إمام دار الهجرة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:-

فهذه المحاضرة بعنوان "وقفات مع إمام المدينة النبوية".

إن من السهل على كل إنسان أن يرجع إلى كتاب من الكتب المؤلفة في التراجم، ليقرأ سيرة الإمام الفذ الكبير الحجة، مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني، الذي ولد عام ثلاث وتسعين للهجرة.

في تلك السنة التي مات فيها أنس بن مالك، صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعوض الله تعالى الأمة بهذا الإمام خيراً، وقد روى هذا الإمام عن شيوخ كثيرين من التابعين، يعدون بالمئين، بل بما يزيد على ذلك.

بشارة النبي صلى الله عليه وسلم

وجاء في فضله حديث صحيح، رواه أهل السنن وأحمد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة} وهذا الحديث حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقال الذهبي: هذا حديث نظيف الإسناد غريب المتن، وصححه ابن حبان وغيره، وقد حمل طائفة من أهل العلم هذا الحديث على الإمام مالك، وأنه هو المقصود ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم، على أنه سوف يكون هو من أعلم العلماء وأنه عالم المدينة المشار إليه بالبنان، المذكور بلفظ عالم المدينة، سوف تضرب إليه أكباد الإبل من كل مكان في الدنيا.

أقوال العلماء فيه

كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: [[إذا ذكر العلماء فـمالك هو النجم]].

وكان ابن معين يقول: [[إن مالكـاً من حجج الله تعالى على خلقه ]].

كان الإمام مالك محدِّثاً، أخذ عنه الحديث أممٌ من الناس، وكتابه العظيم الشهير الموطأ هو كما قال الشافعي أيضا: [[هو أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى]] وإنما قال الشافعي هذه الكلمة في وقت لم يكن كتاب صحيح البخاري وكتابصحيح مسلم موجودين في أيدي الناس، فكتاب "الموطأ" لـمالك في وقته كان هو أصح كتب الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان فقيهاً ملأ مذهبه الآفاق، انتشر مذهبه في المغرب، والأندلس، وكثير من بلاد مصر وبعض بلاد الشام، واليمن، والسودان، وبغداد، والكوفة، وبعض خراسان، وبعض بلاد الأحساء، وما زال مذهبه أحد المذاهب الأربعة الشهيرة المتبوعة.

وفاته

عُمِّر مالك تسعاً وثمانين سنة، وكانت وفاته سنة مائة وتسع وسبعين للهجرة، وكان يقول عند موته:[[أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، لله الأمر من قبل ومن بعد]].

ودفن رحمه الله تعالى، ورضي الله عنه، بمقبرة البقيع الشهيرة بـالمدينة النبوية.

لقد أصبح الإسلام زعزع ركنه      غداة ثوى الهادي لدى ملحد القبر

إمام الهدى ما زال للعلم صائناً       عليه سلام الله في آخر الدهر

قال أسد بن موسى: [[رأيت مالكاً بعد موته، وعليه ثياب خضر، وهو على ناقة بين السماء والأرض، فقلت: أليس قد مت؟! قال: بلى، قلت: فإلى ماذا صرت؟ قال: قَدِمْتُ على ربي وكلمني كفاحاً وقال: يا أبا عبد الله سلني أعطك وتمنَّ عليَّ أرضك]] فنعم هذه الخاتمة، التي ختم الله تعالى له بها.

قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه : {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} وكانت هذه الرؤيا الصالحة التي رآها بعض الصالحين، أمارة على حسن الختام لهذا الإمام، وأن الله تعالى قد أنـزله منـزل صدق، وبلغه منازل الصالحين في الجنة.

وهذا الكلام تجده في كل كتاب، وفي كل مُصَنَف، ولم أكن لآتي فيه بجديد، ولا كان قصدي ووجدي ووكدي أن أجمعكم لأقول لكم: مات مالك عام كذا، وولد مالك عام كذا، وتوفي عام كذا، وتعلم من فلان وعلم فلان، فهذا تجدونه في الكتب، وإنما أتيت لأحدثكم عن وقفات خمس عظيمة في سيرة هذا الإمام الجليل العظيم.

وجاء في فضله حديث صحيح، رواه أهل السنن وأحمد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة} وهذا الحديث حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقال الذهبي: هذا حديث نظيف الإسناد غريب المتن، وصححه ابن حبان وغيره، وقد حمل طائفة من أهل العلم هذا الحديث على الإمام مالك، وأنه هو المقصود ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم، على أنه سوف يكون هو من أعلم العلماء وأنه عالم المدينة المشار إليه بالبنان، المذكور بلفظ عالم المدينة، سوف تضرب إليه أكباد الإبل من كل مكان في الدنيا.

كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: [[إذا ذكر العلماء فـمالك هو النجم]].

وكان ابن معين يقول: [[إن مالكـاً من حجج الله تعالى على خلقه ]].

كان الإمام مالك محدِّثاً، أخذ عنه الحديث أممٌ من الناس، وكتابه العظيم الشهير الموطأ هو كما قال الشافعي أيضا: [[هو أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى]] وإنما قال الشافعي هذه الكلمة في وقت لم يكن كتاب صحيح البخاري وكتابصحيح مسلم موجودين في أيدي الناس، فكتاب "الموطأ" لـمالك في وقته كان هو أصح كتب الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان فقيهاً ملأ مذهبه الآفاق، انتشر مذهبه في المغرب، والأندلس، وكثير من بلاد مصر وبعض بلاد الشام، واليمن، والسودان، وبغداد، والكوفة، وبعض خراسان، وبعض بلاد الأحساء، وما زال مذهبه أحد المذاهب الأربعة الشهيرة المتبوعة.

عُمِّر مالك تسعاً وثمانين سنة، وكانت وفاته سنة مائة وتسع وسبعين للهجرة، وكان يقول عند موته:[[أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، لله الأمر من قبل ومن بعد]].

ودفن رحمه الله تعالى، ورضي الله عنه، بمقبرة البقيع الشهيرة بـالمدينة النبوية.

لقد أصبح الإسلام زعزع ركنه      غداة ثوى الهادي لدى ملحد القبر

إمام الهدى ما زال للعلم صائناً       عليه سلام الله في آخر الدهر

قال أسد بن موسى: [[رأيت مالكاً بعد موته، وعليه ثياب خضر، وهو على ناقة بين السماء والأرض، فقلت: أليس قد مت؟! قال: بلى، قلت: فإلى ماذا صرت؟ قال: قَدِمْتُ على ربي وكلمني كفاحاً وقال: يا أبا عبد الله سلني أعطك وتمنَّ عليَّ أرضك]] فنعم هذه الخاتمة، التي ختم الله تعالى له بها.

قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه : {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} وكانت هذه الرؤيا الصالحة التي رآها بعض الصالحين، أمارة على حسن الختام لهذا الإمام، وأن الله تعالى قد أنـزله منـزل صدق، وبلغه منازل الصالحين في الجنة.

وهذا الكلام تجده في كل كتاب، وفي كل مُصَنَف، ولم أكن لآتي فيه بجديد، ولا كان قصدي ووجدي ووكدي أن أجمعكم لأقول لكم: مات مالك عام كذا، وولد مالك عام كذا، وتوفي عام كذا، وتعلم من فلان وعلم فلان، فهذا تجدونه في الكتب، وإنما أتيت لأحدثكم عن وقفات خمس عظيمة في سيرة هذا الإمام الجليل العظيم.

لقد طلب العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهل للفتيا قبل بلوغه الثامنة عشرة، وجلس للإفادة في مجلس العلم وعمره إحدى وعشرون سنة، وحدث عنه آنذاك جماعة وهو في مقتبل شبابه، وفي آخر خلافة أبي جعفر المنصور، رحل الناس إلى مالك من الآفاق، وازدحموا عليه حتى آخر عمره.

إذًا: هذا يؤكد لنا البيئة التي تربى فيها شاب، مثل الإمام مالك في عهود السلف الصالحين، فأولاً: لم يكن القدوة في ذلك المجتمع إلا طالب العلم، فكان الشاب الصغير ينشأ وهو يرى الناس يشيرون إلى العالم بالبنان، فإذا أقبل أطرقوا رؤوسهم وطأطئوا، وأخلوا له الطريق، وسلموا عليه، وحيَّوه، ومسوه بالخير وصبحوه، وأجَلّوه وعظموه، لا لأنه يملك الأرصدة العظيمة، ولا لأنه يتربع على عرش وظيفة رسمية، ولا لأنهم يستفيدون منه مغنماً دنيوياً؛ لكن لأن هذا العالم يطوي بين جنبيه هداية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلم الصالحين، فهم لذلك يُوَقِرونَه ويعظمونه، ويرون أن توقيره من توقير دين الله عز وجلّ وتعظيمه، فينشأ الصغير وهو يحمل الود والإجلال والإكبار لهذا العالم، وينظر إليه على أنه هو الأسوة والقدوة، وأنه يتمنى أن يكون في مثل مقامه ومنـزلته.

وهكذا ينشأ الصغير، يتلقى عملياً دروس الإجلال والإكبار للعلماء والفقهاء، وأهل الدين والعلم والدعوة والجهاد.

طلب العلم في مجتمعاتنا اليوم

أما في مجتمعات المسلمين اليوم! فإن الصغير ينشأ، وهو يشاهد شاشة التلفاز، فيرى أن التبجيل والتفضيل والتعظيم للاعب الكرة أحياناً، فيقول في رأسه: يا ليتني أكون لاعب كرة، أو للفنان الذي يتغنى بالألحان العذبة، والكلمات الرديئة التي قد تكون أحياناً مدعاة إلى الفساد والفجور، فيقول: يا ليتني أكون كهذا، أو لذلك الإنسان الشريف الوجيه، الذي يتربع على كرسي أو عرش أو منصب، فيتمنى أن يكون يوماً من الأيام موظفاً كبيراً، أو سيداً مطاعاً، أو تاجراً محترماً، لماذا؟ لأنه يرى أن المجتمع بمؤسساته وقنواته ورجاله وأجهزته يعظم هؤلاء، ويمدحهم وينفخ في شخصياتهم، فينشأ الصغير وفي ذهنه أن يكون واحداً من هؤلاء، فإذا رأيته على مقاعد الدراسة رأيته متباطئاً متلوماً لا يقوم بواجب، ولا يؤدي حقاً عليه، ولا يحفظ ولا يقبل على العلم، كل همه إن كان في مدرسة نظامية، أن يحفظ ما يجعله ناجحاً في الاختبار، وربما وجد النجاح في الاختبار يتم بغير ذلك من الوسائل الأخرى الملتوية، فلم يجد ما يدعوه إلى القيام بالواجبات، ولا أداء الدروس، ولا المحافظة عليها، وهكذا أصبحنا نجد أنه في الوقت الذي أصبح التعليم فيه إجباريا، يلزم فيه الطالب، وأصبحنا نستطيع أن نقول: إن لم يكن (100%)، فإن قريباً من هذه النسبة من أولاد المسلمين وبناتهم، يتعلمون في المدارس، لكن كم تخرج على مقاعد هذه الدراسة من العلماء الكبار، أو الدعاة المشاهير، أو المصلحين أو الذين حفظ الله تعالى بهم العلم والدين؟!.

وقد كانوا إذا عدوا قليلاً      فقد صاروا أقل من القليل

طلب العلم في عهود السلف الصالح

كانت الظروف والأسباب في عهود السلف الصالح، مهيأة للتعليم، ولم يكن ثمة عوائق أو صوارف تحول بين الإنسان وبين التعليم، فالعالم أو طالب العلم، ولو كان في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، إذا أتى إلى المسجد، وجد الأبواب مفتوحة، والفرص مهيأة والمجالس قائمة للتعلم، فإذا ذهب إلى السوق وجد الأسباب نفسها موجودة، فإذا ذهب إلى البيت وجد من تحريض الوالدين والإخوة والأهل ما يكون خير معين له على مواصلة الطلب والتحصيل، فيكون المجتمع كله يقول لهذا الشاب: تعلم العلم، ونحن وراءك، نشد أزرك، ونساعدك ونؤيدك.

وقد كان للإمام مالك مع أمه قصة معروفة في سيرته، إذ أنها كانت تحرضه على طلب العلم، وتنفق عليه من الأموال الموجودة لديها، حتى يستغني عن التجارة.

يقول الإمام الشافعي رحمه الله: [[لو كلفت شراء بصلة ما فهمت مسألة]].

وكلام الشافعي هذا كالرمز، وإلا فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويبيعون ويشترون، ويزرعون، ويجاهدون، ويتعلمون، ومع ذلك كانوا هم أعلم العلماء.

وإنما المقصود أن المجتمع يجب أن يكون سنداً ومعيناً لطالب العلم، منذ نعومة أظفاره وصغره في تحصيل العلم وتهيئة أسبابه.

أما إذا كانت المسألة على النقيض، فكان المجتمع كله يحرض طالب العلم على الانصراف، فإذا جاء إلى المسجد وجد الإعراض، والأسباب غير مهيأة، والأبواب أحياناً مقفلة، والإضاءة غير كافية، والوسائل التي تعينه على البقاء ليست مكتملة، فإذا ذهب إلى البيت وجد المعوقات والمثبطات والمغريات والصوارف، وإذا ذهب إلى الشارع وجد قرناء السوء، الذين يغرونه بالمجالس السيئة التي لا خير من ورائها، فإذا ذهب إلى المدرسة، وإلى الجيران، والأصدقاء وجد أن المجتمع كله حجر عثرة أمامه في طريق التحصيل، فحينئذٍ لا ينجح ولا يفلح في ذلك إلا أصحاب الهمم العالية والنفوس الصلبة، الذين يواصلون ويصرون ويدأبون ويقدرون على تخطي هذه العقبات.

انتشار العلم في عهود السلف

لم يكن العلم إجبارياً كما هو اليوم، ولا شك أننا نعلم علم اليقين، أن الكثيرين من شباب السلف الصالح، انصرفوا للجهاد، وكانوا يذهبون وراء الرايات المعلنة للرباط على الثغور، ومقاومة أهل الكفر والإلحاد والفجور.

ونعلم أن الكثيرين -أيضاً- انصرفوا للتجارة والبيع والشراء وأمور المعاش، التي لا قوام لحياتهم إلا بها، وأن الكثيرين أقبلوا على الزهد، وعلى أمور الآخرة، وعلى العبادة، وأعرضوا عن الناس، واعتزلوهم إلا فيما لابد لهم منه، هذا كله كان يقع.

ليس صحيحاً أن كل شباب السلف الصالح، كانوا في مجالس العلم الشرعي، وإنما كان منهم من تقوم بهم الكفاية، ويتحقق بهم الأمر الرباني وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].

والإماممالك، يقف اليوم بين أيدينا نموذجاً لرجل متخصص، رأى أن مواهبه وإمكانياته ومَلَكَاتِه تمكنه أن يخدم الإسلام في مجال حفظ العلم، ونشره وتعليمه والعمل به.

التقى الإمام مالك بالكثيرين من أصحاب الدنيا، فأغروه بترك العلم، فأشاح عنهم بوجهه، وأعرض، ورأى أن ما عند الله خير وأبقى، والتقى بالكثيرين الذين دعوه إلى أن يشتغل بالجهاد ويترك العلم، فرأى أن ما اشتغل به خير، وأن ما اشتغلوا به هم -أيضاً- خير، وأن فروض الكفايات لا يغني بعضها عن بعض، وكلٌ على ثغرة من ثغور الإسلام.

والتقى بالزهاد، كما التقى بعبد الله بن عبد العزيز العمري، الذي كان إذا خلا بالإمام مالك حثه على الزهد والانقطاع والعزلة عن الناس، فكان مالك يصغي إليه ويدعو له، لكن لا يأخذ برأيه، واليوم أين عبد الله بن عبد العزيز العمري؟ من منا أو منكم يعرف هذا الرجل مع أنه كان إماماً في الزهد والتقوى والورع والعزلة والانقطاع عن الناس؟! لكن من منا بل من المسلمين كلهم من لا يعرف الإمام مالك إمام المدينة النبوية وإمام المسلمين؟!

لقد نسي الناس العمري الزاهد، ولكن ما زالت الأمة كلها عبر ثلاثة عشر قرناً من الزمان تتذكر الإمام مالك، الذي حفظ على الأمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حجة من حجج الله تعالى على خلقه كما قال يحيى بن معين.

فهذا هو العلم الشرعي الذي يحفظ الله تعالى به الدين على الناس، ويحفظ الله تعالى رموز هذا العلم، فلا يزال لهم لسان صدق في الآخرين.

أما في مجتمعات المسلمين اليوم! فإن الصغير ينشأ، وهو يشاهد شاشة التلفاز، فيرى أن التبجيل والتفضيل والتعظيم للاعب الكرة أحياناً، فيقول في رأسه: يا ليتني أكون لاعب كرة، أو للفنان الذي يتغنى بالألحان العذبة، والكلمات الرديئة التي قد تكون أحياناً مدعاة إلى الفساد والفجور، فيقول: يا ليتني أكون كهذا، أو لذلك الإنسان الشريف الوجيه، الذي يتربع على كرسي أو عرش أو منصب، فيتمنى أن يكون يوماً من الأيام موظفاً كبيراً، أو سيداً مطاعاً، أو تاجراً محترماً، لماذا؟ لأنه يرى أن المجتمع بمؤسساته وقنواته ورجاله وأجهزته يعظم هؤلاء، ويمدحهم وينفخ في شخصياتهم، فينشأ الصغير وفي ذهنه أن يكون واحداً من هؤلاء، فإذا رأيته على مقاعد الدراسة رأيته متباطئاً متلوماً لا يقوم بواجب، ولا يؤدي حقاً عليه، ولا يحفظ ولا يقبل على العلم، كل همه إن كان في مدرسة نظامية، أن يحفظ ما يجعله ناجحاً في الاختبار، وربما وجد النجاح في الاختبار يتم بغير ذلك من الوسائل الأخرى الملتوية، فلم يجد ما يدعوه إلى القيام بالواجبات، ولا أداء الدروس، ولا المحافظة عليها، وهكذا أصبحنا نجد أنه في الوقت الذي أصبح التعليم فيه إجباريا، يلزم فيه الطالب، وأصبحنا نستطيع أن نقول: إن لم يكن (100%)، فإن قريباً من هذه النسبة من أولاد المسلمين وبناتهم، يتعلمون في المدارس، لكن كم تخرج على مقاعد هذه الدراسة من العلماء الكبار، أو الدعاة المشاهير، أو المصلحين أو الذين حفظ الله تعالى بهم العلم والدين؟!.

وقد كانوا إذا عدوا قليلاً      فقد صاروا أقل من القليل

كانت الظروف والأسباب في عهود السلف الصالح، مهيأة للتعليم، ولم يكن ثمة عوائق أو صوارف تحول بين الإنسان وبين التعليم، فالعالم أو طالب العلم، ولو كان في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، إذا أتى إلى المسجد، وجد الأبواب مفتوحة، والفرص مهيأة والمجالس قائمة للتعلم، فإذا ذهب إلى السوق وجد الأسباب نفسها موجودة، فإذا ذهب إلى البيت وجد من تحريض الوالدين والإخوة والأهل ما يكون خير معين له على مواصلة الطلب والتحصيل، فيكون المجتمع كله يقول لهذا الشاب: تعلم العلم، ونحن وراءك، نشد أزرك، ونساعدك ونؤيدك.

وقد كان للإمام مالك مع أمه قصة معروفة في سيرته، إذ أنها كانت تحرضه على طلب العلم، وتنفق عليه من الأموال الموجودة لديها، حتى يستغني عن التجارة.

يقول الإمام الشافعي رحمه الله: [[لو كلفت شراء بصلة ما فهمت مسألة]].

وكلام الشافعي هذا كالرمز، وإلا فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويبيعون ويشترون، ويزرعون، ويجاهدون، ويتعلمون، ومع ذلك كانوا هم أعلم العلماء.

وإنما المقصود أن المجتمع يجب أن يكون سنداً ومعيناً لطالب العلم، منذ نعومة أظفاره وصغره في تحصيل العلم وتهيئة أسبابه.

أما إذا كانت المسألة على النقيض، فكان المجتمع كله يحرض طالب العلم على الانصراف، فإذا جاء إلى المسجد وجد الإعراض، والأسباب غير مهيأة، والأبواب أحياناً مقفلة، والإضاءة غير كافية، والوسائل التي تعينه على البقاء ليست مكتملة، فإذا ذهب إلى البيت وجد المعوقات والمثبطات والمغريات والصوارف، وإذا ذهب إلى الشارع وجد قرناء السوء، الذين يغرونه بالمجالس السيئة التي لا خير من ورائها، فإذا ذهب إلى المدرسة، وإلى الجيران، والأصدقاء وجد أن المجتمع كله حجر عثرة أمامه في طريق التحصيل، فحينئذٍ لا ينجح ولا يفلح في ذلك إلا أصحاب الهمم العالية والنفوس الصلبة، الذين يواصلون ويصرون ويدأبون ويقدرون على تخطي هذه العقبات.

لم يكن العلم إجبارياً كما هو اليوم، ولا شك أننا نعلم علم اليقين، أن الكثيرين من شباب السلف الصالح، انصرفوا للجهاد، وكانوا يذهبون وراء الرايات المعلنة للرباط على الثغور، ومقاومة أهل الكفر والإلحاد والفجور.

ونعلم أن الكثيرين -أيضاً- انصرفوا للتجارة والبيع والشراء وأمور المعاش، التي لا قوام لحياتهم إلا بها، وأن الكثيرين أقبلوا على الزهد، وعلى أمور الآخرة، وعلى العبادة، وأعرضوا عن الناس، واعتزلوهم إلا فيما لابد لهم منه، هذا كله كان يقع.

ليس صحيحاً أن كل شباب السلف الصالح، كانوا في مجالس العلم الشرعي، وإنما كان منهم من تقوم بهم الكفاية، ويتحقق بهم الأمر الرباني وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].

والإماممالك، يقف اليوم بين أيدينا نموذجاً لرجل متخصص، رأى أن مواهبه وإمكانياته ومَلَكَاتِه تمكنه أن يخدم الإسلام في مجال حفظ العلم، ونشره وتعليمه والعمل به.

التقى الإمام مالك بالكثيرين من أصحاب الدنيا، فأغروه بترك العلم، فأشاح عنهم بوجهه، وأعرض، ورأى أن ما عند الله خير وأبقى، والتقى بالكثيرين الذين دعوه إلى أن يشتغل بالجهاد ويترك العلم، فرأى أن ما اشتغل به خير، وأن ما اشتغلوا به هم -أيضاً- خير، وأن فروض الكفايات لا يغني بعضها عن بعض، وكلٌ على ثغرة من ثغور الإسلام.

والتقى بالزهاد، كما التقى بعبد الله بن عبد العزيز العمري، الذي كان إذا خلا بالإمام مالك حثه على الزهد والانقطاع والعزلة عن الناس، فكان مالك يصغي إليه ويدعو له، لكن لا يأخذ برأيه، واليوم أين عبد الله بن عبد العزيز العمري؟ من منا أو منكم يعرف هذا الرجل مع أنه كان إماماً في الزهد والتقوى والورع والعزلة والانقطاع عن الناس؟! لكن من منا بل من المسلمين كلهم من لا يعرف الإمام مالك إمام المدينة النبوية وإمام المسلمين؟!

لقد نسي الناس العمري الزاهد، ولكن ما زالت الأمة كلها عبر ثلاثة عشر قرناً من الزمان تتذكر الإمام مالك، الذي حفظ على الأمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حجة من حجج الله تعالى على خلقه كما قال يحيى بن معين.

فهذا هو العلم الشرعي الذي يحفظ الله تعالى به الدين على الناس، ويحفظ الله تعالى رموز هذا العلم، فلا يزال لهم لسان صدق في الآخرين.

يقول الإمام مالك كما في كتاب تذكرة الحفاظ وسير أعلام النبلاء للذهبي يقول: [[دخلت على أبي جعفر المنصور وقد جلس على فراش له -وكان الخليفة الذي يملك رقعة واسعة من الأرض- قال: فجاء صبي يدخل ثم يخرج، ثم يدخل ثم يخرج، فقال لي أبو جعفر: أتدري من هذا؟ قلت: لا، قال: هذا أحد أبنائي وإنما يفزع الآن من هيبتك، امتلأ قلبه تعظيماً وهيبةً لك، فأصبح يدخل ليجلس فإذا رآك هاب وخرج]].

ثم سأل الخليفة أبو جعفر المنصور مالكاً عن أشياء، قال الإمام مالك: سألتني عن أشياء منها حلال ومنها حرام، فأفتاه مالك بما يسعه أمام الله تعالى، ثم قال الخليفة لـمالك: أنت والله أعقل الناس، وأعلم الناس. قال له مالك: لا، والله يا أمير المؤمنين، قال: بلى، ولكنك تكتم ذلك عني، ثم قال أبو جعفر: والله لئن بقيت لأكتبنّ قولك كما تكتب المصاحف -أكتب اجتهاداتك، وآراءك الفقهية، ومذهبك، كما يكتب القرآن- ولأبعثن به إلى الآفاق والأمصار فلأحملنهم عليه ولألزمن الناس به.

موقف مالك من الخليفة تجاه كتابه الموطأ

ثم طلب المنصور من الإمام مالك أن يكتب علمه، وبناءً عليه كتب الإمام مالك كتابه العظيم الشهير "الموطأ"، وظل يُقرأ عليه على مدى ما يزيد على عشرين سنة، ويصححه وينقحه، حتى وجد للـموطأ ما يزيد على ثمانين رواية.

ولكن الغريب في موقف الإمام مالك:

أنه لم يوافق أبا جعفر المنصور على حمل الناس على مذهبه، وقال له: "يا أمير المؤمنين! إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، ونشر كل منهم علمه"، وفي رواية أن مالكاً قال له تلك الكلمة العظيمة المضيئة، التي تكتب بماء الذهب: [[يا أمير المؤمنين! لا تفعل]] -يعني لا تحمل الناس بالقوة وبالسلطان، وبالنظام والقانون، على مذهبي ورأيي- لا تفعل، فإن الناس سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وما أتوا به وعملوا بذلك ودانوا به، وكل ذلك من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختلاف من بعدهم من التابعين، ورد الناس عما اعتقدوه ودانوا به أمر صعب شديد، فدع الناس وما هم عليه ودع أهل كل بلد وما اختاروا لأنفسهم.

وهذا الموقف العظيم الكبير، لي معه وقفات:-

أعظمها: أننا نلاحظ أنه عبر التاريخ كان يوجد صنفان من العلماء:-

الصنف الأول: من تمكنوا من الموقع السلطوي فأعطاهم الله تعالى مكانة عند السلاطين والخلفاء، فكانوا يَغْشَوْنَهُم في مجالسهم، ويحوزون ثقتهم، وكان الخلفاء يرجعون إليهم فيما أشكل عليهم من الأمور، كما كان الزُّهْري -مثلاً- الإمام لبني أمية.

الصنف الثاني: من العلماء من أعطاهم الله تعالى التمكين، ليس في مواقع السلطان، ولا عند الخلفاء، وإنما في قلوب العامة، فكانت العامة تنجفل إليهم، وتقبل على مجالسهم، وتستمع إلى علمهم، وتأخذ بفتواهم، ولا تعدل بهم أحداً أبداً، ومقتضى أمر الله تعالى: (واعتصموا) ومقتضى أمره الآخر: (ولا تنازعوا) أن كلاً من هذين الصنفين كان ينبغي أن ينتفع بما أعطاه الله تعالى، وما مكنه في تعزيز الطرف الآخر، كذلك العالم الذي تمكن من أذن السلطان، كان حقاً عليه شرعاً أن يكون مدافعاً عن أعراض العلماء والدعاة في مجالس السلاطين، محسناً لصورتهم، دافعاً لما يلصق بهم من الأباطيل والتهم والأقاويل، حريصاً على أن يكون قلب السلطان نقياً لكل مؤمنٍ وعالمٍ وداعيةٍ، من أهل الخير والحق والهدى. وبالمقابل ذلك العالم الذي مكنه الله تعالى من آذان العامة، فأنصتوا إليه واستمعوا إليه، كان جديراً وحرياً به أن يستفيد من هذا الأمر الذي أعطاه الله تعالى، في أن يقول للناس قولاً حسناً، وأن يدافع عن أعراض أهل العلم، ويمنع العامة من الوقوع فيه، أو اتهامهم بما هم منه براء، أو إشاعة القالة عنهم، أو قبول ما ينشره بعض الخصوم، مما أقله حق وأكثره باطل، فيكون بذلك مدافعاً عن أعراض العلماء، منافحاً عنهم حريصاً على تحسين صورتهم في نفوس العامة، وأي خير للأمة إذا انفصل علماؤها عن عامتها، أو انفصل عامتها عن علمائها، وهذا هو الذي كان في عصور كثيرة من تاريخ الإسلام، لكن لا يعدم الإنسان عبر التاريخ من أحوال تكون الأمور فيها على النقيض، فيستغل عالم -مثلاً- مكانته عند السلطان ليشهر بفلان، ويتهم علاَّن، ويتقول على هذا، ويتهم ذاك، ويحاول أن يوغر صدور من يملكون القرار، على منافسيه وخصومه، ليبطشوا بهم أو يوقفوهم أو يمنعوهم، أو غير ذلك، وكان ذلك شراً على الجميع.

كما لا يخلو التاريخ -أيضاً- من إنسانٍ مكنه الله من قلوب العوام، فكان يستغل هذا التمكين في الوقيعة في أهل العلم والفقه من مخالفيه، والتشهير بهم، وإيغار صدور العامة عليهم، حتى إنك تقرأ في تراجم بعض العلماء، أن العامة ربما لاثوا به وأحاطوا به وضربوه وآذوه، ولعلك تستغرب أن يكون رجل كـابن تيمية، اجتمع عليه الناس يوماً من الأيام، في إحدى زياراته إلى مصر، أرض الكنانة، وأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، ورفعوا أصواتهم عليه، وكادوا أن يبطشوا به، نظراً لتلبيس بعض علماء السوء، حتى وقف الإمام ابن تيمية وقفة صامدة، وتكلم، وظل من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، يشرح تفسير سورة الفاتحة، ويتكلم مع الناس بكلام عظيمٍ جزلٍ كبيرٍ مؤثر، حتى أقبل الناس عليه، يقبلونه ويدعون له ويستغفرون الله تعالى عما بدر منهم؛ فإن الكمال الذي تحصل الأمة منه على خير كثير، أن يكون أهل العلم والدعوة على سنن الوفاق والاتفاق، لا على جادة الخلاف والتطاحن والتباغض، وأن يحرص كل امرئ منهم أن يتخذ ما أعطاه الله تعالى ذريعة إلى نصر الإيمان والتوحيد وأهله، وخذلان الباطل: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17].

لقد رفض الإمام مالك رحمه الله تعالى، استخدام السلطة لفرض رأيه الشخصي، ولو كان رأياً فقهياً استنبطه، وخالف فيه غيره، رفض أن يُفرض هذا على الأمة بقوة القرار السلطوي، وهذه آية العقل عند الإمام مالك؛ لأنه لا مدخل للسلاطين في أحكام الشريعة، فالشرع فيه قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى الإمام البخاري، روى الإمام مسلم، وروى أحمد في مسنده، وأجمع أهل العلم، وليس في شريعة الله اعتمدوا أو يعتمد، إن هذا دليل على أن الإمام مالك جمع مع العلم الصحيح ومع الورع والتقوى، جمع العقل النير البصير وبعد النظر، وهذا يذكرنا أيضاً بموقف آخر للإمام مالك، يدل على عقله، وبعد نظره، وحسن سياسته.

مالك مع أبي جعفر حول بناء الكعبة

لقد هُدِمت الكعبة مرات، هدمها عبد الله بن الزبير لما تولى على مكة، وأقامها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما تولى الحجاج هدمها مرة أخرى وأعادها كما كانت في زمن الجاهلية، ثم سمع الخليفة من مالك حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية، لهدمت الكعبة وأقمتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين، باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه} والحديث متفق عليه.

فهمّ أبو جعفر أن يعيد بناء الكعبة مرة أخرى على قواعد إبراهيم، فقال له الإمام مالك: [[يا أمير المؤمنين لا تفعل]] قال: لماذا؟ قال: [[إني أخشى أن تكون الكعبة ملعبة للملوك، هذا يهدمها وهذا يبنيها]] وكلما جاء حاكم جديد رأى أنه لابد أن يغير سنة من قبله، ليثبت للناس أنه جدد وأصلح وغيّر وبدّل، وأن من قبله كانوا وكانوا وكانوا، أما هو فكان بخلاف ذلك كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا [الأعراف:38] كما هو الواقع من الحكام الجاهليين في كل زمان ومكان، فلذلك سد الإمام مالك الطريق على هذا التلاعب، ورأى أن تبقى الكعبة كما كانت؛ دفعاً لأن تكون ملعبة للملوك، كما عبر رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه.