اليوم الآخر حكم وأحكام [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد الله رب العلمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد عرفنا أن للإنسان خمسة أعمار، وأن العمر المركزي فيها هو عمره الدنيوي، وهو أقصر أعماره، وأنه لابد من استغلاله، وأن استغلاله لا يكون إلا بالتخطيط، وأن ذلك يكون في أربع مراحل، وأول مرحلة منها:

التعلم، ولذلك لابد أن نتعلم ما يتعلق باليوم الآخر، فهو مصير حتمي لكل واحد منا، ونحن صائرون إليه لا محالة، فنحتاج إلى أن تعلم شيئاً عنه، فالإنسان إذا أراد أن ينتقل إلى بلد من البلدان، لابد أن يأخذ معلومات عن البلد الذي سينتقل إليه، عن قوانينه، وعن منافذه، وعن عملته، وعن أنظمته، وعن غير ذلك، ونحن جميعاً منتقلون إلى الدار الآخرة، فنحتاج إلى التعرف على هذه الدار ومعرفتها، ولتعلم ما يتعلق باليوم الآخر فوائد كثيرة:

زيادة الإيمان

منها أولاً: زيادة الإيمان، فهذا الإيمان- الذي به شرف الإنسان، وهو شرط في دخوله الجنة- يزيد وينقص، وقد أثبت الله ذلك في كتابه، فقال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125].

وقال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، وقال تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].

فالإيمان إذاً يزيد وينقص، وزيادة الإيمان تكون بثلاثة أمور:

الأمر الأول: زيادة رسوخه وثباته، أن يرسخ الإيمان في قلب الإنسان ويثبت بحيث تتنزل في قلبه السكينة، فلا يشك ولا يرتاب، فهذه زيادة في الإيمان.

الأمر الثاني: زيادة العمل، لدخول الأعمال في مسمى الإيمان، وقد ذكرنا أن العلم إنما فائدته العمل، فإذا ازداد الإنسان عملاً وتقوى وطاعة لله فقد ازداد إيماناً بذلك.

والأمر الثالث: زيادة أفراد ما يؤمن به الإنسان، فالإنسان كلما ازداد علماً ازدادت أفراد قناعته، ولذلك فقول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة:124]، المقصود بها: أنه كلما نزلت سورة من القرآن من جديد، زاد عدد ما يؤمنون به من السور، فيزدادون إيماناً، أي: تزداد مفردات إيمانهم، وهذه الأمور الثلاثة التي تتحقق بها زيادة الإيمان كلها تتحقق بمعرفة شأن اليوم الآخر.

معرفة الله عز وجل

كذلك فإن من فوائد معرفة اليوم الآخر: أنه سبب لمعرفة الله عز وجل، فأول واجب على المكلفين معرفة الله جل جلاله، ومعرفة الله تقتضي محبته، وتمام الانقياد لحكمه، وتقتضي طاعته.

وإذا عرف الإنسان اليوم الآخر وعرف ما فيه، من العرض على الله سبحانه وتعالى، ومن الحساب، ومن دخول الجنة والنار، عرف عظمة الباري جل جلاله، فهو الديان وهو جبار السموات والأرض، فإذا عرف الإنسان عظمته وجلاله وكبرياءه وملكه، ازداد إيماناً به ومحبةً له ومعرفةً له.

زيادة الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم

كذلك من فوائد معرفة اليوم الآخر: زيادة الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الشافع المشفع في الناس جميعاً في المحشر يوم القيامة، وهو الشافع لدخول الجنة، وهو الذي يرد الناس حوضه المورود، فيشرب منه من أراد الله بهم الخير شربة هنيئة لا يظمئون بعدها أبداً، فقد ادخر الله له المقام المحمود يوم القيامة، ولا شك أن معرفة ذلك تزيد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيماناً به، وتعلقاً به، لزيادة طاعته، والأخذ بشرعه.

انتصار الإنسان على نفسه

وكذلك من فوائد معرفة اليوم الآخر: تغلب الإنسان على نفسه وانتصاره عليها، فالإنسان محتاج إلى الانتصار على النفس، وهي إحدى الجبهات الخمس -كما ذكرنا- ولا يمكن أن ينتصر على غيره ما لم ينتصر على نفسه، ولذلك قال الشيخ حسن الهضيبي رحمة الله عليه: إن من انهزم أمام نفسه في معركة الإصلاح، حري أن ينهزم أمام غيره في معركة السلاح.

هذه قاعدة عظيمة: من انهزم أمام نفسه في معركة الإصلاح، حري أن ينهزم أمام غيره في معركة السلاح، وضد هذه القاعدة صحيح، فمن انتصر على نفسه في معركة الإصلاح، حري أن ينتصر على غيره في معركة السلاح، فما ترونه من الهزائم يحل بهذه الأمة، سببه هزيمتها أمام نفوسها، لو انتصر الإنسان على نفسه لانتصر على غيرها من أعدائها، ومادام الإنسان مهزوماً أمام نفسه، لا يردها عن شهوة، ولا عن معصية، ولا عن مخالفة، لا يرجى أن ينتصر على غيره أصلاً، وإنما ينتصر الإنسان على نفسه بمعرفة اليوم الآخر وما اشتمل عليه، فهذه فائدة عظيمة يجنيها الإنسان من معرفته باليوم الآخر.

معرفة دلالات النصوص الشرعية

كذلك من فوائد معرفتنا باليوم الآخر: معرفتنا لدلالات النصوص الشرعية، فقد جاء في ذكر اليوم الآخر كثير من النصوص من القرآن والسنة، وقد جاء في ذكر البعث بعد الموت سبعمائة وسبع وستون آية في القرآن، وجاء في ذكر اليوم الآخر والجنة والنار أكثر من ألف آية، فهذه النصوص لا يمكن معرفتها وفهما إلا بمعرفة اليوم الآخر، وتفصيلات ما ورد فيه من النصوص.

معرفة حكمة الباري جل وعلا

كذلك من فوائد معرفتنا باليوم الآخر وما يتعلق به: معرفتنا بحكمة الباري جل جلاله، فهو الحكيم الخبير، فهو غني عن عباده، وغني عن تعذيب الظالمين، ومن تمام لطفه بعباده أنه يضاعف الحسنة الواحدة إلى عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ويعفو عن السيئات ويتجاوز عنها، وإذا عاقب بها فإن السيئة لا تكتب إلا سيئة واحدة، وإذا هم الإنسان بحسنة فلم يعملها كتبت حسنة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة أيضاً بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، فيعرف الإنسان بذلك حكمة الباري جل جلاله.

زيادة رغبة الإنسان في الجنة وخوفه من النار

كذلك من فوائد معرفتنا باليوم الآخر: رغبة الإنسان في الجنة، وخوفه من النار، فالإنسان محتاج إلى ما يزيده رغبة فيما عند الله عز وجل، ورهبة مما عنده، فالذي لا يعرف الجنة لا يرغب فيها، والذي لا يعرف النار لا يرهبها، وقد جاء في الأثر: ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، ولا مثل النار نام هاربها.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الله تعالى لما خلق الله الجنة أمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم خلق النار فأمره فأطاف بها فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها، ثم أمر بالجنة فحجبت بالمكاره، فأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا يدخلها أحد، وأمر بالنار فحجبت بالشهوات، فأمر جبريل فأطاف بها، فقال: كيف وجدتها؟ فقال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد ).

فلذلك يحتاج الإنسان إلا ما يرغبه في الجنة ويحدوه إليها، ويحتاج إلى ما يرهبه من النار ويخوفه منها.

وكلما ازداد الإنسان رغبة في الجنة ازداد طاعة لله واتباعاً لشرعه، وكلما ازداد خوفاً من النار كذلك ازداد طاعة لله، واتباعاً لشرعه.

علاج قسوة القلوب والغفلة

وكذلك من فوائد معرفة اليوم الآخر: أن معرفته علاج للقسوة والغفلة، فنحن في هذه الدار نصاب بكثير من الأمراض، كثير منا يشعر فقط بالأمراض البدنية، وينسى الأمراض القلبية والنفسية والإيمانية، وهي أمراض تكون في بعض الأحيان أخطر وأكبر من أمراض البدن، ومن هذه الأمراض القسوة، فالقلوب تقسو، فيمر عليه القرآن كاملاً يسمعه من أوله إلى آخره، فلا تقطر له دمعة، ولا يرتعش رعشة، ولا يرتجف ارتجافة واحدة، وما ذلك إلا لقسوة القلب، وقد قال الله تعالى: الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله [الزمر:23].

وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ [الإسراء:107-109].

وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فكتبنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:82-83].

وهذه القسوة أثرها بارز في عصرنا هذا وفي أمتنا، ففي هذا العصر قلّما تجد من هو خاشع، إذا سمع القرآن تأثر به، يتأثر الناس بأصوات القراء، فالقارئ الذي يعجبهم حسن صوته، يتأثرن ويتفاعلون مع قراءته، وليس ذلك بالخشوع؛ لأن الخشوع يتعلق بالمعنى لا باللفظ، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه في آخر الزمان يقدم القوم الرجل ليس بأفقههم، ولا بأفضلهم، ما قدموه إلا ليغني لهم )، ما قدموه إلا ليغني لهم، يعجبهم صوته فقط، فيقدمونه ليغني لهم، لذلك نحتاج إلى الخشوع، ونحتاج إلى رقة القلب، ولاشك أن رقة القلب من حياته.

أخرج مالك في الموطأ وأحمد في الزهد عن يحيى بن سعيد الأنصاري، أنه بلغه أن عيسى بن مريم كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.

وكذلك فإن الناس في هذه الدار غافلون عن الدار الآخرة، فكم من إنسان يصبح ويمسي وقد نسج كفنه واستجلب في السوق، وهو موضوع في المحل التجاري جاهز، وهو لا يستشعر ذلك، وكم من إنسان يمر على البقعة التي سيقبر فيها ويرى قبره وهو لا يستشعر ذلك:

وكم من فتى يمسي ويصبح لاهياً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

فلذلك نحتاج إلى إزالة هذه الغفلة عن أنفسنا، فهي داء عضال، ومرض خطير، وإنما تزول عنا الغفلة بتذكر الدار الآخرة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزورها فإنها تذكركم الآخرة ).

تذكر الآخرة مهم جداً في مكافحة القسوة والغفلة.

تضييق ما اتسع من الدنيا وتوسيع ما ضاق منها

كذلك من فوائد معرفتنا باليوم الآخر: أنه سبب لتوسعة ما نحن فيه من المشكلات، وللتضييق أيضاً على من أحس بالسعة في أمر الدنيا، فالناس في الدنيا بين قبض وبسط، فمن هو في قبض يشكو ضيق حاله وضيق معاشه، وينظر إلى من فوقه، فإذا تذكر الدار الآخرة، وتفاوت أهلها فيها، علم أن تزهده في الدنيا خير له، وأن ما فاته منها لا ينبغي أن يؤسف عليه، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23].

وبذلك رغب فيما عند الله، وزهد فيما فاته من أمر الدنيا، وهذا الحال يقتضي منه المسارعة إلى الطاعات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما لي وما للدنيا، إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها )، والراكب إذا استظل تحت الشجرة لا يريد البقاء والاستمرار تحتها أبداً، بل يتفيأ مع الظل، فإذا زالت الشمس انطلق في سفره، ونحن منطلقون إلى الدار الآخرة، وقد مر خلقنا بتسعة أطوار، هي المذكورة في نذارة نوح عليه السلام، في قوله تعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:14].

وفي نذارة محمد صلى الله عليه وسلم، قال: (( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ))[الآنشقاق:19]، فهذه الأطباق تسعة، قد مر بنا منها إلى الآن سبعة وبقي اثنان فقط، والإنسان إذا كان يقطع مسافة طولها تسعة كيلومترات، وقد قطع منها سبعة كيلومترات، ولم يبقَ إلا اثنان فقط، لاشك أن النهاية قريبة، هذه الأطوار التسعة هي مذكورة في قول الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون:12]، هذا الطور الأول، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون:13] هذا الثاني، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون:14] هذا الثالث، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون:14] هذا الرابع، فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا [المؤمنون:14] هذا الخامس، فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا [المؤمنون:14] هذا السادس، ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14] وهذا السابع.

والمقصود به في كلامه من الصبا إلى تمام الخلقة، ثم الرجوع إلى الكبر والشيب، فيبدأ أولا بضعف، ثم بعده القوة، ثم بعد ذلك الضعف والشيبة.

ثم قال: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ [المؤمنون:15] وهذا الطور الثامن، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:16] وهذا الطور التاسع، ولم يبق من مسيرتنا سوى هذين الطورين: الموت والبعث، فلذلك نحتاج إلى مراجعة ما أمامنا؛ لأنه توسعة للضيق الذي علينا، وتضييق لمن وسع عليه منا أيضاً، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أكثروا من ذكر هاذم اللذات الموت )، هاذم اللذات أي: قاطعها فجأة، الهذم هو القطع فجأة، ( أكثرو من ذكر هاذم اللذات الموت، فما ذكر في سعة إلا ضيقها، ولا في ضيق إلا وسعه )، إذا كان الإنسان في ضيق من شأن الدنيا، فذكر الجنة وما فيها من النعيم المقيم، وذكر النار وما فيها من العذب الأليم، لا شك أن ذلك سيزيل عنه التفكر فيما هو فيه من ضيق حاله، وإذا كان في سعة من الرزق، وتوسعة من الدنيا، فذكر ضيق جهنم على أهلها، وتذكر قول الله تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان:12-14]، لاشك أن هذا يضيق عليه ما هو فيه من سعة الدنيا.

هذه الفوائد كلها نجنيها من معرفتنا باليوم الآخر.

منها أولاً: زيادة الإيمان، فهذا الإيمان- الذي به شرف الإنسان، وهو شرط في دخوله الجنة- يزيد وينقص، وقد أثبت الله ذلك في كتابه، فقال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125].

وقال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، وقال تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].

فالإيمان إذاً يزيد وينقص، وزيادة الإيمان تكون بثلاثة أمور:

الأمر الأول: زيادة رسوخه وثباته، أن يرسخ الإيمان في قلب الإنسان ويثبت بحيث تتنزل في قلبه السكينة، فلا يشك ولا يرتاب، فهذه زيادة في الإيمان.

الأمر الثاني: زيادة العمل، لدخول الأعمال في مسمى الإيمان، وقد ذكرنا أن العلم إنما فائدته العمل، فإذا ازداد الإنسان عملاً وتقوى وطاعة لله فقد ازداد إيماناً بذلك.

والأمر الثالث: زيادة أفراد ما يؤمن به الإنسان، فالإنسان كلما ازداد علماً ازدادت أفراد قناعته، ولذلك فقول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة:124]، المقصود بها: أنه كلما نزلت سورة من القرآن من جديد، زاد عدد ما يؤمنون به من السور، فيزدادون إيماناً، أي: تزداد مفردات إيمانهم، وهذه الأمور الثلاثة التي تتحقق بها زيادة الإيمان كلها تتحقق بمعرفة شأن اليوم الآخر.

كذلك فإن من فوائد معرفة اليوم الآخر: أنه سبب لمعرفة الله عز وجل، فأول واجب على المكلفين معرفة الله جل جلاله، ومعرفة الله تقتضي محبته، وتمام الانقياد لحكمه، وتقتضي طاعته.

وإذا عرف الإنسان اليوم الآخر وعرف ما فيه، من العرض على الله سبحانه وتعالى، ومن الحساب، ومن دخول الجنة والنار، عرف عظمة الباري جل جلاله، فهو الديان وهو جبار السموات والأرض، فإذا عرف الإنسان عظمته وجلاله وكبرياءه وملكه، ازداد إيماناً به ومحبةً له ومعرفةً له.

كذلك من فوائد معرفة اليوم الآخر: زيادة الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الشافع المشفع في الناس جميعاً في المحشر يوم القيامة، وهو الشافع لدخول الجنة، وهو الذي يرد الناس حوضه المورود، فيشرب منه من أراد الله بهم الخير شربة هنيئة لا يظمئون بعدها أبداً، فقد ادخر الله له المقام المحمود يوم القيامة، ولا شك أن معرفة ذلك تزيد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيماناً به، وتعلقاً به، لزيادة طاعته، والأخذ بشرعه.

وكذلك من فوائد معرفة اليوم الآخر: تغلب الإنسان على نفسه وانتصاره عليها، فالإنسان محتاج إلى الانتصار على النفس، وهي إحدى الجبهات الخمس -كما ذكرنا- ولا يمكن أن ينتصر على غيره ما لم ينتصر على نفسه، ولذلك قال الشيخ حسن الهضيبي رحمة الله عليه: إن من انهزم أمام نفسه في معركة الإصلاح، حري أن ينهزم أمام غيره في معركة السلاح.

هذه قاعدة عظيمة: من انهزم أمام نفسه في معركة الإصلاح، حري أن ينهزم أمام غيره في معركة السلاح، وضد هذه القاعدة صحيح، فمن انتصر على نفسه في معركة الإصلاح، حري أن ينتصر على غيره في معركة السلاح، فما ترونه من الهزائم يحل بهذه الأمة، سببه هزيمتها أمام نفوسها، لو انتصر الإنسان على نفسه لانتصر على غيرها من أعدائها، ومادام الإنسان مهزوماً أمام نفسه، لا يردها عن شهوة، ولا عن معصية، ولا عن مخالفة، لا يرجى أن ينتصر على غيره أصلاً، وإنما ينتصر الإنسان على نفسه بمعرفة اليوم الآخر وما اشتمل عليه، فهذه فائدة عظيمة يجنيها الإنسان من معرفته باليوم الآخر.