التعامل بأخلاق الإسلام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم لا سهل إلا ما سهلته، وأنت إذا شئت جعلت الحزن سهلاً، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعــد:

إخوتي الأحباب: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وكتب الله لنا ولكم هذه الخطوات التي نرجو أن تكون في سبيل الله جل وعلا، فما من خطوة يخطوها العبد إلى طلب علم، أو دعوة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، بنية صادقة، إلا وهي مكتوبة له، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12].

أيها الإخوة: الأخلاق في الإسلام تتبوأ أعظم المواقع، حتى أن نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام يقول: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} وفي لفظ: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} والحديث رواه مالك في الموطأ، وابن سعد، وغيرهم وهو حديث حسن، فحصر النبي صلى الله عليه وسلم المهمة التي بعث بها في هذه الكلمات (لأتمم صالح الأخلاق) أو (مكارم الأخلاق).

فإذا فهمنا أن المقصود بالأخلاق تعامل العبد مع الله، ومع الخلق، فلا إشكال في الحديث مطلقاً؛ لأن هذا هو الدين كله، أن يحسن الإنسان المعاملة مع ربه، ومع الخلق، وإذا فهمنا الأخلاق بالمعنى الأخص الذي هو: حسن المعاملة مع الناس، فحينئذٍ يكون الحديث لبيان عظيم قدر الأخلاق، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم: {الحج عرفة} أو {الدين النصيحة}.

ليس المقصود حصر الحج في مكان، أو حصر الدين في النصيحة، كلا؛ بل إشارة إلى عظيم مكانة عرفة، في الحج؛ لأنها أعظم ركن فيه، ولعظيم موقع النصيحة في الدين، والحديث -على أي المعنيين- فيه دلالة قوية جداً على عظمة الأخلاق في الإسلام، ومن هذا المنطلق فكل مسلم داعية كان أو غير داعية، ينبغي أن يلتزم بأخلاق الإسلام.

لكن يكون الواجب على الداعية بصفة أخص أن يلتزم بهذه الأخلاق، فإذا كان المسلم العادي مطالباً بالتحلي بالأخلاق الفاضلة، فما بالك بمن يرفع لواء الدعوة إلى الله، ويكون مبلغاً لشريعة الله، ودينه إلى الناس، إن الأنظار إليه أكثر، والتطلع إليه أعظم، ونقده إن أخطأ أشد. ولذلك فالتزامه بالخلق الفاضل من ألزم اللوازم، وأكثر الأمور ضرورة.

أيها الإخوة إنني لو تكلمت عن الأخلاق التي يجب أن يلتزم بها الداعية، فإن هذا الحديث يبدأ ولا يكاد ينتهي؛ ولهذا رأيت أن من المناسب في هذه المحاضرة أن أختار مجموعة من الأخلاق، التي هي من جانب مهم، وربما تكون أهم من غيرها، ومن جانب آخر يخطأ فيها الكثير من الناس، وخاصة من الدعاة، حتى تتركز هذه المحاضرة في مجموعة من الأخلاق التي يجب الالتفات إليها.

فالخلق الأول: هو خلق الصدق يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119] وليس المقصود بالصدق هو الصدق في اللسان، بل الصدق أعم من ذلك، فالصدق منهج عام.

ألوان الصدق

أولاً: الصدق في حمل الدين: بمعنى أن يكون اعتقاد الإنسان في دينه وقيامه بدعوته عن صدق، وإخلاص، واعتقاد صحيح، وليس عن نفاق، أو مجاملة لمن حوله؛ ولذلك في القرآن الكريم تجد أن الصدق -أحياناً- يكون في مقابل النفاق، كما في قوله تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24] فالإنسان الصادق: هو الذي يحمل الدين بصدق، يكون الدين عقيدة في قلبه، مستترة تظهر آثارها في جوارحه، هذا هو اللون الأول من الصدق، وهو بمعنى الإخلاص في حمل الدين.

واللون الثاني من الصدق، هو: الصدق في الأقوال: بمعنى أن يتجنب الإنسان الكذب، أو ما ينافي الصدق، وقد يقول قائل: إن كثيراً من المسلمين فضلاً عن الدعاة يستعيبون الكذب، ويعتبرونه خطيئة، حتى لو لم يكن ورد النهي عنه، فكيف وقد وردت النصوص في التحذير منه.

فأقول: هذا صحيح، لكننا نجد أن كثيراً من الدعاة، نظراً لمعاناتهم لأمور الدعوة، يتوسعون في أمور لا تتناسب مع الصدق، وذلك مثل كثرة التورية، وكثرة التأول والتأويل في الألفاظ والأقوال، فتجد الداعية يستخدم مع الناس أسلوباً ليس كذباً، لكن هم يفهمون منه خلاف ما يريد، وهو يقصد ذلك، فقد يكتشف الناس يوماً من الأيام، أن هذا الأمر الذي فهموه من هذا الداعية خلاف الواقع، فيتهمونه بأنه كذاب.

ولا شك أن الإنسان إذا عود نفسه على كثرة التورية، بمعنى أن يقول كلاماً يحتمل أكثر من معنى، فهو يقصد معنى، والناس يفهمون منه معنىً آخر، فإن هذا مدرج يجر الإنسان إلى الوقوع في الكذب، فالداعية ينبغي أن يحرص على أن يكون واضحاً في أقواله.

الصدق في الأعمال: بمعنى أن تكون أعمال الإنسان واضحة، بعيدة عن أن يتلبس بها شيءٌ من الزور، فلا يعمل عملاً إلا لوجه الله، ويعمل الأعمال التي ترضي الله، ويتجنب أن يعمل عملاً غير واضح ولا ظاهر.

على سبيل المثال: نحن نعلم جميعاً أن القصة المعروفة -وإن كان في سندها بعض المقال، لكن لا بأس من إيرادها- وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، أهدر دم مجموعة من الناس الذين كانوا يؤذونه صلى الله عليه وسلم، ويقولون الشعر في ذمه وعيبه، أو كانت لهم جرائم أخرى، كـعبد الله بن خطل وغيره، وكان ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان أخاً لـعثمان بن عفان لأمه.

فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بـعبد الله بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنه، وقد وضعه خلف ظهره، وهو يقول: يا رسول الله هذا عبد الله بن سعد، وقد جاء تائباً فأمنّه على دمه، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالها عثمان: مرة أخرى، فسكت، فقالها: مرة ثالثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {هو آمن}.

ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك لأصحابه: {ألا رجلٌ منكم حين رأيتموني سكت قام إليه فعلا عليه بالسيف فقتله} لماذا لم تقتلوه لما رأيتموني سكت فلم أؤمنه؟

قالوا يا رسول الله: هلاّ أومأت إلينا؟ -لو أومأت إلينا بطرف عينك لقام إليه أحدنا فقتله، فمجرد إشارة بعينك تكفي في أن نقوم إليه فنقتله- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين}.

لاحظوا! مدى الصدق الذي تميز به النبي صلى الله عليه وسلم؛ بحيث أنه لما اشتهر هذا الأمر عنه، وعرف به لدى القاصي والداني لم يستطع المشركون أن يتهموه بالكذب صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ساحر، وقالوا: شاعر، وقالوا: مجنون، لكن لم يستطيعوا أن يصرحوا بكذبه، إلا بعد ما أعيتهم الحيل، وإلا ففي البداية كانوا يعلمون أن الناس لن يصدقوهم في هذا الأمر، وهذا الذي وقع فعلاً رغم أنهم اتهموه فيما بعد بالكذب، فإن الناس رفضوا هذا الكلام.

ولذلك روى الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه اليهودي الذي أسلم، قال: [[ لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، سمعت الناس يقولون: قد جاء محمد، قد جاء محمد، وانجفل الناس إليه، -أي: ذهبوا إليه سراعاً- قال: فكنت فيمن ذهب إليه، فلما استثبت في وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب ]].

لاحظوا! قال: (لما استثبت في وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب) بمجرد نظرة ألقاها عبد الله بن سلام -وهو يهودي آنذاك- على وجه النبي صلى الله عليه وسلم أدرك أن صاحب هذا الوجه ليس كذاباً، قال: فسمعته يقول: {يا أيها الناس أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام}.

انظر! كيف تحول الصدق؟ أولاً في القلب، ثم في القول، ثم في الجوارح، حتى ظهر على محيا وجه النبي صلى الله عليه وسلم، أنه رجل صادق في أقواله وأفعاله، فعرف هذا الرجل الذي كان يهودياً، أن وجه النبي صلى الله عليه وسلم ليس بوجه كذاب.

أثر الصدق في القبول

إخواني الكرام إنَّ صدقنا في اعتقاد الإسلام، واعتقاد الحق فيه، هو الوسيلة الأولى لقبول الناس لديننا، فالإنسان الذي يمثل على الناس، لا يقبل الناس منه هذا التمثيل، بمعنى أن يكون مثل الممثل في المسرح يظهر للناس شيء، لكن حقيقته أمر آخر، فمثل هذا الإنسان سرعان ما ينكشف أمره للناس، ولا يتقبلون منه.

ولذلك يقال: أن بعض السلف -نقلت عن أكثر من واحد من العلماء- كان إذا تحدث، ووعظ يتجمع الناس عنده، وتنهال الدموع، ويسمع البكاء والنحيب، وآخرون أقوى منه حجة، وأقوى منه بياناً، وأوسع منه علماً، لكن إذا تحدثوا لم يتأثر بكلامهم أحد.

فقال له ولده: يا أبتِ، مالك إذا تحدثت بكى الناس وانتحبوا، وإذا تحدث غيرك لم يحرك للناس شعوراً، فقال يا بني: لا تستوي النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة، فالمرأة التي تبكي لموت ابنها، أو زوجها، تبكي بحرقة وحزن، فتُبكي من يسمعها، لكن إذا مات إنسان، ولم يوجد من يبكي له، فاستأجر أقاربه بالأجرة أناس يبكون الساعة بكذا، من يسمع هذا البكاء؟

لا يلتفت إليهم؛ بل يضحك عليهم، لأنه يعلم أن المسألة تمثيل، وأن هؤلاء المتباكيات لسن حزينات، وإنما يقمن بالبكاء بالنيابة عن غيرهن، فلا يتأثروا بهن.

إذاً: صدقك في حمل الدعوة هو الوسيلة الأولى لتقبل الناس ما عندك، وليس المهم في الدعوة هو الألفاظ المنمقة، والعبارات المعسولة المحبوكة، والألفاظ الأدبية، وإن كانت هذه الأشياء كلها مطلوبة في الدعوة، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو الناس بأبلغ بيان، وكان أفصح من نطق بالضاد عليه صلوات الله وسلامه، ولكن أهم من ذلك كله، وقبل ذلك كله، لا بد أن يكون حديث الإنسان منطلقاً من قلب صادق.

كذلك الصدق في الأقوال: فإن الدعاة أحوج ما يكونون في هذا الزمن لأن يكونوا صادقين في أقوالهم وأعمالهم، وذلك لأنكم تعرفون -أيها الإخوة- أن الداعية اليوم يواجه حرباً من أطراف شتى؛ يواجه حرباً من الأبعدين -من أعداء الإسلام- وهذه حرب ضارية وشرسة وضروس لا يهدأ لها غوار، ويواجه أحياناً حرباً ممن يخالفونه في المنهج، وفي الطريقة، وفي أسلوب الدعوة حتى من الذين يذكرون من الدعاة إلى الإسلام.

وربما يملك هؤلاء وأولئك من وسائل التشهير بهذا الداعية الشيء الكثير، فإذا وقع الداعية في مزلق كذب في القول، أو في الفعل، أو تورية يفهم الناس منها خلاف ما يريد، أو ما أشبه ذلك، فإنه حينئذ يكون فتح الباب على نفسه ليقول الناس فيه ما يشاءون؛ ولذلك فالداعية بأمس الحاجة إلى أن يكون صادقاً قدر الإمكان، ولا يضيره أن يبالغ في الصدق، حتى يفوت السبيل على من يريدون أن يسيئوا إليه، أو يفهموا أقواله للناس وأفعاله على غير ما هي عليه.

أولاً: الصدق في حمل الدين: بمعنى أن يكون اعتقاد الإنسان في دينه وقيامه بدعوته عن صدق، وإخلاص، واعتقاد صحيح، وليس عن نفاق، أو مجاملة لمن حوله؛ ولذلك في القرآن الكريم تجد أن الصدق -أحياناً- يكون في مقابل النفاق، كما في قوله تعالى: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:24] فالإنسان الصادق: هو الذي يحمل الدين بصدق، يكون الدين عقيدة في قلبه، مستترة تظهر آثارها في جوارحه، هذا هو اللون الأول من الصدق، وهو بمعنى الإخلاص في حمل الدين.

واللون الثاني من الصدق، هو: الصدق في الأقوال: بمعنى أن يتجنب الإنسان الكذب، أو ما ينافي الصدق، وقد يقول قائل: إن كثيراً من المسلمين فضلاً عن الدعاة يستعيبون الكذب، ويعتبرونه خطيئة، حتى لو لم يكن ورد النهي عنه، فكيف وقد وردت النصوص في التحذير منه.

فأقول: هذا صحيح، لكننا نجد أن كثيراً من الدعاة، نظراً لمعاناتهم لأمور الدعوة، يتوسعون في أمور لا تتناسب مع الصدق، وذلك مثل كثرة التورية، وكثرة التأول والتأويل في الألفاظ والأقوال، فتجد الداعية يستخدم مع الناس أسلوباً ليس كذباً، لكن هم يفهمون منه خلاف ما يريد، وهو يقصد ذلك، فقد يكتشف الناس يوماً من الأيام، أن هذا الأمر الذي فهموه من هذا الداعية خلاف الواقع، فيتهمونه بأنه كذاب.

ولا شك أن الإنسان إذا عود نفسه على كثرة التورية، بمعنى أن يقول كلاماً يحتمل أكثر من معنى، فهو يقصد معنى، والناس يفهمون منه معنىً آخر، فإن هذا مدرج يجر الإنسان إلى الوقوع في الكذب، فالداعية ينبغي أن يحرص على أن يكون واضحاً في أقواله.

الصدق في الأعمال: بمعنى أن تكون أعمال الإنسان واضحة، بعيدة عن أن يتلبس بها شيءٌ من الزور، فلا يعمل عملاً إلا لوجه الله، ويعمل الأعمال التي ترضي الله، ويتجنب أن يعمل عملاً غير واضح ولا ظاهر.

على سبيل المثال: نحن نعلم جميعاً أن القصة المعروفة -وإن كان في سندها بعض المقال، لكن لا بأس من إيرادها- وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، أهدر دم مجموعة من الناس الذين كانوا يؤذونه صلى الله عليه وسلم، ويقولون الشعر في ذمه وعيبه، أو كانت لهم جرائم أخرى، كـعبد الله بن خطل وغيره، وكان ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان أخاً لـعثمان بن عفان لأمه.

فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه بـعبد الله بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنه، وقد وضعه خلف ظهره، وهو يقول: يا رسول الله هذا عبد الله بن سعد، وقد جاء تائباً فأمنّه على دمه، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالها عثمان: مرة أخرى، فسكت، فقالها: مرة ثالثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {هو آمن}.

ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك لأصحابه: {ألا رجلٌ منكم حين رأيتموني سكت قام إليه فعلا عليه بالسيف فقتله} لماذا لم تقتلوه لما رأيتموني سكت فلم أؤمنه؟

قالوا يا رسول الله: هلاّ أومأت إلينا؟ -لو أومأت إلينا بطرف عينك لقام إليه أحدنا فقتله، فمجرد إشارة بعينك تكفي في أن نقوم إليه فنقتله- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين}.

لاحظوا! مدى الصدق الذي تميز به النبي صلى الله عليه وسلم؛ بحيث أنه لما اشتهر هذا الأمر عنه، وعرف به لدى القاصي والداني لم يستطع المشركون أن يتهموه بالكذب صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ساحر، وقالوا: شاعر، وقالوا: مجنون، لكن لم يستطيعوا أن يصرحوا بكذبه، إلا بعد ما أعيتهم الحيل، وإلا ففي البداية كانوا يعلمون أن الناس لن يصدقوهم في هذا الأمر، وهذا الذي وقع فعلاً رغم أنهم اتهموه فيما بعد بالكذب، فإن الناس رفضوا هذا الكلام.

ولذلك روى الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه اليهودي الذي أسلم، قال: [[ لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، سمعت الناس يقولون: قد جاء محمد، قد جاء محمد، وانجفل الناس إليه، -أي: ذهبوا إليه سراعاً- قال: فكنت فيمن ذهب إليه، فلما استثبت في وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب ]].

لاحظوا! قال: (لما استثبت في وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب) بمجرد نظرة ألقاها عبد الله بن سلام -وهو يهودي آنذاك- على وجه النبي صلى الله عليه وسلم أدرك أن صاحب هذا الوجه ليس كذاباً، قال: فسمعته يقول: {يا أيها الناس أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام}.

انظر! كيف تحول الصدق؟ أولاً في القلب، ثم في القول، ثم في الجوارح، حتى ظهر على محيا وجه النبي صلى الله عليه وسلم، أنه رجل صادق في أقواله وأفعاله، فعرف هذا الرجل الذي كان يهودياً، أن وجه النبي صلى الله عليه وسلم ليس بوجه كذاب.

إخواني الكرام إنَّ صدقنا في اعتقاد الإسلام، واعتقاد الحق فيه، هو الوسيلة الأولى لقبول الناس لديننا، فالإنسان الذي يمثل على الناس، لا يقبل الناس منه هذا التمثيل، بمعنى أن يكون مثل الممثل في المسرح يظهر للناس شيء، لكن حقيقته أمر آخر، فمثل هذا الإنسان سرعان ما ينكشف أمره للناس، ولا يتقبلون منه.

ولذلك يقال: أن بعض السلف -نقلت عن أكثر من واحد من العلماء- كان إذا تحدث، ووعظ يتجمع الناس عنده، وتنهال الدموع، ويسمع البكاء والنحيب، وآخرون أقوى منه حجة، وأقوى منه بياناً، وأوسع منه علماً، لكن إذا تحدثوا لم يتأثر بكلامهم أحد.

فقال له ولده: يا أبتِ، مالك إذا تحدثت بكى الناس وانتحبوا، وإذا تحدث غيرك لم يحرك للناس شعوراً، فقال يا بني: لا تستوي النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة، فالمرأة التي تبكي لموت ابنها، أو زوجها، تبكي بحرقة وحزن، فتُبكي من يسمعها، لكن إذا مات إنسان، ولم يوجد من يبكي له، فاستأجر أقاربه بالأجرة أناس يبكون الساعة بكذا، من يسمع هذا البكاء؟

لا يلتفت إليهم؛ بل يضحك عليهم، لأنه يعلم أن المسألة تمثيل، وأن هؤلاء المتباكيات لسن حزينات، وإنما يقمن بالبكاء بالنيابة عن غيرهن، فلا يتأثروا بهن.

إذاً: صدقك في حمل الدعوة هو الوسيلة الأولى لتقبل الناس ما عندك، وليس المهم في الدعوة هو الألفاظ المنمقة، والعبارات المعسولة المحبوكة، والألفاظ الأدبية، وإن كانت هذه الأشياء كلها مطلوبة في الدعوة، وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو الناس بأبلغ بيان، وكان أفصح من نطق بالضاد عليه صلوات الله وسلامه، ولكن أهم من ذلك كله، وقبل ذلك كله، لا بد أن يكون حديث الإنسان منطلقاً من قلب صادق.

كذلك الصدق في الأقوال: فإن الدعاة أحوج ما يكونون في هذا الزمن لأن يكونوا صادقين في أقوالهم وأعمالهم، وذلك لأنكم تعرفون -أيها الإخوة- أن الداعية اليوم يواجه حرباً من أطراف شتى؛ يواجه حرباً من الأبعدين -من أعداء الإسلام- وهذه حرب ضارية وشرسة وضروس لا يهدأ لها غوار، ويواجه أحياناً حرباً ممن يخالفونه في المنهج، وفي الطريقة، وفي أسلوب الدعوة حتى من الذين يذكرون من الدعاة إلى الإسلام.

وربما يملك هؤلاء وأولئك من وسائل التشهير بهذا الداعية الشيء الكثير، فإذا وقع الداعية في مزلق كذب في القول، أو في الفعل، أو تورية يفهم الناس منها خلاف ما يريد، أو ما أشبه ذلك، فإنه حينئذ يكون فتح الباب على نفسه ليقول الناس فيه ما يشاءون؛ ولذلك فالداعية بأمس الحاجة إلى أن يكون صادقاً قدر الإمكان، ولا يضيره أن يبالغ في الصدق، حتى يفوت السبيل على من يريدون أن يسيئوا إليه، أو يفهموا أقواله للناس وأفعاله على غير ما هي عليه.

أما الخلق الآخر فهو خلق الصبر: والصبر قرين الإيمان، قرين اليقين وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

أهمية الصبر

والذي لا يصبر، فإنه من السهل جداً أن يتخلى عن دينه، فنحن بحاجة -أولاً- إلى الصبر على الإسلام، وبحاجة إلى الصبر على الدعوة إلى الإسلام، وبحاجة إلى الصبر الذي نلقاه في هذا السبيل -سبيل الدعوة-.

أما الذي لا يصبر، فإنه سرعان ما يستخفه الناس، أو تؤثر فيه العقبات التي تعترض طريقه فيتراجع؛ ولذلك كان من توجيهات الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60] فأمره بالصبر، وأن وعد الله له بالنصر، والتمكين في الدنيا، والنجاة في الآخرة حق، وقال: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60].

الصبر على الدعوة

كثيراً ما يقف الضالون في وجه الدعاة، فيقولون لهم: إنما تدعون إليه أمر لا يمكن أن يتحقق في الواقع، أنتم تدعون إلى أمور قد تعداها الزمن، ونسيها الناس، محالٌ أن يعود المجتمع إلى ما كان عليه، ولكن ينبغي أن ترضوا بما هو دون ذلك، أو ينبغي أن تعيدوا النظر في بعض آرائكم، فقد تجد من الدعاة من يستجيب لهذا المنطق، فربما بدأ يفكر مرة أخرى في فهمه للإسلام.

الربا اليوم يضرب أطنابه بين الناس، ويمد رواقه، وقل من يسلم منه، حتى تحققت النبوءة التي وردت في حديثٍ رواه الإمام أحمد في مسنده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يأتي على الناس زمانٌ من لم يأكل الربا، أصابه من غباره} وهذا الحديث وإن كان فيه مقال، إلا أنه ورد في صحيح البخاري، ما يشهد له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:{يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي المرء ما أكل من حلال أم من حرام}.

فهذا الربا الذي استقر في نفوس كثير من الناس، وفي جيوبهم، وفي أموالهم، ومؤسساتهم، بدلاً من أن يسعى الداعية للقضاء عليه، وإقناع الناس بتحريمه يأتيه الذين لا يوقنون فيحاولون أن يستخفوه به ليعيد النظر في موضوع صورة من صور الربا، وأن هذه قد لا تكون من الربا؛ ولذلك أصبحنا نسمع من يحاول أن يحلل بعض أصناف الربا الصريح الذي لا كلام فيه، ولا لف، ولا مداورة، لكن على سبيل الاستجابة لاستخفاف الذين لا يوقنون.

كذلك -أحياناً- يأتي بعض الناس إلى الداعية، فيقولون له: إنك تبذل جهود جبارة، وتتعب، وتسهر الليل، وتكد في النهار، وتواصل الجهود، لكن النهاية والنتيجة: قليلة، فأنت ترى الناس ينفضون من حولك، وترى وسائل الهدم والتخريب قد استحوذت على الكثيرين منهم، فلماذا لا تنعزل وتترك هذا الميدان، فربما جاء الوقت التي تشرع فيه العزلة؟!

وهذا المنطق -أيضاً- قد يؤثر في نفوس كثير من الدعاة، خاصة المبتدئين الذين لم يتعودوا على تحمل عقبات الطريق، فهنا يأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن خباب بن الأرت، قال: {شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا يا رسول الله: ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد احمر وجهه، ثم قال: إن من كان قبلكم يؤتى بالواحد منهم فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ويشق إلى نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه من عصب لا يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون}.

إذاً: العجلة في جني ثمار الدعوة ونتائجها لا تتناسب مع الصبر الذي يجب أن يتحلى به الداعية، أحياناً يكون الداعية في موقع من المواقع، يجاهد في مكان من الأمكنة في رد المنكرات، وفي التقليل منها، وفي نشر الدعوة، ويحدث له خيرٌ كثير، لكن لا يحس هو بهذا الخير الذي يقع؛ لأن الخير يقع تدريجياً، فلا يشعر به، كما أن الواحد منا حين يكون له ولد في بيته -طفله- يراه صباحاً ومساء، فهذا الطفل يكبر، لكن الأب لا يحس بنموه لأنه يراه باستمرار، والنمو تدريجي فلا يحس به الأب، كذلك الداعية -أيضاً- قد يكون في موقع له تأثير كبير، لكن لا يحس به، فلو تخلى عن هذا الموقع لظهر أثره، وكم من داعية تخلى عن موقعه ظاناً أنه ليس له أثر، فلما تخلى بان فقده، فكان شأنه كشأن الكسعي الذي يضرب به المثل في الندم، كما يقول الشاعر:

ندمت ندامة الكسعي لما      غدت مني مطلقة نوار

فـالكسعي، كان يصنع السهام -القسي- فيضرب بها، وصار يضرب في الليل، وظن أنه لم يصب، فكسر القوس الذي صنع، فلما أصبح ذهب فنظر، فوجد أنها قد أصابت الموضع الذي يريد! فندم ندماً شديداً على كسر هذا القوس.

فعلى الداعية ألا يستعجل النتائج والثمرات؛ بل عليه أن يسعى، ويعتمد على الله عز وجل، ويدرك أنه بمنطق التجربة المقطوع بها، التي لا يشك فيها اثنان ممن لهم معرفة، وبصر بالواقع، أن أي جهد صحيح يبذل اليوم في الأمة الإسلامية، فهو جهد مثمر، وقد جرب الكثير من الناس ذلك.

فمن يستطيع أن يقول: إن هناك داعية دعا فلم يستجاب له، أو عالم جلس للتعليم فلم يقعد إليه أحد، أو ناصح نصح فلم ينتصح أحد بأمره ونهيه، أبداً لا يوجد هذا، بل كل داع يجد من يستجيبون له.

إذاً لم تصل الأحوال إلى حد ما أخبر عنه الرسول عليه السلام: {شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه} على مستوى الأمة كلها، هذا قد يوجد بالنسبة لأفراد، لكن الأمة كلها لا يزال فيها خير كثير، ولا يزال عند الناس استجابة، وقبول للدعوة، وسماع لصوت الناصح؛ بل إننا نجد في الأمم الكافرة اليوم في أمريكا وبريطانيا وفرنسا، وغيرها من بلاد العالم الكافر، أن من يحمل لواء الدعوة إلى الله تعالى، يجد من يستجيب له من أولئك الكفار.

إذاً الدعوة تجد آذاناً صاغية لكن: (لكنكم تستعجلون) -كما قال صلى الله عليه وسلم-.

والذي لا يصبر، فإنه من السهل جداً أن يتخلى عن دينه، فنحن بحاجة -أولاً- إلى الصبر على الإسلام، وبحاجة إلى الصبر على الدعوة إلى الإسلام، وبحاجة إلى الصبر الذي نلقاه في هذا السبيل -سبيل الدعوة-.

أما الذي لا يصبر، فإنه سرعان ما يستخفه الناس، أو تؤثر فيه العقبات التي تعترض طريقه فيتراجع؛ ولذلك كان من توجيهات الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60] فأمره بالصبر، وأن وعد الله له بالنصر، والتمكين في الدنيا، والنجاة في الآخرة حق، وقال: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60].

كثيراً ما يقف الضالون في وجه الدعاة، فيقولون لهم: إنما تدعون إليه أمر لا يمكن أن يتحقق في الواقع، أنتم تدعون إلى أمور قد تعداها الزمن، ونسيها الناس، محالٌ أن يعود المجتمع إلى ما كان عليه، ولكن ينبغي أن ترضوا بما هو دون ذلك، أو ينبغي أن تعيدوا النظر في بعض آرائكم، فقد تجد من الدعاة من يستجيب لهذا المنطق، فربما بدأ يفكر مرة أخرى في فهمه للإسلام.

الربا اليوم يضرب أطنابه بين الناس، ويمد رواقه، وقل من يسلم منه، حتى تحققت النبوءة التي وردت في حديثٍ رواه الإمام أحمد في مسنده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يأتي على الناس زمانٌ من لم يأكل الربا، أصابه من غباره} وهذا الحديث وإن كان فيه مقال، إلا أنه ورد في صحيح البخاري، ما يشهد له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:{يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي المرء ما أكل من حلال أم من حرام}.

فهذا الربا الذي استقر في نفوس كثير من الناس، وفي جيوبهم، وفي أموالهم، ومؤسساتهم، بدلاً من أن يسعى الداعية للقضاء عليه، وإقناع الناس بتحريمه يأتيه الذين لا يوقنون فيحاولون أن يستخفوه به ليعيد النظر في موضوع صورة من صور الربا، وأن هذه قد لا تكون من الربا؛ ولذلك أصبحنا نسمع من يحاول أن يحلل بعض أصناف الربا الصريح الذي لا كلام فيه، ولا لف، ولا مداورة، لكن على سبيل الاستجابة لاستخفاف الذين لا يوقنون.

كذلك -أحياناً- يأتي بعض الناس إلى الداعية، فيقولون له: إنك تبذل جهود جبارة، وتتعب، وتسهر الليل، وتكد في النهار، وتواصل الجهود، لكن النهاية والنتيجة: قليلة، فأنت ترى الناس ينفضون من حولك، وترى وسائل الهدم والتخريب قد استحوذت على الكثيرين منهم، فلماذا لا تنعزل وتترك هذا الميدان، فربما جاء الوقت التي تشرع فيه العزلة؟!

وهذا المنطق -أيضاً- قد يؤثر في نفوس كثير من الدعاة، خاصة المبتدئين الذين لم يتعودوا على تحمل عقبات الطريق، فهنا يأتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن خباب بن الأرت، قال: {شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا يا رسول الله: ألا تدعو لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! قال: فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد احمر وجهه، ثم قال: إن من كان قبلكم يؤتى بالواحد منهم فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ويشق إلى نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه من عصب لا يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون}.

إذاً: العجلة في جني ثمار الدعوة ونتائجها لا تتناسب مع الصبر الذي يجب أن يتحلى به الداعية، أحياناً يكون الداعية في موقع من المواقع، يجاهد في مكان من الأمكنة في رد المنكرات، وفي التقليل منها، وفي نشر الدعوة، ويحدث له خيرٌ كثير، لكن لا يحس هو بهذا الخير الذي يقع؛ لأن الخير يقع تدريجياً، فلا يشعر به، كما أن الواحد منا حين يكون له ولد في بيته -طفله- يراه صباحاً ومساء، فهذا الطفل يكبر، لكن الأب لا يحس بنموه لأنه يراه باستمرار، والنمو تدريجي فلا يحس به الأب، كذلك الداعية -أيضاً- قد يكون في موقع له تأثير كبير، لكن لا يحس به، فلو تخلى عن هذا الموقع لظهر أثره، وكم من داعية تخلى عن موقعه ظاناً أنه ليس له أثر، فلما تخلى بان فقده، فكان شأنه كشأن الكسعي الذي يضرب به المثل في الندم، كما يقول الشاعر:

ندمت ندامة الكسعي لما      غدت مني مطلقة نوار

فـالكسعي، كان يصنع السهام -القسي- فيضرب بها، وصار يضرب في الليل، وظن أنه لم يصب، فكسر القوس الذي صنع، فلما أصبح ذهب فنظر، فوجد أنها قد أصابت الموضع الذي يريد! فندم ندماً شديداً على كسر هذا القوس.

فعلى الداعية ألا يستعجل النتائج والثمرات؛ بل عليه أن يسعى، ويعتمد على الله عز وجل، ويدرك أنه بمنطق التجربة المقطوع بها، التي لا يشك فيها اثنان ممن لهم معرفة، وبصر بالواقع، أن أي جهد صحيح يبذل اليوم في الأمة الإسلامية، فهو جهد مثمر، وقد جرب الكثير من الناس ذلك.

فمن يستطيع أن يقول: إن هناك داعية دعا فلم يستجاب له، أو عالم جلس للتعليم فلم يقعد إليه أحد، أو ناصح نصح فلم ينتصح أحد بأمره ونهيه، أبداً لا يوجد هذا، بل كل داع يجد من يستجيبون له.

إذاً لم تصل الأحوال إلى حد ما أخبر عنه الرسول عليه السلام: {شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه} على مستوى الأمة كلها، هذا قد يوجد بالنسبة لأفراد، لكن الأمة كلها لا يزال فيها خير كثير، ولا يزال عند الناس استجابة، وقبول للدعوة، وسماع لصوت الناصح؛ بل إننا نجد في الأمم الكافرة اليوم في أمريكا وبريطانيا وفرنسا، وغيرها من بلاد العالم الكافر، أن من يحمل لواء الدعوة إلى الله تعالى، يجد من يستجيب له من أولئك الكفار.

إذاً الدعوة تجد آذاناً صاغية لكن: (لكنكم تستعجلون) -كما قال صلى الله عليه وسلم-.

الخلق الثالث: هو خلق التواضع:

والتواضع: هو معرفة الإنسان قدر نفسه، وتجنب الكبر.

التحذير من الكبر

وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الكبر، كما في صحيح مسلم، لما قال: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قالوا: يا رسول الله إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، قال صلى الله عليه وسلم: إن الله جميلٌ يحب الجمال} أي: لا بأس أن يكون ثوبك حسناً ونعلك حسناً، وإذا قصدت إظهار نعمة الله عليك بهذا فهذا أمرٌ تؤجر عليه، وإذا كان لك فيه مقصد حسن فأنت تؤجر عليه، كما تؤجر على الزهد في هذا الأمر بمقصد حسن -أيضاً-.

{إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} بطر الحق، أي: جحده، وغمط الناس، أي: بخسهم حقوقهم، فيتجنب الإنسان الكبر، ويلجأ إلى التواضع، التواضع مع من فوقك، وأكبر منك في السن، أو في العلم، أو أقدم منك في الدعوة، وما أحوج الدعاة لهذا الأمر.

أذكر قصة ذكرها الإمام الخطابي في كتاب العزلة يقول: كان هناك رجل في مرو معروفاً بالزهد والورع والدين، فقدم الإمام عبد الله بن المبارك، وزار هذا الرجل، وكان لا يعرف ابن المبارك -على رغم شهرة عبد الله بن المبارك -رحمه الله- وانتشار ذكره في الآفاق، فكأن هذا الرجل لم يأبه بـابن المبارك، وازوَرَّ عنه، ولم يلتفت إليه، ربما سلم عليه بطرف يده، وأعرض عنه، ولم يأبه به، فخرج من عنده عبد الله بن المبارك، فلما خرج، قالوا له: أتدري من هذا؟! قال: لا. قالوا: هذا عبد الله بن المبارك، ففزع الرجل وقام مسرعاً، ولحق بـعبد الله بن المبارك وسلم عليه، واعتذر منه، وقال: انصحني. فقال: نعم، إذا رأيت إنساناً، فظن أنه قد يكون خيراً منك. وكأن عبد الله بن المبارك -رحمه الله- والله أعلم لمح في خلق هذا الرجل وفي نفسيته، وفي أسلوب استقباله نوعاً من الكبرياء، والاستعلاء على الناس، فنصحه بهذه النصيحة التي تناسب حاله.

إذاً كم نجد من بعض الدعاة، والذين يتقفرون العلم، وخاصة من صغار الطلبة، من يسيئون الأدب مع أشياخهم، وعلمائهم، وكبار الدعاة؟!

وهذا والله أمر يحز في النفس كثيراً -أيها الإخوة- فلا مانع أن تختلف مع عالم، أو مع داعية في رأي، أو قول، أو مسألة، أو اجتهاد، هذا أمر لا حرج فيه، لكن الحرج كل الحرج أن يكون هذا مدعاة إلى تحطيم قدره، والحط من مكانته، والإزراء عليه، وسوء الأدب معه، وكم من إنسان يخاطب جهابذة العلماء وكبارهم بأساليب لا تليق بصغار الطلبة.

الإلتفاف حول العلماء

والمؤسف -أيها الإخوة- أن هذا يوجد كثيراً لدى من يتميزون بالصفاء في العقيدة، والسلامة في التعلم؛ ولذلك قلما تجد عند علماء أهل السنة من يكون لديه قوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاحتساب، خاصة على الكبراء وعلية القوم، لماذا؟ لأن الناس خذلوهم، والأمر -كما يقول الشاعر-:

ولو أن قومي أنطقتني رماحهم     نطقت ولكن الرماح أجرت

أي نحن أهل السنة لو تحلقنا حول علمائنا، والتففنا حولهم، دعمناهم وجعلنا لهم مكانة تخولهم أن يقوموا بواجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على الوجه الصحيح، لكن لما خذله من وراءه لم يستطع أن يقول شيئاً.

والمؤسف أن أهل البدع على النقيض من ذلك، انظر -مثلاً- الرافضة كيف يسير دهماؤهم وراء علمائهم بشكل لا شك مرفوض، وأحياناً يتحول إلى عبودية، وتقديس لهؤلاء، وكذلك الشأن في المعتزلة، أنا كثيراً ما أتمثل بأبيات لأحد شيوخ المعتزلة، يمدح فيها واصل بن عطاء زعيم الاعتزال، يقول له:

له خلف بحر الصين في كل بلدة إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر

رجال دعاة لا يفل عزيمهم     تهكم جبارٍ ولا كيد ماكر

له دعاة أقوياء العزائم.

إذا قال: مروا في الشتاء تسارعوا وإن جاء حر لم يخف شهر ناجرِ

هم أهل دين الله في كل بلدة وأرباب فتياها وأهل التشاجر

يصف سلطة هذا الرجل على من حوله من التلاميذ، وكيف أنه إذا أمرهم في شدة الشتاء بالذهاب إلى أقصى الدنيا أطاعوه، لا يفتدون منه بمال، ولا أهل، ولا ولد، ولا يعتذرون منه.

أهل السنة ينبغي أن يوقروا ويقدروا علماءهم، ولا خير في أمة لا يوقر صغيرها كبيرها، ولا يرحم كبيرها صغيرها.

معرفة قدر النفس

فمن التواضع -وهذا في الواقع تسميته تواضعاً من باب التجاوز، وإلا فهو في الواقع من باب معرفة قدر النفس، وهذا هو التواضع- ألا تنظر إلى نفسك على أنك ند لهذا العالم، تقول: هم رجال ونحن رجال، صحيح هم ذكور، ونحن ذكور هذا صحيح، لكن في الواقع أن الرجولة تختلف وتتفاوت، ومفهوم الرجولة بعيد كل البعد، ومن الصعب أن تصف نفسك بالرجولة، فالرجولة وردت في القرآن الكريم على سبيل المدح، قال الله تعالى: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108] فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:36-37].

إذاً: من الصعب أن تصف نفسك بالرجولة، الرجولة الحقيقية التي يتمدح بها، فإنه صحيح أن تصف نفسك بالذكورة، أما الرجولة فأمر فوق ذلك، فكم من شاب -أحياناً- يكون في مرحلة قليلة في بداية التعلم، وربما لم يحفظ من القرآن إلا اليسير، ولم يقرأ من الحديث إلا اليسير، وتجده يقف أمام جهابذة العلماء، وبأسلوب لا يليق، فهذا ينافي معرفة الإنسان قدر نفسه؟!!

التواضع مع الأقران

وكذلك، ينبغي أن يكون الإنسان متواضعاً مع أقرانه، فكثيراً ما يثور بين الأقران روح المنافسة، والغيرة والحسد، فتجد الإنسان ربما يستعلي على أقرانه، وربما يفرح بالنيل منهم، والحط من قدرهم، وعيبهم ببعض ما فيهم، أو تضخيم بعض العيوب، أو ادعاء عيوب ليست فيهم, والمظهر مظهر النصيحة، والتقويم والحقيقة أن هذا الإنسان يغار.

والعجيب -أيها الإخوة- أن الداعية، وطالب العلم يغار من أقرانه، لكن لا يغار من الأعداء! قد يغار الداعية من داعية آخر أنه اجتمع عنده في مجلس درسه أو تعليمه ألف أو ألفان من المستمعين، لكن لا يغار إذا سمع أن مباراة رياضية حضرها عشرة آلاف، أو عشرين ألفاً، فيصيبه حزن إذا سمع بكثرة الذين حضروا الموعظة أو الدرس، لكن لا يحزن إذا سمع بكثرة من يحضرون حفلاً غنائياً، أو مباراة رياضية، أو ما أشبه ذلك من المناسبات المنحرفة.

وهذا والله من البؤس، حتى لو كان لك ملاحظة على أخيك الداعية، حتى لو كنت لا ترضى منه بعض الأمور، لأنه:

من ذا الذي ترضى سجاياه كلها     كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

أنا يكفيني أنه يدعو الناس إلى الله جل وعلا، ويكفيني أنه يعلم الناس الدين، وإن كان عنده ما عنده، وقد يكون الحق معه فيما أنتقد عليه.

التواضع مع أهل الدون والفسق

وكذلك التواضع مع منهم دونك، فإذا وجدت أناساً يصغرونك سناً، أو قدراً، فأولاً: لا ينبغي أن تنظر إليهم على أنهم أقل منك، إن وجدت إنساناً أصغر منك، تذكر أنه قد يكون هذا الإنسان أسلم منك، فربما وقعت في معاصٍ وذنوب لم يقع فيها، فهو لا يزال بريئاً، بعيداً عن المعاصي؛ لهذا قد يكون أقرب إلى الله منك.

وإن رأيت إنساناً فاسقاً، وأنت رجلٌ ظاهرك الصلاح، فلا تستكبر على هذا الإنسان؛ بل أولاً: احمد الله على أن نجاك مما هو فيه، ثم تذكر أنه قد يكون في عملك الصالح من العجب أو الرياء ما يحبطه، هذا وارد، وقد يكون عند هذا الإنسان من الانكسار، والذل، والندم، والخوف بسبب معصيته ما يكون سبباً في غفران ذنبه.

ولذلك في صحيح مسلم، قصة الإسرائيلي الذي كان عابداً، فكان يقول: والله لا يغفر الله لفلان -لأنه رجل مسرف على نفسه- فقال الله جل وعلا: {من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر له، فإني قد غفرت له، وأحبطت عملك} -إذاً- لا تستكبر على أحد، حتى حين ترى الفاسق لا تستكبر عليه، وفائدة عدم الاستكبار -أيها الإخوة- ليس أن تذل لهذا الإنسان، لكن ألا تعامله بأسلوب المتسلط المستعلي.

أحياناً: الإنسان المستقيم يعامل الفاسق بأسلوب لا يدعو إلى الاستجابة، لكن لو أنه ثار في نفسه هذا الشعور أنه قد يكون عند هذا الفاسق طاعات ليست عندي، وحسنات ليست لي، وقد يكون عندي عيوب ليست عنده، فعامله برفق، وتدرج معه في الدعوة، وتلطف معه، قد يكون هذا من أهم أسباب تقبله؛ لأن كثيراً من الفساق يشتكون جفاء الدعاة، وسوء أساليبهم، ويقول كثير منهم: إنهم إذا رأوا إنساناً عليه أثر معصية ظاهرة أساءوا إليه، وأساءوا به الظن، وربما جفوا في معاملته، والأزمنة -أيها الإخوة- تختلف، فالزمن هذا، زمن فشت فيه ألوان من المعاصي، وأصبحت كالعرف المألوف عند كثير من الناس، فمثل هذه الأشياء ينبغي مراعاة انتشارها بأن لا يعتقد الإنسان دائماً أن هذه المعصية تدل على أن هذا الإنسان شرير، وأن باطنه -أيضاً- فاسد فساداً كاملاً.

وإن كنا نعلم -لا شك- أن كل فساد في الظاهر، فله رصيد من الفساد في الباطن بحسبه، ولا يمكن الفصل بين الظاهر والباطن، لحديث النعمان المتفق عليه: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب}.

التواضع عند فعل الخير

كذلك من التواضع: أن تتواضع إذا عملت خيراً من طاعة أو قربة، ولا يدعوك هذا إلى العجب بهذا العمل، لماذا؟

لأنك تتذكر -كما أسلفت- أنه قد يكون هذا العمل غير مقبول، لسبب من الأسباب، فلا تستكبر به، ولا تمن به على الله جل وعلا.

وكذلك تتواضع إذا نصحت، وأكثر ما يأتي الشيطان للإنسان ويأزه ويعظم عليه الأمر إذا نصح؛ لأن النصيحة معناها: أن فيك نقصاً، فأنا حين آتي إليك، وأقول لك: يا أخي أنت -جزاك الله خيراً- فيك وفيك، وأنت رجلٌُ، ورجلٌ، ورجلٌ، فتفرح بذلك، هذه فطرة عند الإنسان يفرح بالمدح -يحب المدح- لكن إذا قلت لك: ولكن.. هنا تمسك قلبك؛ لأنك تخشى مما بعد لكن؛ معناها لأنني سوف أرجع، وأنتقدك في بعض العيوب.

وكل واحد منا ولا أعتقد أن واحداً منا إلا كذلك يكره كثرة الملاحظات، إلا أنه إن وجد أنها حق قهر نفسه، وتقبلها، ودعا لمن نبهه إليها، وشكره، لكن الضعيف ربما يستجمع قوته، ويستكبر عن قبول الحق؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: { الكبر بطر الحق} أي: رده، بمعنى أن ترد الحق، فإذا سمعت أحداً ينصح لك فتواضع -يا أخي- وتذكر أنك أهلٌ لكل خطأ، وعيب ونقص، وافرح بإنسان يهدي إليك عيبك.

وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الكبر، كما في صحيح مسلم، لما قال: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قالوا: يا رسول الله إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، قال صلى الله عليه وسلم: إن الله جميلٌ يحب الجمال} أي: لا بأس أن يكون ثوبك حسناً ونعلك حسناً، وإذا قصدت إظهار نعمة الله عليك بهذا فهذا أمرٌ تؤجر عليه، وإذا كان لك فيه مقصد حسن فأنت تؤجر عليه، كما تؤجر على الزهد في هذا الأمر بمقصد حسن -أيضاً-.

{إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} بطر الحق، أي: جحده، وغمط الناس، أي: بخسهم حقوقهم، فيتجنب الإنسان الكبر، ويلجأ إلى التواضع، التواضع مع من فوقك، وأكبر منك في السن، أو في العلم، أو أقدم منك في الدعوة، وما أحوج الدعاة لهذا الأمر.

أذكر قصة ذكرها الإمام الخطابي في كتاب العزلة يقول: كان هناك رجل في مرو معروفاً بالزهد والورع والدين، فقدم الإمام عبد الله بن المبارك، وزار هذا الرجل، وكان لا يعرف ابن المبارك -على رغم شهرة عبد الله بن المبارك -رحمه الله- وانتشار ذكره في الآفاق، فكأن هذا الرجل لم يأبه بـابن المبارك، وازوَرَّ عنه، ولم يلتفت إليه، ربما سلم عليه بطرف يده، وأعرض عنه، ولم يأبه به، فخرج من عنده عبد الله بن المبارك، فلما خرج، قالوا له: أتدري من هذا؟! قال: لا. قالوا: هذا عبد الله بن المبارك، ففزع الرجل وقام مسرعاً، ولحق بـعبد الله بن المبارك وسلم عليه، واعتذر منه، وقال: انصحني. فقال: نعم، إذا رأيت إنساناً، فظن أنه قد يكون خيراً منك. وكأن عبد الله بن المبارك -رحمه الله- والله أعلم لمح في خلق هذا الرجل وفي نفسيته، وفي أسلوب استقباله نوعاً من الكبرياء، والاستعلاء على الناس، فنصحه بهذه النصيحة التي تناسب حاله.

إذاً كم نجد من بعض الدعاة، والذين يتقفرون العلم، وخاصة من صغار الطلبة، من يسيئون الأدب مع أشياخهم، وعلمائهم، وكبار الدعاة؟!

وهذا والله أمر يحز في النفس كثيراً -أيها الإخوة- فلا مانع أن تختلف مع عالم، أو مع داعية في رأي، أو قول، أو مسألة، أو اجتهاد، هذا أمر لا حرج فيه، لكن الحرج كل الحرج أن يكون هذا مدعاة إلى تحطيم قدره، والحط من مكانته، والإزراء عليه، وسوء الأدب معه، وكم من إنسان يخاطب جهابذة العلماء وكبارهم بأساليب لا تليق بصغار الطلبة.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع