فرصة العمر


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى جعل للإنسان حياتين: إحداهما هي هذه الدار التي هي دار عمل ولا جزاء، والأخرى هي دار الآخرة التي هي دار جزاء ولا عمل.

وجعل الإنسان يبدأ بهذه الدار الدنيا التي اسمها إما أن يكون مشتقاً من الدنو لقربها، أو مشتقاً من الدناءة؛ لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة.

جعل الإنسان يبدأ هنا بهذه الدنيا ليتزود للدار الآخرة، وجعل هذه الحياة الدنيوية إنما هي ورد وعرض زائل، وجعل الدار الآخرة هي الحيوان، أي: الحياة المتجددة الباقية.

وأتاح للإنسان ثلاث فرص للنجاح في الامتحان، هذه الفرص هي التي يمكن أن نسميها أعماراً.

فالعمر الأول: عمر الإنسان الشخصي الذي يبدأ من النفخ فيه، نفخ الروح فيه وهو جنين في بطن أمه، كما في الحديث: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد).

فمن هنا يبدأ عمر الإنسان الشخصي، وينتهي بقبض الروح منه، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[الأعراف:34] ، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً* وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً[النازعات:1-2] .

وهذا العمر ما يعمل الإنسان فيه من خير وشر فإنه يجده يوم القيامة: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ[آل عمران:30] ، وهذا العمر أمده مجهول، لا يدري الإنسان متى يناديه منادي الله، لكنه يعلم أنه إذا ناداه فلن يتأخر لحظة، ويعلم أنه إذا ناداه منادي الله فلن تتاح له فرصة للتأخر، لكنه لا يدري متى يناديه المنادي.

ومن هنا فإن على الإنسان أن يجتهد قبل أن يناديه المنادي إلى الدار الآخرة للنجاة، عليه أن يجتهد في عمره هذا ليتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما يكون وسيلة سعادته يوم القيامة يوم العرض على الله، وهذا العمر المحدود في علم الله المجهول لدى الإنسان يعتري الإنسان فيه كثير من الشواغل والصوارف التي تحاول فتنته وصرفه عن استغلال هذا العمر فيما يرضي الله، ومع ذلك فهذا العمر ثمين جداً، وهو رأس المال، والإنسان فيه محتاج إلى أن يستغله أبلغ استغلال، ولا يمكن أن يسعد إذا أهمل هذا العمر الذي هو طريق نجاته وطريق سعادته، فإما أن يستغله الاستغلال الصحيح فيتغلب على الشواغل والصوارف التي تصرفه عن هذا الاستغلال، وهذا هو النجاح الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بالربح في قوله: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً تجاراً، لكن منهم من ينجح في تجارته فيربح، ومنهم من لا ينجح في هذه التجارة، فالعمر هو رأس المال، بمثابة الدراهم التي لدى الإنسان يقضي بها حاجته، كما قال الحكيم:

والعمر مدته كمثل دراهم بيد الفتى يقضي به حاجاته

فكل أربع وعشرين ساعة هي محطة من محطات العمر، تنادي كل دقيقة من دقائقها إذا لم تستغل: قد ضاعت منك فرصة يا ابن آدم. لأنه بالإمكان أن يقول الإنسان في كل لحظة منها: لا إله إلا الله، فيجدها وقت الحاجة إليها، وهو يعلم أنه سيحال بينه وبين ذلك، فإذا مات وأخذت روحه فإنه لن تتاح له الفرصة بعد ذلك ليقول: لا إله إلا الله.

ومن هنا فإن هذه الصوارف والشواغل إذا اتبعها الإنسان سيتمنى على الله الأماني، وسيغره الشيطان ببقائه في هذه الدنيا ويوسوس إليه ويخيل إليه أنها دار بقاء وأنه مستمر فيها، ولذلك فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الشيطان يعقد على قافية رأس ابن آدم ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: إن عليك ليلاً طويلاً فنم) يريد أن يحول بينه وبين ما يقربه إلى الله من الطاعة، فيحاول أن تمضي الأوقات في المعصية، فإن لم يجد إلى ذلك سبيلاً حاول أن تكون فارغة لا للإنسان ولا عليه، وهذا هو غاية الخسران؛ لأن هذه الساعات إذا لم تشحن بالطاعة فإما أن تشحن بالمعصية -نسأل الله السلامة والعافية- فتكون حسرة ووبالاً، أو تمضي فارغة ليس فيها فائدة، فيكون الإنسان قد قامت عليه الحجة، وأنعم الله عليه بنعمة التعمير، ويناديه يوم القيامة: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37] .

عاقبة من لم يستغل عمره في طاعة الله

إن هذا العمر هو أغلى ما يمتلكه الإنسان، وعليه أن يعلم أن كل لحظة يعيشها في هذه الدنيا هي حجة قائمة عليه لله، وأن كل وقت يمضيه فيها إذا لم يستغله في طاعة الله فهو خسران عظيم، لهذا فقد أخبرنا الله في كتابه أن الناس يتمنون الرجوع إلى هذه الدنيا بعد الموت، فمن ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ* وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11] .

وقال تعالى: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:99-100] ، وفي الآيات من خواتيم سورة الزمر يقول الله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً[الزمر:56-58] أي: رجعة إلى هذه الدنيا، لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ[الزمر:58] .

فهذا العمر يندم الإنسان على ما مضى منه إذا عمر وطال به العمر، فتذكر السنوات التي مضت ولم يستغلها في طاعة الله، وتذكر أنه كان في عافية وفراغ وأن ذلك قد زال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ).

وتذكر أن ساعات طويلة كان يمضيها في غير طائل هي الآن في كفة السيئات وليست في كفة الحسنات، والميزان يوم القيامة ليس له إلا كفتان، فإذا تذكر الإنسان هذا ندم على ما أسرف وعلى ما مضى من عمره بغير طائل، وكذلك إذا قبضت روحه فبدا له أمر الآخرة، عندما يوضع في قبره ويوضع تلك الضجعة التي يبدو له فيها من الله ما لم يكن يحتسب، كما قال الله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47] ، ونقل إلى القبر الذي إما أن يكون روضة من رياض الجنة وإما أن يكون حفرة من حفر النار، وهو أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده، كل مرحلة بعد القبر تنسي التي قبلها، وهو ينسي كل ما مر على الإنسان في هذه الدنيا.

ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة.

في هذه الليلة التي يبيت فيها الإنسان في القبر ولم يبت مع الموتى قبلها سيستحضر أنه كان في هذه الدنيا وأتيحت له الفرصة للنجاة، ولكنه فرط وقصر، فلهذا يقول أمثلهم طريقة: إن لبثتم إلا يوماً. يستقل ما أمضاه في هذه الدنيا من العمر، ويرى أنه وقت يسير جداً.

كذلك الندم الآخر عندما تعرض عليه صحائفه ويتذكر أنه كتبت أعماله كلها، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ[يس:12] .

إذا عرضت عليه هذه الصحائف فرأى أنه قد أتيحت له فرصة وعمر في هذه الدنيا، وكان بالإمكان أن يكون من الفائزين الناجحين الذين رجحت كفة حسناتهم على كفة سيئاتهم، وهو يرى تطاير الصحف، ويرى وزن الأعمال، ويرى مثاقيل الذر توزن بها الحسنات والسيئات، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه[الزلزلة:7-8] .

إذا رأى ذلك فسيندم، كما قال الشاعر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أجدك لم تسمع وصاة محمد رسول الإله حين أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا

ولهذا فإن تذكر الإنسان للموت مما يعينه على صرف الشواغل التي تشغله عن استغلال العمر في طاعة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها؛ فإنها تذكركم الآخرة).

عوامل تعين على استغلال العمر في الطاعة

والإنسان محتاج إلى أن يتذكر ساعة الانتقال وهو محمول على الرقاب إلى الدار الآخرة، وإذا تذكر ذلك فإن هذا مدعاة لأن يستغل هذه الفرصة قبل أن يحمل على الرقاب، يستغلها فيما ينجيه ويقربه، وهو يتذكر أحوال أولئك الذين ساروا وانقطعوا عن هذه الدنيا وانتقلوا وتركوا ما خولهم الله وراء ظهورهم ولم يصحبوا منه شيئاً، كما قال تعالى: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ[الأنعام:94] .

يتذكر حال أولئك وهو يعلم حرص كثير منهم، وأنهم اليوم في قبورهم يتمنون الرجوع إلى هذه الدنيا لحظة واحدة ليحسنوا العمل ويبدلوا ما كانوا يعملونه من شر ويغيروه ويتوبوا إلى الله، فيحسنوا فيما بقي من هذه الدنيا.

ولهذا فإن كثيراً من الصالحين كان يتصور نفسه محمولاً على الرقاب إلى الدار الآخرة، فيبادر غاية المبادرة لاستغلال بقية العمر، وبعضهم كان يحفر قبراً أمامه حتى يراه، ويستحضر أن هذا القبر هو الذي سيدفن فيه، فيبادر لاستغلال الفرصة قبل أن يدفن في هذا القبر، وكذلك بعضهم كان يستحضر قصص السالفين الذين أدرك موتهم، فالإنسان يشهد كثيراً من الناس قد حسنت خواتمهم، وانتقلوا من هذه الدنيا انتقالاً مشرفاً، ويشهد آخرين -نسأل الله السلامة والعافية- قد أخذوا في حال الغفلة، قد جاءهم الموت في الوقت الذي لا يرتضون مجيئه فيه، فانتقلوا وهم منغمسون في أوساخ الدنيا ووحلها وما فيها، وهم في غفلة كاملة عما أمامهم، فإذا جاء الموت ارتفع عنهم هذا، وصاروا كأنما كانوا في غفلة شديدة، فأزيل الغشاء عن أبصارهم، كما قال تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ* وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ* وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22] .

ولقد صح أن كثيراً منهم كانوا إذا ذكروا ذلك الحال وتذكروا خواتم الناس وانتقالهم يشعرون بزاد يتزودون به، ويشعرون بقوة خارقة فيما يتعلق بعبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته، فيجدون وقوداً ينطلقون به في طريقهم.

حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه حجته الأخيرة في حياته، فلما خرج من مكة وقف على جبل اسمه (ضجنان)، فقال: (لا إله إلا الله وحده! كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت. وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش. ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه. ثم أنشأ يقول:

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد

لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد

أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا

وكذلك فإن كثيراً منهم كان إذا أحس بالغفلة انتسب، أي: ذكر من مضوا من أسلافه، فوجد أن كل من سبقه من أفراد أسرته ومن عمود نسبه قد انتقلوا إلى الدار الآخرة، وأنه هو قد بقي على الأثر، فإما أن ينتقل في الصباح أو في المساء وهو سائر على طريقهم، فيعينه هذا على استغلال الفرصة قبل فوات الأوان، ولقد صدق القائل:

هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب

وقال آخر:

ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأن ما قد كان لم يك كانا

يا من لشيخ قد تطاول عهده وأفنى ثلاث عمائم ألوانا

سوداء حالكة وسحق مفوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا

والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا

إن هذا العمر هو أغلى ما يمتلكه الإنسان، وعليه أن يعلم أن كل لحظة يعيشها في هذه الدنيا هي حجة قائمة عليه لله، وأن كل وقت يمضيه فيها إذا لم يستغله في طاعة الله فهو خسران عظيم، لهذا فقد أخبرنا الله في كتابه أن الناس يتمنون الرجوع إلى هذه الدنيا بعد الموت، فمن ذلك قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ* وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11] .

وقال تعالى: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:99-100] ، وفي الآيات من خواتيم سورة الزمر يقول الله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ* أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ* أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً[الزمر:56-58] أي: رجعة إلى هذه الدنيا، لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ[الزمر:58] .

فهذا العمر يندم الإنسان على ما مضى منه إذا عمر وطال به العمر، فتذكر السنوات التي مضت ولم يستغلها في طاعة الله، وتذكر أنه كان في عافية وفراغ وأن ذلك قد زال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ).

وتذكر أن ساعات طويلة كان يمضيها في غير طائل هي الآن في كفة السيئات وليست في كفة الحسنات، والميزان يوم القيامة ليس له إلا كفتان، فإذا تذكر الإنسان هذا ندم على ما أسرف وعلى ما مضى من عمره بغير طائل، وكذلك إذا قبضت روحه فبدا له أمر الآخرة، عندما يوضع في قبره ويوضع تلك الضجعة التي يبدو له فيها من الله ما لم يكن يحتسب، كما قال الله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47] ، ونقل إلى القبر الذي إما أن يكون روضة من رياض الجنة وإما أن يكون حفرة من حفر النار، وهو أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده، كل مرحلة بعد القبر تنسي التي قبلها، وهو ينسي كل ما مر على الإنسان في هذه الدنيا.

ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: ليلة يبيت مع الموتى ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة.

في هذه الليلة التي يبيت فيها الإنسان في القبر ولم يبت مع الموتى قبلها سيستحضر أنه كان في هذه الدنيا وأتيحت له الفرصة للنجاة، ولكنه فرط وقصر، فلهذا يقول أمثلهم طريقة: إن لبثتم إلا يوماً. يستقل ما أمضاه في هذه الدنيا من العمر، ويرى أنه وقت يسير جداً.

كذلك الندم الآخر عندما تعرض عليه صحائفه ويتذكر أنه كتبت أعماله كلها، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ[يس:12] .

إذا عرضت عليه هذه الصحائف فرأى أنه قد أتيحت له فرصة وعمر في هذه الدنيا، وكان بالإمكان أن يكون من الفائزين الناجحين الذين رجحت كفة حسناتهم على كفة سيئاتهم، وهو يرى تطاير الصحف، ويرى وزن الأعمال، ويرى مثاقيل الذر توزن بها الحسنات والسيئات، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه[الزلزلة:7-8] .

إذا رأى ذلك فسيندم، كما قال الشاعر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أجدك لم تسمع وصاة محمد رسول الإله حين أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للموت الذي كان أرصدا

ولهذا فإن تذكر الإنسان للموت مما يعينه على صرف الشواغل التي تشغله عن استغلال العمر في طاعة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها؛ فإنها تذكركم الآخرة).

والإنسان محتاج إلى أن يتذكر ساعة الانتقال وهو محمول على الرقاب إلى الدار الآخرة، وإذا تذكر ذلك فإن هذا مدعاة لأن يستغل هذه الفرصة قبل أن يحمل على الرقاب، يستغلها فيما ينجيه ويقربه، وهو يتذكر أحوال أولئك الذين ساروا وانقطعوا عن هذه الدنيا وانتقلوا وتركوا ما خولهم الله وراء ظهورهم ولم يصحبوا منه شيئاً، كما قال تعالى: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ[الأنعام:94] .

يتذكر حال أولئك وهو يعلم حرص كثير منهم، وأنهم اليوم في قبورهم يتمنون الرجوع إلى هذه الدنيا لحظة واحدة ليحسنوا العمل ويبدلوا ما كانوا يعملونه من شر ويغيروه ويتوبوا إلى الله، فيحسنوا فيما بقي من هذه الدنيا.

ولهذا فإن كثيراً من الصالحين كان يتصور نفسه محمولاً على الرقاب إلى الدار الآخرة، فيبادر غاية المبادرة لاستغلال بقية العمر، وبعضهم كان يحفر قبراً أمامه حتى يراه، ويستحضر أن هذا القبر هو الذي سيدفن فيه، فيبادر لاستغلال الفرصة قبل أن يدفن في هذا القبر، وكذلك بعضهم كان يستحضر قصص السالفين الذين أدرك موتهم، فالإنسان يشهد كثيراً من الناس قد حسنت خواتمهم، وانتقلوا من هذه الدنيا انتقالاً مشرفاً، ويشهد آخرين -نسأل الله السلامة والعافية- قد أخذوا في حال الغفلة، قد جاءهم الموت في الوقت الذي لا يرتضون مجيئه فيه، فانتقلوا وهم منغمسون في أوساخ الدنيا ووحلها وما فيها، وهم في غفلة كاملة عما أمامهم، فإذا جاء الموت ارتفع عنهم هذا، وصاروا كأنما كانوا في غفلة شديدة، فأزيل الغشاء عن أبصارهم، كما قال تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ* وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ* وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22] .

ولقد صح أن كثيراً منهم كانوا إذا ذكروا ذلك الحال وتذكروا خواتم الناس وانتقالهم يشعرون بزاد يتزودون به، ويشعرون بقوة خارقة فيما يتعلق بعبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته، فيجدون وقوداً ينطلقون به في طريقهم.

حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه حجته الأخيرة في حياته، فلما خرج من مكة وقف على جبل اسمه (ضجنان)، فقال: (لا إله إلا الله وحده! كنت أرعى إبلاً للخطاب على ضجنان، فكنت إذا أبطأت ضربني وقال: ضيعت. وإذا عجلت ضربني وقال: لم تعش. ولقد أصبحت وأمسيت وليس بيني وبين الله أحد أخشاه. ثم أنشأ يقول:

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد

لم تغن عن قيصر يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح له والجن والإنس فيما بينها تفد

أين الملوك التي كانت لعزتها من كل صوب إليها وافد يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب لا بد من ورده يوماً كما وردوا

وكذلك فإن كثيراً منهم كان إذا أحس بالغفلة انتسب، أي: ذكر من مضوا من أسلافه، فوجد أن كل من سبقه من أفراد أسرته ومن عمود نسبه قد انتقلوا إلى الدار الآخرة، وأنه هو قد بقي على الأثر، فإما أن ينتقل في الصباح أو في المساء وهو سائر على طريقهم، فيعينه هذا على استغلال الفرصة قبل فوات الأوان، ولقد صدق القائل:

هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب

وقال آخر:

ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأن ما قد كان لم يك كانا

يا من لشيخ قد تطاول عهده وأفنى ثلاث عمائم ألوانا

سوداء حالكة وسحق مفوف وأشد ثوباً بعد ذاك هجانا

والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يعنى بذاك سوانا

إن فرصة التعمير في هذه الدار فرصة لا تعوض، والشواغل التي تشغل الإنسان وتجعله يضيع عمره في غير طائل كثيرة جداً، من أعظمها خمسة، هي أعداء الإنسان التي تحيط به.

العدو الأول: الشيطان الرجيم

قال الله فيه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً[فاطر:6] .

ومشكلة الشيطان والناس أن الناس يصدقون الخبر ولا يمتثلون الأمر، فهذه الآية متضمنة لخبر وأمر، فقوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ[فاطر:6] هذا خبر يصدقه كل الناس، والأمر: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً[فاطر:6] ، هذا أمر لا يعمل به إلا قليل من الناس، فإذا تذكر كل واحد منا أن الشيطان عدو له علم أن العدو لا بد أن يبذل الإنسان في سبيل عداوته شيئاً؛ إذ لا يمكن أن تستشعر أن هذا الشخص عدو لك ولا تبذل أي شيء في سبيل عداوته وضرره.

إن عداوتك للشيطان هي بعداوتك لآرائه وما يلقيه عليك، ووسوسته وشبهه، وكذلك بعداوتك لحزبه الذين يصدون عن سبيل الله.

العدو الثاني: النفس الأمارة بالسوء

قال الله فيها: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ[يوسف:53] .

والنفوس التي تجبل على طول الأمل وعلى العدول إلى الراحة والطمأنينة تغر الإنسان بنفسه، وتجعله يضيع الفرص النادرة، فهي عدو من هذا القبيل، ولهذا حذر الله من غوائلها، وحقوق النفس على الإنسان ثلاثة: هي الانتصار منها للغير، وترك الانتصار لها، والخوف من غوائلها.

ثلاثة حقوق من جمعها أدى حقوق نفسه.

أولها: ترك الانتصار لها، فإذا زينت لك أنك قد اعتدي على حقوقك، وأنك لا بد أن تدافع عن نفسك وأن تأخذ حقك كاملاً فاعلم أن هذا هو عين الغرور، وأنها إنما تغرك بذلك، فهذا غرور وليس صواباً ولا حقاً، فلا تصدقها في ذلك.

ثانيها: الانتصار منها للغير، أن تأخذ منها الحقوق للآخرين كاملة غير منقوصة، وإذا لم تفعل ذلك كنت مطففاً، والله تعالى يقول: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:1-6] .

وقد قال مالك رحمه الله في الموطأ: يقال: لكل شيء وفاء وتطفيف. أي: كل شيء أياً كان فيه وفاء وتطفيف.

العدو الثالث: إخوان السوء

هم الذين لا يعينون الإنسان على دين ولا دنيا، وهم أخلاؤه الذين يشغلونه عن طاعة الله، ويلهونه بما لا يرضي الله، فهم أعداء له يقتطعون جزءاً من وقته في غير طائل، ولذلك قال الله تعالى: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ[الزخرف:67] .

ويقول تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يَا وَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً* لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً[الفرقان:27-29] .

والإخوان ثلاثة أقسام: القسم الأول: أخ كالغذاء لا تستغني عنه أبداً، وهو الذي يعينك على أمر دينك ودنياك.

القسم الثاني: أخ كالدواء تحتاج إليه في بعض الأحيان، ولكن لا ينبغي أن تكثر منه، وهو الذي يعينك على أمور دنياك فقط.

القسم الثالث: أخ كالداء، لا يعينك على دين ولا على دنيا، وإنما يقتطع جزءاً من عمرك فيضيعه عليه.

ولهذا يقول أحد العلماء:

الناس منهم دواء فاتخذه له إليه تحتاج أحياناً فأحيانا

ومنهم كالغذاء الدهر تطلبه فلست عنه غنياً أينما كانا

وكم أخاً لست محتاجاً له أبداً كالداء يشقى به الإنسان أزمانا

العدو الرابع: الأهل والأموال والأقارب

إن الإنسان قد يلهى بهم ويشغل فيفتن بهم، كما قالت الأعراب: شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا[الفتح:11] ، والله سبحانه وتعالى حذر من أن بعض هؤلاء من هو عدو للإنسان، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ[التغابن:14] ، وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ[التغابن:15] .

والله تعالى يقول: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35] ، وعلى هذا فكثيراً ما يبتلى الإنسان بما يشغله عن ذكر الله من الأهل والأموال، فيكون ذلك ملهاة له عن ذكر الله، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ[المنافقون:9] ، قد خسروا لأن العلاقة بهؤلاء منقطعة يوم القيامة، والمتاع في هذه الدنيا قليل يسير؛ لأنها دار الغرور، ولذلك فبقاء الإنسان مع أهله وماله في هذه الدنيا محصور، وانتفاعه منهم يسير، وهو منتقل إلى دار البقاء والخلود، فلهذا عليه أن لا يغتر بوجود هؤلاء.

العدو الخامس: مفاتن هذه الدنيا وشهواتها

إن للدنيا زخرفاً يجذب النفوس، وتميل وراءه العيون والطباع، وهذا ما نبه الله عليه في قوله: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى[طه:131-132] .

ونبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على خطر هذه الدنيا ومفاتنها فيما أخرج عنه البخاري و مسلم في الصحيحين أنه قال: (إن أخوف ما أخافه عليكم ما ستجدون بعدي من زهرة الدنيا، فإنها خضرة حلوة، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر، فإنها رتعت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت).

فهؤلاء الأعداء الخمسة الذين يحيطون بالإنسان، وهم الشواغل التي تصرف الإنسان عن أن يستغل عمره وأن ينتهز الفرصة لإنقاذ نفسه ولنجاته من الموقف عندما يعرض على الله.

ولذلك يقول المختار بن بُنى رحمه الله تعالى:

للإنسان شيطان ونفس وحظها ودنيا وإخوان حميتهم خطر

ولله فضل لا يزال ورحمة ومنّ وتوفيق وعفو لمن وزر

إلهي اكفنا الخمس التي في اتباعها هلاك وعاملنا بخمستك الأخر

ثم إن فوات الأوان يأتي بالتدريج والتقصير؛ لأن العمر لا يراه الإنسان وحدة متكاملة، وإنما هو أيام وليال وساعات وثوان تمضي بالتدريج، وكل يوم يمر هو عمر بكامله ينقضي؛ لأن أمس الدابر أمره لا يعود، بل يختم على عمله.

ولهذا ينادي المنادي إذا انصدع المنذر وقت طلوع الفجر فيقول: يا ابن آدم! إن أمسي قد ذهب بما فيه، وختم على أعمالي، وإنك أمامك الغد فاجتهد فيه.

ولهذا يقول أحد العلماء:

أقبل على صلواتك الخمس كم مصبح وعساه لا يمسي

واستقبل اليوم الجديد بتوبة تمحو ذنوب صحيفة الأمس

فليفعلن بوجهك الغض البلى فعل الظلام بصورة الشمس

وهذا التدريج الحاصل في الوقت بين الله سبحانه وتعالى حكمته في قوله: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً[الفرقان:61-62] ، فالليل والنهار جعلهما الله تعالى خلفة يتعاقبان، فمن لم يزعه النهار ولم يذكره بالتوبة فإن الليل كفيل بذلك، ومن لم يزعه الليل ولم يذكره بالتوبة فإن النهار كفيل بذلك، والله سبحانه وتعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.

قال الله فيه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً[فاطر:6] .

ومشكلة الشيطان والناس أن الناس يصدقون الخبر ولا يمتثلون الأمر، فهذه الآية متضمنة لخبر وأمر، فقوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ[فاطر:6] هذا خبر يصدقه كل الناس، والأمر: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً[فاطر:6] ، هذا أمر لا يعمل به إلا قليل من الناس، فإذا تذكر كل واحد منا أن الشيطان عدو له علم أن العدو لا بد أن يبذل الإنسان في سبيل عداوته شيئاً؛ إذ لا يمكن أن تستشعر أن هذا الشخص عدو لك ولا تبذل أي شيء في سبيل عداوته وضرره.

إن عداوتك للشيطان هي بعداوتك لآرائه وما يلقيه عليك، ووسوسته وشبهه، وكذلك بعداوتك لحزبه الذين يصدون عن سبيل الله.

قال الله فيها: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ[يوسف:53] .

والنفوس التي تجبل على طول الأمل وعلى العدول إلى الراحة والطمأنينة تغر الإنسان بنفسه، وتجعله يضيع الفرص النادرة، فهي عدو من هذا القبيل، ولهذا حذر الله من غوائلها، وحقوق النفس على الإنسان ثلاثة: هي الانتصار منها للغير، وترك الانتصار لها، والخوف من غوائلها.

ثلاثة حقوق من جمعها أدى حقوق نفسه.

أولها: ترك الانتصار لها، فإذا زينت لك أنك قد اعتدي على حقوقك، وأنك لا بد أن تدافع عن نفسك وأن تأخذ حقك كاملاً فاعلم أن هذا هو عين الغرور، وأنها إنما تغرك بذلك، فهذا غرور وليس صواباً ولا حقاً، فلا تصدقها في ذلك.

ثانيها: الانتصار منها للغير، أن تأخذ منها الحقوق للآخرين كاملة غير منقوصة، وإذا لم تفعل ذلك كنت مطففاً، والله تعالى يقول: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:1-6] .

وقد قال مالك رحمه الله في الموطأ: يقال: لكل شيء وفاء وتطفيف. أي: كل شيء أياً كان فيه وفاء وتطفيف.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4830 استماع
بشائر النصر 4289 استماع
أسئلة عامة [2] 4132 استماع
المسؤولية في الإسلام 4060 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 4000 استماع
نواقض الإيمان [2] 3947 استماع
عداوة الشيطان 3934 استماع
اللغة العربية 3931 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3907 استماع
القضاء في الإسلام 3897 استماع