الحكمة في الدعوة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله عز وجل قد وصف نفسه بالدعوة، فقال سبحانه وتعالى في محكم كتابه: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس:25] ، وقال تعالى: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ[البقرة:221] .

ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[الأحزاب:46] ، وأخبر أن أحسن الأقوال وأرضاها عند الله سبحانه وتعالى: الدعوة إلى الله، وذلك كما في قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[فصلت:33] .

وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه وأتباعه بأن سبيلهم الدعوة إلى الله، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[يوسف:108] .

وهذه الدعوة ضرورة من ضرورات البشرية، فكما يحتاج البشر إلى الماء والغذاء والهواء، فإنهم يحتاجون كذلك إلى تغذية قلوبهم، فهذه القلوب إذا لم تتغذ ماتت، وموتها أشد من موت الأبدان؛ لأنه مقتض لغفلتها وإعراضها عن الله سبحانه وتعالى، فتتردى حتى تكون كالبهائم، أو ربما زادت عن ذلك، كما قال تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ[الفرقان:44] ، ولا يستغني عنها أحد، والله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ[الأحزاب:1] ، ويخاطب رسله عليهم الصلاة السلام بذلك أجمعين فيقول: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا[المؤمنون:51] ، ويخاطب عباده المؤمنين بذلك، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله أمر عباده المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا[المؤمنون:51] ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[البقرة:172] )، وكل ذلك دعوة من الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يستغني عنها البشر، فالإنسان يعيش في ظلمات الجاهلية في هذه الأرض، وكل ما فيها فتن تغويه وتصده عن سبيل الحق، وهو بمثابة من ادهن بالزيت، ثم رمى نفسه في التنور، ففتن الدنيا كذلك تحيط به من كل جانب، وأعراضها تتداول عليه وتتناوب، فإذا نجا من عرض لم ينج من غيره، كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك: حين خط خطاً مربعاً وخط خطاً في وسطه خارجاً منه، وخط خطاً معترضاً في الوسط، وخط خطوطاً صغيرة في الطرفين، ثم قال: (هذا الإنسان، وهذا أجله، وهذا عمله، وهذه الأعراض تصيبه، وأمله أطول من أجله).

ومن هنا فإن على الإنسان أن يحاول أن يعتبر ويتذكر، وأن لا يغفل عن الله سبحانه وتعالى ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وليعلم أنه إن غفل ساعة عن الله دعاه ذلك إلى الغفلة ساعات، وإذا قسا قلبه يوماً واحداً فليداو هذه القسوة، وإلا فسوف تتراكم فيه القسوات وستزداد، ويصعب عليه حينئذ علاج قلبه بعد ما يتمكن منه المرض.

ومن هنا شرع الشارع لنا الموعظة الأسبوعية في كل جمعة، ويراد بها أن ترق القلوب وتهفوا إلى بارئها ديان السماوات والأرض، وإذا لم يستطع الإنسان أن يجري دمعتيه من خشية الله سبحانه وتعالى في الأسبوع، فإنه سيزداد ذلك صعوبة في الأسبوع الذي يليه، ثم يزداد ذلك في الأسبوع الذي يليه، ومن هنا فإن من تخلف عن صلاة الجمعة ثلاث جمع على التوالي ختم على قلبه بطابع النفاق.

من أجل هذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، ومن هنا كانت هذه الدعوة ضرورة من ضرورات البشرية، ولا يمكن أن يستغني عنها الناس، وإذا ظن بعض الناس أنه ربما استغنى عنها فهذا دليل على موت قلبه وأنه لم يعد يحس بما هو فيه، فقد تراكمت عليه الأمراض وتكاثرت حتى لم يعد يقدر هذه الأمراض ولا يستطيع الخلاص منها، ونسأل الله السلامة والعافية.

تذكر النبي الدائم لربه جل وعلا

إن أعرف الناس بالله عز وجل أحوجهم إلى التذكير به، فهذا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأكرم الخلق على الله عز وجل ينادي عبد الله بن مسعود فيقول: (يا عبد الله ! اقرأ عليَّ القرآن فيقول: كيف أقرأه عليك وعليك أنزل؟! فيقول: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود : فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا[النساء:41-42] قال: حسبك فنظرت فإذا عيناه تهملان).

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس اتعاظاً بآيات الله، فكان إذا رأى المطر مقبلاً أخذه الخروج والدخول والرعب، فقيل له في ذلك فقال: (خشيت أن أكون كأصحاب هود الذين قالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا[الأحقاف:25] )، فهذا من شدة خوفه لله وخشيته له، ولذلك ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أخوفكم لله وأتقاكم لله)، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمن مكر الله، ويحب التذكير بالله عز وجل، فقد ثبت عنه: (أن أعرابياً جاء فوقف في المسجد فأثنى على الله فأبلغ الثناء، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً إلى بيته فجاء بتبرٍ -أي: قطعة من الذهب- فقال: خذ هذا بحسن ثنائك على ربك)، فكان يحب أن يثنى على الله عز وجل.

تذكر الإنسان بآيات الله وضرورته

إن ما نشاهده في دموعنا من الجمود، وفي قلوبنا من القسوة سببه عدم انتفاعنا بالذكرى، وعدم انتفاعنا بالآيات والعبر التي نشاهدها، فآيات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين:

آيات مسطورة، وآيات منظورة، فالآيات المسطورة هي التي نسمعها ونقرؤها في كتاب الله، والآية المنظورة هي ما يمر علينا من العجائب، كهذا الفجر الذي يطلع منذراً بانقضاء عهد وباستئناف يوم جديد، وهذه الشمس التي تزول ثم تغرب ويتغير نورها بعد أن كان مشعاً شديداً، وهذا الليل الذي قال فيه مالك : (الليل خلق عظيم)، وهذه الأرواح التي تنتقل وتموت وكل يوم نرى محمولين على الرقاب لا يرجعون أبداً، ولا ندري ما حالهم أفي روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار؟ وهذه النار، وهذه الأماكن التي نعيش فيها، وهذه الأماكن التي نصلي بها قد سبقنا إليها ملايين من البشر مروا بها، وكانت أعمالهم ترتفع من هذا المكان، فلا ندري ما نخلفهم فيه هل هو خير مما كانوا يعملون أو دون ذلك؟ نسأل الله أن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها.

إننا نرى كثيراً من آيات الله العجيبة، وهي مرآة يجب أن نتذكر بها ونعتبر، ومن أجل هذا قال الله في محكم كتابه: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ[يوسف:106].

إننا نحتاج إلى أن نحيي قلوبنا، وأن نحدث صلة عميقة بالله عز وجل، وأن نجدد عهدنا به، وأن نتذاكر فيما بيننا، وأن يأمر بعضنا بعضاً وينهى بعضاً بعضاً، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة غير منسوخة، بل هي محكمة دائمة، وعلينا أن نتذاكر أمثال هذا، وأن يأمر بعضنا بعضاً، وأن لا نعد هذا حديثاً معاداً، وأن لا تمله أسماعنا ولا قلوبنا، وما هو إلا خير، وهو خير ما يعرض على الآذان وخير ما يصل إلى القلوب، فينبغي أن لا نمله وأن لا ننقطع عنه.

أقسام الناس تجاه الدعوة إلى الله

الناس في سبيل هذه الدعوة أربعة أقسام:

القسم الأول: قوم لا يتحملون سماعها ولا يطيقونها، فهي عندهم بمثابة البعبع المرعب، يخافونها خوفاً شديداً، وهؤلاء هم المشركون الذين قال الله فيهم: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:49-51]، فيعتبرون هذه بمثابة الأسد، فيهربون منه كما تهرب الحمر من الأسد إذا رأته.

القسم الثاني: قوم يستطيعون سماع الذكرى بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة، فلا تحملها إلى قلوبهم، وهؤلاء بين آذانهم وقلوبهم حصن حصين لا تخترقه البشرى، وهم المنافقون الذين طبع الله على قلوبهم، وفيهم يقول الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16] .

القسم الثالث: قوم يُفصِّلون في الذكرى، فيقبلون سماعها من بعض الناس ويرفضونها من بعض، ينظرون إلى بعض الناس نظرة إكبار وإجلال، ولا يدرون لعله في ميزان الله سبحانه وتعالى يوم القيامة أدنى بكثير مما يتوقعون، وينظرون إلى آخرين بعين السخط، ولا يدرون لعلهم أثقل بالميزان عند الله تعالى من ملء الأرض من أمثال أولئك، وإذا كان الإنسان هكذا فعلينا أن لا نحكم أهواءنا وأن لا نزن الناس بهذا الميزان، وأن ننظر إلى الناس على أنهم عباد الله يضع فيهم ما يشاء، وأنهم بمثابة الآنية لدى ربنا سبحانه وتعالى، وكل إناء بالذي فيه ينضح، وكل إناء يجعل الله فيه ما يشاء.

علينا أن نحترم عباد الله جميعاً، فنحن لا ندري ببواطنهم ولا مصيرهم وخاتمتهم، فأمر ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فنحن نكره الأفعال السيئة ونحب الأعمال الصالحة، ولكن تقويمنا للأشخاص لا ينبغي أن يكون على أساس ازدراء وتكبر وسخرية، فالله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ[الحجرات:11] ، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أنه كان في ملأ من أصحابه، فمر رجل من المسلمين، فلما أدبر، سألهم فقال: ما تعدون هذا فيكم؟ فقالوا: هذا رجل من عوام المسلمين، جدير إذا تكلم أن لا يستمع له وإذا خطب أن لا ينكح ثم سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر رجل آخر فقال: ما تعدون هذا فيكم؟ فقالوا: هذا سيد من سادات الناس ووجوههم، جدير إذا تكلم أن يستمع له وإذا خطب أن ينكح فقال: ذلك خير من ملء الأرض من هذا).

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى بالرجل الضخم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)، فينبغي أن لا تكون المعايير الدنيوية المادية طاغية على تقويمنا وتقديرنا، ومن هنا فعلينا أن نستمع إلى القول وأن لا ننظر إلى القائل، فالله تعالى يقول في كتابه: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:18] ، وفي المنافاة ليس لنا أن نفصل بين الناس إذا ذكروا أو تكلموا، وأن نأخذ ذكرى بعضهم وندع ذكرى بعضهم الآخر، أو نفضل بينهم على أساس ما نجده في صدورنا من معايير هذه الدنيا الفانية التي لا تزن عند الله شيئاً، وعلينا أن نستمع القول ونعتبره رسالة جاءت من ربنا إلينا، فنأخذ منه الصواب وما كان حسناً نافعاً، ونرد ما كان سيئاً قبيحاً غير مرضي عند الله سبحانه وتعالى، ونستفيد بهذا من كل أحد، وهذا هو الميزان الصحيح والمعيار السليم.

القسم الرابع: قوم يستمعون الذكرى ولا يفصلون فيها، فيسمعونها من كل مذكر ويستفيدون منها، فلا يعرضون عنها بحال من الأحوال بل يعتبرونها غنيمة وهبة ربانية وهدية أهديت إليهم، فيستفيدون منها على كل حال، هؤلاء هم أهل الإيمان الذين قال الله فيهم: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ[الغاشية:21] ، وقال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى[الأعلى:9-12]، وقال تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ[يس:11] ، وقال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[الذاريات:55] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73] ، فهؤلاء يستفيدون من الذكرى مطلقاً، من أي إنسان صدرت، وبأية لهجة كانت، ومن أي لون كانت، وبأي أسلوب وجهت، ويستفيدون منها وينتفعون، فرب إنسان كانت هدايته على أساس كلمة صدرت من شخص هو دونه بمنظار البشر، و (رُب حامل فقه وليس بفقيه، ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

سهولة الدعوة ويسرها

كنت في يوم من الأيام في بلد من بلاد الكفر، فلقيت رجلاً كان من أشد الناس عداوة لدين الله، وكان هندوسياً حاقداً على دين الإسلام، وقد أسلم وحسن إسلامه، فسألته: على يد من أسلمت؟ فقال: على يد هرة. أسلم على يد هرة! يقول: إنه خرج مع أصحاب له مسلمين، فوقف على باب المسجد ودخلوا، وجعل هو يستهزئ بمن دخل المسجد، فإذا هرة جميلة على باب المسجد، فأراد أن يمسكها ويداعبها فدخلت المسجد فاستترت، فلم يستطع أن يدخل لخوفه من المسجد، فوقف على بابه فجاءت فخرجت، فأراد أن يمسكها مرة أخرى فدخلت، وتكرر هذا الفعل منها عدة مرات، فقال: إن هذه الهرة تدعوني إلى الدخول هنا. فدخل فصادف أن وجد هداية الله هناك، وكان ذلك سبب إسلامه.

وكذلك رجل آخر كان من اليهود المتعصبين الحاقدين، وكان طبيباً جراحاً عالمياً مشهوراً، وكان من أشد الناس عداوةً للإسلام والمسلمين، وكان يزعم أن المسلمين هم من أشد الناس قذارة وأقلهم نظافة، فلقيه زميل له من الأطباء المسلمين، فقال: تعال معي إلى المسجد فسأريك طريقة النظافة لدى المسلمين. فخرج به إلى مسجد كبير في لندن، فأراه الناس وهم يتوضئون، فقال: هكذا يتنظف المسلمون خمس مرات في كل يوم على الأقل. ووقف على باب المسجد وقال: انتظرني هنا فأنا سأصلي. فوقف يستمع قراءة القرآن من خارج أبواب المسجد مدوية، ولكنه كان يهزأ بها، وأراد أن يستمع إليها فوقف مقابل باب من أبواب المسجد، فلما سلم الناس خرج إليه عدد منهم، فجعلوا يتهامسون ويقفون حوله ويسألونه: لماذا جئت هنا؟ لماذا لم تصل؟ لماذا لم تدخل المسجد؟ فكثرت عليه الأسئلة، فأخبرهم بالحقيقة وقال: أنا يهودي لست مسلماً. فلما قال ذلك قالوا: سبحان الله! ما هذا النور الذي في وجهك؟! فضحك وسخر مما قالوا، فإذا الناس يبكون لأنهم رأوا نوراً يتلألأ في وجه هذا اليهودي، فتعجبوا من ذلك عجباً شديداً، وجاء صاحبه فقال: سبحان الله! ما هذا الذي أحدثته بعدي؟ إن في وجهك نوراً عجيباً. فتعجب الرجل من هذا فخرج إلى المرآة فنظر فإذا النور قد بقي منه شيء بسيط في وجهه، وإذا هو يخبو بالتدريج، فكان ذلك سبب إسلامه، فأعلن إسلامه في ذلك الموقف، وحسن إسلامه وأسلم على يديه والده وبعض أفراد أسرته.

إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مباركة ميسرة سهلة، وعلنيا أن نلتزم بتيسيرها وسهولتها ولينها، فخير الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وأقربهم إليه وأعدلهم في الدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمه الله أساليب الدعوة، فقال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[آل عمران:159] ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألين الناس معاملة للناس وأسهلهم، وأحسنهم خلقاً، فالذين عرفوه أقسموا أنهم ما رأوا أحسن منه خلقاً، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (والله الذي لا إله غيره لقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته لم فعلت، ولا لشيء تركته لم تركت).

الدعوة بالتي هي أحسن

وجاء فبال في المسجد، فجعل الناس يزحزحونه ويصيحون عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه لا تزرموه، فتركوه حتى قضى بوله، ثم أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ثم دعاه فقال: إن هذه المساجد لم تبن لهذا، وإنما بنيت لذكر الله والصلاة).

وكذلك قال للرجل الآخر الذي تكلم في الصلاة فصمته الناس وضربوا على أفخاذهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (دعاني فبأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أحسن منه، فوالله ما ضربني ولا كهرني، وإنما وضع يده على منكبي فقال: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن).

وكذلك جاء رجل آخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يريد أن يؤمن وهو شاب حدث، فقال: يا محمد! إني أريد أن أتبعك وأدخل في دينك، لكني أريد أن أستثني شيئاً أشترطه، قال: وما هو؟ قال: الزنا. فقال: تستثني بالزنا! فضحك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنوا أن هذا الرجل من السفهاء، وأرادوا أن يؤدبوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوه لي. فدعاه حتى اقترب منه فناجاه فقال: هل ترتضيه لأمك؟ قال: لا. قال: هل ترتضيه لأختك؟ قال: لا. قال: هل ترتضيه لزوجتك؟ قال: لا. قال: هل ترتضيه لابنتك؟ قال: لا. فالنساء أمهات قوم، وزوجات قوم، وأخوات قوم، وبنات قوم. فقال: والله لقد صدقت، فنزعه الله من قلبي).

هكذا تكون الدعوة بالتي هي أحسن، وهكذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر المؤمنين عموماً، فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم -وأمره أمر لأمته- بقوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125] ، وأمر المؤمنين كذلك بالتي هي أحسن في مجادلة أهل الكتاب في قوله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[العنكبوت:46] ، فأمرهم في مجادلة أهل الكتاب الذين هم أشد الأعداء وأعتاهم أن يجادلوهم بالتي هي أحسن، وأن لا يصدقوهم وأن لا يكذبوهم، وأن يقولوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[العنكبوت:46] ، فيأتوا بالمسلمات والمتفق عليها قبل أن يذكروا مسائل الخلاف، وهذا هو أدب الدعوة، فالصحيح أن يبتدئ الإنسان بذكر المسائل المتفق عليها قبل أن يذكر المسائل الخلافية، فإذا صحت المسائل الإجماعية -وهي الأصول والأسس- فإن ما عداها يسهل تغييره وتعديله بعد ذلك.

إن أعرف الناس بالله عز وجل أحوجهم إلى التذكير به، فهذا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأكرم الخلق على الله عز وجل ينادي عبد الله بن مسعود فيقول: (يا عبد الله ! اقرأ عليَّ القرآن فيقول: كيف أقرأه عليك وعليك أنزل؟! فيقول: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود : فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا[النساء:41-42] قال: حسبك فنظرت فإذا عيناه تهملان).

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس اتعاظاً بآيات الله، فكان إذا رأى المطر مقبلاً أخذه الخروج والدخول والرعب، فقيل له في ذلك فقال: (خشيت أن أكون كأصحاب هود الذين قالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا[الأحقاف:25] )، فهذا من شدة خوفه لله وخشيته له، ولذلك ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أخوفكم لله وأتقاكم لله)، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمن مكر الله، ويحب التذكير بالله عز وجل، فقد ثبت عنه: (أن أعرابياً جاء فوقف في المسجد فأثنى على الله فأبلغ الثناء، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً إلى بيته فجاء بتبرٍ -أي: قطعة من الذهب- فقال: خذ هذا بحسن ثنائك على ربك)، فكان يحب أن يثنى على الله عز وجل.

إن ما نشاهده في دموعنا من الجمود، وفي قلوبنا من القسوة سببه عدم انتفاعنا بالذكرى، وعدم انتفاعنا بالآيات والعبر التي نشاهدها، فآيات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين:

آيات مسطورة، وآيات منظورة، فالآيات المسطورة هي التي نسمعها ونقرؤها في كتاب الله، والآية المنظورة هي ما يمر علينا من العجائب، كهذا الفجر الذي يطلع منذراً بانقضاء عهد وباستئناف يوم جديد، وهذه الشمس التي تزول ثم تغرب ويتغير نورها بعد أن كان مشعاً شديداً، وهذا الليل الذي قال فيه مالك : (الليل خلق عظيم)، وهذه الأرواح التي تنتقل وتموت وكل يوم نرى محمولين على الرقاب لا يرجعون أبداً، ولا ندري ما حالهم أفي روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار؟ وهذه النار، وهذه الأماكن التي نعيش فيها، وهذه الأماكن التي نصلي بها قد سبقنا إليها ملايين من البشر مروا بها، وكانت أعمالهم ترتفع من هذا المكان، فلا ندري ما نخلفهم فيه هل هو خير مما كانوا يعملون أو دون ذلك؟ نسأل الله أن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها.

إننا نرى كثيراً من آيات الله العجيبة، وهي مرآة يجب أن نتذكر بها ونعتبر، ومن أجل هذا قال الله في محكم كتابه: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ[يوسف:106].

إننا نحتاج إلى أن نحيي قلوبنا، وأن نحدث صلة عميقة بالله عز وجل، وأن نجدد عهدنا به، وأن نتذاكر فيما بيننا، وأن يأمر بعضنا بعضاً وينهى بعضاً بعضاً، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة غير منسوخة، بل هي محكمة دائمة، وعلينا أن نتذاكر أمثال هذا، وأن يأمر بعضنا بعضاً، وأن لا نعد هذا حديثاً معاداً، وأن لا تمله أسماعنا ولا قلوبنا، وما هو إلا خير، وهو خير ما يعرض على الآذان وخير ما يصل إلى القلوب، فينبغي أن لا نمله وأن لا ننقطع عنه.

الناس في سبيل هذه الدعوة أربعة أقسام:

القسم الأول: قوم لا يتحملون سماعها ولا يطيقونها، فهي عندهم بمثابة البعبع المرعب، يخافونها خوفاً شديداً، وهؤلاء هم المشركون الذين قال الله فيهم: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:49-51]، فيعتبرون هذه بمثابة الأسد، فيهربون منه كما تهرب الحمر من الأسد إذا رأته.

القسم الثاني: قوم يستطيعون سماع الذكرى بآذانهم، ولكن آذانهم غير أمينة، فلا تحملها إلى قلوبهم، وهؤلاء بين آذانهم وقلوبهم حصن حصين لا تخترقه البشرى، وهم المنافقون الذين طبع الله على قلوبهم، وفيهم يقول الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16] .

القسم الثالث: قوم يُفصِّلون في الذكرى، فيقبلون سماعها من بعض الناس ويرفضونها من بعض، ينظرون إلى بعض الناس نظرة إكبار وإجلال، ولا يدرون لعله في ميزان الله سبحانه وتعالى يوم القيامة أدنى بكثير مما يتوقعون، وينظرون إلى آخرين بعين السخط، ولا يدرون لعلهم أثقل بالميزان عند الله تعالى من ملء الأرض من أمثال أولئك، وإذا كان الإنسان هكذا فعلينا أن لا نحكم أهواءنا وأن لا نزن الناس بهذا الميزان، وأن ننظر إلى الناس على أنهم عباد الله يضع فيهم ما يشاء، وأنهم بمثابة الآنية لدى ربنا سبحانه وتعالى، وكل إناء بالذي فيه ينضح، وكل إناء يجعل الله فيه ما يشاء.

علينا أن نحترم عباد الله جميعاً، فنحن لا ندري ببواطنهم ولا مصيرهم وخاتمتهم، فأمر ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فنحن نكره الأفعال السيئة ونحب الأعمال الصالحة، ولكن تقويمنا للأشخاص لا ينبغي أن يكون على أساس ازدراء وتكبر وسخرية، فالله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ[الحجرات:11] ، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (أنه كان في ملأ من أصحابه، فمر رجل من المسلمين، فلما أدبر، سألهم فقال: ما تعدون هذا فيكم؟ فقالوا: هذا رجل من عوام المسلمين، جدير إذا تكلم أن لا يستمع له وإذا خطب أن لا ينكح ثم سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر رجل آخر فقال: ما تعدون هذا فيكم؟ فقالوا: هذا سيد من سادات الناس ووجوههم، جدير إذا تكلم أن يستمع له وإذا خطب أن ينكح فقال: ذلك خير من ملء الأرض من هذا).

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يؤتى بالرجل الضخم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)، فينبغي أن لا تكون المعايير الدنيوية المادية طاغية على تقويمنا وتقديرنا، ومن هنا فعلينا أن نستمع إلى القول وأن لا ننظر إلى القائل، فالله تعالى يقول في كتابه: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[الزمر:18] ، وفي المنافاة ليس لنا أن نفصل بين الناس إذا ذكروا أو تكلموا، وأن نأخذ ذكرى بعضهم وندع ذكرى بعضهم الآخر، أو نفضل بينهم على أساس ما نجده في صدورنا من معايير هذه الدنيا الفانية التي لا تزن عند الله شيئاً، وعلينا أن نستمع القول ونعتبره رسالة جاءت من ربنا إلينا، فنأخذ منه الصواب وما كان حسناً نافعاً، ونرد ما كان سيئاً قبيحاً غير مرضي عند الله سبحانه وتعالى، ونستفيد بهذا من كل أحد، وهذا هو الميزان الصحيح والمعيار السليم.

القسم الرابع: قوم يستمعون الذكرى ولا يفصلون فيها، فيسمعونها من كل مذكر ويستفيدون منها، فلا يعرضون عنها بحال من الأحوال بل يعتبرونها غنيمة وهبة ربانية وهدية أهديت إليهم، فيستفيدون منها على كل حال، هؤلاء هم أهل الإيمان الذين قال الله فيهم: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ[الغاشية:21] ، وقال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى[الأعلى:9-12]، وقال تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ[يس:11] ، وقال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[الذاريات:55] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73] ، فهؤلاء يستفيدون من الذكرى مطلقاً، من أي إنسان صدرت، وبأية لهجة كانت، ومن أي لون كانت، وبأي أسلوب وجهت، ويستفيدون منها وينتفعون، فرب إنسان كانت هدايته على أساس كلمة صدرت من شخص هو دونه بمنظار البشر، و (رُب حامل فقه وليس بفقيه، ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كنت في يوم من الأيام في بلد من بلاد الكفر، فلقيت رجلاً كان من أشد الناس عداوة لدين الله، وكان هندوسياً حاقداً على دين الإسلام، وقد أسلم وحسن إسلامه، فسألته: على يد من أسلمت؟ فقال: على يد هرة. أسلم على يد هرة! يقول: إنه خرج مع أصحاب له مسلمين، فوقف على باب المسجد ودخلوا، وجعل هو يستهزئ بمن دخل المسجد، فإذا هرة جميلة على باب المسجد، فأراد أن يمسكها ويداعبها فدخلت المسجد فاستترت، فلم يستطع أن يدخل لخوفه من المسجد، فوقف على بابه فجاءت فخرجت، فأراد أن يمسكها مرة أخرى فدخلت، وتكرر هذا الفعل منها عدة مرات، فقال: إن هذه الهرة تدعوني إلى الدخول هنا. فدخل فصادف أن وجد هداية الله هناك، وكان ذلك سبب إسلامه.

وكذلك رجل آخر كان من اليهود المتعصبين الحاقدين، وكان طبيباً جراحاً عالمياً مشهوراً، وكان من أشد الناس عداوةً للإسلام والمسلمين، وكان يزعم أن المسلمين هم من أشد الناس قذارة وأقلهم نظافة، فلقيه زميل له من الأطباء المسلمين، فقال: تعال معي إلى المسجد فسأريك طريقة النظافة لدى المسلمين. فخرج به إلى مسجد كبير في لندن، فأراه الناس وهم يتوضئون، فقال: هكذا يتنظف المسلمون خمس مرات في كل يوم على الأقل. ووقف على باب المسجد وقال: انتظرني هنا فأنا سأصلي. فوقف يستمع قراءة القرآن من خارج أبواب المسجد مدوية، ولكنه كان يهزأ بها، وأراد أن يستمع إليها فوقف مقابل باب من أبواب المسجد، فلما سلم الناس خرج إليه عدد منهم، فجعلوا يتهامسون ويقفون حوله ويسألونه: لماذا جئت هنا؟ لماذا لم تصل؟ لماذا لم تدخل المسجد؟ فكثرت عليه الأسئلة، فأخبرهم بالحقيقة وقال: أنا يهودي لست مسلماً. فلما قال ذلك قالوا: سبحان الله! ما هذا النور الذي في وجهك؟! فضحك وسخر مما قالوا، فإذا الناس يبكون لأنهم رأوا نوراً يتلألأ في وجه هذا اليهودي، فتعجبوا من ذلك عجباً شديداً، وجاء صاحبه فقال: سبحان الله! ما هذا الذي أحدثته بعدي؟ إن في وجهك نوراً عجيباً. فتعجب الرجل من هذا فخرج إلى المرآة فنظر فإذا النور قد بقي منه شيء بسيط في وجهه، وإذا هو يخبو بالتدريج، فكان ذلك سبب إسلامه، فأعلن إسلامه في ذلك الموقف، وحسن إسلامه وأسلم على يديه والده وبعض أفراد أسرته.

إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مباركة ميسرة سهلة، وعلنيا أن نلتزم بتيسيرها وسهولتها ولينها، فخير الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وأقربهم إليه وأعدلهم في الدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمه الله أساليب الدعوة، فقال تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[آل عمران:159] ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ألين الناس معاملة للناس وأسهلهم، وأحسنهم خلقاً، فالذين عرفوه أقسموا أنهم ما رأوا أحسن منه خلقاً، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (والله الذي لا إله غيره لقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته لم فعلت، ولا لشيء تركته لم تركت).

وجاء فبال في المسجد، فجعل الناس يزحزحونه ويصيحون عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه لا تزرموه، فتركوه حتى قضى بوله، ثم أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ثم دعاه فقال: إن هذه المساجد لم تبن لهذا، وإنما بنيت لذكر الله والصلاة).

وكذلك قال للرجل الآخر الذي تكلم في الصلاة فصمته الناس وضربوا على أفخاذهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (دعاني فبأبي هو وأمي ما رأيت قبله ولا بعده معلماً أحسن منه، فوالله ما ضربني ولا كهرني، وإنما وضع يده على منكبي فقال: إن هذه الصلاة لا يصلح لها شيء من كلام الناس، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن).

وكذلك جاء رجل آخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يريد أن يؤمن وهو شاب حدث، فقال: يا محمد! إني أريد أن أتبعك وأدخل في دينك، لكني أريد أن أستثني شيئاً أشترطه، قال: وما هو؟ قال: الزنا. فقال: تستثني بالزنا! فضحك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنوا أن هذا الرجل من السفهاء، وأرادوا أن يؤدبوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوه لي. فدعاه حتى اقترب منه فناجاه فقال: هل ترتضيه لأمك؟ قال: لا. قال: هل ترتضيه لأختك؟ قال: لا. قال: هل ترتضيه لزوجتك؟ قال: لا. قال: هل ترتضيه لابنتك؟ قال: لا. فالنساء أمهات قوم، وزوجات قوم، وأخوات قوم، وبنات قوم. فقال: والله لقد صدقت، فنزعه الله من قلبي).

هكذا تكون الدعوة بالتي هي أحسن، وهكذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر المؤمنين عموماً، فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم -وأمره أمر لأمته- بقوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125] ، وأمر المؤمنين كذلك بالتي هي أحسن في مجادلة أهل الكتاب في قوله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[العنكبوت:46] ، فأمرهم في مجادلة أهل الكتاب الذين هم أشد الأعداء وأعتاهم أن يجادلوهم بالتي هي أحسن، وأن لا يصدقوهم وأن لا يكذبوهم، وأن يقولوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[العنكبوت:46] ، فيأتوا بالمسلمات والمتفق عليها قبل أن يذكروا مسائل الخلاف، وهذا هو أدب الدعوة، فالصحيح أن يبتدئ الإنسان بذكر المسائل المتفق عليها قبل أن يذكر المسائل الخلافية، فإذا صحت المسائل الإجماعية -وهي الأصول والأسس- فإن ما عداها يسهل تغييره وتعديله بعد ذلك.