أنتم شهداء الله في الأرض


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد الذي حمل الرسالة وبلغها، وأقام الحجة ولم يمت صلى الله عليه وسلم حتى بلغ البلاغ المبين.

لله تلك اللحظات والساعات التي كان يقضيها خير البرية بين أصحابه الكرام من المهاجرين والأنصار! وما أطيب الأرض التي وطئتها أقدام هؤلاء القوم الطيبين الطاهرين -مكة والمدينة- خير بقاع الأرض وأحبها إلى الله عز وجل!!.

كان صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه ويلقنَهم من دروس الحكمة والعلم بالقول والفعل، ما يعجز الأولين والآخرين من البشر، فإن الله عز وجل آتاه الكتاب والحكمة، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيماً، كان صلى الله عليه وسلم يوماً جالساً مع أصحابه، فقال كما رواه عمر بن الخطاب، وذكره البخاري في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً: {ما من أحد منكم يشهد له أربعة بالخير إلا أدخله الله الجنة فقال رجل: وثلاثة يا رسول الله؟! قال: وثلاثة، قال: واثنان؟ قال: واثنان، قال عمر رضي الله عنه: ثم لم نسأله عن الواحد}.

فعلمهم صلى الله عليه وسلم بالقول، أن أي امرئ شهد له أربعة من المؤمنين بالخير أو ثلاثة أو اثنان، فإن الله عز وجل يدخله الجنة، أما الواحد فلم يسألوه عنه؛ لأنهم أدركوا أنه إذا لم تقبل شهادة الواحد في أمور الدنيا، في التجارات والبيع والشراء، في الأراضي، فكيف تقبل شهادة الواحد على صلاح الإنسان، ليكون أهلاً لدخول الجنة؟ ولهذا لم يسألوه صلى الله عليه وسلم عن الواحد.

ولما لقنهم هذا الدرس القولي البليغ، الذي فيه من الحكم والمعاني والأسرار ما سوف يتجلى لنا شيء منه الآن، أحب صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم الدرس نفسه بصورة عملية.

ففي صحيح البخاري رحمه الله عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: {كان يوماً جالساً بين أصحابه، فمرت جنازة -مُر من أمامهم بجنازة- فأثنى الناس على صاحب هذه الجنازة خيراً- قال أحدهم: فلان نِعْمَ الرجل، كان يشهد الصلاة مع الجماعة، قال الآخر كان محسناً إلى جيرانه، قال ثالث: كان وصولاً للرحم، وقال رابع وخامس وسادس، ويبدأ الثناء عليه من هذا وهذا وهذا- فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت}.

وما هي إلا لحظات حتى تمر جنازة أخرى، وإذا بالمدح ينقلب ذماً قال رجل: هذه جنازة فلان بئس الرجل، كان لا يشهد الصلاة مع الجماعة، قال الآخر: كان مؤذياً لجيرانه، قال الثالث: كان قاطعاً لرحمه عاقاً لوالديه، قال رابع: كان أكّالاً لأموال الناس بالباطل، وقال خامس وسادس وسابع.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وجبت وجبت} ويتساءل الصحابة رضي الله عنهم.

فيسأله عمر بن الخطاب يا رسول الله ما وجبت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: {أما الأول فأثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وأما الثاني فأثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في أرضه} وفي رواية أبي داود {بعضكم على بعض شهداء} وهكذا تركها صلى الله عليه وسلم كلمة خالدة، {أنتم شهداء الله في أرضه}.

أيها الإخوة المؤمنون: لنا أربع وقفات في أربعة معالم، لنجلس في هذا المجلس الذي نتذكر فيه شيئاً من هديه صلى الله عليه وسلم، شيئاً من أدبه الذي كان يحلى به أصحابه رضي الله عنهم.

أما الوقفة الأولى: فمن المخاطبون في هذا الحديث {أنتم شهداء الله في أرضه} من هم؟ مما لا شك فيه أن شهادة الكفار غير مقبولة، لأن الكافر مبغض للمؤمنين بكل حال، والله عز وجل يقول في شأنهم: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ [المطففين:32].

فالكافر قد انقلبت الموازين في نظره، فالمهتدي المؤمن عنده ضال، والمستقيم عنده منحرف، والصالح عنده طالح، فلا عبرة بكلامه يقول عز وجل عن الكافرين: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحج:72].

شهادة الكافر والفاسق

إذاً فالكافر لا تقبل شهادته على مؤمن في الدنيا والآخرة، بل إن شهادة الكفار على المؤمنين هي شهادة عكسية؛ فإذا رأيت الكفار يسبون مؤمناً ويشتمونه، فاعلم أنه رجل صالح، وإذا رأيتهم يمدحون إنساناً ويثنون عليه، فالغالب أنه رجل منحرف؛ لأنهم إنما يذمون إنساناً لاستقامته على الخير، وصلاحه وفلاحه وورعه وتقواه، وكذلك الفساق؛ فإننا نعلم أن الفاسق لو شهد على ريال أو دجاجة، أو شبر أرض أو ما دون ذلك، أمام محكمة من محاكم الدنيا، فجاء رجل وقال هذا الإنسان فاسق، هذا لا يصلي مع المسلمين، هذا يأكل أموال الناس بالباطل، هذا يأكل أموال اليتامى ظلماً، هذا يتعاطى السحر، هذا عاق لوالديه، ما قبلت شهادته.

وإذا كانت شهادته لا تقبل على ريال، أو على دجاجة، أو على شبر أرض، فكيف تقبل على صلاح إنسان أو فساده.

فلا تقبل شهادة الفساق؛ لأن الفاسق هو أيضاً في الغالب يحب نظراءه وأشباهه، ويقول بعض الخبراء في العصور المتأخرة: إن الإنسان المنحرف يكره الإنسان الصالح لماذا يكرهه؟ يكرهه لأنه يذكره بالصلاح، الذي كان يجب أن يتحلى به، والفطرة التي كان يجب أن يكون عليها، فكأنه يحسده على ما آتاه الله من فضله فيغمزه ويتكلم فيه.

وقد حدثني بعض شيوخنا أنه كان هناك أحد المشايخ المعروفين في البلد، وكان شيخاً عالماً عابداً تقياً، فذات يوم لحق به أحد الفساق الدعار الفجار وقال له: يا فلان والله إني لأبغضك، فقال: تحلف بالله، قال: والله إني لأبغضك. فقال: جزاك الله خيراً ثم ذهب هذا العالم إلى السوق، وكان الناس في وقت جوع وشظف في العيش، فاشترى له كسوة وشيئاً من القهوة وشيئاً من الشاي، وبعض الحاجيات الضرورية ووضعها -صرها- في هذه الكسوة، ثم أهداها إليه، وقال له: هذه عن البشارة التي بشرتني بها أمس، ما البشارة؟ قال: بشرتني أنك لا تحبني، أنا مصيبة عندي لو كنت تحبني؛ لأني أعرف أنك لو كنت تحبني لكان معنى ذلك أنني مثلك وعلى شاكلتك، فلما أبغضتني زاد أملي ورجائي في نفسي، أن يكون فيّ شيء من الصلاح سبب بغضك.

فالفاسق لا يقبل كلامه، ولا تقبل شهادته أيضاً على الصالحين الخيرين المستقيمين، ولذلك جاء في بعض ألفاظ الحديث {المؤمنون شهداء الله في أرضه} والفاسق لا يستحق أن يوصف بأنه مؤمن، هل نقول على الفاسق بأنه كافر؟ كلا، إذا كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلي مع الجماعة، أو يصلي ولو في بيته، ولا يرتكب مكفر ولا ناقضاً من نواقض الإسلام، فنحن لا نكفره، لكن لا نعطيه وصف الإيمان على الإطلاق، فنقول مؤمن، لا إما أن نقول: مؤمن ناقص الإيمان، أونقول: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.

فلفظ الإيمان لا يطلق إلا على إنسان لا يظهر أمور الفساق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {المؤمنون بعضهم على بعض شهداء، المؤمنون شهداء الله في أرضه}.

إذاً من هم الذين تقبل شهادتهم؟ من هم شهداء الله في أرضه؟ هل هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقط؟ قال بعض أهل العلم: نعم هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقط، لكن هذا قول لا يعبأ به، بل لا يدل عليه دليل، والظاهر أن الحديث عام في كل إنسان صالح مستقيم، فالخيرون الصالحون المصلون الذين يترددون على المساجد، ويعرفون بالخير، ولا يعرف منهم فسق، إذا أثنوا على إنسان خيراً، كان هذا دليلاً على أنه من أهل الجنة، وإذا أثنوا على إنسان شراً كان هذا دليلاً على أنه من أهل النار، ويدخل في ذلك الرجال والنساء على حد سواء.

الفرق بين الشهادة بالصلاح، والشهادة بنيل الجنة أو العكس

لكن لا ينبغي أن نقطع لإنسان أنه من أهل الجنة، ولا نقطع لآخر أنه من أهل النار، وإليكم هذين المثالين أيضاً، وقعا في عهده صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين { أن عتبان بن مالك

رضي الله عنه، وكان رجلاً من الأنصار، وكان رجلاً ضخماً -كبير الجسم- ففي آخر عمره ضعف بصره، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله إنني قد ضعف بصري وأحب أن تأتي إلى بيتي فتصلي في مكان اتخذه مصلى-تصلى في موضع من البيت حتى أصلي فيه، أتخذه مصلى في داخل البيت- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غداً آتيك، فلما كان الغد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في الضحى، ومعه نفر من أصحابه، أبو بكر

وعمر

وأنس بن مالك

ومحمود بن لبيد

وغيرهم، فدخلوا إلى عتبان

رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين تحب أن أصلى؟ فقال: في هذا المكان، وأشار رضي الله عنه إلى مكان، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى بأصحابه -كانت صلاة الضحى- ولما صلى جاءوا إلى مكان وجلسوا فيه، فحبسهم عتبان

رضي الله عنه على طعام صنعه للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلما أكلوا الطعام بدأوا يتحدثون. فذكر أحدهم رجلاً من أهل المدينة، اسمه مالك بن الدخشم

، فقال: واحد ذاك رجل لا يحب الله ورسوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى ولكن لا شهادة له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، فقام رجل آخر، وقال يا رسول الله، إنا نرى وجهه إلى المنافقين -الرجل توجهه وعلاقته وحياته أكثرها إلى المنافقين ومعهم- فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الجزم؛ بأن هذا الرجل لا يحب الله ورسوله، وقال: (أليس يشهد أن لا إله إلا الله } فَيُفْهَمُ من ذلك أنك تثني على الإنسان بالخير، إن كان من أهل الخير، أو تثني عليه بالشر، إن كان من أهل الشر، لكن لا تحكم له بأنه لا يحب الله ورسوله، أو أنه من أهل الجنة أو من أهل النار. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الحكم على مالك بن الدخشم

، بأنه لا يحب الله ورسوله، ففي المقابل استمع إلى هذه القصة، لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، كان معه ثلة من المهاجرين الطيبين الأخيار الأطهار الكرام، منهم رجل من قريش زاهد عابد، هو عثمان بن مظعون

، أبو السائب

رضي الله عنه وأرضاه، كان رجلاً من عُبّادِ الصحابة، فلما هاجر، كان المهاجرون أقل من الأنصار. ولذلك تنافس الأنصار في المهاجرين، كل واحد أو كل بيت من بيوت الأنصار يقولون: لا!، نحن نريد فلاناً، منافسة في الخير، كل بيت من بيوت الأنصار يقولون: نريد نصيبنا من المهاجرين، من غير المعقول أن يذهب بنو فلان وبنو فلان بالمهاجرين، ونحن لا يصيبنا أحد منهم، فلما تشاحوا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم قرعة، أقرع بينهم، فتقول أم العلاء الأنصارية

كما في صحيح البخاري
، تقول: طار لنا عثمان بن مظعون

أي وقع في سهمنا عثمان بن مظعون

فجلس عندهم، وكان يصوم النهار، ويقوم الليل. حتى إنه هَمَّ بأن يتبتل، هَمَّ بأن يترك الزواج ويترك الدنيا ويتفرغ للعبادة، فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولذلك جاء في الصحيحسعد بن أبي وقاص

رضي الله عنه قال: {نهى النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون

عن التبتل، ولو أذن له لاختصينا} كلهم كانوا يحبون العبادة، لو أذن له النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتركوا الدنيا والزواج وتفرغوا للعبادة. لكن منعهم من ذلك وحجبهم عنه، حتى أن زوجة عثمان بن مظعون

كما في الصحيحين جاءت إلى بعض أمهات المؤمنين، جاءت عند عائشة

، وكانت متبذلة -ملابسها متواضعة لا يظهر فيها أي اهتمام بهيأتها- لما خرجت سأل النبي صلى الله عليه وسلم عائشة

من هذه؟ قالت: هذه زوجة عثمان بن مظعون، فسألها: لماذا كانت متبذلة؟ قالت: إنها تقول أن عثمان ليس له حاجة فيها. ليس له حاجة في الدنيا، ليس له سبيل إليها، فهو مشغول بعبادته وصلاته، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ونهاه عن ذلك، وأمره بأن يعطي كل ذي حق حقه، هذا الرجل العابد، مات في أول أزمنة الهجرة، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم بالسلف الصالح، فقال: {نعم السلف الصالح لنا عثمان بن مظعون

}؛ لأنه من أول من مات من المهاجرين. المهم في القصة {عثمان بن مظعون

يجود بنفسه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما هو فيه من الضيق -ضيق الاحتضار وفزع الموت وثِقل النـزع- نزل النبي صلى الله عليه وسلم وطأطأ رأسه وقبله، ثم بكى صلى الله عليه وسلم، فقالت أم العلاء الأنصارية

رحمة الله عليك أبا السائب

فشهادتي عليك لقد أكرمك الله تترحم على عثمان بن مظعون

وتقول: شهادتي عليك، لقد أكرمك الله فشهدت، لكن شهدت بماذا؟ شهدت بأن الله أكرمه فما أعجب الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام- وقال لها: ماذا قلت؟ قالت: شهادتي عليك يا أبا السائب

لقد أكرمك الله قال: لها صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟! قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فمن يكرمه الله إذا لم يكن عثمان بن مظعون

رجل من خيرة الناس من عباد الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني والله وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي ولا بكم، وإني لأرجوا له خيراً}. فأفهمها صلى الله عليه وسلم أن المؤمن يرجو ويخاف، نرجو الخير للمحسنين، ونخاف الشر والنار والعذاب على المنحرفين والفاسقين، لكن لا نحكم لهم {إني لأرجو له الخير} ثم قال: {إني والله وأنا رسول الله ما أدري ما يفعل بي ولا بكم} ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل: ((قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ))[الأحقاف:9] { فلما قال لها ذلك صلى الله عليه وسلم حزنت حزنا شديداً، ثم نامت فلما كانت في المنام، رأت عثمان بن مظعون

على أحسن حال، ورأت له عيناً تجري في النوم، فجاءت إلى سول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: ذلك عمله} العين التي رأيتها تجري له في المنام عمله الصالح، يظل يدر عليه بعد وفاته.

إذاً فالكافر لا تقبل شهادته على مؤمن في الدنيا والآخرة، بل إن شهادة الكفار على المؤمنين هي شهادة عكسية؛ فإذا رأيت الكفار يسبون مؤمناً ويشتمونه، فاعلم أنه رجل صالح، وإذا رأيتهم يمدحون إنساناً ويثنون عليه، فالغالب أنه رجل منحرف؛ لأنهم إنما يذمون إنساناً لاستقامته على الخير، وصلاحه وفلاحه وورعه وتقواه، وكذلك الفساق؛ فإننا نعلم أن الفاسق لو شهد على ريال أو دجاجة، أو شبر أرض أو ما دون ذلك، أمام محكمة من محاكم الدنيا، فجاء رجل وقال هذا الإنسان فاسق، هذا لا يصلي مع المسلمين، هذا يأكل أموال الناس بالباطل، هذا يأكل أموال اليتامى ظلماً، هذا يتعاطى السحر، هذا عاق لوالديه، ما قبلت شهادته.

وإذا كانت شهادته لا تقبل على ريال، أو على دجاجة، أو على شبر أرض، فكيف تقبل على صلاح إنسان أو فساده.

فلا تقبل شهادة الفساق؛ لأن الفاسق هو أيضاً في الغالب يحب نظراءه وأشباهه، ويقول بعض الخبراء في العصور المتأخرة: إن الإنسان المنحرف يكره الإنسان الصالح لماذا يكرهه؟ يكرهه لأنه يذكره بالصلاح، الذي كان يجب أن يتحلى به، والفطرة التي كان يجب أن يكون عليها، فكأنه يحسده على ما آتاه الله من فضله فيغمزه ويتكلم فيه.

وقد حدثني بعض شيوخنا أنه كان هناك أحد المشايخ المعروفين في البلد، وكان شيخاً عالماً عابداً تقياً، فذات يوم لحق به أحد الفساق الدعار الفجار وقال له: يا فلان والله إني لأبغضك، فقال: تحلف بالله، قال: والله إني لأبغضك. فقال: جزاك الله خيراً ثم ذهب هذا العالم إلى السوق، وكان الناس في وقت جوع وشظف في العيش، فاشترى له كسوة وشيئاً من القهوة وشيئاً من الشاي، وبعض الحاجيات الضرورية ووضعها -صرها- في هذه الكسوة، ثم أهداها إليه، وقال له: هذه عن البشارة التي بشرتني بها أمس، ما البشارة؟ قال: بشرتني أنك لا تحبني، أنا مصيبة عندي لو كنت تحبني؛ لأني أعرف أنك لو كنت تحبني لكان معنى ذلك أنني مثلك وعلى شاكلتك، فلما أبغضتني زاد أملي ورجائي في نفسي، أن يكون فيّ شيء من الصلاح سبب بغضك.

فالفاسق لا يقبل كلامه، ولا تقبل شهادته أيضاً على الصالحين الخيرين المستقيمين، ولذلك جاء في بعض ألفاظ الحديث {المؤمنون شهداء الله في أرضه} والفاسق لا يستحق أن يوصف بأنه مؤمن، هل نقول على الفاسق بأنه كافر؟ كلا، إذا كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلي مع الجماعة، أو يصلي ولو في بيته، ولا يرتكب مكفر ولا ناقضاً من نواقض الإسلام، فنحن لا نكفره، لكن لا نعطيه وصف الإيمان على الإطلاق، فنقول مؤمن، لا إما أن نقول: مؤمن ناقص الإيمان، أونقول: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.

فلفظ الإيمان لا يطلق إلا على إنسان لا يظهر أمور الفساق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {المؤمنون بعضهم على بعض شهداء، المؤمنون شهداء الله في أرضه}.

إذاً من هم الذين تقبل شهادتهم؟ من هم شهداء الله في أرضه؟ هل هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقط؟ قال بعض أهل العلم: نعم هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقط، لكن هذا قول لا يعبأ به، بل لا يدل عليه دليل، والظاهر أن الحديث عام في كل إنسان صالح مستقيم، فالخيرون الصالحون المصلون الذين يترددون على المساجد، ويعرفون بالخير، ولا يعرف منهم فسق، إذا أثنوا على إنسان خيراً، كان هذا دليلاً على أنه من أهل الجنة، وإذا أثنوا على إنسان شراً كان هذا دليلاً على أنه من أهل النار، ويدخل في ذلك الرجال والنساء على حد سواء.

لكن لا ينبغي أن نقطع لإنسان أنه من أهل الجنة، ولا نقطع لآخر أنه من أهل النار، وإليكم هذين المثالين أيضاً، وقعا في عهده صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين { أن عتبان بن مالك

إذاً الناس شهداء الله في أرضه، لكن لا ينبغي أن يحكموا على إنسان بالجنة، ولا يحكموا على آخر بالنار، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في، صحيح مسلم وغيره؛ أن رجلاً من بني إسرائيل كان عابداً، فكان يأتي إلى رجل آخر من الفساق الفجار فينهاه عن معصيته فيقول له: خلِّ بيني وبين ربي ولا يستجيب له، فقال هذا الرجل العابد: {والله لا يغفر الله لفلان فقال الله عز وجل: { من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت له وأحبطت عملك } .

أنت أيها العابد أحبط الله عملك، لماذا؟ لأنك مغرور، مغرور معجب بعملك، ما الذي جعلك تحكم بأن الله لا يغفر لفلان، الله عز وجل لا يعلم ما عنده إلا هو، ربما يعمل إنسان عملاً عظيماً يخيل إليه أنه به يدخله الجنة، ثم يجعله الله هباء منثوراً، لأنه دخله رياء أو عجب، أو غرض دنيوي، وربما يعمل الإنسان عملاً يسيراً يخيل إليه أنه لا شيء، ويدخل بهذا العمل الجنة.

يُروى أن زبيدة لما ماتت رآها رجل في المنام فقال لها: (ما فعل الله بك؟ فقالت: كدت أهلك، ولكن الله رحمني بركعتين كنت أصليهما قبل الفجر) ركعتان كانت تصليهما، كانت سبباً في إنقاذها من الهلاك.

أما الأعمال الأخرى وهي أعمال كثيرة، والإحسان إلى الناس و.. و.. إلخ، فربما لم يكن لها من المنـزلة ما لهاتين الركعتين، ولذلك يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: (اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغاً مستريحاً، وإذا ما هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكانه تسبيحاً) فربما تعمل عملاً يسيراً يكون سبباً في نجاحك، والعكس بالعكس، ربما يعمل الإنسان عملاً عظيماً، ثم يتوب منه، فيكون سبباً في نجاته؛ لأنه كلما تذكر هذا العمل زاد من أعماله الصالحة.

وربما يعمل عملاً سيئاً يسيراً ويستهين به، فيكون سبباً في هلاكه، فلا يعلم ما عند الله إلا الله، إنما نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء، هذا المعلم الأول.

أما المعلم الثاني: فإن الحديث يدل دلاله واضحة، على أن الإنسان المسلم يجب أن يحرص على كسب مودة المسلمين عموماً، ممن يشهدون أن لا إله إلا الله، وخاصة ممن يترددون على المساجد، ويصلون الجماعة، وكيف يكسب الإنسان مودة الناس؟ يكسب الإنسان مودة الناس بطرق كثيرة اقتصر منها على ستة وسائل:-

حسن الخلق

أما الوسيلة الأولى: التي تكسب بها مودة الناس فحسن الخلق، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] وعن عائشة رضي الله عنها في مسلم{أنها سئلت ما كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم: فقالت للسائل: تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قالت: كان خلقه القرآن}.

ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يرتل على أصحابه صباحاً ومساءً أحاديث حسن الخلق، ومن قوله صلى الله عليه وسلم: {ألا أخبركم بأحبكم إلي، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويُؤلفون}.

ومرة أخرى { يجلس صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فيقول له رجل: يا رسول الله، ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فيكون الجواب منه صلى الله عليه وسلم: تقوى الله وحسن الخلق وما أكثر ما يدخل الناس النار؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: الفم والفرج }.

وهكذا يأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه بحسن الخلق، ويبين لهم أن العبد يبلغ بحسن الخلق كما في حديث أبي الدرداء، وهو عند الترمذي بسند صحيح {يبلغ بحسن الخلق درجة الصائم القائم} درجة الصائم الذي لا يفطر ودرجة القائم الذي لا يفتر.

فحسن الخلق ذو مكان عظيم في الإسلام، فبشاشة الوجه وطلاقته، ولين الكلام، ولين الجانب، هي من الأشياء التي تحببك إلى الناس، وتقربك إلى الله عز وجل، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حصر المهمة التي بعث بها في حسن الخلق، فقال: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق } .

وفي لفظ {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} والحديث رواه مالك في الموطأ، وابن سعد والبيهقي في الشعب، وغيرهم وهو حديث صحيح.

فالأخلاق على جانب كبير من الأهمية، في تحبيبك إلى الناس، وتحبيبك قبل ذلك إلى الله عز وجل، فالله يحب الإنسان اللطيف الوديع الهادي الخلوق البشوش، وهذه كلها صدقات منك على الناس، ليست الصدقة أن تخرج من جيبك مالاً، وتعطي الفقير وأنت مكفهر في وجهه عابس، كلا، بل هذا من الصدقة -المال من الصدقة- ومن الصدقة أن تلقى أخاك بوجه طلق، وتتبسم في وجهه، وتهش وتبش له، وتحسن إليه فهذا حسن الخلق.

الإحسان إلى الناس

الأمر الثاني: الذي يحببك إلى الناس ويجعلك تكتسب مودتهم، هو الإحسان إليهم، الإحسان والرسول صلى الله عليه وسلم يلقننا من دروس الإحسان شيئاً عجيباً، فمن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث شداد بن أوس الذي رواه مسلم: {إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته} أي نفترض أن الإنسان يريد أن يذبح ذبيحة، فهنا الإسلام يطالبك بأن تكون محسناً

لهذه الذبيحة وأنت تذبحها.

فمثلاً: لا تحد الشفرة أمام الذبيحة، ولا تؤذيها، بل اجعل السكين حادة حتى تزهق روحها بسرعة، ولا تذبح واحدة أمام الأخرى، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم، وكل سبب من أسباب الإحسان إلى الذبيحة مطلوب، وهذه الذبيحة بعد خمس دقائق سوف تكون انتهت، وهي حيوان لن يلقاك يوماً من الأيام، ويحقد عليك أو يسألك لماذا ذبحته بهذه الطريقة أو تلك؟! ومهما آذيته فهو سوف تزهق روحه بعد دقائق، ومع ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يأمرك بأن تحد شفرتك، وتريح ذبيحتك.

وخذ مثلا آخر: رجل مستحق للقتل؛ إما لأنه قتل نفساً بغير حق، أو لغير ذلك من الأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يأمر من يقتله بأن يحسن القتلة -يعني طريقة القتل- وإذا كان الإسلام يأمرك بأن تحسن إلى الذبيحة، وتحسن إلى القتيل، فما بالك بغير ذلك؟ ما بالك بالإحسان إلى غيره من سائر الناس؟

بل أعجب من ذلك وأعجب، أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أصحابه بتلك القصص العجيبة، التي تهز النفوس يوماً من الأيام، يقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة :{إن امرأة من بني إسرائيل أصابها العطش، فذهبت حتى وجدت بئراً فنـزلت فشربت، ثم صعدت فوجدت كلباً يلهث الثرى من شدة العطش، فقالت هذه المرأة: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغني} ولذلك الإنسان إذا بلغه الجوع والعطش تذكر المحتاجين، والشاعر من قبل كان يقول:

لعمري لقدماً عضني الجوع عضةً     فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا

والله عز وجل أرشدنا وأمرنا بالصيام، حتى نتذكر الفقراء والمحتاجين، هذا من أسرار الصيام فنحسن إليهم.

المهم أن هذه المرأة قالت: {لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي، فنـزعت خفها ونـزلت إلى البئر ثم ملأت الخف بالماء وعضته بفمها وتمسكت بيدها وصعدت البئر، ثم سقت الكلب} وكانت بغية زانية، تتاجر بعرضها، فلما حصل منها هذا العمل الذي هو في نظرنا بسيط، {شكر الله لها، فغفر لها}ولعل الله تاب عليها، فأقلعت عما كانت عليه.

انظر كيف تكون قيمة الإحسان، الإحسان إلى كلب، فما بالك بالإحسان إلى مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، كيف يكون قدره عند الله عز وجل؟.

وفي مقابل ذلك أخبرنا صلى الله عليه وسلم، عن المرأة الإسرائيلية الأخرى، التي ذكر لما كان يصلي الكسوف، والحديث في الصحيحين، أنه كسفت الشمس، فصلى صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وأطال الصلاة، فتقدم أثناء الصلاة، ثم تكعكع وتراجع إلى الوراء، فلما سلم قال له أصحابه: يا رسول الله! رأيناك تقدمت ثم رأيناك تكعكعت -يعني تراجعت إلى الوراء- فقال عليه الصلاة والسلام:{أما حين رأيتموني تقدمت فإني رأيت الجنة في عرض هذا الجدار فهممت أن آخذ منها قطفاً من عنب، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ثم عرضت لي النار حتى قلت: يا رب! وأنا فيهم؟ -يعني خشي أن تأكل النار المدينة في ذلك العصر- فقال: يا رب! كيف تعذبهم وأنا فيهم} ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أنه رأى فيها ورأى فيها، ورأى فيها صاحب المحجن، وهو رجل يسرق الحجيج بمحجنه، وذلك أن معه عصا في نهايتها محجن، فيضعه في متاع الحاج، ثم يجره فإذا فطن الحجاج له، قال: أنا ما علمت، إنما تعلق هذا بمحجني، وإذا لم يفطنوا له سرقه، فيقول: {رأيته متكئاً على محجنه} ورأى عمرو بن لحي الذي سيب السوائب، وجلب الأصنام إلى جزيرة العرب، رآه يجر قصبه -والعياذ بالله يجر أمعائه في نار جهنم- وهو أول من سيب السوائب، قال: {ورأيت امرأة تخمشها هرة، حبستها هذه المرأة، لا هي أطعمتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض} فماتت فدخلت فيها النار.

إذاً يا مسلمون! الإحسان إلى القطط والكلاب والحيوانات، هذا له مكانه عند الله عز وجل، فما بالك بالإحسان إلى المسلمين؟ ما بالك بالإحسان إلى أصحاب لا إله إلا الله محمد رسول الله؟

ما بالك بالإحسان إلى المترددين على المساجد، والمحافظين عليها؟! لا شك أن له عند الله فضل عظيم.

القيام بحقوق الناس

السبب الثالث: من أسباب كسب مودة الناس القيام بحقوقهم، وحقوق المسلمين كثيرة! يكفي منها أن تعلم ما حدده النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب في البخاري ومسلم قال: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع -بماذا أمرنا؟- أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإبراز المقسم، ونصر المظلوم، وتشميت العاطس، ورد السلام، وإجابة الدعوة}.

هذه سبع خصال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه وهي من الأمور التي توجب المودة والألفة بين المسلمين.

فرد السلام جاء في حديث عند محمد بن نصر المروزي، في تعظيم قدر الصلاة وغيره، أن من سلم على إنسان ولم يرد عليه رد عليه الملك، ولعن هذا الذي لم يرد السلام، إذا تعمد ترك السلام.

ولا شك أن رد السلام واجب، وكذلك تشميت العاطس، إذا حمد الله أن تقول له: يرحمكم الله، وكذلك أجابه الداعي إذا دعاك إلى وليمة عرس، وليس في هذه الوليمة معصية، ولا غناء محرم، ولا اختلاط، ولا تصوير، ولا غير ذلك من المنكرات، فيجب إجابته وتطييب خاطره بذلك، كذلك نصرة المظلوم، ويكون نصره بالقول وبالفعل.

وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري عند ابن ماجة {لا قُدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع} لما ذهب المسلمون إلى الحبشة، ذكرت أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم قصة غريبة قالت: يا رسول الله! رأيت امرأةً عجوزاً تحمل على ظهرها قربة من الماء تسقي، فمرت بشاب -شاب من هؤلاء الشباب المراهقين، الذين يتسكعون في الشوارع، ويؤذون الخلق- فلما رآها هذا الشاب وهي عجوز مسنة تعرض لها، ثم دفعها، فسقطت، فسقطت قربتها، فماذا صنعت هذه المرأة؟ لم تستطع أن تشكي إلى أحد، ولكنها قامت وقالت لهذا الشاب: ستعلم يا غُدر -يعني يا غادر- إذا نـزل الله لفصل القضاء كيف يكون جزاؤك! فتعجبت أم سلمة مما رأت، وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:{صدقت، صدقت، لا قُدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه}والأمة إذا ما كان فيها من يأخذ فيها حق المظلوم، وينصره بالقول وبالفعل، فهي إلى هلاك وفناء وزوال، فالظلم سبب خراب الأمم وديارها، وضلالها وضياعها.

وكذلك زيارة المريض وعيادته وما فيها من تسليه، ومن ترويح، ومن إزالة الهم عن قلبه، وتطييب خاطره، بل ورد في الحديث الصحيح {أن من زار مريضاً لم يحضر أجله ثم قال: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا شفاه الله عز وجل} فتزور أخاك المسلم وتجلس عنده خمس دقائق تكون {في خَرْفَةِ الجنة حتى ترجع} كما في الصحيحين، أي خير أعظم من هذا؟ عمل قليل وخير كثير.

وكذلك اتباع الجنائز، علاقتك بأخيك المسلم لا تنته بموته، بل حتى في الآخرة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] فلذلك حتى بعد موته يشرع أن تشيعه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه {ومن تبع جنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان، قالوا يا رسول الله وما القيراط؟ أو وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين} وفي لفظ عند مسلم {أصغرهما مثل أحد} فمثل هذه الحقوق تؤديها لإخوانك المسلمين.

وفي حديث آخر حديث أبي هريرة في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه}.

الجزاء من جنس العمل، تنفس عن المؤمن كربة في الدنيا، يجازيك الله بجنس عملك، فينفس عنك كربة، لكن ليست من كرب الدنيا فقط، بل حتى من كرب يوم القيامة، وهي أهوال عظام وشدائد جسام، لا يعلمها إلا من عاشها.

تعين المسلم وتيسر عليه، ييسر الله عليك في الدنيا والآخرة، ألست تعلم أيها المسلم، أنه سيمر بك عسر في الدنيا؟ الصحيح قد يمرض، والغني قد يفتقر، والكبير قد يزول قدره ومكانه، فالدنيا لا بقاء لها ولا دوام، ولنفترض أنك بقيت صحيحاً قوياً غنياً ثرياً متمكناً إلى الموت، أليس الموت أعظم كربة في الدنيا، فإذا أردت الله عز وجل يكون معك في تلك الكربة، يثبتك بالقول الثابت ويرحمك، فأحسن إلى إخوانك المسلمين، ابحث عن الكربات ونفِّسّها، يسر عن المعسرين، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة.

فإذا وجدت إنساناً وقع في خطأ فاستر عليه، إلا أن يكون هذا الإنسان مجرماً محترفاً، كما نجد في كثير من المجتمعات، بعض الناس الذين يسعون في الأرض فساداً، كمروجي المخدرات، مروجي الأفلام الخليعة -مثلاً- دعاة الجرائم، يبيعون الخمور للناس، يسعون بين الناس بأسباب الفساد، ويحاولون نشر هذه الأشياء، ومثلهم السحرة والمشعوذين، فمثل هؤلاء يجب على كل إنسان أن يسعى في فضحهم بكل وسيلة، هذه الوسيلة الثالثة لكسب مودة الناس: أداء حقوقهم.

كف الأذى

الوسيلة الرابعة: كف الأذى عنهم، وقد جاء أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له يا رسول الله: أي العمل أفضل قال: {إيمان بالله وجهاد في سبيله} قال: فأي الرقاب أفضل قال: {أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها} أي إذا أردت أن تعتق رقبة فالأغلى والأنفس هو الأفضل، قال أرأيت يا رسول الله، إن ضعفت عن بعض العمل-أنا إنسان ضعيف قد لا أستطيع أن أفعل لا هذا ولا هذا ولا هذا فماذا أصنع؟!

فالإسلام ما نـزل لطبقة خاصة من الناس، الإسلام نـزل للناس كلهم، فلذلك قال: {أرأيت يا رسول الله إن ضعفت عن بعض العمل -ما أستطيع أن أعمل- قال النبي صلى الله عليه وسلم: تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك} والحديث رواه البخاري ومسلم.

وأبو سعيد أيضاً يقول: {جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أفضل الناس؟ قال: رجل مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله} ولا شك أنه أفضل الناس الذي يضحي بماله ونفسه، قال: ثم ماذا؟ قال: {رجل معتزل في شعب من الشعاب، يعبد ربه ويدع الناس من شره} هذا إنسان فيه شر إذا اختلط بالناس يسيء إليهم، يسيء إليهم بالقول والفعل ويعتدي عليهم، فيقال له يا أخي: الأفضل أن تعتزل، لأنك تؤذي الناس، بقولك وفعلك (يعتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره) وفي لفظ {ليس من الناس إلا في خير} أي الناس كلهم لا يعرفونه إلا في خير، ولابد إذاً من الكف عن أذى الناس.

الصبر على الأذى

الأمر الخامس: هو الصبر على ما تلقاه من أذى الناس، فالناس لابد فيهم من أذى، كل واحد منا أيها الإخوة هو (مُؤذِي ومُؤذَى) في نفسه؛ لأن طبيعة الاجتماع قد تجعلك تفعل عملاً لا تقصد به.

إلا الخير، لكن يكون بالنسبة لبعض الناس غير موفق، ربما تجتهد مع إنسان وتحسن إليه فيما تظن، لكن ما وقع هذا الإحسان في موقع الإحسان، على سبيل المثال قد تقدم له أمراً، فيفسر هذا الشيء تفسيراً غير صحيح ويحمله في نفسه، فالناس مختلفون في طباعهم وعاداتهم وأمورهم، فكل إنسان يصدر منه أذى إلى غيره، وكذلك يصدر من غيره الأذى إليه.

فكذلك لابد من الصبر على الأذى وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17] ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد وغيرهما وهو حديث صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على آذاهم} كأن المعنى إذا خالطت الناس، لابد أن تلقى منهم أذى، -أذى كثير- من ألوان الأذى: الأذى الدنيوي، حينما نكون جيراناً ويصبح بين أولادي وأولادك شيئاً من الشجار، الذي يحدث عادة بين الصبيان، هذا قد يتطور إلى مشكلة عندنا، لكن حين يكون عندنا إيمان ومعرفة بحقوق الإخوان والجيران، نصبر ونتحمل هذا الشيء، ونعرف أنه قد يكون عند الجار مثل ما عندك وأشد، وكذلك حينما نكون شركاء في الأرض في تجارة في شيء يحصل بيننا مثل ذلك، وكذلك الإخوان في البيت الواحد يحصل بينهم شجار.

فلابد من التحمل والصبر {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم}.

عدم سؤال الناس

أما الأمر السادس والأخير: من وسائل جلب وكسب مودة الناس فهو: أن لا تنافسهم في الدنيا، ولهذا جاء في الحديث {ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس} والإمام الشافعي رحمه الله كان يقول:

ومن يذق الدنيا فإني طعمتها     وسيق إليَّ عذبها وعذابها

يقول الإمام الشافعي لقد جربت الدنيا يا إمام! أخبرنا ما هي؟ قال:-

فما هي إلا جيفة مستحيلة      عليها كلاب همهن اجتذابها

فإن تجنبتها كنت سلماً لأهلها     وإن تجتذبها نازعتك كلابها

ولذلك تجدون معظم المشاكل بين الناس، بسبب الخصومات الدنيوية؛ فإذا استطاع الإنسان منا ألا يتعلق بالدنيا تعلقا كبيراً، فليفعل، نحن لا نقول دع الدنيا وراءك، الإنسان لابد له من شيء من الدنيا، لكن لا يتعلق بها، لا تكون الدنيا كل همه؛ لأن الإنسان إذا صارت الدنيا كل همه، فربما يكون فقره بين عينيه، ولا يأتيه من الدنيا بكل حال إلا ما كتب له، فلابد من التقلل من الدنيا وخاصة إذا كان الإنسان يريد الإصلاح في أوساط الناس، أن يعرفه الناس بأنه رجل متخلٍ عن الدنيا ليس له فيها همة ولا طمع.

النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان شأنه مع الدنيا؟ اسمع هذه القصة العجيبة، وهي في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام صلى بأصحابه، صلاة العصر، فلما سلم قام مباشرة وذهب مسرعاً إلى بيته، فتعجب الناس، العادة أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا صلى استغفر وسبح والتفت على أصحابه وذكر الله، ثم جلس بينهم، وتحدث معهم وذكّرهم، هذه المرة لما سلم على اليسرى قام مسرعاً إلى بيته، فلما جاء استقبله أصحابه، خيراً يا رسول الله، قال: {ذكرت شيئاً من تبر كان عندي، فأحببت أن أوزعه بين الفقراء والمحتاجين} (ذكرت شيئاً من تبر) أي: من ذهب، ما أحب صلى الله عليه وسلم أن يجلس حتى ينتهي من التسبيح، ثم يذهب ليفرق هذا المال، بل ذهب بسرعة وأخرجه وأعطاه لغلام عنده ليوزعه على الفقراء.