آداب طلب العلم


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه لطلب العلم، وبعد:

العناصر التي سأتحدث عنها في هذا الدرس هي:

العنصر الأول: فضل العلم وأهله.

العنصر الثاني: أجر طلب العلم وتعليمه.

العنصر الثالث: الكتب العلمية وفضلها.

العنصرالرابع: شروط طلب العلم.

العنصر الخامس: وسائل تحصيل العلم.

العنصر السادس: أنواع العلوم.

العنصر الأول: فضل العلم وأهله:

إن الله سبحانه وتعالى قد رفع قدر العلماء فأنزلهم أعظم منزلة حين استشهدهم على أعظم شهادة -بعد أن شهد بها، وأشهد بها ملائكته- فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ[آل عمران:18] .

وأخبر أنهم وحدهم هم الذين يخشونه حق خشيته فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28] .

وحكم لصالحهم على من سواهم في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:9] .

وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كتابه فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43] .

وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11] .

ولم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالازدياد من شيء إلا من العلم فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114] .

وقد نوَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المكانة للعلم وأهله في عدد كبير من الأحاديث منها:

ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).

ومنها ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).

ومنها ما أخرجه مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلاّ نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

وأخرج البخاري كذلك في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشبًا، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به).

وأخرج أصحاب السنن وأحمد في المسند وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالمًا أو متعلمًا).

وقال: (..وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له كل شيء حتى الحيتان في الماء)، وفي الحديث: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم).

وهذه المنزلة العالية إنما استحقها حملة العلم لأنهم ورثة الأنبياء، فقد صح عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر).

وقد أخرج البخاري تعليقًا ووصله ابن أبي عاصم في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما العلم بالتعلّم، وإنما الحلم بالتحلّم).

هذه المنزلة التي هي بهذه المكانة ما نالها هؤلاء إلاّ بأن الله سبحانه وتعالى قد اختارهم لائتمانهم على وحيه؛ فالوحي من عند الله ولم يكن ليجعله بدار هوان، ولن يودعه المفلسين، وإنما يختار له أهل العدالة؛ ولذلك أخرج الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث وأبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين).

وهؤلاء هم ورثة الأنبياء، وهم عدول كل خلف، هم شهود الله تعالى على الناس، وهم قادتهم الذين أمر الله بالرجوع إليهم عند الخلاف، فقد قال الله سبحانه وتعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83] ، ولم يقل: لعلموه جميعًا، وإنما أحال العلم على هؤلاء.

وأحال عليهم -كذلك- عند الجهل فقال: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[النحل:43].

وقد جاء في فضل حملة القرآن بالخصوص أحاديث كثيرة مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته من خلقه).

وحملة القرآن هم حملة حروفه وحدوده ومعانيه، وليسوا حملة الحروف فقط.

العنصر الثاني: أجر طلب العلم وتعليمه: ورد في هذا الكثير من النصوص، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الاشتغال به عبادة، وأنه كالجهاد في سبيل الله، وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أجر المشتغل بالتعليم، وما له من المنزلة، وأنه يكتب له أجور من عمل بذلك إلى يوم القيامة، فقد صح عنه أنه قال: (من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا).

وقال: (بلغوا عني ولو آية).

وقال: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب).

وقال: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرُبَّ حامل فقه ليس بفقيه، ورُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه).

وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بطلبة العلم، فقال: (سيفد عليكم رجال يلتمسون هذا العلم، فاستوصوا بهم خيرًا)فأولئك الذين أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم خيرًا يدل على عظم ما هم مشتغلون به، ومزيته في هذا الدين؛ ولذلك أخرج مالك في الموطأ عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه كان يقول : (من غدا أو راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيرًا، أو ليعلمه، ثم رجع إلى بيته؛ كان كالمجاهد في سبيل الله رجع غانمًا).

وقد سئل مالك عن المقرب للقتل الذي لم يبقَ من عمره إلاّ ساعة: في أية طاعة يصرفها؟

قال: (علم يتعلمه).

فقيل: يا أبا عبد الله ! إنه لا يعمل به!

فقال: (تعلمه أفضل من العمل به).

وقال الشافعي رحمه الله: (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة).

وقد نظم ذلك السيوطي رحمه الله فقال:

والعلم خير من صلاة نافلة فقد غدا الله برزق كافله

قال أهل العلم: بالعلم فُضِّل السلف على الخلف؛ لأن كل عالم ورَّث علمه وتركه لمن وراءه فقد استمرت حياته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث:

علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية).

فجعل هذا العلم الذي ينتفع به من عمل ابن آدم الذي لا ينقطع، ومن كسبه المستمر.

ومن هنا فكل منتفع بعلم عالم من الماضين يكتب له أجره وأجر من تبعه على ذلك إلى يوم القيامة؛ وبهذا يعلم فضل السلف على الخلف، كما قال جدي محمد علي رحمه الله:

وكل أجر حاصلٍ للشهدا أو غيرهم كالعلماء والزُّهَدَا

حصل للنبي مثله على أجور ما كان النبي فعلا

مع مزيد عدد ليس يحدُّ وليس يحصي عده إلاّ الأحد

إذ كل مهتدٍ وعاملٍ إلى يوم الجزاء شيخه قد حصلا

له من الأجر كأجر العاملِ ومثل ذا من ناقص أو كامل

وشيخ شيخه له مثلاه وأربع لثالث تلاه

وهكذا تضعيف كل مرتبة إلى رسول الله عالي المرتبة

ومن هنا يعلم تفضيل السلف وسبقهم في فضلهم على الخلف

إذاً: أجر تعليم العلم عظيم؛ لأن المعلم إنما يبلغ عن الله تعالى، وينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالات ربه، ولأن المفتي كذلك يوقع عن رب العالمين.

وهذه المنزلة العظيمة لا شك أن خطرها عظيم، فكذلك أجرها يكون بهذه المنزلة.

كتابة الحديث

أما العنصر الثالث: ما يتعلق بالكتب العلمية وفضلها.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهى أن يكتب عنه غير القرآن فقال: (لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه)وكان ذلك خشية أن يجعل في القرآن ما ليس منه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل النصارى حين أدرجوا كلام المسيح بن مريم وكلام الحواريين في الأناجيل.

وبعد هذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة عنه فقد أذن لـعبد الله بن عمرو بن العاص أن يكتب ما يسمع منه، وأذن لـأبي هريرة -كذلك- في كتابة الصادقة، وهي صحيفة كانت عنده، كتبها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمرو يسمي صحفه أيضًا بالصادقة، وقال: (لولا الصادقة والوهط والوفيط ما حرصت على شيء من هذه الدنيا) والوهط والوفيط: أرضان لـعمرو بن العاص وقفهما على الفقراء وجعل نظارتهما إلى ابنه عبد الله، وهما بجنوب الطائف، والصادقة التي كتب فيها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العلم.

وكذلك فإن النبي صلى لله عليه وسلم قال: (اكتبوا لـأبي شاه)وهو رجل من أهل اليمن، حضر حجة الوداع فسمع خطبة النبي صلى لله عليه وسلم وتعليمه للناس فلم يحفظ ذلك، فسأله أن يأمر أصحابه أن يكتبوا له، فأمرهم أن يكتبوا له.

ومن معجزات النبي صلى لله عليه وسلم أن أصحابه لما نهاهم عن الكتابة عوضهم الله بالحفظ العجيب فكان أحدهم يسمع الخطبة بطولها فيحفظها كما هي، ويحفظ الحديث الطويل بألفاظه دون أن يحرف شيئًا من ذلك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعينهم على الحفظ بالتَّرَسُل في الكلام، وقد كان لا يهذُّ الكلام هذًّا، وإنما قوله الفصل، فلو أراد إنسان أن يعد كلماته لفعل، وكان أيضًا في خطبه يرفع صوته، فقد كانت خطبه تسمع من البلاط، والبلاط خمسمائة متر من المسجد.

وفي الحديث: (كان إذا خطب علا صوته، واحمرت عيناه، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم)وذلك أبلغ لاستقرار ذلك في النفس.

ومثل هذا في تغييره للمنكر ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها بين مكة والمدينة فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح أقدامنا، وجعلت أعقابنا تلوح؛ فنادى بأعلى صوته مرتين أو ثلاثًا: (ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار)، وكذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للأعقاب من النار) ورفع بها صوته.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها يوم مات سعد بن أبي وقاص دخل عليها أخوها عبد الرحمن يتوضأ في حجرتها فقالت: يا عبد الرحمن ! أسبغ الوضوء فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ويل للأعقاب من النار).

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر الكلام حتى يفهم عنه كما في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثًا، وإذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاثًا؛ لتفهم)أي: لتحفظ.

وكان أصحابه يراجعون بعض محفوظاتهم عليه كما ثبت في الصحيح من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه دعاء النوم، وأن يجعل آخر كلامه قبل أن ينام هذا الدعاء وهو: (اللهم! أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت) قال البراء : فأعدت عليه فقلت: وبرسولك الذي أرسلت. فقال: (لا. وبنبيك الذي أرسلت).

تاريخ تدوين الحديث

أول ما بدأ تدوين الحديث أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أمر بذلك عندما زالت العلة التي من أجلها كان النهي، فقد دونت المصاحف، وكثر حملة القرآن، وأمن أن يخلط بغيره؛ فأمر عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة وكتابتها، وتجرد لذلك عدد من الرجال منهم: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، وكان من أحفظ هذه الأمة، وكان لا يرى كتابة الحديث في البداية، ولكنه اقتنع أخيرًا بكتابته، ويقال: إنه لم يقتنع بكتابته في أيام عمر بن عبد العزيز وإنما اقتنع في أيام هشام بن عبد الملك ؛ وذلك أن هشاماً دعاه فجلس معه على فراشه، وجعل رجالاً من وراء الستر، وأمرهم أن يكتبوا كل حديث يحدثه به الزهري ، فقال له هشام : إني أريد أن تحدثني بأربعمائة حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسنادك فيها، فأمسك بيده فحدثه بأربعمائة حديث يعدها، وكتبها أولئك الرجال، فتركه سنة ثم دعاه إلى مجلسه وخلا به، فقال: أريد أن تعيد علي ما حدثتني به العام الماضي فإني قد نسيته، وأمر رجالاً أن يكتبوا أيضًا من وراء الستر، فحدثه بالأحاديث كما هي بترتيبها، ولم يقدم واحدًا ولم يؤخره ولم يغير منها شيئًا، فقارن أمير المؤمنين هشام بين ما كتبه الرجال في العام الماضي وما كتبه هذا العام فلم يجد أي فرق، فعرض ذلك على الزهري، ومن هنا اقتنع الزهري بكتابة الحديث.

بدأ تدوين وكتابة الكتب من ذلك العصر، ولكن إنما ألفت بأسماء وتصانيف وبوبت في أيام أتباع التابعين، واختلف في أول من ألف، لكن اشتهر في كل مدينة بعض المؤلفين، ففي مكة عبد الملك بن جريج ، وفي المدينة مالك بن أنس ، وفي العراق هشيم الواسطي ، وعبد الملك بن صبيح ، ويزيد بن هارون ، وسفيان الثوري وأضرابهم، واشتهر بالشام الأوزاعي ، وبمصر الليث بن سعد.

هؤلاء أوائل من ألفوا، ولم يصل إلينا من مؤلفاتهم إلاّ موطأ مالك.

أهمية الكتابة للعلم

الكتب أصبحت شرطًا في العلم ومرجعًا له؛ ولذلك قال عبد الله بن المبارك :

العلم صيد والكتابة قيده

فلا يمكن أن يحصل على العلم إلاّ بذلك.

وقال ابن المبارك أيضًا:

أيها الطالب علمًا ائت حماد بن زيدِ

فاطلبن العلم منه ثمّ قيّدهُ بقيدِ

لا كثور وكجهم وكعمرو بن عبيد

وقد كان خلفاء هذه الأمة ووزراؤها وقادتها يبالغون في الاهتمام بالكتب، وتشجيع أهلها على تأليفها، واشتهر عمل الوراقين في هذه الأمة، وأصبحت الكتب داخلة في كيان هذه الأمة، وأمرًا من حياتها لا يستغنى عنه أبدًا، ولولا ما قيض الله لهذه الأمة من المؤلفين الجهابذة الذين جمعوا العلم في الكتب لضاع علم هذه الأمة، وقد أثنى كثير من الناس على الكتب بسبب أنها حفظت هذا العلم حتى إن أحد الفقهاء يقول:

لنا جلساء لا يمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا

يفيدوننا من علمهم علم ما مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا

فلا فتنة نخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا

فإن قلت أموات فلست بكاذب وإن قلت أحياء فلست مفندا

أما العنصر الثالث: ما يتعلق بالكتب العلمية وفضلها.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهى أن يكتب عنه غير القرآن فقال: (لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه)وكان ذلك خشية أن يجعل في القرآن ما ليس منه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل النصارى حين أدرجوا كلام المسيح بن مريم وكلام الحواريين في الأناجيل.

وبعد هذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة عنه فقد أذن لـعبد الله بن عمرو بن العاص أن يكتب ما يسمع منه، وأذن لـأبي هريرة -كذلك- في كتابة الصادقة، وهي صحيفة كانت عنده، كتبها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمرو يسمي صحفه أيضًا بالصادقة، وقال: (لولا الصادقة والوهط والوفيط ما حرصت على شيء من هذه الدنيا) والوهط والوفيط: أرضان لـعمرو بن العاص وقفهما على الفقراء وجعل نظارتهما إلى ابنه عبد الله، وهما بجنوب الطائف، والصادقة التي كتب فيها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العلم.

وكذلك فإن النبي صلى لله عليه وسلم قال: (اكتبوا لـأبي شاه)وهو رجل من أهل اليمن، حضر حجة الوداع فسمع خطبة النبي صلى لله عليه وسلم وتعليمه للناس فلم يحفظ ذلك، فسأله أن يأمر أصحابه أن يكتبوا له، فأمرهم أن يكتبوا له.

ومن معجزات النبي صلى لله عليه وسلم أن أصحابه لما نهاهم عن الكتابة عوضهم الله بالحفظ العجيب فكان أحدهم يسمع الخطبة بطولها فيحفظها كما هي، ويحفظ الحديث الطويل بألفاظه دون أن يحرف شيئًا من ذلك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعينهم على الحفظ بالتَّرَسُل في الكلام، وقد كان لا يهذُّ الكلام هذًّا، وإنما قوله الفصل، فلو أراد إنسان أن يعد كلماته لفعل، وكان أيضًا في خطبه يرفع صوته، فقد كانت خطبه تسمع من البلاط، والبلاط خمسمائة متر من المسجد.

وفي الحديث: (كان إذا خطب علا صوته، واحمرت عيناه، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم)وذلك أبلغ لاستقرار ذلك في النفس.

ومثل هذا في تغييره للمنكر ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها بين مكة والمدينة فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح أقدامنا، وجعلت أعقابنا تلوح؛ فنادى بأعلى صوته مرتين أو ثلاثًا: (ويل للأعقاب من النار، ويل للأعقاب من النار)، وكذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للأعقاب من النار) ورفع بها صوته.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها يوم مات سعد بن أبي وقاص دخل عليها أخوها عبد الرحمن يتوضأ في حجرتها فقالت: يا عبد الرحمن ! أسبغ الوضوء فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ويل للأعقاب من النار).

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر الكلام حتى يفهم عنه كما في حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثًا، وإذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاثًا؛ لتفهم)أي: لتحفظ.

وكان أصحابه يراجعون بعض محفوظاتهم عليه كما ثبت في الصحيح من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه دعاء النوم، وأن يجعل آخر كلامه قبل أن ينام هذا الدعاء وهو: (اللهم! أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك؛ رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت) قال البراء : فأعدت عليه فقلت: وبرسولك الذي أرسلت. فقال: (لا. وبنبيك الذي أرسلت).

أول ما بدأ تدوين الحديث أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أمر بذلك عندما زالت العلة التي من أجلها كان النهي، فقد دونت المصاحف، وكثر حملة القرآن، وأمن أن يخلط بغيره؛ فأمر عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة وكتابتها، وتجرد لذلك عدد من الرجال منهم: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، وكان من أحفظ هذه الأمة، وكان لا يرى كتابة الحديث في البداية، ولكنه اقتنع أخيرًا بكتابته، ويقال: إنه لم يقتنع بكتابته في أيام عمر بن عبد العزيز وإنما اقتنع في أيام هشام بن عبد الملك ؛ وذلك أن هشاماً دعاه فجلس معه على فراشه، وجعل رجالاً من وراء الستر، وأمرهم أن يكتبوا كل حديث يحدثه به الزهري ، فقال له هشام : إني أريد أن تحدثني بأربعمائة حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسنادك فيها، فأمسك بيده فحدثه بأربعمائة حديث يعدها، وكتبها أولئك الرجال، فتركه سنة ثم دعاه إلى مجلسه وخلا به، فقال: أريد أن تعيد علي ما حدثتني به العام الماضي فإني قد نسيته، وأمر رجالاً أن يكتبوا أيضًا من وراء الستر، فحدثه بالأحاديث كما هي بترتيبها، ولم يقدم واحدًا ولم يؤخره ولم يغير منها شيئًا، فقارن أمير المؤمنين هشام بين ما كتبه الرجال في العام الماضي وما كتبه هذا العام فلم يجد أي فرق، فعرض ذلك على الزهري، ومن هنا اقتنع الزهري بكتابة الحديث.

بدأ تدوين وكتابة الكتب من ذلك العصر، ولكن إنما ألفت بأسماء وتصانيف وبوبت في أيام أتباع التابعين، واختلف في أول من ألف، لكن اشتهر في كل مدينة بعض المؤلفين، ففي مكة عبد الملك بن جريج ، وفي المدينة مالك بن أنس ، وفي العراق هشيم الواسطي ، وعبد الملك بن صبيح ، ويزيد بن هارون ، وسفيان الثوري وأضرابهم، واشتهر بالشام الأوزاعي ، وبمصر الليث بن سعد.

هؤلاء أوائل من ألفوا، ولم يصل إلينا من مؤلفاتهم إلاّ موطأ مالك.

الكتب أصبحت شرطًا في العلم ومرجعًا له؛ ولذلك قال عبد الله بن المبارك :

العلم صيد والكتابة قيده

فلا يمكن أن يحصل على العلم إلاّ بذلك.

وقال ابن المبارك أيضًا:

أيها الطالب علمًا ائت حماد بن زيدِ

فاطلبن العلم منه ثمّ قيّدهُ بقيدِ

لا كثور وكجهم وكعمرو بن عبيد

وقد كان خلفاء هذه الأمة ووزراؤها وقادتها يبالغون في الاهتمام بالكتب، وتشجيع أهلها على تأليفها، واشتهر عمل الوراقين في هذه الأمة، وأصبحت الكتب داخلة في كيان هذه الأمة، وأمرًا من حياتها لا يستغنى عنه أبدًا، ولولا ما قيض الله لهذه الأمة من المؤلفين الجهابذة الذين جمعوا العلم في الكتب لضاع علم هذه الأمة، وقد أثنى كثير من الناس على الكتب بسبب أنها حفظت هذا العلم حتى إن أحد الفقهاء يقول:

لنا جلساء لا يمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهدا

يفيدوننا من علمهم علم ما مضى وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا

فلا فتنة نخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا

فإن قلت أموات فلست بكاذب وإن قلت أحياء فلست مفندا