المنهجية في طلب العلم


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى عظم شأن العلم، فأشهد العلماء على أعظم شهادة بعد أن شهد بها وأشهد بها ملائكته، فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ[آل عمران:18] .

وحكم بفضلهم على من سواهم، فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ[الزمر:9] .

وأخبر أنهم وحدهم المؤهلون لفهم كلامه، فقال: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت:43] .

وأخبر أنه يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة:11] .

وأخبر أنهم وحدهم الذين يخشون الله حق خشيته، فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28] .

وبين سبحانه وتعالى أنه فضل الجنس البشري على غيره من الأجناس بالعلم، فقال: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ[البقرة:31-33].

ولم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستزادة بشيء من أمر الدنيا إلا من العلم، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا[طه:114] ، وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بشأن العلم والعلماء، فقد أخرج البخاري في الصحيح من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، فإنما أنا قاسم والله المعطي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).

وأخرج مسلم في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

وأخرج البخاري في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). وأخرج البخاري في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان بها طائفة نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب بها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس، فسقوا ورعوا وزرعوا، وأصاب بها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به).

لا شك أن الفضل العظيم للعلم الذي نوه الله به في كتابه ونوه به رسوله صلى الله عليه وسلم، مقتضٍ من ذوي الهمم العالية الراغبين في رفع الدرجات، أن يبادروا وأن يتنافسوا، وأن يستغلوا الأوقات -قبل ضياعها- للالتحاق بالرعيل الذي انطلق، وبالركب الذي سار.

فهذه الدنيا مدتها ضئيلة يسيرة، وقيمتها هي الوقت الذي يمضيه الإنسان فيها، ومن لم يستغل هذا الوقت كان وبالاً عليه بين يدي الله؛ لأن الله يخاطب أهل النار يوم القيامة فيقول: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37] .

لابد أن يتفكر المسلم أنه جاء إلى الأرض وليس من سكانها الأصليين ولا من أهلها، وإنما أهبط إليها إهباطاً من الجنة، وجاء لمهمته العظيمة بتأشيرة مدتها محددة، فعليه أن يؤدي عمله قبل أن تنتهي تأشيرته ويرجع، فالذي ذهب بتأشيرة مدتها محدودة، وتكلف التكاليف، وقطع المسافات، ثم رجع خائباً ولم يؤد أي عمل مما خرج من أجله؛ لا يمكن أن يعد رابحاً بأي مقياس من مقاييس الدنيا؛ فلذلك علينا أن نتذكر أننا جئنا هنا من أجل مهمة محددة، حددها الله في كتابه فقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56] ، وأن مدة بقائنا في هذه الدار محصورة، قال الله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ[المؤمنون:115-116].

فنحن راجعون إلى الله لا محالة، ومسئولون عن هذه المهمة التي من أجلها أهبطنا إلى هذه الأرض، ولا يمكن أن يدعي أحد منا أنه لم يؤت الوسائل، فقد أتاح الله لنا من الوسائل، وسخر لنا من النعم ما لا يمكن أن نحصيه، سخر لنا الليل والنهار وما فيهما، وسخر لنا السماء والأرض والبحار والأنهار والجبال والسهول، وجميع ما في هذه الأرض جعله مسخراً لعبادته وطاعته؛ ولذلك يمكن أن يستفيد الإنسان في عبادته من كل شيء في الأرض، قال بعض أهل العلم: ما من شيء في الأرض إلا وهو معين لابن آدم على عبادة ربه، إن كان فيه نفع انتفع به في قوة بدنه أو عقله، وإن كان فيه ضرر كان امتحاناً له ليثبت ويصمد، وإن لم يكن فيه نفع ولا ضرر كان فيه اعتبار وتذكر، وفي الجميع منافسة؛ لأن جميعها مسبحة لله، وجميعها ساجدة لله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[الإسراء:44] ، فتستشعر أن ثوبك ينافسك في القرب من الله والسجود له والتسبيح بحمده، وأن شعرك ينافس لسانك، وأن كل عضلة من عضلاتك وكل ذرة من ذراتك هي منافسة لك في التقرب إلى الله بالعبادة، كما تستشعر المنافسة من إخوانك وبني جلدتك والبشر جميعاً، فالله تعالى يقول: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا[الإسراء:57] ، فالجميع يتنافسون في القرب منه وفي عبادته وطاعته، وإذا استشعر الإنسان ذلك أحس أن كل ما في الأرض مهيأ ومسخر ليعينه على طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته، وأبلغ الطاعات والعبادات هي ما أوجب الله سبحانه وتعالى، كما قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، وما افترضه الله لا يمكن أن يعرف ويميز بينه وبين غيره إلا بالتعلم.

التعلم شرط لأداء الفرائض، وشرط لأداء السنن، وشرط لأداء المندوبات، وشرط لاجتناب المحرمات، وشرط لاجتناب المكروهات، وشرط لاستغلال الأوقات، لا يمكن أن تقدم على أي شيء إلا على أساس العلم، وإذا أقدمت على أي أمر دون أن تعرف حكمه فأنت عاصٍ قطعاً؛ لقول الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ[الإسراء:36] ، فأنت مأمور بالتعلم قبل العمل، وقد عقد البخاري في الصحيح باباً قال فيه: باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ[محمد:19] ، فبدأ بالعلم أولاً قبل القول وهو: شهادة أن لا إله إلا الله، وقبل العمل بذلك وهو الاستغفار، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، وهذا يقتضي منا أن نعلم أن العلم هو المفتاح الأول في النجاح في حياتنا وفي مهمتنا التي أهبطنا من أجلها إلى هذه الأرض، وهذا العلم لا يمكن أن نطيع ربنا إلا به، وما عصي الله إلا عن جهل به أو بشرعه، فالجهل بالله سبب لمعصيته؛ لأن الإنسان إذا لم يعرف الله ونهي عن أمر من الأمور، وكان يخاف عقوبة تترتب على تلك المخالفة، فإنه سيحاول الاحتيال عليها أو إخفاءها، لكن إذا عرف الله، وعرف أنه هو الجليل الكريم الكبير، وأنه لا يمكن أن يخفي عنه الإنسان شيئاً من تصرفاته، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه يعلم السر وأخفى؛ حينئذ سيخافه ويقلع عن معصيته، كذلك قد يعصي شخص الله تعالى على أساس جهله بما يقدم عليه؛ لأنه يظن أنه عبادة وطاعة، فيفعله وهو في نفس الوقت معصية، فهذا جهل بشرعه لا به، فالجهل قسمان: جهل بالله وجهل بشرعه، وكلاهما سبب لمعصيته ومخالفته، ولا يمكن أن يتخلص الإنسان منهما إلا بطلبه للعلم.

الإنسان الرشيد يعلم أن الفرص المتاحة نادرة، وأن الوقت ضيق جداً، ونحن نستشعر في أيامنا هذه سرعة الزمان، فعجلاته أصبحت تدور بسرعة غير طبيعية، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (إن بين يدي الساعة أياماً تكون السنة فيها كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاشتعال السعفة)، وقت سريع جداً، ولا يزداد الزمان إلا إسراعاً، فلذلك نحتاج إلى استغلاله قبل فوات الأوان، فكل يوم نودع بعثاً إلى الدار الآخرة لا يرجعون إلا عند النشور، منهم من هو معاصر لنا في سننا، ومنهم من هو أصغر منا، يدفنون جميعاً في المقابر، ويقدمون إلى ما قدموا، وتزول عليهم الغشاوة، فيرون الأمر حق اليقين، ويبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ولاشك أنهم سيندمون جميعاً، فالمحسن يندم على عدم الازدياد، والمسيء يندم على أصل إساءته، فما من أحد من أهل الآخرة إلا وهو في ندم، فالآخرة كلها دار ندم، المحسن يندم ألا يكون قدم زاداً أكثر لما يرى من تفاوت الناس، ولما يعلم من استحقاق الله للزيادة في الطاعة والعبادة، والمسيء يندم على أصل إساءته، لماذا فرط في جنب الله؟ ولماذا قصر في أداء حقوقه؟

علينا أن نستغل أوقاتنا في طلب العلم والعمل به، وأولى ما تصرف فيه الأوقات أربعة أمور، هي خطة موضوعة لطلب العلم، فالناس مولعون بالتخطيط، ويبحثون عن استغلال الطاقات استغلالاً جيداً، ولا يكون ذلك إلا من خلال تخطيط محكم.

تحديد الأهداف وتحليلها

التخطيط لطلب العلم له أربعة أركان:

الركن الأول: تحديد الأهداف وتحليلها:

تحدد الأهداف التي تطلبها ثم تحللها حتى تجعلها جزئيات صغيرة، لتتمكن من أدائها، فإذا لم تحدد هدفك ستعيش مثل حياة البهائم: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ[محمد:12]؛ لأنه ليس لهم هدف في الحياة، فهم يعيشون كما تعيش البهائم، لا يفكرون فيما بعد الموت. فمدة حياتهم في تصورهم هي هذه المدة اليسيرة القليلة، وحظهم من المعاش ما أخذوه من ملذات الحياة الدنيا الزائفة الزائلة، ثم لا خلاق لهم في الآخرة، وهذا لا يرضى المؤمن به بوجه من الوجوه، المؤمن لا بد أن يفكر في معاده ومستقبله، ولابد أن يخطط لذلك، ومن هنا لابد أن يكون لديه هدف كبير وهو: تحقيق رضوان الله، وأن يرضى الله عنه.

فإذا رضي الله عنا لا يضرنا ما لم يتحقق لنا من أمور الدنيا، الذين قتلوا يوم أحد، وبقرت بطونهم، وأخرجت أكبادهم، وقطعت أنوفهم وآذانهم -رضي الله عنهم- هل ضرهم مما حصل شيء؟! والذين عاشوا بعدهم من الصحابة لحقوا بهم وماتوا جميعاً، إذاً: لم يفتهم شيء من هذه الحياة الدنيا، وأدركوا ما يريدون من رضوان الله.

من رضي الله عنه لا يضره ما فقد ولا يضره ما نقصه من هذه الحياة الدنيا، ومن لم يرض الله عنه -والله- لا ينفعه ما أحرز وما حقق من الأهداف، وما وصل إليه من المراتب، لا ينفعه ذلك شيئاً. إذاً: لابد أن يكون الهدف الأسمى والغاية التي نريدها: تحقيق رضوان الله، وأن نتقرب إليه بما يرضيه عنا.

وإذا كان هذا الهدف واضحاً بين أعيننا فلابد أن نبحث عن تجزئته، وأن نحلل هذا الهدف، وتحليله سيجعله سهلاً؛ لأنك ستجعله مراتب، فمثلاً: تفسير الإمام البغوي تفسير كبير، وإذا كان من هدفك -مثلاً- قراءة هذا التفسير كاملاً، ولم تجزئه على الوقت، سيكون شاقاً وصعباً لديك، ويكون بمثابة جبل تحمله، لكن إذا جزأته وقرأت كل مقطع منه، فإنك تكون قد أنجزت هدفك إذا قرأت ذلك المقطع، فمثلاً إذا أردت قراءة سورة البقرة وآل عمران، وأنجزت ذلك، فأنت ناجح على كل حال، بخلاف الذي يريد قراءة الكتاب كاملاً ولم يكمله فهو فاشل، لأن الهدف الذي حدده لم يصل إليه، بخلاف الذي حلل الهدف وجعله أهدافاً صغيرة، فهو ناجح عندما يصل إلى كل هدف من الأهداف الصغيرة.

إذاً: لابد من تحديد الأهداف أولاً، ثم تحليلها إلى جزئيات لنتمكن من الوصول إليها. كثير من الناس يعيش مع العموميات، فيقول مثلاً: نحن نريد إرجاع الأمة إلى الكتاب والسنة، هذه عموميات لا نختلف فيها، لكن كيف ذلك؟ ما لم يحلل الهدف ويحدد، لا يمكن أن تنجح أصلاً، كيف يقاس أن الأمة رجعت فعلاً إلى الكتاب والسنة؟! متى يكون لديك شهادة على أنها رجعت للكتاب والسنة؟! إذاً: هذا هدف غير محدد، وغير محلل، ولا يمكن قياسه، فلابد من تحديد الأهداف وتحليلها.

دراسة البيئة الداخلية

الركن الثاني من أركان التخطيط هو: دراسة البيئة الداخلية:

المقصود بالبيئة الداخلية: ما آتاك الله من الإمكانات، أن تعرف ما لديك من القوى، ما لديك من نقاط القوة وما فيك من نقاط الضعف لابد أن تدرسها تماماً.

فإذا كان هدفك الكبير أن تكون مرضياً عند الله، وتعلم أن ذلك لا يتم إلا من خلال العلم بشرعه، وتطبيق ما علمت، والدعوة إليه، والصبر على طريق الحق.

إذاً: أول الخطة: إحراز العلم، والعمل بكل جزئية تعلمتها، ثم بعد ذلك خطة الدعوة إلى ما تعلمته وعملت به، ثم بعد ذلك تربية نفسك وأطرها على الحق، والصبر حتى تصل إلى نهاية المشوار، وهو وقت الامتحان عند الموت.

فتدرس بيئتك الداخلية: ما لديك من نقاط القوة وما لديك من نقاط الضعف، فتجد لديك من نقاط القوة مثلاً: الهمة العالية التي لا ترضى بالدون، تريد الفردوس الأعلى من الجنة، تريد مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، تريد أن تسد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مسداً كان يسده بعض أعلامها وعلمائها الكبار، تريد أن يكون لك أثر في تحمل هذه الرسالة، تريد أن تزيد عمر النبي صلى الله عليه وسلم من عمرك، فتقدم شيئاً من عمرك إمداداً في مدة عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العمر المقصود به التبليغ، وقد توفاه الله بعد أن عاش مبلغاً ثلاثاً وعشرين سنة، بلغ فيها رسالات الله، وبقي بعد ذلك كل تبليغ يبلغه أحد من أمته امتداد في عمره؛ لأنه أداء لمهمته، فأنت تريد أن تقدم شيئاً من عمرك إمداداً وزيادة في عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخطط لذلك. إذاً: من دراسة البيئة الداخلية عرفت منها نقطة قوة لديك وهي الهمة العالية، وكذلك من نقاط القوة لديك: الصبر والتحمل والجلد، وجدت أنك صاحب جلد وصبر وتحمل، وأنك لست من الذين إذا أصابتهم أية نكبة أو أخفقوا في أي مجال ينقطعون ويرجعون، فهذه نقطة قوة في طلب العلم لابد منها: التحمل والصبر.

وكذلك من نقاط القوة: وجود الوسائل: وجود من تدرس عليه، ووجود المكان الذي تدرس فيه، ووجود الكتب التي تدرسها، ووجود الوقت الذي يمكن أن تستغله في الطلب، فهذه من نقاط القوة المهمة.

ومنها: الذكاء، ومستوى الضبط والفهم الذي يؤهلك للطلب، فهذه قوة لديك تمتلكها.

ثم بعد هذا تدرس نقاط الضعف، ولابد أن تبحث عنها في نفسك، فإذا كان لديك من نقاط الضعف مثلاً: عدم ترتيب الأولويات، أو عدم البرمجة، أو إقبال على الدنيا ونهم على جمعها، أو لديك تكاليف كثيرة وأعباء كبيرة، أو دخلت في انشغالات تأخذ حيزاًَ كبيراً من وقتك وتفكيرك، أو نحو ذلك من نقاط الضعف، فهذه نقاط لابد أن تخطط لسدها، فتستغل نقاط القوة لسد ثغرات الضعف.

دراسة البيئة الخارجية

الركن الثالث من أركان التخطيط: دراسة البيئة الخارجية، أي: المحيط الذي تعيش فيه، وهذا المحيط لاشك أنك ستجد فيه فرصاً تستطيع استغلالها في الوصول إلى أهدافك، وتجد فيه في المقابل أشياء فيها خطر عليك؛ لأنها ربما تقطعك عن بعض أهدافك، فالمحيط الذي من حولك لا يمكن أن تعيش بدونه، فأنت محاط به فتحتاج إلى دراسته، فتعرف ما فيه من نقاط إيجابية يمكن استغلالها وهي مثلاً:

تعاون الناس في المجال العلمي.

احترامهم لمن يشتغل بالعلم.

الظروف المواتية للطلب.

وجود كثير من المنافسين الذين يحثونك على الطلب؛ لأنهم ينافسونك فيه.

فهذه فرص تزيدك في الطلب، وفي المقابل هناك مخاطر تقطعك عن الطلب، كالملهيات، والمشاغل الدنيوية، ومنها وسائل الإعلام، فرغم إيجابيتها ففيها بعض السلبيات وهي: أنها تقطع عن الطلب، وتنقص الوقت، وتنقص بركته مما يراه الإنسان من مظاهر، وما تنقل إليه من الأخبار المحزنة.

وهكذا تبحث عن المخاطر التي من حولك فتحاول التقلل منها والابتعاد عنها، وتحاول الاستفادة من الفرص.

تزمين الخطط

الركن الرابع من أركان التخطيط هو: تزمين الخطط، وهو أن يكون لك وقت معين تقيس فيه ما قطعته من أشواط، فلابد أن تعلم (أن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى)، فأنت لا تستطيع أن تسهر الليل والنهار جميعاً في الطلب، وقد تقرأ في حياة بعض السلف كثرة الاشتغال في الليل والنهار، فمثلاً النووي رحمه الله مكث في وقت الطلب في دمشق أربع سنين لم ينم مضطجعاً، كان ينام مسنداً ظهره إلى اسطوانة، ولم يكن يضطجع خلال هذه المدة، واجتنب بعض المآكل لشبهة فيها ومخالفة لما يهواه، فمثل هذه الأمور نحن لا نطلبها في طالب العلم اليوم، لأن فيها جلد وقوة لا تحصل إلا من الأفذاذ والنوابغ، لكن نريد منك فقط تزمين وتقسيم الأهداف على الوقت الذي لديك، وأن تخطط لمدة محددة، ولو مت قبلها فهي في ميزان حسناتك، وليس هذا من طول الأمل ولا من التسويف، فخطط لمدة محددة، فإذا بلغتها فالحمد لله تكون قد نجحت فيما تريد، وإن لم تبلغها فأنت سائر على الطريق، والإنسان يثاب على نيته وعزمه، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وقد حضنا عليه الصلاة والسلام على الأيسر فالأيسر من الأسباب.

أخرج البخاري في الصحيح قال: حدثنا عبد السلام بن مطهر قال: حدثنا عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه)، وفي رواية: (ولم يشاد الدين إلا غلبه)، وفي رواية: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة).

فأنت محتاج إلى أن تجعل جزءاً من الوقت لراحتك، وجزءاً لدنياك، وجزءاً لأهلك، وجزءاً لمشاغلك الدنيوية، لكن ما دمت طالباً للعلم فلابد أن تخصص وقتاً للطلب، وهذا الوقت تستغله استغلالاً مبرمجاً، لابد من ذلك، وحينئذ تزمنه وتوزعه، فالعلم لا يؤخذ جزافاً، ولا يمكن أن يحيط به محيط، فلابد أن يوزع، وأن يبدأ بأولوياته ومفاتيحه، وأن تترك الفروع والتوسعات، فإن الوقت غير مناسب لها.

فالوقت هو مثل وقت الناس الآن في الاستعداد لرمضان، فرمضان قد اقترب على الأبواب، وبدأ الناس يستعدون له؛ لأن شعبان سريع الذهاب، وكذلك مدة بقاء هذه الحياة الدنيا وسرعتها، وينبغي أن نتصور هذا التصور، وقديماً قال عبد الله بن المعتز أمير المؤمنين رحمه الله:

إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شرب ليلك بالنهار

ولا تشرب بأقداح صغار فقد ضاق الزمان على الصغار

وهكذا يضيق الزمان عن تتبع المسائل العلمية الدقيقة في كل فن من الفنون، ولم يعد الوقت مناسباً لها، وليس معنى هذا أننا نزهد فيها، لا، لكن نرى ترتيب الأوليات في طلب العلم، فلابد أن يبدأ الإنسان بالأولى ثم الذي يليه، فإذا أراد الإنسان أن يضع خطةً لطلبه للعلم، فعليه أن يبدأ أولاً بتحصيل شروط العلم، ثم يبدأ بعدها بالأجنحة التي تطير به، ثم يرتب أولويات العلوم التي يدرسها، وهذه ثلاثة أمور مهمة جداً في التخطيط للعلم.

التخطيط لطلب العلم له أربعة أركان:

الركن الأول: تحديد الأهداف وتحليلها:

تحدد الأهداف التي تطلبها ثم تحللها حتى تجعلها جزئيات صغيرة، لتتمكن من أدائها، فإذا لم تحدد هدفك ستعيش مثل حياة البهائم: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ[محمد:12]؛ لأنه ليس لهم هدف في الحياة، فهم يعيشون كما تعيش البهائم، لا يفكرون فيما بعد الموت. فمدة حياتهم في تصورهم هي هذه المدة اليسيرة القليلة، وحظهم من المعاش ما أخذوه من ملذات الحياة الدنيا الزائفة الزائلة، ثم لا خلاق لهم في الآخرة، وهذا لا يرضى المؤمن به بوجه من الوجوه، المؤمن لا بد أن يفكر في معاده ومستقبله، ولابد أن يخطط لذلك، ومن هنا لابد أن يكون لديه هدف كبير وهو: تحقيق رضوان الله، وأن يرضى الله عنه.

فإذا رضي الله عنا لا يضرنا ما لم يتحقق لنا من أمور الدنيا، الذين قتلوا يوم أحد، وبقرت بطونهم، وأخرجت أكبادهم، وقطعت أنوفهم وآذانهم -رضي الله عنهم- هل ضرهم مما حصل شيء؟! والذين عاشوا بعدهم من الصحابة لحقوا بهم وماتوا جميعاً، إذاً: لم يفتهم شيء من هذه الحياة الدنيا، وأدركوا ما يريدون من رضوان الله.

من رضي الله عنه لا يضره ما فقد ولا يضره ما نقصه من هذه الحياة الدنيا، ومن لم يرض الله عنه -والله- لا ينفعه ما أحرز وما حقق من الأهداف، وما وصل إليه من المراتب، لا ينفعه ذلك شيئاً. إذاً: لابد أن يكون الهدف الأسمى والغاية التي نريدها: تحقيق رضوان الله، وأن نتقرب إليه بما يرضيه عنا.

وإذا كان هذا الهدف واضحاً بين أعيننا فلابد أن نبحث عن تجزئته، وأن نحلل هذا الهدف، وتحليله سيجعله سهلاً؛ لأنك ستجعله مراتب، فمثلاً: تفسير الإمام البغوي تفسير كبير، وإذا كان من هدفك -مثلاً- قراءة هذا التفسير كاملاً، ولم تجزئه على الوقت، سيكون شاقاً وصعباً لديك، ويكون بمثابة جبل تحمله، لكن إذا جزأته وقرأت كل مقطع منه، فإنك تكون قد أنجزت هدفك إذا قرأت ذلك المقطع، فمثلاً إذا أردت قراءة سورة البقرة وآل عمران، وأنجزت ذلك، فأنت ناجح على كل حال، بخلاف الذي يريد قراءة الكتاب كاملاً ولم يكمله فهو فاشل، لأن الهدف الذي حدده لم يصل إليه، بخلاف الذي حلل الهدف وجعله أهدافاً صغيرة، فهو ناجح عندما يصل إلى كل هدف من الأهداف الصغيرة.

إذاً: لابد من تحديد الأهداف أولاً، ثم تحليلها إلى جزئيات لنتمكن من الوصول إليها. كثير من الناس يعيش مع العموميات، فيقول مثلاً: نحن نريد إرجاع الأمة إلى الكتاب والسنة، هذه عموميات لا نختلف فيها، لكن كيف ذلك؟ ما لم يحلل الهدف ويحدد، لا يمكن أن تنجح أصلاً، كيف يقاس أن الأمة رجعت فعلاً إلى الكتاب والسنة؟! متى يكون لديك شهادة على أنها رجعت للكتاب والسنة؟! إذاً: هذا هدف غير محدد، وغير محلل، ولا يمكن قياسه، فلابد من تحديد الأهداف وتحليلها.

الركن الثاني من أركان التخطيط هو: دراسة البيئة الداخلية:

المقصود بالبيئة الداخلية: ما آتاك الله من الإمكانات، أن تعرف ما لديك من القوى، ما لديك من نقاط القوة وما فيك من نقاط الضعف لابد أن تدرسها تماماً.

فإذا كان هدفك الكبير أن تكون مرضياً عند الله، وتعلم أن ذلك لا يتم إلا من خلال العلم بشرعه، وتطبيق ما علمت، والدعوة إليه، والصبر على طريق الحق.

إذاً: أول الخطة: إحراز العلم، والعمل بكل جزئية تعلمتها، ثم بعد ذلك خطة الدعوة إلى ما تعلمته وعملت به، ثم بعد ذلك تربية نفسك وأطرها على الحق، والصبر حتى تصل إلى نهاية المشوار، وهو وقت الامتحان عند الموت.

فتدرس بيئتك الداخلية: ما لديك من نقاط القوة وما لديك من نقاط الضعف، فتجد لديك من نقاط القوة مثلاً: الهمة العالية التي لا ترضى بالدون، تريد الفردوس الأعلى من الجنة، تريد مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، تريد أن تسد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مسداً كان يسده بعض أعلامها وعلمائها الكبار، تريد أن يكون لك أثر في تحمل هذه الرسالة، تريد أن تزيد عمر النبي صلى الله عليه وسلم من عمرك، فتقدم شيئاً من عمرك إمداداً في مدة عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العمر المقصود به التبليغ، وقد توفاه الله بعد أن عاش مبلغاً ثلاثاً وعشرين سنة، بلغ فيها رسالات الله، وبقي بعد ذلك كل تبليغ يبلغه أحد من أمته امتداد في عمره؛ لأنه أداء لمهمته، فأنت تريد أن تقدم شيئاً من عمرك إمداداً وزيادة في عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتخطط لذلك. إذاً: من دراسة البيئة الداخلية عرفت منها نقطة قوة لديك وهي الهمة العالية، وكذلك من نقاط القوة لديك: الصبر والتحمل والجلد، وجدت أنك صاحب جلد وصبر وتحمل، وأنك لست من الذين إذا أصابتهم أية نكبة أو أخفقوا في أي مجال ينقطعون ويرجعون، فهذه نقطة قوة في طلب العلم لابد منها: التحمل والصبر.

وكذلك من نقاط القوة: وجود الوسائل: وجود من تدرس عليه، ووجود المكان الذي تدرس فيه، ووجود الكتب التي تدرسها، ووجود الوقت الذي يمكن أن تستغله في الطلب، فهذه من نقاط القوة المهمة.

ومنها: الذكاء، ومستوى الضبط والفهم الذي يؤهلك للطلب، فهذه قوة لديك تمتلكها.

ثم بعد هذا تدرس نقاط الضعف، ولابد أن تبحث عنها في نفسك، فإذا كان لديك من نقاط الضعف مثلاً: عدم ترتيب الأولويات، أو عدم البرمجة، أو إقبال على الدنيا ونهم على جمعها، أو لديك تكاليف كثيرة وأعباء كبيرة، أو دخلت في انشغالات تأخذ حيزاًَ كبيراً من وقتك وتفكيرك، أو نحو ذلك من نقاط الضعف، فهذه نقاط لابد أن تخطط لسدها، فتستغل نقاط القوة لسد ثغرات الضعف.

الركن الثالث من أركان التخطيط: دراسة البيئة الخارجية، أي: المحيط الذي تعيش فيه، وهذا المحيط لاشك أنك ستجد فيه فرصاً تستطيع استغلالها في الوصول إلى أهدافك، وتجد فيه في المقابل أشياء فيها خطر عليك؛ لأنها ربما تقطعك عن بعض أهدافك، فالمحيط الذي من حولك لا يمكن أن تعيش بدونه، فأنت محاط به فتحتاج إلى دراسته، فتعرف ما فيه من نقاط إيجابية يمكن استغلالها وهي مثلاً:

تعاون الناس في المجال العلمي.

احترامهم لمن يشتغل بالعلم.

الظروف المواتية للطلب.

وجود كثير من المنافسين الذين يحثونك على الطلب؛ لأنهم ينافسونك فيه.

فهذه فرص تزيدك في الطلب، وفي المقابل هناك مخاطر تقطعك عن الطلب، كالملهيات، والمشاغل الدنيوية، ومنها وسائل الإعلام، فرغم إيجابيتها ففيها بعض السلبيات وهي: أنها تقطع عن الطلب، وتنقص الوقت، وتنقص بركته مما يراه الإنسان من مظاهر، وما تنقل إليه من الأخبار المحزنة.

وهكذا تبحث عن المخاطر التي من حولك فتحاول التقلل منها والابتعاد عنها، وتحاول الاستفادة من الفرص.

الركن الرابع من أركان التخطيط هو: تزمين الخطط، وهو أن يكون لك وقت معين تقيس فيه ما قطعته من أشواط، فلابد أن تعلم (أن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى)، فأنت لا تستطيع أن تسهر الليل والنهار جميعاً في الطلب، وقد تقرأ في حياة بعض السلف كثرة الاشتغال في الليل والنهار، فمثلاً النووي رحمه الله مكث في وقت الطلب في دمشق أربع سنين لم ينم مضطجعاً، كان ينام مسنداً ظهره إلى اسطوانة، ولم يكن يضطجع خلال هذه المدة، واجتنب بعض المآكل لشبهة فيها ومخالفة لما يهواه، فمثل هذه الأمور نحن لا نطلبها في طالب العلم اليوم، لأن فيها جلد وقوة لا تحصل إلا من الأفذاذ والنوابغ، لكن نريد منك فقط تزمين وتقسيم الأهداف على الوقت الذي لديك، وأن تخطط لمدة محددة، ولو مت قبلها فهي في ميزان حسناتك، وليس هذا من طول الأمل ولا من التسويف، فخطط لمدة محددة، فإذا بلغتها فالحمد لله تكون قد نجحت فيما تريد، وإن لم تبلغها فأنت سائر على الطريق، والإنسان يثاب على نيته وعزمه، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وقد حضنا عليه الصلاة والسلام على الأيسر فالأيسر من الأسباب.

أخرج البخاري في الصحيح قال: حدثنا عبد السلام بن مطهر قال: حدثنا عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين إلا غلبه)، وفي رواية: (ولم يشاد الدين إلا غلبه)، وفي رواية: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة).

فأنت محتاج إلى أن تجعل جزءاً من الوقت لراحتك، وجزءاً لدنياك، وجزءاً لأهلك، وجزءاً لمشاغلك الدنيوية، لكن ما دمت طالباً للعلم فلابد أن تخصص وقتاً للطلب، وهذا الوقت تستغله استغلالاً مبرمجاً، لابد من ذلك، وحينئذ تزمنه وتوزعه، فالعلم لا يؤخذ جزافاً، ولا يمكن أن يحيط به محيط، فلابد أن يوزع، وأن يبدأ بأولوياته ومفاتيحه، وأن تترك الفروع والتوسعات، فإن الوقت غير مناسب لها.

فالوقت هو مثل وقت الناس الآن في الاستعداد لرمضان، فرمضان قد اقترب على الأبواب، وبدأ الناس يستعدون له؛ لأن شعبان سريع الذهاب، وكذلك مدة بقاء هذه الحياة الدنيا وسرعتها، وينبغي أن نتصور هذا التصور، وقديماً قال عبد الله بن المعتز أمير المؤمنين رحمه الله:

إذا العشرون من شعبان ولت فواصل شرب ليلك بالنهار

ولا تشرب بأقداح صغار فقد ضاق الزمان على الصغار

وهكذا يضيق الزمان عن تتبع المسائل العلمية الدقيقة في كل فن من الفنون، ولم يعد الوقت مناسباً لها، وليس معنى هذا أننا نزهد فيها، لا، لكن نرى ترتيب الأوليات في طلب العلم، فلابد أن يبدأ الإنسان بالأولى ثم الذي يليه، فإذا أراد الإنسان أن يضع خطةً لطلبه للعلم، فعليه أن يبدأ أولاً بتحصيل شروط العلم، ثم يبدأ بعدها بالأجنحة التي تطير به، ثم يرتب أولويات العلوم التي يدرسها، وهذه ثلاثة أمور مهمة جداً في التخطيط للعلم.

الغربة

ذكر أهل العلم سبعة شروط لطالب العلم:

الشرط الأول: الغربة: فالإنسان ما دام في بيته وبيئته وبين أهله لا يجد وقتاً وفراغاً للطلب، وهذه الغربة يمكن أن تكون حقيقية، ويمكن أن تكون شعورية، قد يعتزل الإنسان أهل الدنيا في زاوية من بيته، فهو غريب ولو كان بين أهله.

ودليل اشتراطها أن موسى عليه السلام لم ينل العلم الذي رغب فيه حتى قال: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا[الكهف:60] . ومن أدلتها كذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل الله عليه الوحي حتى حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، أخرج البخاري في الصحيح قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد)، فهذا التحبيب الذي حبب إليه الأنبياء أسوة وقدوة؛ ليحبب إلى طالب العلم الخلاء كذلك، ولهذا سئل يحيى بن معين رحمه الله عن أحب شيء إليه في الدنيا، فقال: إسناد عالي وبيت خالي. يريد أن يعتزل الناس، ويريد إسناداً عالياً لا يتطلب كثيراً من البحث في الجرح والتعديل، ولا يتطلب كذلك تعباً في الحفظ (إسناد عالي وبيت خالي).

فلابد من هذه الغربة، ويمكن أن يفعلها الإنسان في بيته -كما ذكرت- وبين أهله، فيتخذ وقتاً لطلب العلم، لا يدخل عليه فيه أحد، ولا يرى فيه وجه أحد، ولا ينشغل فيه بأي شيء من أمور الدنيا.

التواضع

الشرط الثاني: التواضع:

طالب العلم لا يمكن أن يكون متكبراً أبداً؛ لأن المتكبر لا يمكن أن يستفيد من أحد؛ لأنه يرى نفسه خيراً من غيره، فلا يمكنه أن يأخذ ما عند غيره، وكذلك الأستاذ لا يمكن أن يقدم ما جمعه بالتعب والنصب لمن لا يحترمه، فيحتاج إذاً إلى أن يتواضع له حتى يأخذ عنه، ودليل ذلك أن موسى عليه السلام قال للخضر عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا[الكهف:66] ، فلم يقل: سأتبعك، بصيغة القرار، وإنما قال: هل أتبعك؟ بصيغة الاستفهام (على أن تعلمن) فجعل نفسه طالباً وهو كليم الله، (مما علمت رشداً) بعض ما علمت فقط، وهذا غاية التواضع.

وكذلك جبريل لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم: (أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام)، فبدأ يسأل بهذا السؤال المؤدب، ويسأل عن أولويات الدين وكبرياته، وأهم ما يسأل عنه، هو هذه الأمور الأربعة التي سأله عنها: سأل عن الإسلام؟ وعن الإيمان؟ وعن الإحسان؟ وعن الساعة؟

إذاً: من شروط العلم: أن يتواضع الإنسان لمن يأخذ منه، وهذا التواضع يقتضي منه قبول الحق دائماً، فالكبر ينافي الفطرة، لأن الإنسان في الأصل ولد على الفطرة، والفطرة تفسد بالمفسدات، ومفسدات الفطرة كثيرة، عد أهل العلم منها: التكبر، والعناد، والتقليد للأهل أو للأصحاب أو للمشايخ، ومنها كذلك: الانغماس في اتباع الهوى، فهذه مفسدات الفطرة التي تفسد على الإنسان فطرته الأصلية.

الورع

الشرط الثالث من هذه الشروط: الورع:

الورع هو اتقاء المحرمات والمكروهات والشبهات، والذين يعرفونه قديماً بأنه اتقاء المحرمات والشبهات، يرون أن المكروهات داخلة في الشبهات، في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)، وقد اختلف أهل العلم في تفسير الشبهات على خمسة أقوال:

القول الأول: أن المشتبهات هي ما سكت عنه الله سبحانه وتعالى فلم يرد فيه تشريع، فكل مسكوت عنه في الأصل يرونه شبهة، وهذا القول ضعيف؛ لأنه ورد في أحاديث أخرى أن ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه، ففي الحديث: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها).

القول الثاني: أن المشتبهات هي المكروهات التي لم يرد فيها نهي جازم، ومع ذلك نهي عنها.

القول الثالث: أن المشتبهات هي ما اختلط فيه الحلال والحرام، مثل المال الذي بعضه حلال وبعضه حرام.

القول الرابع: أن المشتبهات هي ما تعارضت فيه النصوص، بعض الأدلة تحله، وبعض الأدلة تحرمه، وتعارضت لدى الإنسان.

القول الخامس: أن المشتبهات هي ما اختلف أهل العلم في حكمه، فاشتبه عليهم، ولا يكون ذلك إلا على أساس الاختلاف في قوة الدليل أو في دلالته.

فهذه هي الأقوال الخمسة، والذين يرون دخول المكروهات في المشتبهات لا يذكرونها في تعريف الورع، فلا يقولون: اتقاء المحرمات والمكروهات والمشتبهات، بل يقولون: الورع هو: اتقاء المحرمات والمشتبهات؛ لأنهم يدخلون المكروهات في المشتبهات، والورع شرط لطلب العلم؛ لأن طالب العلم إذا كان لا يتورع فلا يمكن أن ينال هذا النور؛ لأن العلم نور، والنور لا يمكن أن يبقى في المكان الموحش المظلم، النور يبحث له عن الألوان البيضاء الناصعة التي تزيده إضاءة، كما قال الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ[النور:35] .

وقد ورد عن الشافعي رحمه الله أنه قال:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي

الجوع

الشرط الرابع: الجوع:

الإنسان ما دام شبعاناً، راغباً في الدنيا، مقبلاً عليها، لا يمكن أن ينال هذا العلم، وقديماً يقول الحكماء: البطنة تذهب الفطنة، العلم يحتاج إلى فطنة ونباهة، والبطنة تذهب الفطنة، والشافعي رحمه الله يقول: ما رأيت سميناً عاقلاً إلا محمد بن الحسن الشيباني ، فالغالب أن الإنسان إذا شغل أجهزته الداخلية بكثرة الأكل فإن ذلك سينقص تفكيره، وبالتالي لا يمكن أن يحرز المطلوب من العلم؛ ولذلك فإن موسى عليه السلام لما نال من العلم ما نال قال لفتاه بعد ذلك: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا[الكهف:62] ، فعندما جاع نال ما يريده من طلب العلم.

المخاطرة

الشرط الخامس من هذه الشروط هو: المخاطرة: والمقصود بها أن تهون على الإنسان نفسه في طلب العلم، حتى يسترخص حياته، ويسترخص ماله، ويسترخص علاقاته في سبيل الحصول على العلم، فموسى عليه السلام ما نال العلم حتى ركب في سفينة مخروقة في عمق البحر، وهذه من المخاطرة، وأهل العلم من هذه الأمة خاطروا في طلبه بالأسفار الشاقة والطويلة، أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: ما بقيت قرية ولا مدينة من مدن الدنيا يذكر فيها حديث إلا سافرت إليها على رجلي هاتين.

والبخاري رحمه الله سافر من العراق قاصداً عبد الرزاق بن همام الصنعاني بصنعاء، فلما وصل إلى مكة قيل له: مات عبد الرزاق ، فرجع من مكة إلى البصرة، فقيل له: إن عبد الرزاق حي يرزق فرجع إلى مكة على رجليه حتى جاءه الخبر اليقين بأن عبد الرزاق قد مات، وكل أحاديث عبد الرزاق عند البخاري بواسطة، لكن أراد أن يسمع منه مباشرة، أراد علو الإسناد، فسافر سفرين: من العراق إلى مكة مع الرجوع من أجل علو الإسناد فقط! مخاطرات كبيرة، وأسفار شاقة جداً.

وسافر أنس بن مالك من البصرة إلى المدينة في طلب حديث واحد، وسافر جابر بن عبد الله من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، وسافر أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر في طلب حديث واحد.

ويقول المكي بن إبراهيم -وهو شيخ البخاري الذي يروي عنه ثلاثياته التي هي أعلى شيء في صحيحه-: كتبت بأصبعي هاتين عن ستين من التابعين، ولو علمت أنه يحتاج إلي لكتبت عن أكثر.

فهؤلاء الأئمة خاطروا مخاطرات كبيرة جداً في طلب العلم، وتعبوا ونصبوا في جمعه، فأحرزوا منه ما أحرزوا، فلذلك لابد أن تهون على الإنسان نفسه في طلبه، فـزكريا الأنصاري رحمه الله فقد بصره في طلب العلم، كان يقرأ الليل كله ولم يكن ذا مال، وكان سراجه ضعيف الضوء، ففقد بصره بسبب ذلك، وعدد كبير من العلماء فقدوا بعض أطرافهم أو أجزائهم بالمخاطرة في طلب العلم.

إذاً: لابد أن تهون على الإنسان نفسه في الطلب، وهذا شرط للحصول عليه، فالدر والحجارة الكريمة لا ينالها من لم يخاطر في طلبها، ومن لم ينغمس في البحر ويخاطر لا يمكنه أن يصل إلى هذه اللآلئ.

معصية الهوى

الشرط السادس: معصية الهوى: فالإنسان المتبع لهواه لا يمكن أن يكون طالب علم؛ لأن الهوى يدعوه إلى الراحة والنوم، والانشغال مع الناس فيما هم منشغلون فيه، وتلقي أخبار الناس، ومتابعة أحداث العالم، فهذه أمور يدعو إليها الهوى، فمن لا يستطيع التغلب على هواه لا يمكن أن يكون طالباً للعلم.

العمل بالعلم

الشرط السابع: الاتباع أو العمل بما تعلمه الإنسان؛ لأن العلم حجة لك أو عليك، فهو سلاح ذو حدين، إذا لم يعمل به الإنسان كان حجة عليه، أخرج أبو عمر بن عبد البر عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة أن يقال لي: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: بل علمت، فيقال: ففيم عملت فيما علمت؟

وأخرج الدارقطني وغيره عنه أنه قال رضي الله عنه: إن أخوف ما أخافه يوم القيامة كتاب الله، ألا تبقى آية آمرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك آمرة فلم تأتمر بي، ولا آية زاجرة إلا جاءتني فقالت: يا أبا الدرداء ! قد أتيتك زاجرة فلم تزدجر بي.

هذه هي حياة القلوب، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يخافون من هذا القرآن أن يكون خصماً لهم يوم القيامة، كل آية مرت على الإنسان أو سمعها أو قرأها ينبغي أن يخاف أن تلعنه وهو يقرؤها، فرب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه! وكذلك العلم كله، رب سامع للعلم! والعلم يلعنه؛ لأنه لم يعمل به، وقامت عليه الحجة به، ومن الأسئلة الأربعة: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل به؛ وعن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟).

وهذه الشروط السبعة نظمها ابن هلال في بيت واحد:

فقال له: تغرب وتواضع واترع وجع وهم واعص هواك واتبع

(تغرب) هذا الشرط الأول وهو الغربة، (وتواضع): هذا الشرط الثاني، (واترع): أي: تكلف الورع، افتعل من الورع، (وجع، وهم، واعص هواك، واتبع).

وبعد تحصيل هذه الشروط وهي غير شاقة يحرص الإنسان على أجنحة العلم التي تعينه على الطلب.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4778 استماع
بشائر النصر 4274 استماع
أسئلة عامة [2] 4117 استماع
المسؤولية في الإسلام 4042 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3980 استماع
نواقض الإيمان [2] 3937 استماع
اللغة العربية 3919 استماع
عداوة الشيطان 3919 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3892 استماع
القضاء في الإسلام 3882 استماع