضل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بخصوصها على الأموات، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال: (إن هذه القبور مظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي ودعائي)، وقد أمره الله بالصلاة على الموتى من المسلمين، فقال تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[التوبة:103]، ومعنى (سكن) طمأنينة وراحة للموتى، فصلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم طمأنينة وراحة لهم في قبورهم.

فقال عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلًا أسود أو امرأة سوداء كان يقم المسجد فمات، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: مات، فقال: أفلا كنتم آذنتموني به، دلوني على قبره)، أو قال: (قبرها)، (فأتى قبرها فصلى عليه)، هذا الحديث جاء من حديث أبي هريرة، ومن حديث بريدة، وغيرهما، وجاء من حديث أبي هريرة أيضًا عن عدد من أصحابه، ففي هذه الرواية هو من حديث ثابت البناني، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، وجاء فيه الشك، فقيل: الشك من ثابت، وقيل: الشك من أبي رافع، وقد رواه عدد من أصحاب ثابت بالشك عنه، ولكن روي أيضًا من غير طريق ثابت عن أبي رافع بالشك، ولكنه ثبت عن أبي هريرة في غير هذا الموضع كما يأتي، فجاء بغير شك، وأنها امرأة سوداء، وفي حديث بريدة أن اسم المرأة: أم محجن، وفيه عدم الشك، والتصريح بأنها امرأة سوداء.

(أن رجلًا أسود أو امرأة سوداء كان يقم المسجد)؛ أي: كان من عمله ذلك، وهذا يقتضي فضل ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب له من يقوم به، وتقتضي رواية الشك أنه من الأعمال المشتركة التي يقوم بها الرجال، ويقوم بها النساء، وكذلك رواية الإثبات أيضًا بإثبات كونها امرأة فإنها أيضًا تدل على أنه يجوز أن يعمل ذلك الرجال والنساء؛ لأنه إذا أُذن للنساء بقم المسجد بعد خروج الرجال منه، فالرجال أولى بذلك، وعمومًا هذا عمل شريف ويكلف به من يقوم به، فإذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، والمرتب له أولى به من غيره، فإذا رتب النبي صلى الله عليه وسلم إنسانًا لمهمة فهو أولى بها.

وأم محجن هذه كانت امرأة سوداء، وكانت تسكن بقرب المسجد، فكانت تقمه وتنظفه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لها، والرواية الأخرى أنه كان غلامًا أسود أو رجلًا أسود، أنه كان يقم المسجد، فبعض أهل العلم حملوا ذلك على التعدد، وقالوا: قد كان مرة عهد به إلى امرأة ومرة عهد به إلى رجل، ولكن الحديث هنا ظاهر في أن المقصود المرأة السوداء؛ لرواية عدم الشك، وللتصريح باسمها وأنها أم محجن رضي الله عنها.

(كان يقم المسجد) (يقمه) معناه: يزيل قمامته، والقمامة هي: الأوساخ التي تجتمع في المسجد، فهي تشمل الخرق والقذى والعيدان وغير ذلك من أنواع الأوساخ.

والمقصود بـ(المسجد) هنا: المسجد النبوي فـ(أل) فيه عهدية؛ أي: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فمات)؛ أي: الذي كان يفعل ذلك، وقد ورد أنها ماتت في الليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم، فصلوا عليها، (فلما استيقظ سأل عنها، فقيل: ماتت، فقال: هلا آذنتموني..)؛ أي: لولا أخبرتموني بموتها أو أعلمتموني بموتها حتى أصلي عليها، وفي رواية أخرى: أنه سأل أبا بكر رضي الله عنه وهو الذي صلى عليها، فدله على قبرها فذهب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى على القبر، (فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: مات، قال: أفلا كنتم آذنتموني)؛ أي: هلا أخبرتموني عند موتها لأصلي عليها، (دلوني على قبره)، أو قال: (على قبرها)؛ أي: على قبر هذه المرأة، (فأتى قبرها)؛ أي: دلوه عليه فأتاه، (فصلى عليه)؛ أي: على القبر.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [15] 3610 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [2] 3532 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [13] 3464 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [3] 3355 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [18] 3203 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [19] 3190 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [1] 3139 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [14] 3076 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [20] 2993 استماع
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [16] 2921 استماع