إنكار المنكر


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقول الله تبارك وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] ويقول الله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري: {من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}.

أيها الإخوة: حول هذا الموضوع ألقي الضوء على مجموعة من النقاط المهمة، وإن كان الوقت لا يتسع لكل ما يتعلق به.

فأولاً: ما هو المقياس، في معرفة المعروف والمنكر؟

كيف يعرف الإنسان المعروف من المنكر؟

المعروف: مأخوذ من المعرفة، وهي في أصل اللغة العربية: اسم لما يعرفه القلب ويطمئن إليه وتسكن له النفس، ولذلك سمي المعروف معروفاً لأن النفوس تألفه وتسكن إليه، وتطمئن إليه، وهو اسم جامع لكل ما يحبه الله من طاعته والإحسان إلى عباده.

والمنكر: هو اسم لما تنكره النفوس وتنبو عنه، وتشمئز منه ولا تعرفه، فهو ضد المعروف، وهو أيضاً اسم جامع لكل ما عرف بالشرع والعقل قبحه، من معصية الله تعالى وظلم عباده.

عرف الناس متقلب

ومن خلال هذين التعريفين الموجزين تلاحظون:

أولاً: أن المقياس في معرفة المعروف والمنكر ليس هو عرف الناس وتقاليدهم والأمر الشائع بينهم، فإن عرف الناس متقلب، وقد يعرف الناس اليوم شيئاً ويألفونه ويعتادون عليه، وينكرونه غداً، وقد ينكرون اليوم شيئاً ويقومون ضده ثم يستسلمون له غداً ويألفونه ويعملون به، فالمقياس في تحديد المعروف والمنكر هو الشرع وليس العرف، وكم جرى في أعراف الناس من المنكرات الكبيرة.

أرأيت -مثلاً- إعفاء اللحية إنه معروف في عرف الشرع، أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة وابن عمر وغيرهما في الصحيح، لكن قد يشيع عند الناس ضد ذلك من إزالة الشعور وحلقها، فيصبح إعفاء اللحية في بعض البيئات والمجتمعات، أمراً منكراً مستغرباً، لم يعتده الناس ولم يألفوه.

أرأيت تشمير الثياب ورفعها إلى ما فوق الكعبين أو إلى منتصف الساق أو إلى ما دون الركبة، هذا أمر ثبت في الشرع، ولكن كثيراً من المجتمعات لا تعرف هذا الأمر، إنما تعرف إطالة الثياب وإرخاءها وإسبالها، خاصة في الرجال، أما النساء فعلى العكس من ذلك، فإذا رأوا رجلاً قد رفع ثوبه إلى نصف الساق أو دون ذلك أو فوقه؛ بدأوا يتغامزون ويتناظرون وقد يتضاحكون، فهذا معروف بالشرع، لكنه منكر في بعض البيئات والمجتمعات.

أرأيت احتجاب المرأة هو أمر عرف بالشرع قرآناً وسنة أنه ثابت ومعروف، لكن قد يجهل بعض المسلمين هذا الأمر في بعض المجتمعات، فإذا رأوا امرأة قد تسترت وتحجبت، ضحكوا منها! وقالوا: ما شأن هذه المرأة تمشي وكأنها خيمة؟

وكما قال بعضهم، وقال آخرون: هذه المرأة إنما تسترت لأنها دميمة، فتريد أن تستر قبحها عن الناس.

في مثل تلك المجتعمات أصبح منكراً يستغرب فاعله، وعلى الضد من ذلك، كم من منكر أصبح مألوفاً ومعروفاً في بعض المجتمعات.

الغناء -مثلاً- حين يقوم إنسان يحرم الغناء ويذكر الأحاديث الصريحة فيه، تجد كثيراً من الناس يفغرون أفواههم ويفتحون عيونهم مستغربين! هذا الغناء الذي نسمعه في الإذاعات وأجهزة التلفاز وأشرطة التسجيل، وربما يسمعون -أحياناً- من بعض المنتسبين إلى العلم من يبيحه، لا يقع في آذانهم قط أنه منكر، بل قد ألفوه وعرفته نفوسهم وسكنت إليه، فصار في عرفهم معروفاً، وهو في الشرع منكر.

أرأيت الربا الذي شاع وذاع بين المسلمين في بنوكهم وصارفهم ومؤسساتهم حتى لا يكاد يخلو منه إلا القليل، وأصبح الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري: {يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء فيما أخذ من حلال أو من حرام؟} حين يتحدث الإنسان عن تحريمه، أو عن تحريم بعض صوره الشائعة عند الناس، تجد كثيرين منهم يفاجئون ويستغربون، وقد يرمون هذا المتحدث بالعظائم؛ لأنه يستنكر أمراً ألفوه وعرفوه واطمأنت إليه نفوسهم، فصاروا لا يظنون إلا أنه عين المعروف، وهو في الشرع منكر.

أرأيت الصور، وخاصة الصور الخليعة من صور النساء الفاتنات التي انتشرت بين المسلمين اليوم عبر الكتاب والمجلة والشريط والمسرحية، أو التمثيلية، أو غيرها.. هذه الصور التي أصبحت تقابل عين الإنسان في الطائرة، في السيارة، في البقالة، في البيت، في السوق، في المدرسة، في كل مكان، حين ينشأ عليها الإنسان ويألفها تصبح عادية في نظره، وحين يسمع إنساناً يقول: إن النظر إلى صور النساء في المجلات والأفلام وغيرها لا يجوز! يستغرب ذلك، ويقول: هذا مسكين، إن الناس اليوم يعانون من النظر إلى الفواحش والمشاهد الجنسية المؤذية واللقطات.

ولا أقول -كما يقول بعض المتفائلين-: المخلة بالحياء، بل اللقطات التي تقضي على الحياء وتئده، وتراهم يقولون: الناس مشغلون بهذه الأشياء بينما هذا الإنسان لا زال يتحدث، عن منع النظر إلى الصور، صارت القضية معروفة عند كثير من الناس، لماذا؟

لأن القضية انتشرت وذاعت وشاعت، فأصبحت تقابل الإنسان في كل مكان فتَطبَّعَ عليها واعتادها، وأصبح لا يستنكرها.

وهكذا تبرج النساء والاختلاط وغير ذلك من المنكرات، قد يعتادها الناس في مجتمع ما، فتصبح في عرفهم معروفاً، لكن عرف الناس لا يغير الشرع، ولهذا ينبغي أن نلاحظ من خلال تعريف المعروف والمنكر، أن المعروف: هو ما عرف بالشرع والعقل حسنه، لأن كل ما جاء به الشرع فالعقل يدل عليه، كل ما جاء الشرع بتحسينه، فالعقل يدل على تحسينه، العقل السليم والفطرة السليمة، وأن المنكر: هو كل ما دل الشرع والعقل على قبحه وفساده، وكل ما جاء الشرع بتقبيحه، فالعقل يدل على تقبيحه.

أما أعراف الناس فلا عبرة بها؛ لأن أعراف الناس قد تصبح سقيمة في وقت من الأوقات، فترى المنكر معروفاً والمعروف منكراً.

الأمر الآخر الذي يلاحظ من خلال هذه التعريف، أن الأصل في المجتمع المسلم أنه يعرف المعروف ويقره ويرضاه ويأمر به، وأنه ينكر المنكر ويرفضه ويأباه وينهى عنه، هذا هو المجتمع السليم.

الأصل في المجتمع المسلم معرفة المعروف وإنكار المنكر

وإذا أردت أن تعرف مدى سلامة مجتمع ما أو فساده، فطبق عليه هذه القاعدة: إذا وجدت هذا المجتمع يشمئز من المنكرات، فينكرها ويحاربها، فهذا دليل على سلامته في الجملة، فإذا أُشْرِب هذه المنكرات وتقبلها بسهولة، فاعرف أنه مجتمع منحل.

ولذلك كان أسلم المجتمعات هو مجتمع الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا يعرفون المعروف وينكرون المنكر، ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الأثر الصحيح الذي رواه الحاكم وغيره قال: [[ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح]].

ثم ضرب لذلك مثلاً بأن المسلمين -أعني الصحابة-، اتفقوا على اختيار أبي بكر للخلافة، فحينئذ عُلم أن هذا أمر يحبه الله ويرضاه، ولهذا أصبح من جملة عقائد أهل السنة والجماعة تفضيل أبي بكر على من عداه من الصحابة، والإقرار بأنه أول الخلفاء الراشدين، ومن بعده عمر كذلك، ثم عثمان ثم علي، هذا مثال لهذه القاعدة.

ولهذا أجمع المسلمون على قبول إجماع الصحابة رضي الله عنهم وأنه حجة فيما بينهم وبين الله، فإذا اتفق الصحابة على أمر، أصبح المسلمون من بعدهم متعبدين بهذا الأمر وهو من ضمن الأدلة الشرعية، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين.

ولذلك كان الإمام مالك رحمه الله يأخذ بعمل أهل المدينة، فما وجد عليه عمل أهل المدينة في القرن الأول اعتبره من ضمن الأدلة الشرعية، وهذا أصل خاص بالإمام مالك، وكان رحمه الله يفسر ذلك بأن عمل أهل المدينة إنما هو على النبوة.

أما عمل الأمصار الأخرى فإنه على أوامر الملوك، وكذلك المجتمعات الخالفة من بعدهم، ما كان من هذه المجتمعات يقبل المعروف ويرضى به ويدعو إليه، فهو مجتمع سليم، وما كان يرفض المعروف ويأباه ويقر المنكر فهو منحرف.

وحين تلقي نظرة تحاول أن تطبق فيها هذه القاعدة على المجتمعات الإسلامية اليوم، تجد أن هذه المجتمعات بلا شك تتفاوت تفاوتاً كبيراً، ولكن يغلب على هذه المجتمعات في الجملة، أنها تتقبل المنكرات وتألفها وتنتشر بين أفرادها بشكل سريع ذريع، ما أسرع -مثلاً- ما تنتشر الموضات والأزياء الأجنبية في أوساط النساء، بمجرد ظهور مغنية أو ممثلة أو فاجرة أو داعرة بزي معين، لا يمر غير وقت قصير إلا وتجد هذا الزي قد شاع وذاع، وأصبحت نساء المؤمنين تتبارى عليه، وتتنافس فيه، وما إن تظهر مغنية أو ممثلة أو داعرة بتسريحة معينة من تسريحات الشعر، إلا وتجد المسلمات خلفها يطبقن ما رأين تطبيقاً دقيقاً أميناً، وما إن تجد شباب الغرب، يسيرون خلف تقليد من التقاليد، إلا وسرعان ما ينتشر بين شباب المسلمين.

هل نعتقد أن الظواهر التي نلاحظها في شبابنا اليوم في ملابسهم، في طريقة شعورهم، في طريقة تصليحهم لسياراتهم، في بعض الظواهر التي قد تشيع -أحياناً- بين الشباب، هل نعتقد أنها نشأت من فراغ؟

كلا، إنها أشياء يلاحظونها في المجتمعات الكافرة، سواء حين يسافرون إلى تلك المجتمعات ويشاهدونها عياناً، أو من خلال الأفلام والمسرحيات التي تعرض الأوبئة الموجودة في بلاد الروم أمام أعين نظارة المسلمين، وقد تكون -أحياناً- نوعاً من الخدع في التصوير، فيغتر بها شبابنا ويطبقونها مثلما يقع في ما كان منتشراً ما يسمى بعملية (التفحيط) وغيرها! هل نعتقد أن انتشار هذه الأشياء، أمر طبيعي؟

كلا، إنه يدل على وجود فراغ في عقول ونفوس هؤلاء المسلمين، وانحراف يجعلها قابلة للمنكر.

الجاهلية النسبية

ومع ذلك فإن هذه المجتمعات، لا يمكن القول بأنها مجتمعات جاهلية مطلقاً -كما يقول بعض العلماء والمفكرين المسلمين- لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أنه لا يزال في المسلمين من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال الله عز وجل: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181] وهذه آية عامة شاملة، وقد بينها الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الكثيرة التي منها الحديث المتواتر: {أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة منصورة -وإنما سماها منصورة لأنها مجاهدة، فالنصر من ثمرات الجهاد، وهي تجاهد على أمر الله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله ولا يضرها من خذلها ولا من خالفها}.

ولذلك لا يمكن القول بوجود جاهلية مطبقة في الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، في زمان ما إلا قبيل قيام الساعة، حين يبعث الله تعالى الريح الطيبة، فلا تدع أحداً في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان إلا قبضته، فحينئذٍ يبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر، ويتسافدون تسافد الحمر، يفعلون الفواحش على قارعة الطريق، وأفضل إنسان في ذلك الوقت إذا جاء وهم يفعلون الفاحشة، قال: يا فلان لو اعتزلتم الطريق، لو ما فعلتم الفاحشة في وسط الطريق على الأقل اعتزلوا هذا الطريق، وهؤلاء تقوم عليهم الساعة.

وهنا تلاحظون سراً عظيماً من أسرار هذه الشريعة، هذا السر هو: أن الله عز وجل، أنـزل القرآن، وبعث الرسل، وأوجد هذه الكعبة، وأبقى هذه الطائفة المنصورة، لتحقيق الحجة على الناس، وإقامة الدين والشعائر، فإذا تعطلت منافع هذه الأشياء أذن الله بزوالها، وحينئذٍ يبعث الله ذا السويقتين، من الحبشة، فيهدم الكعبة ويستخرج كنـزها، لأنه لم يعد من يحج ولا يعتمر ولا يصلي إلى الكعبة، ويرفع الله هذا القرآن من المصاحف وصدور الرجال حتى لا يبقى في الأرض منه آية، ويبعث الله ريحاً طيبة فتقبض أرواح المؤمنين، الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، لأنه لم يعد يوجد من يسمع لهم ولا من يستجيب، وبعد ذلك تقوم الساعة، المقصود أن مجتمعات المسلمين لا يزال فيها من يهدي بالحق، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

ومن خلال هذين التعريفين الموجزين تلاحظون:

أولاً: أن المقياس في معرفة المعروف والمنكر ليس هو عرف الناس وتقاليدهم والأمر الشائع بينهم، فإن عرف الناس متقلب، وقد يعرف الناس اليوم شيئاً ويألفونه ويعتادون عليه، وينكرونه غداً، وقد ينكرون اليوم شيئاً ويقومون ضده ثم يستسلمون له غداً ويألفونه ويعملون به، فالمقياس في تحديد المعروف والمنكر هو الشرع وليس العرف، وكم جرى في أعراف الناس من المنكرات الكبيرة.

أرأيت -مثلاً- إعفاء اللحية إنه معروف في عرف الشرع، أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة وابن عمر وغيرهما في الصحيح، لكن قد يشيع عند الناس ضد ذلك من إزالة الشعور وحلقها، فيصبح إعفاء اللحية في بعض البيئات والمجتمعات، أمراً منكراً مستغرباً، لم يعتده الناس ولم يألفوه.

أرأيت تشمير الثياب ورفعها إلى ما فوق الكعبين أو إلى منتصف الساق أو إلى ما دون الركبة، هذا أمر ثبت في الشرع، ولكن كثيراً من المجتمعات لا تعرف هذا الأمر، إنما تعرف إطالة الثياب وإرخاءها وإسبالها، خاصة في الرجال، أما النساء فعلى العكس من ذلك، فإذا رأوا رجلاً قد رفع ثوبه إلى نصف الساق أو دون ذلك أو فوقه؛ بدأوا يتغامزون ويتناظرون وقد يتضاحكون، فهذا معروف بالشرع، لكنه منكر في بعض البيئات والمجتمعات.

أرأيت احتجاب المرأة هو أمر عرف بالشرع قرآناً وسنة أنه ثابت ومعروف، لكن قد يجهل بعض المسلمين هذا الأمر في بعض المجتمعات، فإذا رأوا امرأة قد تسترت وتحجبت، ضحكوا منها! وقالوا: ما شأن هذه المرأة تمشي وكأنها خيمة؟

وكما قال بعضهم، وقال آخرون: هذه المرأة إنما تسترت لأنها دميمة، فتريد أن تستر قبحها عن الناس.

في مثل تلك المجتعمات أصبح منكراً يستغرب فاعله، وعلى الضد من ذلك، كم من منكر أصبح مألوفاً ومعروفاً في بعض المجتمعات.

الغناء -مثلاً- حين يقوم إنسان يحرم الغناء ويذكر الأحاديث الصريحة فيه، تجد كثيراً من الناس يفغرون أفواههم ويفتحون عيونهم مستغربين! هذا الغناء الذي نسمعه في الإذاعات وأجهزة التلفاز وأشرطة التسجيل، وربما يسمعون -أحياناً- من بعض المنتسبين إلى العلم من يبيحه، لا يقع في آذانهم قط أنه منكر، بل قد ألفوه وعرفته نفوسهم وسكنت إليه، فصار في عرفهم معروفاً، وهو في الشرع منكر.

أرأيت الربا الذي شاع وذاع بين المسلمين في بنوكهم وصارفهم ومؤسساتهم حتى لا يكاد يخلو منه إلا القليل، وأصبح الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري: {يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء فيما أخذ من حلال أو من حرام؟} حين يتحدث الإنسان عن تحريمه، أو عن تحريم بعض صوره الشائعة عند الناس، تجد كثيرين منهم يفاجئون ويستغربون، وقد يرمون هذا المتحدث بالعظائم؛ لأنه يستنكر أمراً ألفوه وعرفوه واطمأنت إليه نفوسهم، فصاروا لا يظنون إلا أنه عين المعروف، وهو في الشرع منكر.

أرأيت الصور، وخاصة الصور الخليعة من صور النساء الفاتنات التي انتشرت بين المسلمين اليوم عبر الكتاب والمجلة والشريط والمسرحية، أو التمثيلية، أو غيرها.. هذه الصور التي أصبحت تقابل عين الإنسان في الطائرة، في السيارة، في البقالة، في البيت، في السوق، في المدرسة، في كل مكان، حين ينشأ عليها الإنسان ويألفها تصبح عادية في نظره، وحين يسمع إنساناً يقول: إن النظر إلى صور النساء في المجلات والأفلام وغيرها لا يجوز! يستغرب ذلك، ويقول: هذا مسكين، إن الناس اليوم يعانون من النظر إلى الفواحش والمشاهد الجنسية المؤذية واللقطات.

ولا أقول -كما يقول بعض المتفائلين-: المخلة بالحياء، بل اللقطات التي تقضي على الحياء وتئده، وتراهم يقولون: الناس مشغلون بهذه الأشياء بينما هذا الإنسان لا زال يتحدث، عن منع النظر إلى الصور، صارت القضية معروفة عند كثير من الناس، لماذا؟

لأن القضية انتشرت وذاعت وشاعت، فأصبحت تقابل الإنسان في كل مكان فتَطبَّعَ عليها واعتادها، وأصبح لا يستنكرها.

وهكذا تبرج النساء والاختلاط وغير ذلك من المنكرات، قد يعتادها الناس في مجتمع ما، فتصبح في عرفهم معروفاً، لكن عرف الناس لا يغير الشرع، ولهذا ينبغي أن نلاحظ من خلال تعريف المعروف والمنكر، أن المعروف: هو ما عرف بالشرع والعقل حسنه، لأن كل ما جاء به الشرع فالعقل يدل عليه، كل ما جاء الشرع بتحسينه، فالعقل يدل على تحسينه، العقل السليم والفطرة السليمة، وأن المنكر: هو كل ما دل الشرع والعقل على قبحه وفساده، وكل ما جاء الشرع بتقبيحه، فالعقل يدل على تقبيحه.

أما أعراف الناس فلا عبرة بها؛ لأن أعراف الناس قد تصبح سقيمة في وقت من الأوقات، فترى المنكر معروفاً والمعروف منكراً.

الأمر الآخر الذي يلاحظ من خلال هذه التعريف، أن الأصل في المجتمع المسلم أنه يعرف المعروف ويقره ويرضاه ويأمر به، وأنه ينكر المنكر ويرفضه ويأباه وينهى عنه، هذا هو المجتمع السليم.

وإذا أردت أن تعرف مدى سلامة مجتمع ما أو فساده، فطبق عليه هذه القاعدة: إذا وجدت هذا المجتمع يشمئز من المنكرات، فينكرها ويحاربها، فهذا دليل على سلامته في الجملة، فإذا أُشْرِب هذه المنكرات وتقبلها بسهولة، فاعرف أنه مجتمع منحل.

ولذلك كان أسلم المجتمعات هو مجتمع الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا يعرفون المعروف وينكرون المنكر، ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الأثر الصحيح الذي رواه الحاكم وغيره قال: [[ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح]].

ثم ضرب لذلك مثلاً بأن المسلمين -أعني الصحابة-، اتفقوا على اختيار أبي بكر للخلافة، فحينئذ عُلم أن هذا أمر يحبه الله ويرضاه، ولهذا أصبح من جملة عقائد أهل السنة والجماعة تفضيل أبي بكر على من عداه من الصحابة، والإقرار بأنه أول الخلفاء الراشدين، ومن بعده عمر كذلك، ثم عثمان ثم علي، هذا مثال لهذه القاعدة.

ولهذا أجمع المسلمون على قبول إجماع الصحابة رضي الله عنهم وأنه حجة فيما بينهم وبين الله، فإذا اتفق الصحابة على أمر، أصبح المسلمون من بعدهم متعبدين بهذا الأمر وهو من ضمن الأدلة الشرعية، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين.

ولذلك كان الإمام مالك رحمه الله يأخذ بعمل أهل المدينة، فما وجد عليه عمل أهل المدينة في القرن الأول اعتبره من ضمن الأدلة الشرعية، وهذا أصل خاص بالإمام مالك، وكان رحمه الله يفسر ذلك بأن عمل أهل المدينة إنما هو على النبوة.

أما عمل الأمصار الأخرى فإنه على أوامر الملوك، وكذلك المجتمعات الخالفة من بعدهم، ما كان من هذه المجتمعات يقبل المعروف ويرضى به ويدعو إليه، فهو مجتمع سليم، وما كان يرفض المعروف ويأباه ويقر المنكر فهو منحرف.

وحين تلقي نظرة تحاول أن تطبق فيها هذه القاعدة على المجتمعات الإسلامية اليوم، تجد أن هذه المجتمعات بلا شك تتفاوت تفاوتاً كبيراً، ولكن يغلب على هذه المجتمعات في الجملة، أنها تتقبل المنكرات وتألفها وتنتشر بين أفرادها بشكل سريع ذريع، ما أسرع -مثلاً- ما تنتشر الموضات والأزياء الأجنبية في أوساط النساء، بمجرد ظهور مغنية أو ممثلة أو فاجرة أو داعرة بزي معين، لا يمر غير وقت قصير إلا وتجد هذا الزي قد شاع وذاع، وأصبحت نساء المؤمنين تتبارى عليه، وتتنافس فيه، وما إن تظهر مغنية أو ممثلة أو داعرة بتسريحة معينة من تسريحات الشعر، إلا وتجد المسلمات خلفها يطبقن ما رأين تطبيقاً دقيقاً أميناً، وما إن تجد شباب الغرب، يسيرون خلف تقليد من التقاليد، إلا وسرعان ما ينتشر بين شباب المسلمين.

هل نعتقد أن الظواهر التي نلاحظها في شبابنا اليوم في ملابسهم، في طريقة شعورهم، في طريقة تصليحهم لسياراتهم، في بعض الظواهر التي قد تشيع -أحياناً- بين الشباب، هل نعتقد أنها نشأت من فراغ؟

كلا، إنها أشياء يلاحظونها في المجتمعات الكافرة، سواء حين يسافرون إلى تلك المجتمعات ويشاهدونها عياناً، أو من خلال الأفلام والمسرحيات التي تعرض الأوبئة الموجودة في بلاد الروم أمام أعين نظارة المسلمين، وقد تكون -أحياناً- نوعاً من الخدع في التصوير، فيغتر بها شبابنا ويطبقونها مثلما يقع في ما كان منتشراً ما يسمى بعملية (التفحيط) وغيرها! هل نعتقد أن انتشار هذه الأشياء، أمر طبيعي؟

كلا، إنه يدل على وجود فراغ في عقول ونفوس هؤلاء المسلمين، وانحراف يجعلها قابلة للمنكر.

ومع ذلك فإن هذه المجتمعات، لا يمكن القول بأنها مجتمعات جاهلية مطلقاً -كما يقول بعض العلماء والمفكرين المسلمين- لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أنه لا يزال في المسلمين من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال الله عز وجل: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:181] وهذه آية عامة شاملة، وقد بينها الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الكثيرة التي منها الحديث المتواتر: {أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة منصورة -وإنما سماها منصورة لأنها مجاهدة، فالنصر من ثمرات الجهاد، وهي تجاهد على أمر الله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله ولا يضرها من خذلها ولا من خالفها}.

ولذلك لا يمكن القول بوجود جاهلية مطبقة في الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، في زمان ما إلا قبيل قيام الساعة، حين يبعث الله تعالى الريح الطيبة، فلا تدع أحداً في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان إلا قبضته، فحينئذٍ يبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر، ويتسافدون تسافد الحمر، يفعلون الفواحش على قارعة الطريق، وأفضل إنسان في ذلك الوقت إذا جاء وهم يفعلون الفاحشة، قال: يا فلان لو اعتزلتم الطريق، لو ما فعلتم الفاحشة في وسط الطريق على الأقل اعتزلوا هذا الطريق، وهؤلاء تقوم عليهم الساعة.

وهنا تلاحظون سراً عظيماً من أسرار هذه الشريعة، هذا السر هو: أن الله عز وجل، أنـزل القرآن، وبعث الرسل، وأوجد هذه الكعبة، وأبقى هذه الطائفة المنصورة، لتحقيق الحجة على الناس، وإقامة الدين والشعائر، فإذا تعطلت منافع هذه الأشياء أذن الله بزوالها، وحينئذٍ يبعث الله ذا السويقتين، من الحبشة، فيهدم الكعبة ويستخرج كنـزها، لأنه لم يعد من يحج ولا يعتمر ولا يصلي إلى الكعبة، ويرفع الله هذا القرآن من المصاحف وصدور الرجال حتى لا يبقى في الأرض منه آية، ويبعث الله ريحاً طيبة فتقبض أرواح المؤمنين، الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، لأنه لم يعد يوجد من يسمع لهم ولا من يستجيب، وبعد ذلك تقوم الساعة، المقصود أن مجتمعات المسلمين لا يزال فيها من يهدي بالحق، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

أما فيما يتعلق بالنقطة الثانية التي أحب الوقوف عندها، فهي: ضرورة الأمر والنهي، وباختصار فإن الأمر والنهي فطرة في نفس كل إنسان، حتى لو كان يعيش بمفرده معتزلاً الناس لا بد أن تأمره نفسه وتنهاه، فإما أن تأمره نفسه بالمعروف وتنهاه عن المنكر، أو تأمره بضد ذلك، ولهذا كان الناس يقولون: (نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر) وإذا اجتمع اثنان فلا بد أن يتآمرا ويتناهيا، وإذا اجتمع جمع من الناس، فالشأن كذلك، لكن لهم ثلاث حالات:-

الحالة الأولى: أن يتآمروا بالمعروف، ويتناهوا عن المنكر، وهذه هي الحالة التي وصف الله بها المؤمنين: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71].

الحالة الثانية: أن يأمروا بالمنكر، وينهوا عن المعروف، وهذه حال مَنْ؟

هذه حال المنافقين: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة:67].

الحالة الثالثة: هي خليط، يتآمرون بمعروف وبمنكر، ويتناهون عن بعض المعروف وعن بعض المنكر، فيقع منهم حق وباطل، ويلتبس هذا بهذا، وهذا حال المقصرين والعصاة والمسرفين على أنفسهم ونحوهم.

وتلاحظون في الآيتين السابقتين: التفريق بين المؤمنين والمنافقين، قال الله تعالى في شأن المؤمنين: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72] وقال في شأن المنافقين بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ[التوبة:67] وهذا في باب الرأي قد يتساءل الإنسان، كان الذي يتوقعه الإنسان أو يظنه ربما يسبق إلى ذهنة، أن علاقة المؤمنين بعضهم ببعض أمتن.

ولذلك قد يعبر عنها بـ(من) قال تعالى:وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] وأن علاقة المنافقين بعضهم ببعض أقل.

ولذلك يعبر عنها بـ(أولياء) لكن الله تعالى قال في محكم: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] وقال عن المنافقين بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التوبة:71] والسر في ذلك مما يظهر والله أعلم أن علاقة المؤمنين بعضهم ببعض ليست علاقة تناصر على الباطل، إنما هي علاقة اتفاق على الدين الذين يدينون به وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71].

ولذلك يتوالون فيه، أما المنافقون فهم لا يتوالون من أجل دين ولا من أجل عقيدة، وإنما يتوالون ويتناصرون بالباطل، فكلما ذهب بعضهم إلى شيء وافقه الآخرون عليه مهما كان، فلذلك قال تعالى: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التوبة:71].

والمقصود أن الأمر والنهي ضرورة بشرية، وكل إنسان لا بد أن يأمر وينهى ويُؤْمر ويُنْهى، إما بخير أو بشر أو بأمر مختلط من هذا وذاك، ولذلك يجب أن نعلم أن المجتمع إما أن ينتشر فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما أن تكون الأخرى وهي أن ينتشر فيه الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، أو الأمر ببعض المعروف وببعض المنكر، والنهي عن بعض المعروف وبعض المنكر.

غياب يترتب على غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وهذه قضية تلاحظونها، بعض الناس إذا رأوا غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اليوم في مجتمعات المسلمين يظنون أن المشكلة -فقط- هي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد انتهى أو ضعف، والواقع أن المشكلة مضاعفة، لأنه إذا ضعف الأمر بالمعروف قوي الأمر بالمنكر، وإذا ضعف النهي عن المنكر قوي النهي عن المعروف، والأمثلة التي أشرت إليه سابقاً تؤكد هذا الأمر.

حتى في السنن التي وضعها الله في المجتمعات (السنن الاجتماعية)، مثلاً: ربما أكون مثلت بموضوع التبرج والتستر، لنفترض أن مجتمعاً من المجتمعات، يحافظ على الشروط الإسلامية لحجاب المرأة ولباسها، فإذا وجدت امرأة أو اثنتان متبرجتان، وجدت المجتمع كله ضد هذه الظاهرة، يحاربها، حتى الذين قد يكون ليس لديهم دين، يحاربونها لأنها تعتبر ظاهرة شاذة في المجتمع، ولذلك سرعان ما تتلاشى هذه الظاهرة، لماذا؟

لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوي في هذا المجتمع، والغلبة هي لهما، لكن اعكس الصورة، وتصور مجتمعاً يشيع فيه التبرج كمجتمعات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وقد رأيناها وسمعنا عنها، تجد أن العرف السائد في المجتمع أن الفتاة تخرج إلى المدرسة، وإلى السوق، وإلى جميع أعمالها، وقد لبست ثوباً يظهر ذراعيها، وعضديها، وساقيها، فضلاً عن الوجه والشعر والرقبة والنحر، وهذا هو اللباس المعتاد الشائع، فإذا رأيت امرأة قد سترت شعرها، وذراعيها، وساقيها، اعتبرت هذا الأمر غير مألوف في ذلك المجتمع، تصور كم تعاني هذه المسلمة في مثل تلك المجتمعات؟!

كم تعاني من الكلام من الأبوين، من الزميلات في المدرسة، من القريبات، في المناسبات والزواجات، في الشارع كم تعاني؟!

تعاني الأمرين؛ لأنها تسبح ضد التيار -كما يقال- إذاً المجتمع له قوة، فإما أن تكون قوته أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وأخذاً على يد السفيه، أو تكون العكس، نهياً عن المعروف وأمراً بالمنكر.

وهذه قضية ينبغي أن ينتبه لها، إن المجتمعات لها خط بياني صاعد أو نازل، إذا نـزل المجتمع بدأ يهبط، لاحظ أن هبوطه لا يقف عند حد.

ولذلك شرع الإسلام موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهنا نلاحظ قضية في غاية الأهمية في هذا الموضوع، وهي أن أصل وجود المنكر قليل مُسْتَخْفٍ، هو أمر طبيعي مألوف، ليس بغريب، حتى في أفضل المجتمعات وأكثرها استقامة على أمر الله ورسوله: مجتمع الصحابة، وهو المقياس -كما أسلفت- ومع ذلك كان فيه المنافقون، الذين قال الله عنهم: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة:67] وكانوا موجودين، والمسلمون أنفسهم منهم من يواقع بعض المعاصي، وفي الصحيحين من ذلك أشياء.

مثل قصة الرجل الذي زنى، وهو ماعز بن مالك رضي الله عنه، فتاب توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، ومثله الغامدية التي جادت بنفسها لله عز وجل، ومثلهم الرجل الذي أصاب من امرأة ما دون الزنى، لكنها حالات نستطيع أن نقول عنها: إنها فردية، ولذلك فهي مستترة مستخفية.

ولذلك -أيضاً- انظر! كيف موقف الواقع في المنكر نفسه، ما أسرع ما يستيقظ ضميره، وما أسرع ما يتوب إلى الله عز وجل، ولا يحتاج إلى متابعة ورقابة، رقابته قلبه، خوفه من الله عز وجل، يقوده إلى أن يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! زنيت فطهرني، يعرض عنه الرسول ذات اليمين عليه الصلاة والسلام، ويأتي إليه من قبالة وجهه، يعرض عنه ذات الشمال يأتي إليه، أربع مرات في مجلس واحد: يا رسول، زنيت فطهرني، فيقول عليه الصلاة والسلام:بك جنون} هل هو سكران؟

لا هذا ولا ذاك، لم يقام عليه الحد.

وأعجب من ذلك المرأة! تشهد على نفسها بالزنا، ثم يأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم أن تذهب حتى تلد، لأنه عندما رأت أنه يريد أن يردها، قالت: لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، أي هي عارفة ما هو مصيرها، ما جاءت وهي لا تدري ماذا سيفعل الرسول عليه الصلاة والسلام بها، بل تعرف مصيرها، وأنها سترجم.

ثم تأتي وتقول: يا رسول، زنيت فطهرني، فترى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يردها وتقول: وهي تريد أن تقطع الطريق: يا رسول الله، كأنك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً، والله إني لحبلى من الزنى، قال عليه الصلاة والسلام: {أما لا، فاذهبي حتى تلدي} ذهبت تسعة أشهر، يمكن أن يقول قائل: لما جاءت أول مرة كانت حرارة الندم في قلبها، لكن تسعة أشهر وهي لا زالت يقظة الضمير، بعد تسعة أشهر تأتي بالصبي.

فيقول صلى الله عليه وسلم: {اذهبي حتى تفطميه} أيضاً ربما جلست سنتين أو أقل من ذلك، حتى فطمته، ومبالغة منها في إثبات أنها فطمته، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده كسرة خبز، وقالت: يا رسول الله! لقد فطمته، فيأمر بالصبي إلى بعض الأنصار ويرجمها، إن هذا يدل على قوة الإيمان في نفوسهم، أي: كانوا رجالاً حتى حين يقعون في المعصية، فيسارعون بالتوبة والإقلاع والندم، الذي يجعلهم يفعلون مثل هذه الأفعال.

إذاً: مجرد وجود معاصٍ قليلة مستترة أمر عادي، وبعضهم يشبهون هذا بما يقوله الأطباء والمراقبون على الصحة العامة، حينما يقولون: إن هذا المجتمع سليم من الأمراض، هل يقصدون أن هذا المجتمع جميع أفراده أصحاء (100%)، كلا! إنما يقصدون الأمراض العامة، والأوبئة الفتاكة والمعدية، وأنها ليست موجودة، أما وجود حالات مرضية فهو أمر طبيعي في أي مجتمع من المجتمعات.

وهذه قضية تلاحظونها، بعض الناس إذا رأوا غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اليوم في مجتمعات المسلمين يظنون أن المشكلة -فقط- هي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد انتهى أو ضعف، والواقع أن المشكلة مضاعفة، لأنه إذا ضعف الأمر بالمعروف قوي الأمر بالمنكر، وإذا ضعف النهي عن المنكر قوي النهي عن المعروف، والأمثلة التي أشرت إليه سابقاً تؤكد هذا الأمر.

حتى في السنن التي وضعها الله في المجتمعات (السنن الاجتماعية)، مثلاً: ربما أكون مثلت بموضوع التبرج والتستر، لنفترض أن مجتمعاً من المجتمعات، يحافظ على الشروط الإسلامية لحجاب المرأة ولباسها، فإذا وجدت امرأة أو اثنتان متبرجتان، وجدت المجتمع كله ضد هذه الظاهرة، يحاربها، حتى الذين قد يكون ليس لديهم دين، يحاربونها لأنها تعتبر ظاهرة شاذة في المجتمع، ولذلك سرعان ما تتلاشى هذه الظاهرة، لماذا؟

لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوي في هذا المجتمع، والغلبة هي لهما، لكن اعكس الصورة، وتصور مجتمعاً يشيع فيه التبرج كمجتمعات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وقد رأيناها وسمعنا عنها، تجد أن العرف السائد في المجتمع أن الفتاة تخرج إلى المدرسة، وإلى السوق، وإلى جميع أعمالها، وقد لبست ثوباً يظهر ذراعيها، وعضديها، وساقيها، فضلاً عن الوجه والشعر والرقبة والنحر، وهذا هو اللباس المعتاد الشائع، فإذا رأيت امرأة قد سترت شعرها، وذراعيها، وساقيها، اعتبرت هذا الأمر غير مألوف في ذلك المجتمع، تصور كم تعاني هذه المسلمة في مثل تلك المجتمعات؟!

كم تعاني من الكلام من الأبوين، من الزميلات في المدرسة، من القريبات، في المناسبات والزواجات، في الشارع كم تعاني؟!

تعاني الأمرين؛ لأنها تسبح ضد التيار -كما يقال- إذاً المجتمع له قوة، فإما أن تكون قوته أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وأخذاً على يد السفيه، أو تكون العكس، نهياً عن المعروف وأمراً بالمنكر.

وهذه قضية ينبغي أن ينتبه لها، إن المجتمعات لها خط بياني صاعد أو نازل، إذا نـزل المجتمع بدأ يهبط، لاحظ أن هبوطه لا يقف عند حد.

ولذلك شرع الإسلام موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهنا نلاحظ قضية في غاية الأهمية في هذا الموضوع، وهي أن أصل وجود المنكر قليل مُسْتَخْفٍ، هو أمر طبيعي مألوف، ليس بغريب، حتى في أفضل المجتمعات وأكثرها استقامة على أمر الله ورسوله: مجتمع الصحابة، وهو المقياس -كما أسلفت- ومع ذلك كان فيه المنافقون، الذين قال الله عنهم: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة:67] وكانوا موجودين، والمسلمون أنفسهم منهم من يواقع بعض المعاصي، وفي الصحيحين من ذلك أشياء.

مثل قصة الرجل الذي زنى، وهو ماعز بن مالك رضي الله عنه، فتاب توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، ومثله الغامدية التي جادت بنفسها لله عز وجل، ومثلهم الرجل الذي أصاب من امرأة ما دون الزنى، لكنها حالات نستطيع أن نقول عنها: إنها فردية، ولذلك فهي مستترة مستخفية.

ولذلك -أيضاً- انظر! كيف موقف الواقع في المنكر نفسه، ما أسرع ما يستيقظ ضميره، وما أسرع ما يتوب إلى الله عز وجل، ولا يحتاج إلى متابعة ورقابة، رقابته قلبه، خوفه من الله عز وجل، يقوده إلى أن يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! زنيت فطهرني، يعرض عنه الرسول ذات اليمين عليه الصلاة والسلام، ويأتي إليه من قبالة وجهه، يعرض عنه ذات الشمال يأتي إليه، أربع مرات في مجلس واحد: يا رسول، زنيت فطهرني، فيقول عليه الصلاة والسلام:بك جنون} هل هو سكران؟

لا هذا ولا ذاك، لم يقام عليه الحد.

وأعجب من ذلك المرأة! تشهد على نفسها بالزنا، ثم يأمرها الرسول صلى الله عليه وسلم أن تذهب حتى تلد، لأنه عندما رأت أنه يريد أن يردها، قالت: لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً، أي هي عارفة ما هو مصيرها، ما جاءت وهي لا تدري ماذا سيفعل الرسول عليه الصلاة والسلام بها، بل تعرف مصيرها، وأنها سترجم.

ثم تأتي وتقول: يا رسول، زنيت فطهرني، فترى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يردها وتقول: وهي تريد أن تقطع الطريق: يا رسول الله، كأنك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً، والله إني لحبلى من الزنى، قال عليه الصلاة والسلام: {أما لا، فاذهبي حتى تلدي} ذهبت تسعة أشهر، يمكن أن يقول قائل: لما جاءت أول مرة كانت حرارة الندم في قلبها، لكن تسعة أشهر وهي لا زالت يقظة الضمير، بعد تسعة أشهر تأتي بالصبي.

فيقول صلى الله عليه وسلم: {اذهبي حتى تفطميه} أيضاً ربما جلست سنتين أو أقل من ذلك، حتى فطمته، ومبالغة منها في إثبات أنها فطمته، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده كسرة خبز، وقالت: يا رسول الله! لقد فطمته، فيأمر بالصبي إلى بعض الأنصار ويرجمها، إن هذا يدل على قوة الإيمان في نفوسهم، أي: كانوا رجالاً حتى حين يقعون في المعصية، فيسارعون بالتوبة والإقلاع والندم، الذي يجعلهم يفعلون مثل هذه الأفعال.

إذاً: مجرد وجود معاصٍ قليلة مستترة أمر عادي، وبعضهم يشبهون هذا بما يقوله الأطباء والمراقبون على الصحة العامة، حينما يقولون: إن هذا المجتمع سليم من الأمراض، هل يقصدون أن هذا المجتمع جميع أفراده أصحاء (100%)، كلا! إنما يقصدون الأمراض العامة، والأوبئة الفتاكة والمعدية، وأنها ليست موجودة، أما وجود حالات مرضية فهو أمر طبيعي في أي مجتمع من المجتمعات.

والأمر الخطير أن يعلن أصحاب المنكر بمنكرهم، هذا الخطير، ولا يستحوا من إظهاره، وإذا وجد هذا، ثم لم ينكر، فاعلموا ماذا يكون الأمر حينئذٍ، ولذلك أبين هذه النقطة في المسألة الثالثة، وهي: عقوبات ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضريبة كبيرة لا بد أن تدفعها المجتمعات، ويجب ألا نغتر بوقت محدود يعيشه الإنسان، -أحياناً- يسمع الإنسان عن العقوبات، فيرى من حوله، فلا يجد بوادر عقوبات ظاهرة، فيخيل إليه أن هذا الكلام يقال لتخويف الناس وشدهم، وقد لا يكون كلاماً حقيقياً.

لكن هذه نظرة السطحيين من الناس، أو الذين لا يستنيرون بنور الوحي، أما الذين يستنيرون بنور الوحي، فإنه يقف عند قول الرسول صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه عن زينب بنت جحش رضي الله عنها، {أن النبي صلى الله وعليه وسلم دخل عليها فزعاً، وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟!

انتبهوا! يا إخوة لهذا الحديث، فقال عليه الصلاة والسلام:- نعم، إذا كثر الخبث!} لاحظ! سنة من سنن الله لا يمكن أن تتخلف، ليس بين أحد من عباد الله وبين الله تعالى عقد ولا عهد إلا هذا الإسلام، وإلا فسنة الله ماضية، والله لا ينفع إنساناً أنه يعيش في جزيرة العرب، ولا ينفعه أن يكون قرشياً، فضلاً عن أن يكون عربياً، إنما ينفعه أن يلتزم بأوامر الله تعالى ويجتنب نواهيه، وإلا فالأرض لا تقدس أحداً: {ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه} نعم، إذا كثر الخبث، هذا الحديث يضع أيدينا على مجموعة من العقوبات للمجتمعات التاركة لهذه الشعيرة العظيمة، والشريعة المحكمة.

كثرة الخبث

العقوبة الأولى: عقوبة السكوت على المنكرات إذا ظهرت هي: كثرة الخبث، لأن المنكر وإن فعله قليل من الناس إذا أعلنوه، فهذه بداية خطيرة، لأنه دليل على قوتهم وتمكنهم من جهة، وهم بذلك يقولون للناس: اقتدوا بنا وقلدونا.

ولذلك قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [النور:19] ثم إن انتشار هذا المنكر يغري الآخرين بتطبيقه والإسراع إليه ويقلل من خطورته في نفوسهم، فأول ما يرى الناس المنكر تجدهم يشمئزون منه، ويتحدثون عنه بقلوب محزونة، لكن بعد أشهر تجد الأمر أصبح عادياً وسكت الناس عنه، وشغلوا بما هو أعظم منه، وشيئاً فشيئاً تصبح هذه المنكرات تتطبع في نفوس الناس، يألفها الناس ويتربون عليها فتكثر عندهم.

إذاً: العقوبة الأولى إن إظهار المنكر يؤدي إلى كثرته وانتشاره في المجتمع.

انكماش الخير

والعكس بالعكس يؤدي إلى انكماش الخير واستخفائه.

ولذلك قال عمر بن عبد العزيز الخليفة الملهم، حين كتب كتاباً إلى أمير المدينة وأمره أن يأمر علماء المدينة بأن يجلسوا لإفشاء العلم في المساجد، قال: [[وليفشوا العلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً]] هذه عقوبة كبرى، وأي عقوبة أشد من أن ينتكس المجتمع، فيصبح المعروف عنده منكراً، ويصبح المنكر عنده معروفاً! وأي عقوبة أشد من أن المسلم يعاني ما يعاني في تطبيق شعائر الإسلام وهو بين قوم مسلمين.

نزول العذاب

لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى غيره، يتعداه إلى أمر آخر، وهو نـزول العذاب الإلهي، وهو الإهلاك{أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم إذا كثر الخبث} ولهذا بوب الإمام مالك في مؤطئه : (باب ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة) وساق تحت هذا أثراً عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أنه قال: [[كان يقال إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة]] أي لا يعذب المجتمع كله بعمل مجموعة من أفراده أو طبقة أو طائفة منهم، لكن -والكلام لا يزال لـعمر بن عبد العزيز فيما ينقله عن السلف- [[ولكن إذا عملوا المنكر جهاراً؛ استحقوا العقوبة كلهم]] وقد نتساءل أية عقوبة هذه؟

هذه العقوبة أن لا يموت هؤلاء الناس إلا أن يصيبهم الله بعذاب، كما في حديث جرير أيضاً عند أبي داود: {ما من قوم يكون فيهم رجل يعمل بينهم بالمعاصي، يستطيعون أن ينكروا عليه، ثم لم ينكروا، إلا عمهم الله بعقاب من قبل أن يموتوا} وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وصححه وأبو داود وغيرهم، روي مرفوعاً وموقوفاً، أن أبا بكر رضي الله عنه قال: [[أيها الناس إنكم تسمعون هذه الآية وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه؛ أوشك أن يعمهم الله بعقاب}]].

وكما ذكرت فالحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، والراجح أنه موقوف، لكن له حكم المرفوع، لأنه مما لا يقال بالرأي، والله أعلم.

الأزمات الاقتصادية

من العقوبات التي يمكن أن تنـزل: الأزمات الاقتصادية التي تحل بالمجتمعات، والناس قد يفسرون الظواهر تفسيراً مادياً، الأزمة بسبب كذا، وبسبب كذا، بسبب حروب مادية، والمؤمن الذي يؤمن بالقضاء والقدر، ويؤمن بما جاء في سنة الرسول صلى الله وعليه سلم يلحظ كثيراً من الأمور، قد يكون لها سبب مادي، لكن وراء السبب المادي سبب شرعي وقع الناس فيه، أو خضعوا لسنة من السنن الكونية، فالأزمات الاقتصادية التي تحل بالمجتمعات هي من العقوبات.

وقد تصل هذه الأزمات في بعض المجتمعات الإسلامية إلى حالة من الفقر يرثى لها، حتى إنك تجد أن الإنسان يتعب وراء لقمة العيش فلا يجدها، وهذا يؤدي بهم إلى أنواع من التقصير الشرعي -أيضاً- لأن الإنسان إذا انشغل بالبحث عن لقمة العيش قد ينسى كثيراً من أوامر الدين -أيضاً- فيعاقب -أيضاً- بعقوبة أخرى حتى في دينه، والمنكرات سلسلة إذا بدأ الإنسان فيها تسلسلت بعضها وراء بعض.

تسليط الأعداء

من العقوبات: تسليط الأعداء، فإن الله تعالى قد يبتلي المجتمع المهمل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأن يسلط عليهم عدواً خارجياً، فيؤذيهم ويستبيح بيضتهم، وقد يأخذ بعض ما في أيديهم، وقد يتحكم في رقابهم وأموالهم، وقد بلي المسلمون في تاريخهم وبنماذج من ذلك، ولعل من النماذج المعروفة ما وقع للمسلمين في الأندلس، وهم كانوا أمة قوية عزيزة منيعة الجانب، فلما شاعت بينهم المنكرات بلا نكير، سلط الله عليهم النصارى، حتى آل الأمر بهم إلى الصورة التي يذكر الشاعر فيها كيف أن ملوكهم وسادتهم، كانوا ينادى عليهم في أسواق الرقيق، وهم يبكون وينوحون، يقول:-

فلو رأيت بكاهم عند بيعهم           لهالك الوجد واستهوتك أحزان

ويقول قائلهم -وهو من آخر ملوك الطوائف- يخاطب نفسه:

ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً     لم تحافظ عليه مثل الرجال

وما حدث في فلسطين، من تسلط اليهود، وطردهم للمسلمين، وتنكيلهم بهم، حتى صارت أخت الأندلس، وذهبت -كما يقول القائل-:

ذهبت في لجة الأيام ضائعة     ضياع أندلس من قبل في الحقب

وطوحت ببنيك الصيد نازلة     مثلها أمة الإسلام لم تصب
.

الاختلاف والتناحر

من العقوبات: الاختلاف والتناحر داخل المجتمع الواحد، وهذه من أنكى العقوبات وأعظمها، لأنها تجعل المجتمع عرضة للانهيار والانهزام أمام العدو الخارجي، والتفرق يكون إذا ابتعد الناس عن شريعة الله، لأن شريعة الله تجمع الناس، تجمع الأهواء المتفرقة، لكن إذا انحل ارتباط الناس بشريعة الله، أصبح كل إنسان يتبع هواه، وأهواء الناس ليس لها ضابط فيتفرقون.

ومن المآخذ اللطيفة التي تلاحظ في هذا الباب، أي نموذج من نماذج التفرق، لو لاحظت في عدد غير قليل من المجتمعات، أذكر أن بعض الصحف كانت تنشر منذ سنوات خبراً أو سلسلة من الأخبار المتتالية، تقول هذه الأخبار: إن هناك في إندونيسيا، حيث تشيع المنكرات -وهي على قدم وساق من الفواحش، والفجور , والبغاء، والخمور، والتبرج وغيرها، كما في كثير من بلاد الإسلام الأخرى- قالت تلك الأخبار: إن هناك مجموعة من الناس لا يعرف من هي؟

بدأت تتصيد المجرمين خفية وتضحي بهم، فإذا وجدوا من إنسان -مثلاً- أنه يقوم على بيت دعارة، أو منكرات علنية أو فساد ظاهر، فإنهم يقضون على هذا الإنسان، وظلت الأخبار متتالية لفترة غير قليلة عن مثل هذا.

هذا خبر يمكن أن نقرأه ونمر عليه سراعاً، نسمع اليوم عن أخبار تجري في عدد من البلاد الإسلامية، في مصر -مثلاً- وغيرها.

أن بعض الغيورين المتحمسين يقومون بأعمال إنكار بعض المنكرات، مثلاً: أعلن في جامعة، أظنها جامعة أسيوط عن حفل غنائي مختلط، فيه ما فيه، الله أعلم ما فيه، فقام عدد من الطلاب ضد هذا المنكر، وأتوا المكان، واستطاعوا أن يدخلوا بقوة، وحطموا آلات الفسق والمنكر والغناء، ومنعوا إقامة الحفل في تلك الليلة، هذا الخبر يعتبرونه على أنه حدث مخل في الأمن إلى آخره.

وقد يتطور الأمر، قد يحصل تعجل من هؤلاء الناس واندفاع، هذا نموذج للتفرق الذي يحصل في المجتمع بسبب ترك الأمر بالمعروف، وبسبب عدم وجود قنوات رسمية شرعية يستطيع المسلم من خلالها أن يمارس أو يطبق ما يدين الله به من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يجد الوسيلة والقناة الشرعية، فتفرق الناس في مداخل وطرقات كثيرة متعرجة.

لكن لو وجد الإنسان طريقاً شرعياً للإنكار، بل ولبعض الإنكار، لو كان يستطيع أن ينكر بلسانه، ويقف ضد هذا المنكر، لكان من الممكن ألا يلجأ إلى مثل هذه الطريقة، وهذا الطريقة تُوجد تفرقاً كبيراً في المجتمع الواحد، سواء في طريقة الإنكار، أم في نتائجه، أم في الموقف منه، إلى غير ذلك..، فيحصل التفرق والاختلاف في داخل المجتمع ويتفاقم الأمر، هذا نموذج -فقط- من نماذج الاختلاف الذي يحصل في المجتمعات بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينبغي أن ننتبه جيداً لهذا.

وبالمناسبة أذكر قصة، ذكرها الخلال في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي قصة طريفة: فقد ذكر أن هناك بيتاً في بغداد كانت فيه منكرات، كان فيه عزف وطبل، وأصوات غناء، فجاء أناس إلى هؤلاء ونصحوهم مرة ومرتين وثلاثاً، فأصروا على ما هم عليه، فجاء رجل من الصالحين، وكان ذا صوت حسن عذب لتلاوة القرآن، فطرق الباب عليهم وأمرهم ونهاهم، فلم يطيعوه، فماذا صنع؟!

جلس على باب الدار في السوق، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم وسمى وبدأ بصوته العذب الشجي يتلو آيات من القرآن الكريم، فتجمع الناس حوله وهم يبكون خاشعين لهذه الآيات المؤثرة المزلزلة، وقد تكون آيات مناسبة للموقف، مثل الآيات التي فيها الوعيد بالآخرة، وما فيها من الأغلال والنكال للعصاة، أو فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ما أشبه ذلك، ثم جاء أهل المنكر خجلين مما هم فيه، وكسروا مزاميرهم وطبولهم، واعتذروا إلى هذا الرجل وإلى الناس، ولم يعودوا إلى فعلهم.

ومثل هذا، ما حصل أن أحد طلاب العلم سمع بأن في مكان ما احتفالاً غنائياً يجتمع فيه أعداد كبيرة من الشباب، وهو شخص له مكانته، فما كان منه إلا أن أتى إليهم فنصحهم فما امتثلوا، فجلس في مكان قريب مجاور لهذا الأمر، وبدأ يتحدث بصوت جهوري وحوله مجموعة قليلة من أصحابه، فمازال الناس يكثرون وهو يتحدث حديثاً عاطفياً مؤثراً، حتى تجمعت أعداد كبيرة، ثم ترك أولئك ما كانوا فيه، أو ما عزموا عليه من الغناء، وجاءوا يستمعون وتأثروا، وأمكن زوال المنكر بطريقة أفضل مما يفعله كثير من الناس من التعجل وإزالة المنكرات بأسلوب قد يضاعف هذا المنكر.

الأمر الذي أريد أن أقوله: إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسبب تفرق المجتمعات.

عدم إجابة الدعاء

هناك عقوبة أخرى أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي: أن الله تعالى لا يستجيب لأولئك العاصين التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك لأننا نقول: إن هؤلاء الناس إذا عذبوا -كما هو معروف- لجأوا إلى الله عز وجل: ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل:53] وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:67] حتى المشرك إذا مسه الضر لم يدع غير الله، فالمؤمن والمسلم من باب أولى، فحين ينـزل العذاب عقوبة لهؤلاء القوم على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أين يتجهون؟

يتجهون إلى الله عز وجل يدعونه، لكن بعد خراب البصرة، كما يقال، ولهذا لا يستجيب الله لهم.

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم عذاباً من عنده، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم} والحديث رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث صحيح وله شواهد كثيرة، عن عائشة وأبي هريرة وغيرهما، "ثم تدعونه فلا يستجاب لكم"، إلا أن يعودوا إلى الله تبارك وتعالى عودة صادقة، ويقوموا بما أخلوا به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيرفع الله تبارك وتعالى ما بهم، فلا بد أن ننتبه إلى هذه العقوبات التي تنتظر كل مجتمع تخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وحين أقول: تخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أعني المفهوم الشامل لهذه الكلمة، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له دوائر كثيرة، تبدأ من الإنسان نفسه، من أمره نفسه، بالمعروف ونهيها عن المنكر، مروراً بالبيت، والجيران في الحي، والزملاء في العمل، وانتهاء بالمجتمع الواسع الكبير، كل إنسان بحسبه، وبحسب طاقاته وإمكانياته.

الموضوع مهم، والوقت ضيق، وجمعاً بين الأمرين أختصر النقط الباقية ليبقى وقت ولو يسير للأسئلة بناء على رغبة الإخوة.