الغلو في الدين [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم وحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فقد عرفنا سابقاً شروط تكفير المعين، وذكرنا أن أضداد هذه الشروط هي موانع من التكفير، والإنسان الواحد قد يقوم به من أوصاف أهل الإيمان ما يقتضي نفي اتصافه بصفة الكفر، فيكون الإنسان عرف باستقامته، وعبادته، وخوفه من الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك وقع منه أمر مستنكر، وأمر هو كفر، كاستباحة معلوم التحريم بالضرورة، أو نحو ذلك، فإنه يعذر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن نقيل ذوي الهيئات عثراتهم، ولذلك فإن أصحاب رسول لله صلى الله عليه وسلم، لما شرب قدامة بن مظعون رضي الله عنه الخمر متأولاً لقول الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا [المائدة:93]، رفعوا عنه التكفير، وأقاموا عليه حد الشرب، وعندما نام عمر بعد أن جلد قدامة قيل له في المنام: أرضِ قدامة فإنه أخوك، فذهب عمر إليه واسترضاه، مع أنه أقام عليه حد الشرب، وقدامة هنا كان مستحلاً للخمر، وهي من المعلوم من الدين بالضرورة وذلك بتأول لهذه الآية.

وكذلك فإنهم أجمعوا على عدم تكفير عبد الله بن مسعود، بل قد انعقد الإجماع على أنه من أهل الجنة، وقد كان ينكر أن الفاتحة والمعوذتين من القرآن، ومن أنكر ذلك الآن كفر، لكن ابن مسعود إنما له رأي في ذلك ومنهج محدد يختص به، ولا يمكن تكفيره أصلاً؛ لأنه قام به من الإيمان والتقوى، وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة، ما يكون مانعاً من التكفير في حقه.

فلذلك قد يتصف الإنسان بصفات الإيمان التي تمنع اتصافه بالكفر، حتى لو وقع في بعض المكفرات لا يحكم عليه بها بمقتضى ذلك؛ لأنه قام به من صفات أهل الإيمان ما يمنع ذلك منه، وهذا التكفير أيضاً إنما يكون على أساس هذه الأمور التي جاءت في الشرع.

فما لم يرد في الشرع أنه كفر، لا يمكن أن يكفر الناس به باجتهادات البشر، وهذا أمر مهم لابد من الرجوع إليه، فنحن ما كنا نعرف الإيمان، ولم نكن نعرف الكفر، وإنما عرفنا الإيمان والكفر بالوحي.

فلذلك لابد من الاقتصار في مجال التكفير على الوحي فقط، فما جاء في الوحي أنه الإيمان، نعرف أنه الإيمان، وما جاء في الوحي أنه الكفر نعرف أنه الكفر، أما اجتهادات الناس وآراؤهم فيما دون ذلك فإنه لا يكفر بها.

منهج علماء السلف في التكفير العام دون تكفير المعين

ولذلك تجدون كثيراً من الغالين اليوم يعتمدون على أمور ما جاء في القرآن ولا في السنة أنه يكفر بها، وإنما اجتهد في ذلك أقوام، وهم يرون أن اجتهاد أولئك الأقوام قاضٍ على الأمة كلها، محكم في رقاب الناس، وهذا من الغلط في التصور وسوء التقدير، فقد ورد عن بعض السلف القول بالتكفير العام، وليس بتكفير المعين، وإنما يقصدون بذلك التغليظ والتنفير من بعض البدع بخصوصها.

كما ذكر ذلك الخطابي، وابن تيمية وغيرهما، في تكفير عدد من أئمة السلف للجهمية، قالوا: إنما يقصدون بذلك التغليظ والتنفير مما كانوا عليه، ولكن لا يقصد به تكفير كل فرد منهم بعينه.

ولذلك فإن أحمد بن حنبل قال: لو لم يكن لي إلا دعوة واحدة مستجابة لخصصت بها الخليفة، والخليفة كان آنذاك جهمياً وهو الذي حبسه وعذبه وآذاه، وقد كان هو ومن حوله إذ ذاك يمتحنون الناس بخلق القرآن، فلا يفكون أسيراً حتى يقر بخلق القرآن، ولا يولون والياً ولا قاضياً حتى يقر بذلك، وهذا أعظم من تبني أصل الفكرة، ومع ذلك كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة أهل السنة يصلون وراءهم ويدعون لهم، ويصلون على جنائزهم، ولو كانوا يعتقدون كفر كل فرد منهم لما جاز لهم ذلك، لأن الله تعالى يقول: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113].

فهذا يدل على أن قولهم بالتكفير المطلق ليس حكماً على الأفراد بالكفر، ولا معاملة لهم بمقتضاه.

ولذلك منع أحمد بن حنبل رحمه الله محمد بن نصر الخزاعي من الخروج على المأمون، وحذره من ذلك.

طعن الغلاة في أهل العلم من السلف والخلف

ثم إن الشبه التي يكفر بها الغالون- في زماننا هذا- الكثير من المسلمين إذا وضعناها على بساط البحث والمناقشة، سنجد كثيراً منها ليس له أساس من الناحية الشرعية، وإنما انطبع بغلوهم ومجاوزتهم لذلك.

فمن ذلك مثلاً: أن من الناس من يكفرون كثيراً من هذه الأمة وعلمائها، بسبب تأويلهم لبعض صفات الباري جل جلاله، ووصل بهم هذا إلى حد الاعتداء على أئمة السنة، والطعن فيهم، ولعن بعض الأئمة الأعلام، كـأبي حنيفة وغيره من الأئمة الأعلام رضي الله عنهم وأرضاهم.

بل وصل ببعضهم الأمر إلى إحراق كتب السنة، كفتح الباري، وشرح النووي على صحيح مسلم وغيرهما، وقد شاهدنا بعض ذلك! فمثل هذا النوع من الغلو هو قطعاً من عمل الشيطان، وإذا راجع أحدهم نفسه، فقال: أين أنا من هؤلاء، أين أنا من الحافظ ابن حجر، أو الإمام يحيى بن شرف النووي، أو الإمام أبي حنيفة؟ فسيجد أن بينه وبينهم بوناً شاسعاً كما بين الثرى والثريا، وأنه لا يمكن أن يساويهم في علمهم، ولا في تقواهم، ولا في عبادتهم، ولا في قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعهم له ونصرتهم لدينه.

فإذا عرف الإنسان ذلك تدرج بهؤلاء الغالين إلى أن يصلوا إلى العلماء والدعاة المعاصرين لهم، فيقال: أنت أعلم أم فلان بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ أنت أتقى لله منه وأخوف له منه؟ أنت أكثر منه قياماً لليل وصياماً للنفل وعبادةً وورعاً وزهداً في الدنيا؟ أنت أعف لساناً منه؟ فإذا راجع نفسه بذلك حكم عليه بقول حسان رضي الله عنه:

أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء

فكثير من الذين يتطاولون على الأئمة، ويتجاسرون عليهم بسبب بعض الأخطاء التي لا يوافقونهم عليها، قد غفلوا عن مستواهم هم مقارنة بمستوى أولئك الأئمة، فجعلوا أنفسهم حكاماً على أولئك الأئمة، وعدلوا أنفسهم، وطعنوا في الأئمة وجرحوهم.

طعن الغلاة في المدارس الدعوية والجماعات الإسلامية

ومثل هذا أيضاً: الطعن في المدارس الدعوية، والجماعات العاملة للإسلام، فكثير من الغالين يطعنون في الذين دعوا إلى الإسلام واستجيب لدعوتهم ونفع الله بها، وثبت بها كثير من الناس الذين كانوا عرضة للكفر والفسوق والفجور والانحراف والانجراف وراء كثير من الدعايات والدعوات المنحرفة، فثبتهم الله بهذه الجماعات، وبهذه الجمعيات، وبهذه المدارس والمساجد والمكتبات ووسائل الإعلام وغيرها، فهم غضوا الطرف عما في هذه المؤسسات من الجانب الناصع الرباني الصحيح، وبحثوا عما فيها من الخطأ الذي ينقضونه.

وقد حصلت قصة لأحد الأعراب كان في مجلس الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، وكان يقرأ على الشيخ كتاب فتح الباري، فمر القارئ بكلام للحافظ ابن حجر فيه تأويل صفة من صفات الباري جل جلاله، فشغب هذا الأعرابي وصاح، وقال: هذا خطأ منافٍ للعقيدة الصحيحة، فقال له الشيخ محمد بن عبد الوهاب: منذ بداية المجلس وأنت تسمع العلم الصحيح، والسنة الثابتة، والشرح المستقيم لها، فلم تفرح بشيءٍ من ذلك، ولم تقم به، حتى إذا جاء خطأ واحد فرحت به وأخذته، فما أنت إلى كالذباب لا ينزل إلا على القذر.

فهؤلاء الغالون الذين يقع منهم هذا يتلمسون الأخطاء، ويبحثون عن شيء ينقدونه، فيسمعون إذاعة مثلاً فيها القرآن، وفيها السنة، وفيها الدروس، وفيها الإرشاد، فيبحثون عن أي شيء تنتقد به، ووجه البحث فقط هو وجه النقد، بأي شيءٍ نطعن في هذه الإذاعة مثلاً، فيبحثون فيجدون مثلاً كلاماً نقل في الإذاعة لشخص، وليس معنى نقله أن القائمين على الإذاعة يسلمون له مطلقاً، وكل كتاب وكل شريط يؤخذ منه ويرد، فيه الصواب والخطأ.

ولذلك قال البويطي: لما أتم الشافعي كتابه ناولنيه، وقال: خذ هذا الكتاب على خطأ كثير فيه، قال: قلت: يا أبا عبد الله أصلحه لنا، قال: كيف وقد قال الله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، أبى الله العصمة إلا لكتابه.

فكل الكتب، وكل الأشرطة، وكل الدروس، فيها الصواب والخطأ بالضرورة، إلا كتاب الله فهو الكتاب الوحيد المعصوم، أما ما سواه من الكتب فلابد أن يقع فيه الأخطاء، ومن لا يعرف هذا يبحث عن هذه الأخطاء فيكبرها ويتناسى أخطاء نفسه، وما فيه هو من العيوب، ولو قارن تلك الأخطاء التي هو مطلع عليها بما نقده من أخطاء الآخرين لاستحيا من نفسه وهو في هذا الموقف الحرج.

ولذلك أخرج مالك في الموطأ، وأحمد في الزهد، عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه: ( أن عيسى بن مريم: كان يقول: لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية )، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة )، وفي الحديث الآخر: ( من تتبع عورة امرئ مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ).

فالمسلم هو الذي يسلم المسلمون من لسانه ويده، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ).

والمعتدي هو الذي يبحث عن الأخطاء، ويبحث عن الزلات والعيوب ويتتبعها ليس حسن الإسلام؛ لأن ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، والناس عليهم ملائكة يحصون أخطاءهم، فانشغالك بأخطائهم هو انشغال بشغل الملائكة الكرام الكاتبين، وتعطيل لواجباتك أنت في متابعتك لأخطاء نفسك وتوبتك منها.

ولذلك تجدون كثيراً من الغالين اليوم يعتمدون على أمور ما جاء في القرآن ولا في السنة أنه يكفر بها، وإنما اجتهد في ذلك أقوام، وهم يرون أن اجتهاد أولئك الأقوام قاضٍ على الأمة كلها، محكم في رقاب الناس، وهذا من الغلط في التصور وسوء التقدير، فقد ورد عن بعض السلف القول بالتكفير العام، وليس بتكفير المعين، وإنما يقصدون بذلك التغليظ والتنفير من بعض البدع بخصوصها.

كما ذكر ذلك الخطابي، وابن تيمية وغيرهما، في تكفير عدد من أئمة السلف للجهمية، قالوا: إنما يقصدون بذلك التغليظ والتنفير مما كانوا عليه، ولكن لا يقصد به تكفير كل فرد منهم بعينه.

ولذلك فإن أحمد بن حنبل قال: لو لم يكن لي إلا دعوة واحدة مستجابة لخصصت بها الخليفة، والخليفة كان آنذاك جهمياً وهو الذي حبسه وعذبه وآذاه، وقد كان هو ومن حوله إذ ذاك يمتحنون الناس بخلق القرآن، فلا يفكون أسيراً حتى يقر بخلق القرآن، ولا يولون والياً ولا قاضياً حتى يقر بذلك، وهذا أعظم من تبني أصل الفكرة، ومع ذلك كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة أهل السنة يصلون وراءهم ويدعون لهم، ويصلون على جنائزهم، ولو كانوا يعتقدون كفر كل فرد منهم لما جاز لهم ذلك، لأن الله تعالى يقول: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113].

فهذا يدل على أن قولهم بالتكفير المطلق ليس حكماً على الأفراد بالكفر، ولا معاملة لهم بمقتضاه.

ولذلك منع أحمد بن حنبل رحمه الله محمد بن نصر الخزاعي من الخروج على المأمون، وحذره من ذلك.

ثم إن الشبه التي يكفر بها الغالون- في زماننا هذا- الكثير من المسلمين إذا وضعناها على بساط البحث والمناقشة، سنجد كثيراً منها ليس له أساس من الناحية الشرعية، وإنما انطبع بغلوهم ومجاوزتهم لذلك.

فمن ذلك مثلاً: أن من الناس من يكفرون كثيراً من هذه الأمة وعلمائها، بسبب تأويلهم لبعض صفات الباري جل جلاله، ووصل بهم هذا إلى حد الاعتداء على أئمة السنة، والطعن فيهم، ولعن بعض الأئمة الأعلام، كـأبي حنيفة وغيره من الأئمة الأعلام رضي الله عنهم وأرضاهم.

بل وصل ببعضهم الأمر إلى إحراق كتب السنة، كفتح الباري، وشرح النووي على صحيح مسلم وغيرهما، وقد شاهدنا بعض ذلك! فمثل هذا النوع من الغلو هو قطعاً من عمل الشيطان، وإذا راجع أحدهم نفسه، فقال: أين أنا من هؤلاء، أين أنا من الحافظ ابن حجر، أو الإمام يحيى بن شرف النووي، أو الإمام أبي حنيفة؟ فسيجد أن بينه وبينهم بوناً شاسعاً كما بين الثرى والثريا، وأنه لا يمكن أن يساويهم في علمهم، ولا في تقواهم، ولا في عبادتهم، ولا في قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعهم له ونصرتهم لدينه.

فإذا عرف الإنسان ذلك تدرج بهؤلاء الغالين إلى أن يصلوا إلى العلماء والدعاة المعاصرين لهم، فيقال: أنت أعلم أم فلان بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ أنت أتقى لله منه وأخوف له منه؟ أنت أكثر منه قياماً لليل وصياماً للنفل وعبادةً وورعاً وزهداً في الدنيا؟ أنت أعف لساناً منه؟ فإذا راجع نفسه بذلك حكم عليه بقول حسان رضي الله عنه:

أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء

فكثير من الذين يتطاولون على الأئمة، ويتجاسرون عليهم بسبب بعض الأخطاء التي لا يوافقونهم عليها، قد غفلوا عن مستواهم هم مقارنة بمستوى أولئك الأئمة، فجعلوا أنفسهم حكاماً على أولئك الأئمة، وعدلوا أنفسهم، وطعنوا في الأئمة وجرحوهم.