محبة الرسول ونصرته [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى يخص ما شاء من خلقه بما شاء من أحكامه، وإنه سبحانه وتعالى يختار من الزمان والمكان ما يشاء، وقد اختار من الأزمنة الأشهر الحرم وشهر رمضان، وبين ما لهذه الأشهر من الفضل، فقد قال تعالى في الأشهر الحرم: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، وبين فضل رمضان في قوله: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].

فضل شهر رجب

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل شهر رجب بخصوصه من الأشهر الحرم، فقد صح في حديث أسامة بن زيد، الحب بن الحب رضي الله عنهما: ( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم شهر شعبان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر فيه الصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان )، وهذا دليل على العناية التي كانت في الزمان النبوي بشهر رجب، فإن الناس كانوا يقارنونه برمضان، فكانت العناية به كذلك؛ فمن أجل هذا نبه النبي صلى الله عليه وسلم على غفلة الناس عن شعبان؛ لوقوعه بين رجب ورمضان، وهذا يقتضي منا جميعاً أن نتذكر ما كان الحال عليه في العهد النبوي من العناية بشهر رجب، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم كذلك يتعاهد فيه شهر شعبان؛ لما ذكر من العلة، وهي غفلة الناس عنه؛ لوقوعه بين رجب ورمضان.

وهذا الشهر المعظم كان مضر يعظمونه في الجاهلية؛ ولذلك كان يسمى بــ(رجب مضر)، و (رجب) من الترجيب، وهو التعظيم، فرجب الشيء إذا عظمه، والمرجب: المعظم، فرجب مشتق من هذا.

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حال الناس إذ ذاك، وذكر معه رمضان؛ فدل ذلك على أنه لم يكن من أمر الجاهلية، وإنما كان من أمر الإسلام؛ لأنه ذكر أن شعبان بين رجب ورمضان، وأن الناس يغفلون عنه؛ فدل هذا على أنه لا يقصد بالناس هنا أهل الجاهلية، وإنما يقصد بهم أهل الإسلام؛ لأنهم الذين يعظمون رمضان، فقد كان تعظيم أهل الجاهلية لرجب لا لرمضان.

وقوع الإسراء والمعراج في شهر رجب

ثم إن الله سبحانه وتعالى خص هذا الشهر بوقوع هذه الحادثة العظيمة التي كانت سراً من أسرار هذا الدين وموسماً من مواسمه، ألا وهي الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم المعراج به من المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى، وفرض الصلاة عليه في تلك الليلة الشريفة، وتقريبه صلى الله عليه وسلم هذا التقريب العظيم، ومشاهدته لكبريات الآيات الربانية الكريمة العظيمة، التي خصه الله به وبين بها فضله ومنزلته، وهذه الحادثة حصلت في رجب، ولم يعرف اليوم الذي حصلت فيه على الراجح، فجمهور أهل التاريخ على أنه لا يحدد اليوم الذي كان فيه الإسراء والمعراج برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضل شهر رجب بخصوصه من الأشهر الحرم، فقد صح في حديث أسامة بن زيد، الحب بن الحب رضي الله عنهما: ( أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم شهر شعبان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر فيه الصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان )، وهذا دليل على العناية التي كانت في الزمان النبوي بشهر رجب، فإن الناس كانوا يقارنونه برمضان، فكانت العناية به كذلك؛ فمن أجل هذا نبه النبي صلى الله عليه وسلم على غفلة الناس عن شعبان؛ لوقوعه بين رجب ورمضان، وهذا يقتضي منا جميعاً أن نتذكر ما كان الحال عليه في العهد النبوي من العناية بشهر رجب، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم كذلك يتعاهد فيه شهر شعبان؛ لما ذكر من العلة، وهي غفلة الناس عنه؛ لوقوعه بين رجب ورمضان.

وهذا الشهر المعظم كان مضر يعظمونه في الجاهلية؛ ولذلك كان يسمى بــ(رجب مضر)، و (رجب) من الترجيب، وهو التعظيم، فرجب الشيء إذا عظمه، والمرجب: المعظم، فرجب مشتق من هذا.

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حال الناس إذ ذاك، وذكر معه رمضان؛ فدل ذلك على أنه لم يكن من أمر الجاهلية، وإنما كان من أمر الإسلام؛ لأنه ذكر أن شعبان بين رجب ورمضان، وأن الناس يغفلون عنه؛ فدل هذا على أنه لا يقصد بالناس هنا أهل الجاهلية، وإنما يقصد بهم أهل الإسلام؛ لأنهم الذين يعظمون رمضان، فقد كان تعظيم أهل الجاهلية لرجب لا لرمضان.

ثم إن الله سبحانه وتعالى خص هذا الشهر بوقوع هذه الحادثة العظيمة التي كانت سراً من أسرار هذا الدين وموسماً من مواسمه، ألا وهي الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم المعراج به من المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى، وفرض الصلاة عليه في تلك الليلة الشريفة، وتقريبه صلى الله عليه وسلم هذا التقريب العظيم، ومشاهدته لكبريات الآيات الربانية الكريمة العظيمة، التي خصه الله به وبين بها فضله ومنزلته، وهذه الحادثة حصلت في رجب، ولم يعرف اليوم الذي حصلت فيه على الراجح، فجمهور أهل التاريخ على أنه لا يحدد اليوم الذي كان فيه الإسراء والمعراج برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما حصل له، فقد صح عنه في الصحيحين: ( أن جبريل أتاه ففرج له سقف بيته.. )؛ أي: رفعه بيده حتى انفصل عن البيت، فأخرجه من السقف ولم يخرجه من الباب؛ إيذاناً بارتفاعه وعظم شأنه، وبارتفاع المهمة التي أرسل بها جبريل إليه، ( فذهب به إلى باب بني جمح.. )، وهو الباب الجنوبي من المسجد الحرام، مقابل للركن اليماني، ( فإذا دابة مربوط عنده، وهي البراق، بين الحمار والفرس، فسأله: ما هذا؟ فقال: هذا البراق، فقال: اركب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله، وأراد أن يركبه، فشمس البراق..)؛ أي: نفر منه، ( فوضع جبريل يده على ظهره فتواضع، فقال: مه! فما ركبك خير منه )، فعلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار به، يقع حافره حيث يقع بصره، وسار معه يقوده به حتى أتى المسجد الأقصى بالشام، فربط البراق بالحلقة التي كان الأنبياء يربطون بها دوابهم، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الأنبياء ينتظرونه بالمسجد الأقصى جميعاً، فقدموه للإمامة، فصلى بهم ركعتين قبل فرض الصلاة عليه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر أوجب عليه ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي، وهما فرض الصلاة في البداية، ركعتان في الصباح وركعتان في المساء، فصلى بالأنبياء جميعاً؛ إيذاناً بفضله وإمامته وختمه للنبوة والرسالة، واستشعاراً لهذه المزية، فإن الأنبياء أفضل الخلائق، والرسول صلى الله عليه وسلم أفضلهم، وهو إمامهم وقائدهم.

ويؤخذ من ذلك من الفقه أن يكون الإمام مختاراً، وأن يكون أفضل المصلين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم سلماً )، وفي رواية: ( سناً )؛ فلذلك يختار للإمامة الأفضل فالأفضل، وقد ورد في ذلك عدد من الأحاديث الأخرى التي لا تصل إلى درجة الصحة مثل ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( أئمتكم شفعاؤكم؛ فاختاروا من تستشفعون به )، لكن جاءت أحاديث أخرى حسنة صالحة للاحتجاج مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن ).

واختيار النبي صلى الله عليه وسلم للأئمة الذين كان يرتبهم لإمامة المساجد كله مساق في هذا السياق، فقد اختار لمسجد قباء الذي أسس على التقوى من أول يوم من الهجرة؛ حيث بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم نشاطه في المدينة - اختار له النبي صلى الله عليه وسلم إماماً من أهل الفضل والعلم، وهو معاذ بن جبل الذي يأتي أمام العلماء يوم القيامة رتوة أو رتوتين؛ أي: غلوة للفرس، أو غلوتين، وهو أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند الحاكم في المستدرك وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أقرؤكم أبي، وأقضاكم علي، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل )؛ فهذا الفضل من أجله اختار النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إماماً لمسجد قباء.

وكذلك اختار النبي صلى الله عليه وسلم أئمة آخرين لمساجد أخرى؛ فاختار عتاب بن أسيد إماماً للمسجد الحرام بعد أن فتحه الله عليه عام الفتح، وفي حديث مالك بن الحويرث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاهم أن يختاروا أقرأهم لكتاب الله فينصبونه إماماً، وأن يختاروا مؤذناً لا يأخذ على الأذان أجراً )، وكذلك في حديث عمرو بن أبي سلمة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم أن يختاروا للإمامة أقرأهم لكتاب الله )، قال: (وقد كنت إذ ذاك طفلاً، فكنت إذا جاء راكب من المدينة استقبلته فسألته عن آخر ما نزل من الوحي، حتى كنت أحفظ من ذلك الكثير، فكنت أقرأهم لكتاب الله، فقدموني للإمامة، فقالت امرأة من نسائنا: غطوا عنا سوءة إمامكم، فاشتروا لي ثوباً ما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي بذلك الثوب).

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يولي على مسجده في غزواته أفاضل الصحابة، كـعبد الله بن أم مكتوم الذي عاتبه فيه ربه سبحانه وتعالى وأنزل فيه: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى [عبس:1-2]، وهو رجل من السابقين الأولين من المهاجرين، وهو ثاني من هاجر إلى المدينة مع أنه ضرير أعمى، هو ثاني من هاجر بعد مصعب بن عمير إلى المدينة النبوية، فولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة والإمامة في المسجد النبوي في بضع عشرة غزوة، وكذلك فإنه اختار أبا بكر لإمامة الناس في مرض موته صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، واختاره قبل ذلك للإمامة أيضاً، وقال: ( مروا أبا بكر، فليصل بالناس )، وإنما اختاره لفضله ومزيته في الإسلام؛ فهو أفضل هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة في الصحيح: ( يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر )، فاختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لإمامة المؤمنين وعهد إليه بالصلاة، فكان يصلي في أيام مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، ثم استمرت إمامته وخلافته بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم بعد هذا عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل إلى البراق، ( فعرج به إلى السماء الدنيا، فاستأذن جبريل عند باب السماء الدنيا، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوَقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: فمرحباً به، ونعم المجيء جاء، ففتح له باب السماء الدنيا، قال: فدخلتها فإذا رجل طويل، عن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا أبوك آدم، قلت: وما الأسودة عن يمينه وعن شماله؟ قال: نسم بنيه، الذين عن يمينه أهل السعادة، والذين عن شماله أهل الشقاوة، إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، فسلمت عليه، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، ثم ارتفعا إلى السماء الثانية، فاستأذن جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ فقال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، ونعم المجيء جاء، ففتح لهما باب السماء الثانية، فدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ابنا الخالتين عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام، فقالا: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، ثم ارتفعا، فاستأذن جبريل في باب السماء الثالثة، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: فمرحباً به، ونعم المجيء جاء، ففتح باب السماء الثالثة فدخلاها، فإذا يوسف عليه السلام، وإذا هو قد أوتي شطر الحسن، فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم ارتفعا، فاستأذن جبريل على باب السماء الرابعة، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: فمرحباً به، ونعم المجيء جاء، ففتح باب السماء الرابعة، فدخلاها، فإذا إدريس عليه السلام، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، ثم ارتفعا، فاستأذن جبريل على باب السماء الخامسة، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: فمرحباً به، ونعم المجيء جاء، ففتح باب السماء الخامسة فإذا هارون بن عمران عليه السلام، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، ثم ارتفعا إلى السماء السادسة، فاستأذن جبريل، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوَقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: فمرحباً به، ونعم المجيء جاء، ففتح باب السماء السادسة فإذا موسى بن عمران عليه السلام، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، ثم ارتفعا، فاستأذن جبريل على باب السماء السابعة، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوَقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: فمرحباً به، ونعم المجيء جاء، ففتح باب السماء السابعة فإذا البيت المعمور، وإذا هو كل يوم يدخله سبعون ألف ملك لا يعودون إليه بعد، وإذا إبراهيم خليل الرحمن مسند ظهره إليه، فسلم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا صاحبكم أشبه الناس به)؛ أي: إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه الناس خلقة بإبراهيم عليه السلام، ( فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، ثم عرج بهما حتى بلغا سدرة المنتهى)، فرأى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم العجائب العجيبة، ( إذا فيها أربعة أنهار، نهران خارجان ونهران داخلان، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، وإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا هي تغشاها الألوان من أمر الله عز وجل، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن الأنهار الأربعة، فبين أن النهرين الخارجين هما: الفرات ونيل مصر، والنهران الداخلان نهران في الجنة.

ثم بعد ذلك بقي جبريل هنالك، وقال: هذا مكاني لا أتعداه، فعرج برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمع صريف القلم)، أو صرير القلم، ( فكلمه ربه سبحانه وتعالى وأنزله في المقام المحمود والمكان الرفيع، وفرض عليه خمسين صلاة، عليه وعلى أمته، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى موسى بن عمران في السماء السادسة، فسأله: ما فرض عليك ربك من الصلاة وعلى أمتك؟ فقال: خمسين صلاة، فقال: قد خبرت بني إسرائيل، وهم أطول أعماراً وأقوى أبداناً فلم يستطيعوا ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل الله التخفيف؛ فخفف عنه خمساً..)، أو: ( عشراً )، على خلاف في الرواية، ( ولم يزل يتردد بين موسى وربه حتى بقيت خمس، فقال موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد استحييت من ربي، فناداه الرب سبحانه وتعالى: هن خمس وهن خمسون، مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:29] ).

فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الأمانة العظيمة والمزية الكبيرة، التي هي الصلوات الخمس؛ إيذاناً بانطلاق هذه الرسالة الخاتمة للرسائل، وإكمالاً لدين الله عز وجل في الأرض، فنزل من حيث عرج به عند المسجد الأقصى، ثم ركب البراق فسار إلى مكة، فمر بعير لقريش قد عرسوا- أي: ناموا من الليل- فوجد إناءً فيه لبن، فشرب منه ثم غطاه -خمره؛ أي: غطاه- وعرف مكانهم، والمكان الذي هم فيه.

فلما أصبح بمكة أخبر الناس بذلك، فتباينت ردودهم، من مصدق ومن مكذب، ولم يكن أبو بكر بمكة إذ ذاك، فاستقبله المشركون، يقولون: ألم تر ما قال صاحبك؟ يزعم أنه خرج في ليلة واحدة إلى الشام، ثم عرج به إلى السماوات، فقال: (إن كان قالها فقد صدق)، وقد كفر بسبب هذه الواقعة عدد من الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الله حكمته في ذلك فقال: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء:60]، فكان ذلك سبباً لردة بعض الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم، وكان -أيضاً- سبباً لارتفاع منسوب الإيمان في قلوب آخرين، آمنوا وصدقوا وعرفوا أن هذا هو الحق الذي لا غبار عليه، وجاء المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن كنت صادقاً فصف لنا بيت المقدس، فرفعه إليه جبريل وهو ينظر إليه، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به، وهم يقولون: قد علمنا إنك لم تره من قبل، فعرفوا أنه صادق، وسألوه عما رأى في الطريق، فأخبرهم بحديث العير، فقالوا: ( متى تقدم؟ قال: ساعة كذا، تطلع عليكم من ثنية التنعيم، يتقدمها جمل أورق لبني فلان )، فخرج عاديهم يعدو حتى صعد من ثنية التنعيم فإذا العير وإذا الجمل الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام العير، فقامت الحجة عليهم بذلك.