وقفات مع سورة الذاريات


الحلقة مفرغة

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ * وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ * قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذارايات:1-23]

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

هذه السورة العظيمة، سورة الذاريات، وهي مكية، وموضوعها هو موضوع الآيات المكية غالباً، تقرير العقيدة، وترسيخها في القلوب، وكشف أدلتها، والرد على المخالفين، وقد افتتح الله تعالى هذه السورة بهذا القسم العظيم وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً [الذاريات:1-4] فأقسم بهذه الأشياء الأربعة، الرياح: وهي الذاريات، والسفن: وهي الجاريات، والسحاب: وهي الحاملات، والمقسمات: وهي الملائكة، وأقسم بها بصيغة الجمع ليكون أفخم وأوقع في النفس إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:5-6] فهذا هو موضوع القسم، وهذه هي الوقفة الأولى.

أما المسلم فلأنه يُعظِّم الله تعالى، فإن الأمر عنده أصلاً لا يحتاج إلى أكثر من أن يأمر الله بشيء فيفعله، أو ينهي عن شيء فيجتنبه، أو يقرر الله تعالى شيئاً فيؤمن به، فإذا جاءه هذا القسم من الله بهذه الأشياء العظيمة، وبصيغة الجمع، كان هذا سبباً في شدة اهتمامه، وتوجه قلبه، إلى هذا الموضوع المقسم عليه، أما غير المؤمن، فإن هذا القسم أيضاً سيحدث عنده شيئاً كبيراً.

لا يقبل على الهداية إلا من وفقه الله

إن هذه الآيات بقوتها وشدتها ووضوحها، تقول لكل إنسان: لا تأخذ قضية الجزاء والبعث والحساب مأخذ التهاون والتساهل والتفريط، أعط القضية حقها من الاهتمام، ووجه قلبك، وفكرك، وعقلك إليها، وتأمل في أدلتها وحينئذٍ ستصل إلى النتيجة الصحيحة، لأنه لا أحد يُقبل على طلب الهداية، والبحث عن الحق، بتجرد وصدق وإخلاص، إلا وفقه الله سبحانه وتعالى لإدراك الهداية وتحصيلها، والدليل على ذلك قصة جبير بن مطعم، وأيضاً من القرآن قول الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] فهذه الآية نص في أن من يطلب الهداية، ويجاهد في طلب الهداية، فإن الله تعالى يهديه سبلها، ويوفقه إليها، وقوله تعالى:وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد:17] وأيضا قوله تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً [الكهف:13] إلى غير ذلك من الآيات.

إذاً: هذا القسم بهذه الأشياء العظيمة الكبيرة، وبصيغة الجمع، من الله جل وعلا، يحدث عند كل إنسان تأثيراً قوياً، فأما المؤمن فتأثير القسم عليه هو شدة الاعتناء والحفاوة بالأمر المقسم عليه، وشعوره بأنه موضوع خطير، وأن ربنا جلَّ وعلا ما ذكره هكذا، وإنما ذكره في سياق القسم عليه، والتأكيد على معناه.

وأما غير المؤمن، فحتى لو لم يؤمن بهذا الشيء بمجرد القسم، إلا أن هذا يعطيه تأكيداً للموضوع، ويقول له: إن هذا الموضوع في غاية الأهمية، ويجب أن توجه قلبك، وعقلك، وهمك، إلى التفكير فيه، والبحث عن وجه الصواب، وتحري الحق، والمؤمن يعلم أن لا أحد يتحرى الحق، ويبحث عن الصواب بتجرد إلا اهتدى إليه، لأن هذا وعد من الله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد:17] وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ [سبأ:46] فيقسم الله تعالى بهذه الأشياء على هذا الموضوع الجليل الخطير، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:5-6] الدين هو الجزاء والحساب، فمعنى الآية: إن مجازاة الناس بأعمالهم يوم القيامة أمر واقع لا شك فيه.

وعود الله تعالى للمؤمنين

أما قوله: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذاريات:5] فهو أعم من ذلك، فهم قد وعدوا أشياء كثيرة، ومما وعدوا أن يبعثوا، ويجازوا بأعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، هذا مما وعدوا، لكنهم وعدوا أيضاً بغير ذلك، وعدوا بالنصر والتمكين للإيمان والمؤمنين، وأن الله تعالى سوف ينصر رسله، ووعدو أيضاً بأن الله تعالى سوف يخذل أعداءهم، ويجعل الدائرة عليهم، ووعدوا أيضاً بأن الله تعالى سوف يجري على يد رسله وأنبيائه من الآيات والحجج الباهرة الشيء العظيم، بل ووعدوا تفاصيل أشياء على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، أنها ستقع مثل قصة عدي بن حاتم، التي فيها الوعد بفتح فارس والروم، ونصر المسلمين واستتباب الأمن في بلادهم، وكثرة الخير بأيدي المسلمين، ومما وعدوا أيضاً هزيمة الروم قال تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [الروم:3] ثم انتصارهم من بعد: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:3] وهزيمة فارس، ومما وعدو أيضاً: قصة سراقة بن مالك إن صحت: {كيف بك يا سراقة! إذا لبست سواري كسرى} ومما وعدوا فتح القسطنطينية ووعدوا أن هذه الأمة ستتبع الأمم قبلها، حذو القذة بالقذة، إلى غير ذلك مما جاء على ألسنة الرسل، وهو كثير جداً.

فهذا قسم على أن كل ما توعدون من الله تعالى على لسان رسله، أنه صادق، وصدق الوعد يعني أنه سيقع ويتحقق، ثم أكد على أمر واحد مما وعدوت وهو الدين، يعني الجزاء والحساب يوم القيامة، فعم وخص وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:6] وإنما خص مسألة الدين، وهو المجازاة، دين الناس بأعمالهم، لأنه هو موضوع السورة، بل وكثير من السور المكية، وهو موضوع القسم أيضاً.

الكافرون في أمر مريج

ثم أقسم الله تعالى بالسماء ذات الحبك، ذات القوة، ذات الجمال، ذات النجوم، إنكم يا معشر الكفار! إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:8-9] قضية القسم، وهي الوقفة الأولى كما سبق، هي التأكيد على موضوع البعث والقسم عليه، والدعوة إلى التأمل فيه والتفكر، ولهذا عقَّب بقسم آخر، بالسماء البعيدة، الرفيعة، القوية، البهية، الجميلة، ذات الحبك، إنكم يا من تكفرون بالبعث! قد تجاوزتم الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال! فأصبحتم في قول مختلف، لا يستقر على حال، فهذا كقوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] ليس هناك شيء في الدنيا ثابت ومستقر، تطمئن إليه النفوس، والعقول، والقلوب، إلا الحق، فإذا آمن الإنسان بالحق، ودعا إليه، وعمل به، أورثه هذا طمأنينة ويقيناً واستقراراً، فتجد كلامه الأمس وكلامه اليوم هو كلامه غداً من حيث الجملة، لأنه ينطلق من مصدر واحد، لكن إذا ترك الحق وأعرض عنه، ابتلي بالتلون، والتذبذب، والنفاق، فأصبح شأنه اليوم غير شأنه بالأمس، وشأنه غداً غير شأنه اليوم، ولهذا قال:إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات:8] لأننا إذا تركنا المجال للتصورات العقلية، وجدنا أنا الإمكانيات العقلية -الاحتمالات العقلية- كثيرة جداً، فقد يتصور الإنسان مثلاً بالعقل بدون الدين، قد يتصور أن الحياة الدنيا التي يأتي بعدها الموت، هي نهاية المطاف، وأن من مات لا يبعث أبداً! هذا تصور عقلي، يمكن أن العقل يتصور هذا، وقد يتصور آخر، أن الإنسان إذا مات في هذه الدنيا فإن روحه تذهب إلى شخص آخر، أو إلى حيوان آخر، أو إلى طير! كما هو مذهب التناسخية الذين يقولون بتناسخ الأرواح، وقد يتصور الإنسان شيئاً مثل هذا، عشرات الاحتمالات العقلية، لماذا هذه الاحتمالات؟

ليس واحد منها بأفضل من الآخر، فمسألة الإمكان العقلي، هذا ممكن وهذا ممكن، واعتبار أن هذا الاحتمال أقوى، أو هذا ليس عليه دليل، فيصبح الكافر في قول مختلف، قد يقول اليوم قولاً، فيقنعه بعده آخر بقول ثان، وآخر بقول ثالث، وهكذا، فهو في قول مختلف مضطرب مريج، كما قال تعالى: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] وهذا القول المختلف هو قول متناقض، قول ليس عليه دليل ولا يخفى فساده إلا على الإنسان الذي عطل عقله، وألغى إدراكه، ولهذا قال: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9] أي: يصرف عن فساد هذا القول الذي أنتم فيه، فهذا القول المتناقض لا يصرف عنه إلا من عطَّل مداركه، وقُلِبت فطرته، فأصبح لا يميز بين الحسن والقبيح، ولا بين الحق والباطل.

النظر إلى الحياة الدنيا طريقان

الأول: طريق الوحي، الذي يقرر أن الحياة الدنيا مؤقتة، وأن الناس مطالبون بعبادة الله، وأن بعد الدنيا آخرةً، وبعثاً، وجزاءً، وحساباً، وجنة للمتقين، وناراً للعاصين، هذا طريق الله، وهو طريق واضح، من آمن به استقر قلبه، وهدأت نفسه، وعرف طريقه.

الطريق الثاني: هو طريق الباطل، طريق الشيطان الذي ليس له قرار ولا استقرار، ولا يقوم على أساس، وإنما هو قول مختلف، مضطرب، مريج، لا يرتاب في ضلاله واضطرابه إلا من أراد الله تعالى له الضلال، فعطل عقله، وألغى مداركه، وانقلبت فطرته، فصار لا يستخدم هذه المواهب التي أعطاه الله تعالى إياها في الوصول إلى الحق، فهذا معنى قوله: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9] أي: فأنتم يا معشر المكذبين بالبعث في أمر مختلف مضطرب مريج، لا يؤفك -أي: يصرف ويقلب- عن إدراك خطئه وفساده إلا من أفك، يعني: قلب وصرفت فطرته، وإلا فالإنسان العاقل يعرف فساده، ولهذا عقب أيضاً بقوله: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات:10] وهذا دعاء عليهم، قتلوا: أي أهلكو ولعنوا وذموا، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات:11-12] يعني هؤلاء القوم أهل الشك والحيرة والاضطراب، الذين لم يهتدوا إلى طريق الله، فظلوا في الإفك والتردد والشك، كل يوم عندهم احتمال عقلي، مثل ما تجده حتى عند كبار العباقرة إذا نظرت غير مؤمنين، إذا أتيت تفكيره في مسألة الإيمان وجدته أقل من تفكير الصبيان، لأنه ما استخدم هذه المواهب العظيمة في ما ينفعه في الدار الآخرة، إنما استخدم المواهب في الدنيا، فتجده اكتشف الكهرباء، واكتشف الجاذبية، واكتشف أعماق البحار، ومجاهيل الأرض، ومجاهيل الفضاء، واكتشف في مجال التصنيع، والزراعة، والذرة، أشياء كبيرة لأنه وجَّهه عقله إليها، واستخدم طاقاته لها، لكن القضية الكبرى قضية الآخرة ما وجه عقله إليها ولهذا يُعبَّر عنه بأنه أفك عن هذا الأمر، وصرف عنه، فوقع في هذا الأمر المختلف المريج، وأصبح من الخراصين، الذين يتشككون ويترددون ويتقلبون، فكل يوم لهم رأي، وهم ساهون غافلون لا يأخذون القضية مأخذ الجد، ولم يفكروا فيها تفكيراً عميقاً، بل هم في غمرتهم وغفلتهم وسهوهم ودنياهم.

وأنت لو تأملت أحوال الناس لوجدت غالب الكافرين على هذا الأمر، فلو كان هناك إنسان مهتم بقضية الدين فعلاً ولو لم يكن مسلماً فإنه بعد عشر سنوات أو عشرين سنة، يصل في النهاية إلى الدين، يبحث ويقول: ذهبت ودرست النصرانية فلم تعجبني، ثم ذهبت ودرست اليهودية فلم تعجبني، ثم لم أكن أعرف الإسلام، فوجدت البهائية مثلاً فأخذت كتب البهائية أظنها هي كتب المسلمين، فقرأتها فلم تعجبني فوجدت فيها تناقضاً، وجلست سنوات وأنا في حيرة وفي قلق وفي شبه اليأس، حتى هممت بالانتحار ولكني لم أفعل، حتى وقع في يدي كتاب كذا، فقرأته فوجدت فيه الهداية، فيذكر بعض كتب المسلمين التي حصل عليها بالصدفة يظن، والواقع أنه قدر ساقه الله تعالى إليه، فكل إنسان يأخذ قضية الدين بجد ويبحث عنها بتحرٍِ، يصل في النهاية، وإنما يصرف عن الدين الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ [الذاريات:11] مشغولون بتفاصيل حياتهم اليومية، من وظيفة، وطعام، وشراب، وبرنامج يومي، ومشاريع بعد مشاريع، دراسة، ثم وظيفة، ثم زواج، ثم سفر، ثم مشاريع اقتصادية، ثم مشاريع علمية، ثم دنيوية، ثم، ثم.... حتى تنتهي حياة الواحد منهم وهو لم يجد وقتاً للتفكير، فهو في غمرة، أي في لهو، وغفلة، ولذلك هناك كفر اسمه كفر الإعراض، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3] لأنهم ما فكَّروا أصلاً، فهذا إذا جاءه الموت صحا قال تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات:12] هذا سؤال مستهتر مستخف! فإن هذا ليس من شأن العبد، وهذا السؤال لا يطرحه إنسان جاد، فسواء كان يوم الدين بعد سنة أو بعد مائة سنة، أو ألف سنة، أو ما يعلم الله تعالى من ذلك، الإنسان الجاد يسأل: هل يوم الدين حق أم ليس بحق؟

ويبحث عن الأدلة، فإذا توصل إلى أنه الحق، أعد العدة له، وهو يعلم أنه لا يحول بينه وبين يوم الدين إلا الموت، ثم يلقى هو دينه وجزاؤه وحسابه.

يوم الدين غيبٌ لا يعلمه إلا الله

أما يوم الدين الأكبر، يوم الجزاء الأوفى للطائعين والعاصين، والذي يجمع فيه الناس لرب العالمين، فهذا غيب عند الله تعالى لا يعلمه إلا هو، وإنما السؤال: أيَّان يوم الدين؟

سؤال استبعاد أيضاً، فهو إنما يصدر من قلوب جاحدة، ونفوس منكرة، تعترض على الرسل بهذه الطريقة، فتقول: متى سوف نبعث وفي أي يوم وفي أي تاريخ؟

فالرسل يتكلمون بالجد، وهؤلاء يواجهون الموضوع بسخرية واستهزاء! ولهذا فمِثل هذا السؤال، (أيان يوم الدين؟) لا يستحق الجواب، إنما يستحق التهديد لأصحاب هذا السؤال، فإذا كنتم تقابلون الموضوع بهذا الأسلوب، وبهذه الطريقة، جاحدين، مستهزئين، مستنكرين فالجواب يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات:13]. أي: يحرقون بالنار، ويقال لهم: ذوقوا فتنتكم وحريقكم وعذابكم، الذي وعدتم به، هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات:14] أمس في الدنيا.

وتقولون: أيان يوم الدين؟

قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص:16] هذا هو، ما أسرع ما وصلتم إليه! ومضت دنياكم كأنها عشية أو ضحاها، أو كأنها ساعة من نهار، أفضلكم وأحسنكم طريقة، وأكبركم عقلاً يقول: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه:104] قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113].

إذاً هذه هي الوقفة الأولى في السورة، وهي موضوع القسم، الذي أقسم الله تعالى عليه، وهو إثبات البعث والوعد الحق، والصدق الذي لا يتخلف، لأنه ممن لا يخلف الميعاد، ولأنه ممن هو على كل شيء قدير وهو الله، وقد عالج هذا الموضوع، ومن العلاج: إثارة الاهتمام في نفس الكافر ليفكر في الموضوع على الأقل، ولا يأخذه بتهاون، أو استخفاف، أو لا مبالاة! فالموضوع خطير، وقد أقسم الله عليه، وأكدَّ أنه سيحصل، وأنَّ من أنكره أو كذَّب به أنه في أمر مضطرب، مريج، مختلف، ووبَّخ الله تعالى الخرَّاصين المرتابين، الذين لا يأخذون هذا الأمر بجد، وإنما يغفلون عنه، وهم في غمرة وغفلة ساهون لاهون، يتساءلون إذا سمعوا حديث البعث، والحساب، والجزاء: متى ذلك؟

في أي يوم ستقوم الساعة؟

وفي أي يوم سيكون الجزاء؟

أوهو قريب أم بعيد؟

وعالج هذا الاستخفاف بهذا الوعيد الذي يحرق القلوب يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات:14] والداعية قد يأخذ من هذا درساً، فيمن يدعوهم إلى الله تعالى، وهو أن من أعظم وأنجح وسائل الدعوة، أن تفلح في كسب اهتمام المدعو، بمعنى أنه ليس المهم في البداية أن يؤمن المدعو بما تقول له مباشرة، فهذا قد يكون صعباً أحياناً، خاصة إذا كان المدعو كافراً أو شاكاً، لكن المهم هو أن تفلح في كسب اهتمامه، بأن تثير عنده القضية، بحيث تشغل تفكيره، فإذا وجدت أنك أفلحت في تحويل اهتمام هذا الإنسان مثلاً، من الدنيا، والوظيفة، والفن، والرياضة، والمصالح العاجلة، إلى الاهتمام بأمر الدين، والتفكير فيه، والبحث عن الصواب، فاعلم أنك قد قطعت مرحلة كبيرة في دعوة هذا الإنسان، وعليك بعد ذلك أن تساعده في الوصول إلى الحق، لأن أمامه عدة تصورات، وعدة احتمالات، وعدة حلول، فعليك أن تساعده في اختيار الحل الصحيح.

إن هذه الآيات بقوتها وشدتها ووضوحها، تقول لكل إنسان: لا تأخذ قضية الجزاء والبعث والحساب مأخذ التهاون والتساهل والتفريط، أعط القضية حقها من الاهتمام، ووجه قلبك، وفكرك، وعقلك إليها، وتأمل في أدلتها وحينئذٍ ستصل إلى النتيجة الصحيحة، لأنه لا أحد يُقبل على طلب الهداية، والبحث عن الحق، بتجرد وصدق وإخلاص، إلا وفقه الله سبحانه وتعالى لإدراك الهداية وتحصيلها، والدليل على ذلك قصة جبير بن مطعم، وأيضاً من القرآن قول الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] فهذه الآية نص في أن من يطلب الهداية، ويجاهد في طلب الهداية، فإن الله تعالى يهديه سبلها، ويوفقه إليها، وقوله تعالى:وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد:17] وأيضا قوله تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً [الكهف:13] إلى غير ذلك من الآيات.

إذاً: هذا القسم بهذه الأشياء العظيمة الكبيرة، وبصيغة الجمع، من الله جل وعلا، يحدث عند كل إنسان تأثيراً قوياً، فأما المؤمن فتأثير القسم عليه هو شدة الاعتناء والحفاوة بالأمر المقسم عليه، وشعوره بأنه موضوع خطير، وأن ربنا جلَّ وعلا ما ذكره هكذا، وإنما ذكره في سياق القسم عليه، والتأكيد على معناه.

وأما غير المؤمن، فحتى لو لم يؤمن بهذا الشيء بمجرد القسم، إلا أن هذا يعطيه تأكيداً للموضوع، ويقول له: إن هذا الموضوع في غاية الأهمية، ويجب أن توجه قلبك، وعقلك، وهمك، إلى التفكير فيه، والبحث عن وجه الصواب، وتحري الحق، والمؤمن يعلم أن لا أحد يتحرى الحق، ويبحث عن الصواب بتجرد إلا اهتدى إليه، لأن هذا وعد من الله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد:17] وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ [سبأ:46] فيقسم الله تعالى بهذه الأشياء على هذا الموضوع الجليل الخطير، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:5-6] الدين هو الجزاء والحساب، فمعنى الآية: إن مجازاة الناس بأعمالهم يوم القيامة أمر واقع لا شك فيه.

أما قوله: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذاريات:5] فهو أعم من ذلك، فهم قد وعدوا أشياء كثيرة، ومما وعدوا أن يبعثوا، ويجازوا بأعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، هذا مما وعدوا، لكنهم وعدوا أيضاً بغير ذلك، وعدوا بالنصر والتمكين للإيمان والمؤمنين، وأن الله تعالى سوف ينصر رسله، ووعدو أيضاً بأن الله تعالى سوف يخذل أعداءهم، ويجعل الدائرة عليهم، ووعدوا أيضاً بأن الله تعالى سوف يجري على يد رسله وأنبيائه من الآيات والحجج الباهرة الشيء العظيم، بل ووعدوا تفاصيل أشياء على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، أنها ستقع مثل قصة عدي بن حاتم، التي فيها الوعد بفتح فارس والروم، ونصر المسلمين واستتباب الأمن في بلادهم، وكثرة الخير بأيدي المسلمين، ومما وعدوا أيضاً هزيمة الروم قال تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [الروم:3] ثم انتصارهم من بعد: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:3] وهزيمة فارس، ومما وعدو أيضاً: قصة سراقة بن مالك إن صحت: {كيف بك يا سراقة! إذا لبست سواري كسرى} ومما وعدوا فتح القسطنطينية ووعدوا أن هذه الأمة ستتبع الأمم قبلها، حذو القذة بالقذة، إلى غير ذلك مما جاء على ألسنة الرسل، وهو كثير جداً.

فهذا قسم على أن كل ما توعدون من الله تعالى على لسان رسله، أنه صادق، وصدق الوعد يعني أنه سيقع ويتحقق، ثم أكد على أمر واحد مما وعدوت وهو الدين، يعني الجزاء والحساب يوم القيامة، فعم وخص وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:6] وإنما خص مسألة الدين، وهو المجازاة، دين الناس بأعمالهم، لأنه هو موضوع السورة، بل وكثير من السور المكية، وهو موضوع القسم أيضاً.

ثم أقسم الله تعالى بالسماء ذات الحبك، ذات القوة، ذات الجمال، ذات النجوم، إنكم يا معشر الكفار! إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:8-9] قضية القسم، وهي الوقفة الأولى كما سبق، هي التأكيد على موضوع البعث والقسم عليه، والدعوة إلى التأمل فيه والتفكر، ولهذا عقَّب بقسم آخر، بالسماء البعيدة، الرفيعة، القوية، البهية، الجميلة، ذات الحبك، إنكم يا من تكفرون بالبعث! قد تجاوزتم الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال! فأصبحتم في قول مختلف، لا يستقر على حال، فهذا كقوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] ليس هناك شيء في الدنيا ثابت ومستقر، تطمئن إليه النفوس، والعقول، والقلوب، إلا الحق، فإذا آمن الإنسان بالحق، ودعا إليه، وعمل به، أورثه هذا طمأنينة ويقيناً واستقراراً، فتجد كلامه الأمس وكلامه اليوم هو كلامه غداً من حيث الجملة، لأنه ينطلق من مصدر واحد، لكن إذا ترك الحق وأعرض عنه، ابتلي بالتلون، والتذبذب، والنفاق، فأصبح شأنه اليوم غير شأنه بالأمس، وشأنه غداً غير شأنه اليوم، ولهذا قال:إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات:8] لأننا إذا تركنا المجال للتصورات العقلية، وجدنا أنا الإمكانيات العقلية -الاحتمالات العقلية- كثيرة جداً، فقد يتصور الإنسان مثلاً بالعقل بدون الدين، قد يتصور أن الحياة الدنيا التي يأتي بعدها الموت، هي نهاية المطاف، وأن من مات لا يبعث أبداً! هذا تصور عقلي، يمكن أن العقل يتصور هذا، وقد يتصور آخر، أن الإنسان إذا مات في هذه الدنيا فإن روحه تذهب إلى شخص آخر، أو إلى حيوان آخر، أو إلى طير! كما هو مذهب التناسخية الذين يقولون بتناسخ الأرواح، وقد يتصور الإنسان شيئاً مثل هذا، عشرات الاحتمالات العقلية، لماذا هذه الاحتمالات؟

ليس واحد منها بأفضل من الآخر، فمسألة الإمكان العقلي، هذا ممكن وهذا ممكن، واعتبار أن هذا الاحتمال أقوى، أو هذا ليس عليه دليل، فيصبح الكافر في قول مختلف، قد يقول اليوم قولاً، فيقنعه بعده آخر بقول ثان، وآخر بقول ثالث، وهكذا، فهو في قول مختلف مضطرب مريج، كما قال تعالى: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5] وهذا القول المختلف هو قول متناقض، قول ليس عليه دليل ولا يخفى فساده إلا على الإنسان الذي عطل عقله، وألغى إدراكه، ولهذا قال: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9] أي: يصرف عن فساد هذا القول الذي أنتم فيه، فهذا القول المتناقض لا يصرف عنه إلا من عطَّل مداركه، وقُلِبت فطرته، فأصبح لا يميز بين الحسن والقبيح، ولا بين الحق والباطل.

الأول: طريق الوحي، الذي يقرر أن الحياة الدنيا مؤقتة، وأن الناس مطالبون بعبادة الله، وأن بعد الدنيا آخرةً، وبعثاً، وجزاءً، وحساباً، وجنة للمتقين، وناراً للعاصين، هذا طريق الله، وهو طريق واضح، من آمن به استقر قلبه، وهدأت نفسه، وعرف طريقه.

الطريق الثاني: هو طريق الباطل، طريق الشيطان الذي ليس له قرار ولا استقرار، ولا يقوم على أساس، وإنما هو قول مختلف، مضطرب، مريج، لا يرتاب في ضلاله واضطرابه إلا من أراد الله تعالى له الضلال، فعطل عقله، وألغى مداركه، وانقلبت فطرته، فصار لا يستخدم هذه المواهب التي أعطاه الله تعالى إياها في الوصول إلى الحق، فهذا معنى قوله: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9] أي: فأنتم يا معشر المكذبين بالبعث في أمر مختلف مضطرب مريج، لا يؤفك -أي: يصرف ويقلب- عن إدراك خطئه وفساده إلا من أفك، يعني: قلب وصرفت فطرته، وإلا فالإنسان العاقل يعرف فساده، ولهذا عقب أيضاً بقوله: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات:10] وهذا دعاء عليهم، قتلوا: أي أهلكو ولعنوا وذموا، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات:11-12] يعني هؤلاء القوم أهل الشك والحيرة والاضطراب، الذين لم يهتدوا إلى طريق الله، فظلوا في الإفك والتردد والشك، كل يوم عندهم احتمال عقلي، مثل ما تجده حتى عند كبار العباقرة إذا نظرت غير مؤمنين، إذا أتيت تفكيره في مسألة الإيمان وجدته أقل من تفكير الصبيان، لأنه ما استخدم هذه المواهب العظيمة في ما ينفعه في الدار الآخرة، إنما استخدم المواهب في الدنيا، فتجده اكتشف الكهرباء، واكتشف الجاذبية، واكتشف أعماق البحار، ومجاهيل الأرض، ومجاهيل الفضاء، واكتشف في مجال التصنيع، والزراعة، والذرة، أشياء كبيرة لأنه وجَّهه عقله إليها، واستخدم طاقاته لها، لكن القضية الكبرى قضية الآخرة ما وجه عقله إليها ولهذا يُعبَّر عنه بأنه أفك عن هذا الأمر، وصرف عنه، فوقع في هذا الأمر المختلف المريج، وأصبح من الخراصين، الذين يتشككون ويترددون ويتقلبون، فكل يوم لهم رأي، وهم ساهون غافلون لا يأخذون القضية مأخذ الجد، ولم يفكروا فيها تفكيراً عميقاً، بل هم في غمرتهم وغفلتهم وسهوهم ودنياهم.

وأنت لو تأملت أحوال الناس لوجدت غالب الكافرين على هذا الأمر، فلو كان هناك إنسان مهتم بقضية الدين فعلاً ولو لم يكن مسلماً فإنه بعد عشر سنوات أو عشرين سنة، يصل في النهاية إلى الدين، يبحث ويقول: ذهبت ودرست النصرانية فلم تعجبني، ثم ذهبت ودرست اليهودية فلم تعجبني، ثم لم أكن أعرف الإسلام، فوجدت البهائية مثلاً فأخذت كتب البهائية أظنها هي كتب المسلمين، فقرأتها فلم تعجبني فوجدت فيها تناقضاً، وجلست سنوات وأنا في حيرة وفي قلق وفي شبه اليأس، حتى هممت بالانتحار ولكني لم أفعل، حتى وقع في يدي كتاب كذا، فقرأته فوجدت فيه الهداية، فيذكر بعض كتب المسلمين التي حصل عليها بالصدفة يظن، والواقع أنه قدر ساقه الله تعالى إليه، فكل إنسان يأخذ قضية الدين بجد ويبحث عنها بتحرٍِ، يصل في النهاية، وإنما يصرف عن الدين الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ [الذاريات:11] مشغولون بتفاصيل حياتهم اليومية، من وظيفة، وطعام، وشراب، وبرنامج يومي، ومشاريع بعد مشاريع، دراسة، ثم وظيفة، ثم زواج، ثم سفر، ثم مشاريع اقتصادية، ثم مشاريع علمية، ثم دنيوية، ثم، ثم.... حتى تنتهي حياة الواحد منهم وهو لم يجد وقتاً للتفكير، فهو في غمرة، أي في لهو، وغفلة، ولذلك هناك كفر اسمه كفر الإعراض، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3] لأنهم ما فكَّروا أصلاً، فهذا إذا جاءه الموت صحا قال تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22] الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات:12] هذا سؤال مستهتر مستخف! فإن هذا ليس من شأن العبد، وهذا السؤال لا يطرحه إنسان جاد، فسواء كان يوم الدين بعد سنة أو بعد مائة سنة، أو ألف سنة، أو ما يعلم الله تعالى من ذلك، الإنسان الجاد يسأل: هل يوم الدين حق أم ليس بحق؟

ويبحث عن الأدلة، فإذا توصل إلى أنه الحق، أعد العدة له، وهو يعلم أنه لا يحول بينه وبين يوم الدين إلا الموت، ثم يلقى هو دينه وجزاؤه وحسابه.

أما يوم الدين الأكبر، يوم الجزاء الأوفى للطائعين والعاصين، والذي يجمع فيه الناس لرب العالمين، فهذا غيب عند الله تعالى لا يعلمه إلا هو، وإنما السؤال: أيَّان يوم الدين؟

سؤال استبعاد أيضاً، فهو إنما يصدر من قلوب جاحدة، ونفوس منكرة، تعترض على الرسل بهذه الطريقة، فتقول: متى سوف نبعث وفي أي يوم وفي أي تاريخ؟

فالرسل يتكلمون بالجد، وهؤلاء يواجهون الموضوع بسخرية واستهزاء! ولهذا فمِثل هذا السؤال، (أيان يوم الدين؟) لا يستحق الجواب، إنما يستحق التهديد لأصحاب هذا السؤال، فإذا كنتم تقابلون الموضوع بهذا الأسلوب، وبهذه الطريقة، جاحدين، مستهزئين، مستنكرين فالجواب يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات:13]. أي: يحرقون بالنار، ويقال لهم: ذوقوا فتنتكم وحريقكم وعذابكم، الذي وعدتم به، هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات:14] أمس في الدنيا.

وتقولون: أيان يوم الدين؟

قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص:16] هذا هو، ما أسرع ما وصلتم إليه! ومضت دنياكم كأنها عشية أو ضحاها، أو كأنها ساعة من نهار، أفضلكم وأحسنكم طريقة، وأكبركم عقلاً يقول: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه:104] قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113].

إذاً هذه هي الوقفة الأولى في السورة، وهي موضوع القسم، الذي أقسم الله تعالى عليه، وهو إثبات البعث والوعد الحق، والصدق الذي لا يتخلف، لأنه ممن لا يخلف الميعاد، ولأنه ممن هو على كل شيء قدير وهو الله، وقد عالج هذا الموضوع، ومن العلاج: إثارة الاهتمام في نفس الكافر ليفكر في الموضوع على الأقل، ولا يأخذه بتهاون، أو استخفاف، أو لا مبالاة! فالموضوع خطير، وقد أقسم الله عليه، وأكدَّ أنه سيحصل، وأنَّ من أنكره أو كذَّب به أنه في أمر مضطرب، مريج، مختلف، ووبَّخ الله تعالى الخرَّاصين المرتابين، الذين لا يأخذون هذا الأمر بجد، وإنما يغفلون عنه، وهم في غمرة وغفلة ساهون لاهون، يتساءلون إذا سمعوا حديث البعث، والحساب، والجزاء: متى ذلك؟

في أي يوم ستقوم الساعة؟

وفي أي يوم سيكون الجزاء؟

أوهو قريب أم بعيد؟

وعالج هذا الاستخفاف بهذا الوعيد الذي يحرق القلوب يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات:14] والداعية قد يأخذ من هذا درساً، فيمن يدعوهم إلى الله تعالى، وهو أن من أعظم وأنجح وسائل الدعوة، أن تفلح في كسب اهتمام المدعو، بمعنى أنه ليس المهم في البداية أن يؤمن المدعو بما تقول له مباشرة، فهذا قد يكون صعباً أحياناً، خاصة إذا كان المدعو كافراً أو شاكاً، لكن المهم هو أن تفلح في كسب اهتمامه، بأن تثير عنده القضية، بحيث تشغل تفكيره، فإذا وجدت أنك أفلحت في تحويل اهتمام هذا الإنسان مثلاً، من الدنيا، والوظيفة، والفن، والرياضة، والمصالح العاجلة، إلى الاهتمام بأمر الدين، والتفكير فيه، والبحث عن الصواب، فاعلم أنك قد قطعت مرحلة كبيرة في دعوة هذا الإنسان، وعليك بعد ذلك أن تساعده في الوصول إلى الحق، لأن أمامه عدة تصورات، وعدة احتمالات، وعدة حلول، فعليك أن تساعده في اختيار الحل الصحيح.

الوقفة الثانية: وهي ذات علاقة بالأولى، هي في صفات المتقين، قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:14-19] فبيَّن المصير الذي هم صائرون إليه، وهو الجنات والعيون، وهذا مصير حق، أجمله هنا وفصله في مواضع أخرى، فذكر ما يأكلون وما يشربون، وكيف يعيشون وكيف يتحدثون، إلى غير ذلك مما هو إغراء كبير بالتشبه بهؤلاء، والتحلي بصفاتهم، وحتى بالنسبة للكافر، كما ذكرنا قبل في الوقفة السابقة، هذا الكلام عن المتقين، ينفعه لو ألقى السمع وهو شهيد، كيف ينفعه على ضوء الوقفة السابقة؟

المقصود أن تلمس أثر مثل هذه الآيات على نفسية إنسان غير مسلم، ولكنه يبحث عن الصواب، فلما يسمع: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ [الذاريات:16] يثور في نفسه سؤال يؤكد المعنى السابق، أنت يا إنسان الآن أمام قضية كبيرة، فالذي يقول لك إن هناك بعثاً لا يقول: الناس يبعثون، ثم يؤخذ الحق لهذا، ويؤخذ الحق لهذا، ثم يموتون مرة أخرى، وإنما يقول: إن بعد البعث محاسبة على الأعمال كلها، ونتيجة هذه المحاسبة، هي جنات وعيون للمتقين، خالدين فيها، وبالمقابل نار يفتن عليها الكافرون يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات:13-14].

إذاً: فالأمر خطير وكبير، والنتيجة عظيمة، ويجب عليك أن لا تتخذ رأياً إلا بعد دراسة متأنية وعميقة، وأنت تجد هذا في كل أمور الدنيا، فتجد الإنسان إذا أراد أن يقبل على قرار كبير، مثل قرار التوظف بعدم التخرج من الجامعة، أو قرار الزواج، أو قرار موقع شراء الأرض في أي حي يشتريها، أو قرار إقامة عمل تجاري، أو مؤسسة تجارية، قد يكسب من ورائها مكاسب طائلة، فيصبح ثرياً أو مليونيراً -كما يقال- وقد يخسر فتُثْقِلُ الديون كاهله.

إذا أراد الإنسان أن يقبل على قرار خطير من هذا النوع، هل يُقبِلُ عليه ببساطة ولا مبالاة، أم يتناوله بالدراسة العميقة؟

الأولى أنه يتناوله بالدارسة العميقة، لأنه يقول: إن هذا قرار له ما بعده، إذاً نفس القضية في موضوع البعث؛ فهذه الآيات وغيرها تقول للإنسان الشاك في أمر البعث: إن موضوع البعث موضوع خطير وكبير، والمسألة يترتب عليها حسب التصور الديني والإيماني جزاء وحساب، وبعث، وجنة أبداً، أو نار أبداً، فلا تقل: ليس هناك بعث، وتمشى دون تفكير، أو تقول: لا ندري! لا، توقف وفكِّر وتأمل، وادرس الموضوع دارسة بما يستحقه، فقوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ [الذاريات:16] يجعل المؤمن حريصاً مقبلاً على صفات المتقين للتحلي بها ونيل هذا الجزاء العظيم، ويجعل الناس حتى الكافر يعطي موضوع البعث اهتماماً وعناية يستحقهما.

إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ [الذاريات:15-16] فذلك يوم القيامة في الجنة، ما أعطاهم الله تعالى من الخيرات، إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات:16] قبل ذلك أي: في الدنيا، هذا هو الصحيح في تفسير الآية، إنهم كانوا قبل ذلك يعني: قبل الدار الآخرة، يوم كانوا في الدنيا كانوا محسنين.

وفي المسألة والآية تفسير آخر، ذكره ابن كثير وغيره عن بعض السلف، أنهم قالوا: معنى الآية: أن المتقين يأخذون ما آتاهم ربهم من الفرائض، فإذا أوجب الله تعالى عليهم الصلاة أخذوها وصلوا، فإذا أوجب الصيام أخذوه وصاموا، فإذا أوجب الزكاة أخذوها وزكوا، إنهم كانوا قبل ذلك يعني: قبل أن توجب عليهم الفرائض، وتقرر عليهم الأحكام محسنين، أي: مستعدين في عقولهم وقلوبهم للامتثال والتنفيذ والصواب الأول، أن المعنى آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ [الذاريات:16] ما أعطاهم ربهم في الجنة، من النعيم، والحبور، والحور والسرور، والقصور إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات:16] قبل أن يصلوا إلى الدار الآخرة، في الدنيا كانوا محسنين، وكثيراً ما يصف الله سبحانه وتعالى أهل الجنة بالإحسان: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات:16] وهناك آيات أخرى وصف الله تعالى فيها هؤلاء بالإحسان، وأثنى فيها على المحسنين مثل قوله تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ [الرحمن:60] وقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] وقوله: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) وقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] وقوله: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] إلى غير ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم فسَّر الإحسان في حديث جبريل فقال: {الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} وحقيقة الإحسان في اللغة: هو جعل الشيء حسناً، فالبنَّاء إذا أتقن البِنَاء قلنا: هذا قد أحسن، والزارع إذا اهتم بزراعته، وعُنى بها، وعالجها من الآفات والأمراض، وأصلحها وسقاها ورعاها، قيل: هذا قد أحسن، والأب إذا اهتم بأمر أولاده، تسميةً وتربيةً وتعليماً وإطعاماً وعلاجاً وكساءً وغذاءً، قيل: هذا قد أحسن، فالإحسان في كل شيء، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم، في حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم {إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء -ثم مثل بأمثلة قريبة جداً ويسيرة- فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة} رأيت كيف يكون الإحسان حتى في القتل، آخر ما يخطر في بالك أن تحسن في القتل، تحسن قتل الإنسان الذي استحق القتل، إما بحد أو قصاص أو غير ذلك- وإذا ذبحت البهيمة تحسن الذبحة -ومن إحسان الذبحة كما قال عليه الصلاة والسلام،- {وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته} فهذا من الإحسان، فإذا كان هذا الإحسان مع البهيمة وهي تقتل، فكيف يكون الإحسان معها قبل القتل! ولذلك دخلت امرأة النار في هرة، ودخلت امرأة الجنة في كلب، وإذا كان هذا الإحسان مع البهيمة، فكيف يكون الإحسان مع الإنسان؟!

بمساعدته، وإطعامه، وسقيه، وطِيْب الكلام، وإطعام الطعام، وحسن الخلق، وغير ذلك، وإذا كان هذا الإحسان مع الإنسان في أمر الدنيا، فما بالك كيف يكون الإحسان في أمر الدين! إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات:16] كل هذه الأشياء تدخل في قوله: محسنين.

قيام الليل من خصائص المتقين

كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18].

فهذا ما يتعلق بأمر عبادتهم وصلاتهم أنهم يقومون الليل كله إلا قليلاً كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17] و"ما" هنا مصدرية، يعني: هجوعهم في الليل كان قليلاً، فنومهم قليل، والغالب أنهم قائمون في صلاة، أو ذكر، أو عبادة، أو طلب علم، أو غير ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلَّى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله} فهذا من يُسر الله تعالى على عباده، وإذا صلَّى الإنسانُ ولو صلاة الوتر، رجي أن يكون له حظٌّ من هذه الآية، فإن كان من أهل النوافل، وصفِّ الأقدام في الظلام، فهو حقيق وجدير بها، روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: {لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال الناس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول اله صلى الله عليه وسلم، فذهبت أنظر إليه، فلما استثبت في وجهه -يعني: نظرت إليه وحققت النظر فيه- عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: أيها الناس! أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام.

الاستغفار شعار المتقين

كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] يدركهم السحر آخر الليل وهم يستغفرون الله تعالى، إما أن يكونوا يستغفرونه في صلاة، وهذا أفضل الاستغفار، وإما أن يكون مستغفراً ولو في غير صلاة، حتى لو أن الإنسان صحا في السحر وهو يتقلب على فراشه ويستغفر الله، لرجي أن يكون من أهل هذه الآية، وهذه العبادة، وهذه الصلاة، وهذا الذكر، وهذا الاستغفار من أعظم أسباب توفيق الله للعبد، وإعانته على ما يقاسيه من أمور دينه ودنياه، فإنه لا قوام، ولا قوة، ولا حول للإنسان، إلا بالله تعالى، فإذا عَبَدَ الله، أمدَّه الله تعالى بروح من عنده، فوجدته صلباً قوياً ذا همة عالية، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجلس بعد صلاة الفجر يذكر الله تعالى ويسبح، ويهلل، ويقرأ القرآن، حتى يتعالى النهار ويرتفع، ويقول: هذه غدوتي، لو لم أتغدها لم تحملني قواي! يقول هذا الشيء مثل الطعام للجسد، هو لروحي مثل الطعام لجسدي، لو تركته ما استطعت أن أعمل شيئاً في ذلك اليوم، فلا بد من الزاد وخاصة لأهل الدعوة إلى الله عز وجل، ولهذا خاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم بخطاب في معنى هذه الآية: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآن تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:1-5] أي أنك تحتاج إلى هذا القيام، لأنك تستعد لقول ثقيل، يُلقى عليك: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17] قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً [المزمل:2].

أ/ الإنفاق من صفات المتقين:

ثم قال: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] فهم ليسوا دراويش لا يعرفون الأمور، ولا يوردونها، ولا يصدرونها! بل هم وإن كانوا من أهل الآخرة إلا أنهم لم ينسوا نصيبهم من الدنيا، فلهم تجارات، ولهم أعمال، ومزارع، ولهم خيرات في هذه الدنيا، لكنهم لم يجعلوا هذه الأشياء همهم، بل جاءتهم بغير عناء ومشقة، ولم تكن حلَّت من قلوبهم محلاً، فلذلك ينفقونها في أوجه الخير وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] هم لا يرون أن ما ينفقونه فضلاً بحتاً منهم، بل يرونه حقاً عليهم، فيخرجه الواحد وهو يتخلص من شيء لو بقي لظن أنه يفسد ماله، لأنه حق للآخرين، وحق الآخرين إذا دخل في المال أفسده، فيخرج المال، ويقول: هذا حق للسائل الذي يتعرض للسؤال، ويطلب من الناس المساعدة، أمَّا المحروم فقيل هو المتعفف الذي لا يسأل، وقيل: هو الذي اجتاحت ماله جائحة ذهبت به، وقيل: هو الإنسان الذي لا يوفق في تجارته، فكلما ذهب في مشروع فشل فيه، وكلما اشترى صفقة خسر فيها، وكلما أقبل على شيء أعرض الناس عنه، فلا يكون موفقاً في التجارة، وبذلك لا يكسب شيئاً، بل تركبه الديون، ويكون محتاجاً إلى مساعدة الناس، وكل هذا داخل في المحروم، وفي معنى قوله: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] والانفاق وإخراج المال وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه برهان، فقال: {والصدقة برهان} أي: دليل على صدق الإيمان، لأن الإنسان جُبِلَ على حب المال، كما قال الله عز وجل: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً [الفجر:20] وقال أيضا سبحانه: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] وقال سبحانه: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] وقال أيضاً: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46] فقد رُكِّب في الطبيعة حب هذه الأشياء، والمؤمن الذي يخرج المال ليس معناه أن المال عنده مثل التراب لا يبالي به، بل قد جبل وطبع على شيء من محبته، ولكن حب الإيمان، وصدق اليقين، تغلَّب على هذه المحبة الفطرية فأخرج المال، ولهذا كانت الصدقة برهاناً على صحة إيمان صاحبها، وصدق يقينه، حيث تغلَّب على هذه الشهوة الفطرية، شهوة حب المال، وأخرج هذا المال، وهذه سمة للمؤمن في كل شيء، ليس في موضوع الصدقة فحسب، بل في كل شيء، المؤمن يقدِّم ما يدعوه إليه إيمانه، لا ما تدعوه إليه غريزته أو شهوته.

فمثلاً: قد تجد المؤمن -أحياناً- أقوى غريزة، وأكثر ميلاً إلى النساء من ذلك الفاجر الذي لا يبين له حرام إلا أسرع إليه، ولكنَّ هذا المؤمن نهى نفسه عن الهوى، وألجمها بلجام التقوى، فأعرض عن الشهوة الحرام، وإن كانت النفس تتوق إليها.

والمؤمن أيضاً قد يكون محباً للدنيا وللبقاء، ويرغب في تجنب المعارك والحروب، ولكنه آمن بالله وبالدار الآخرة، فَوَلَّدَ هذا عنده، شجاعة ورغبة فيما عند الله، تغلَّبت على حب الدنيا، فصار يخوض المعارك، ويُسرِع إلى الموت، ويتغلَّب على شهوة حب الحياة! وهكذا الأمر في المال أو غيره، ولهذا قال: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19].

وفي الصحيح قصة صاحب الحديقة، أن رجلاً سمع صوتاً في السماء يقول: اسقِ حديقة فلان، فتأتي هذه السحابة فإذا توسطت من بستان أهراقت ماءها، وأفرغت ما فيها، وانتهى الأمر، ثم يجد رجلاًً في هذه الحديقة، رجلاً فلاحاً بسيطاً، من عامة الناس، معه مسحاة يسوي الماء بمسحاته، فيتعجب! ما اسمك؟

قال: اسمي فلان، فذكر الاسم الذي سمعه في السحاب، قال: ماذا كنت تصنع؟

قال: لا شيء إلا أني إذا خرج الزرع في هذه الحديقة، قسَّمته ثلاثة أقسام: قسم للفقير وابن السبيل، وقسم يأكله هو أولاده، وقسم يرده فيها، ليس في الأمر معجزة، ولكن فيه التغلب على شح النفس، الذي يورث توفيق الله تعالى للعبد، يورث والبركة في المال.

كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18].

فهذا ما يتعلق بأمر عبادتهم وصلاتهم أنهم يقومون الليل كله إلا قليلاً كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17] و"ما" هنا مصدرية، يعني: هجوعهم في الليل كان قليلاً، فنومهم قليل، والغالب أنهم قائمون في صلاة، أو ذكر، أو عبادة، أو طلب علم، أو غير ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلَّى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله} فهذا من يُسر الله تعالى على عباده، وإذا صلَّى الإنسانُ ولو صلاة الوتر، رجي أن يكون له حظٌّ من هذه الآية، فإن كان من أهل النوافل، وصفِّ الأقدام في الظلام، فهو حقيق وجدير بها، روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: {لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال الناس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول اله صلى الله عليه وسلم، فذهبت أنظر إليه، فلما استثبت في وجهه -يعني: نظرت إليه وحققت النظر فيه- عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: أيها الناس! أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام.

كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] يدركهم السحر آخر الليل وهم يستغفرون الله تعالى، إما أن يكونوا يستغفرونه في صلاة، وهذا أفضل الاستغفار، وإما أن يكون مستغفراً ولو في غير صلاة، حتى لو أن الإنسان صحا في السحر وهو يتقلب على فراشه ويستغفر الله، لرجي أن يكون من أهل هذه الآية، وهذه العبادة، وهذه الصلاة، وهذا الذكر، وهذا الاستغفار من أعظم أسباب توفيق الله للعبد، وإعانته على ما يقاسيه من أمور دينه ودنياه، فإنه لا قوام، ولا قوة، ولا حول للإنسان، إلا بالله تعالى، فإذا عَبَدَ الله، أمدَّه الله تعالى بروح من عنده، فوجدته صلباً قوياً ذا همة عالية، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجلس بعد صلاة الفجر يذكر الله تعالى ويسبح، ويهلل، ويقرأ القرآن، حتى يتعالى النهار ويرتفع، ويقول: هذه غدوتي، لو لم أتغدها لم تحملني قواي! يقول هذا الشيء مثل الطعام للجسد، هو لروحي مثل الطعام لجسدي، لو تركته ما استطعت أن أعمل شيئاً في ذلك اليوم، فلا بد من الزاد وخاصة لأهل الدعوة إلى الله عز وجل، ولهذا خاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم بخطاب في معنى هذه الآية: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآن تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:1-5] أي أنك تحتاج إلى هذا القيام، لأنك تستعد لقول ثقيل، يُلقى عليك: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17] قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً [المزمل:2].

أ/ الإنفاق من صفات المتقين:

ثم قال: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] فهم ليسوا دراويش لا يعرفون الأمور، ولا يوردونها، ولا يصدرونها! بل هم وإن كانوا من أهل الآخرة إلا أنهم لم ينسوا نصيبهم من الدنيا، فلهم تجارات، ولهم أعمال، ومزارع، ولهم خيرات في هذه الدنيا، لكنهم لم يجعلوا هذه الأشياء همهم، بل جاءتهم بغير عناء ومشقة، ولم تكن حلَّت من قلوبهم محلاً، فلذلك ينفقونها في أوجه الخير وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] هم لا يرون أن ما ينفقونه فضلاً بحتاً منهم، بل يرونه حقاً عليهم، فيخرجه الواحد وهو يتخلص من شيء لو بقي لظن أنه يفسد ماله، لأنه حق للآخرين، وحق الآخرين إذا دخل في المال أفسده، فيخرج المال، ويقول: هذا حق للسائل الذي يتعرض للسؤال، ويطلب من الناس المساعدة، أمَّا المحروم فقيل هو المتعفف الذي لا يسأل، وقيل: هو الذي اجتاحت ماله جائحة ذهبت به، وقيل: هو الإنسان الذي لا يوفق في تجارته، فكلما ذهب في مشروع فشل فيه، وكلما اشترى صفقة خسر فيها، وكلما أقبل على شيء أعرض الناس عنه، فلا يكون موفقاً في التجارة، وبذلك لا يكسب شيئاً، بل تركبه الديون، ويكون محتاجاً إلى مساعدة الناس، وكل هذا داخل في المحروم، وفي معنى قوله: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19] والانفاق وإخراج المال وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه برهان، فقال: {والصدقة برهان} أي: دليل على صدق الإيمان، لأن الإنسان جُبِلَ على حب المال، كما قال الله عز وجل: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً [الفجر:20] وقال أيضا سبحانه: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] وقال سبحانه: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] وقال أيضاً: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46] فقد رُكِّب في الطبيعة حب هذه الأشياء، والمؤمن الذي يخرج المال ليس معناه أن المال عنده مثل التراب لا يبالي به، بل قد جبل وطبع على شيء من محبته، ولكن حب الإيمان، وصدق اليقين، تغلَّب على هذه المحبة الفطرية فأخرج المال، ولهذا كانت الصدقة برهاناً على صحة إيمان صاحبها، وصدق يقينه، حيث تغلَّب على هذه الشهوة الفطرية، شهوة حب المال، وأخرج هذا المال، وهذه سمة للمؤمن في كل شيء، ليس في موضوع الصدقة فحسب، بل في كل شيء، المؤمن يقدِّم ما يدعوه إليه إيمانه، لا ما تدعوه إليه غريزته أو شهوته.

فمثلاً: قد تجد المؤمن -أحياناً- أقوى غريزة، وأكثر ميلاً إلى النساء من ذلك الفاجر الذي لا يبين له حرام إلا أسرع إليه، ولكنَّ هذا المؤمن نهى نفسه عن الهوى، وألجمها بلجام التقوى، فأعرض عن الشهوة الحرام، وإن كانت النفس تتوق إليها.

والمؤمن أيضاً قد يكون محباً للدنيا وللبقاء، ويرغب في تجنب المعارك والحروب، ولكنه آمن بالله وبالدار الآخرة، فَوَلَّدَ هذا عنده، شجاعة ورغبة فيما عند الله، تغلَّبت على حب الدنيا، فصار يخوض المعارك، ويُسرِع إلى الموت، ويتغلَّب على شهوة حب الحياة! وهكذا الأمر في المال أو غيره، ولهذا قال: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19].

وفي الصحيح قصة صاحب الحديقة، أن رجلاً سمع صوتاً في السماء يقول: اسقِ حديقة فلان، فتأتي هذه السحابة فإذا توسطت من بستان أهراقت ماءها، وأفرغت ما فيها، وانتهى الأمر، ثم يجد رجلاًً في هذه الحديقة، رجلاً فلاحاً بسيطاً، من عامة الناس، معه مسحاة يسوي الماء بمسحاته، فيتعجب! ما اسمك؟

قال: اسمي فلان، فذكر الاسم الذي سمعه في السحاب، قال: ماذا كنت تصنع؟

قال: لا شيء إلا أني إذا خرج الزرع في هذه الحديقة، قسَّمته ثلاثة أقسام: قسم للفقير وابن السبيل، وقسم يأكله هو أولاده، وقسم يرده فيها، ليس في الأمر معجزة، ولكن فيه التغلب على شح النفس، الذي يورث توفيق الله تعالى للعبد، يورث والبركة في المال.

الوقفة الثالثة هي: في قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:23] وهي الآيات والحجج على قدرة الله تعالى على البعث ليوم الحساب.

الأرض

ذكر الله تعالى في هذه الآيات، آيات الأرض مجملة، فقال: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات:20] وآيات الأرض كثيرة منها، ما ذكره سابقاً عز وجل في سورة (ق) فقال: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق:7] تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق:8].

النفس

وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] فالنفس أيضاً فيها آيات وعبر، سواء في بدن الإنسان، وأعضائه، وأجهزته، وتركيبه، وحياته، وقلبه وعقله، ولو تأمل الإنسان في نفسه لوجد العجب العجاب.

وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] ولذلك تجد أن أقرب الناس للإيمان هم الذين يتعاملون مع خلق الله تعالى مباشرة، إما مع الأرض، فالفلاح مثلاً يحرث الأرض ثم يضع الحب ثم يسقيه، ثم يجد هذه النبتة تخرج شيئاً فشيئاً، فيرى قدرة الله بعينه، فيما يخرج من الأرض، فالفلاح أقرب للإيمان، ولذلك دائماً حتى عند الأمم الأخرى غير المسلمين، تجد البيئات الزراعية بيئات محافظة متدينة.

وكذلك الطبيب مثلاً، فالطبيب يتعامل مباشرة مع خلق الله، يتعامل -أيضاً- مع الإنسان، الجهاز الهضمي، والجهاز العصبي، والأعضاء، والدم وغير ذلك، فيتعامل مع خلق الله، ويرى بعينه آيات القدرة الإلهية العظيمة، ولهذا تجد التدين أيضاً في عالم الطب أكبر منه في أي مجال آخر، حتى في غير المسلمين قلمَّا تجد طبيباً ملحداً، تجد الطبيب يؤمن بوجود الله، لو لم يكن مهتدياً مسلماً، على الأقل تراه يؤمن بوجود الله، لأنه يرى صنعة رب العالمين بعينه، ويحسها بأحاسيسه وأعضائه، لكن لو نظرت -مثلاً- إلى الإنسان الذي يتعامل مع صنعة المخلوق، لوجدته أقلَّ إيماناً، فالإنسان الذي يتعامل مع الآلة مثلاً في المصنع، تجده غالباً عديم الإيمان، أو قليل الإيمان.

إما أن يكون غير مؤمن وإما أن يكون غير مكترث أصلاً بهذه القضية، لا تعينه في قليل ولا كثير ولا يفكر فيها، ولا يصغي سمعه لمن يحدثه عنها، لأن بينه وبين صنعة الله تعالى واسطة، فهو يتعامل مع صنعة المخلوق، وطبعاً ينسى المخلوق الذي صنع هذه الآلة، بل ينسى نفسه لأنه مستغرق فيما بين يديه، ولكن الفلاح، أو الطبيب، أو نحوهم ممن يتعاملون مع صنعة الخالق مباشرة، هم أقرب إلى الإيمان، وأحرى بالتصديق، فهو ذكر العلامات هنا في الأرض، ثم ذكر العلامات في النفس، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53].

وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ *وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22] فكل شيء مكتوب عند الله تعالى، في اللوح المحفوظ، وهو في السماء، ففيه كل شيء، كما أن المطر ينـزل من السماء فتحيا به الأرض، ويقوم عليه رزق الكثيرين من الناس.

تأييد البعث

ثم ختم بقوله: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:23] السماء التي فيها رزقكم، والأرض التي فيها الآيات، إنه -أي: أمر البعث والجزاء- لحق، فعادت القضية بعدما ساق الأدلة ليؤكد على القضية الأولى، قضية البعث، ويقسم عليها قسما ثالثاً، أقسم عليها أولاً بالذاريات، والجاريات، والحاملات، والمقسمات، ثم أقسم بالسماء وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات:8] ثم أقسم أخيراً سبحانه بقوله: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:23] مثلما أنك تتكلم وتنطق، وهو حق لا شك فيه لأنه محسوس، يسمع بالأذن ويرى بالعين.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
أحاديث موضوعة متداولة 5155 استماع
حديث الهجرة 5026 استماع
تلك الرسل 4157 استماع
الصومال الجريح 4148 استماع
مصير المترفين 4126 استماع
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة 4054 استماع
وقفات مع سورة ق 3979 استماع
مقياس الربح والخسارة 3932 استماع
نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية 3874 استماع
العالم الشرعي بين الواقع والمثال 3836 استماع